رفع العقوبات عن سوريا.. آمال انتعاش الاقتصاد تصطدم بواقع أكثر تعقيداً

في خطوة بدت أشبه بإلقاء حجر في مياه راكدة منذ عقود، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الرياض إنهاء القطيعة مع دمشق ورفع العقوبات المفروضة على سوريا، وهو تطور ضخم من شأنه أن يدعم البلاد في رحلة إعادة بناء الاقتصاد الذي دمرته الحرب. ولكن رحلة رفع العقوبات قد تكون كثيرة التعقيد في الوقت الحالي ومليئة بالتفاصيل الدقيقة، خصوصاً أنها ليست وليدة اللحظة، بل تمتد فعلياً إلى عام 1979.

لم يفصح ترمب عن تفاصيل بشأن كيفية رفع هذه العقوبات أو ما إذا كانت ستُرفع مرة واحدة أم على أجزاء، واكتفى بالإشارة إلى أنه سيعمل “على رفع العقوبات عن سوريا لأعطيهم فرصة.. فقد كانت العقوبات سيئة وتعيق البلاد.. والآن هو وقت الازدهار لسوريا”.

لكن خلف هذا الإعلان، تختبئ أسئلة أكبر من الجواب: هل تعني هذه الخطوة أن سوريا ستنضم مجدداً إلى النظام المالي العالمي؟ وهل النظام نفسه مستعد لذلك؟

إعلان بطابع سياسي

الإعلان حمل طابعاً “سياسياً أكثر من الجانب الاقتصادي” وفق عدنان مزاري زميل أول غير مقيم في “معهد بيترسون للاقتصاد الدولي”. وأوضح في مقابلة مع “الشرق”، بأن نقله إلى الاقتصاد يتطلب قيام الحكومة بالعديد من الخطوات الرئيسية، من بينها “وضع خطط استراتيجية تحدد أي القطاعات التي تحتاج إلى التمويل، إضافة إلى بناء الثقة داخلياً وخارجياً، والعمل بشكل حثيث لبناء المؤسسات الرسمية”.

واعتبر مزاري الذي شغل سابقاً منصب نائب مدير شؤون الشرق الأوسط وأفريقيا في صندوق النقد، أن الإعلان قد يدفع واشنطن نحو إصدار بعض الإعفاءات التي تسمح بالقيام بتبادلات تجارية مع سوريا. ولكن الأهم بحسب رأيه، أن القرار سيسمح لدول أخرى مثل السعودية، في المساهمة مباشرة في تمويل إعادة الإعمار.

اقتصاد مُعطّل

يعاني الاقتصاد السوري من انهيار حاد، حيث أشارت الأمم المتحدة بتقرير صدر في فبراير إلى أن 3 من كل 4 أشخاص في سوريا يعتمدون على المساعدات الإنسانية، بينما تضاعف معدل الفقر ثلاث مرات ليصل إلى 90% من السكان، في حين ارتفع معدل الفقر المدقع ست مرات ليبلغ 66%.

كما تأثر الاقتصاد بشدة جراء الحرب التي انطلقت في 2011، حيث قدّر التقرير الأممي إجمالي الخسائر في الناتج المحلي الإجمالي خلال 14 عاماً بنحو 800 مليار دولار، في وقت تضغط العقوبات الأممية على الاقتصاد رغم سقوط نظام بشار الأسد، وسط مطالبات من الحكومة ومعها دول المنطقة وعلى رأسها السعودية، لرفع العقوبات نظراً لانتفاء السبب الذي فُرضت على أساسه.

معضلة قانونية

إعلان ترمب يصطدم بمعضلات قانونية، وفق ماركو مسعد باحث في العلاقات الدولية في “هيئة الشرق الأوسط للسياسات” في واشنطن.

وأشار في مقابلة مع “الشرق” إلى أن الرؤساء الأميركيين غالباً ما يفرضون عقوبات على الدول من خلال أوامر تنفيذية، بالتالي يستطيعون إلغاءها. أما العقوبات التي يتم تمريرها بصيغة قانون، على غرار “قانون قيصر”، فإنها أكثر تعقيداً، وقد تتطلب عملية إعادة تقييم من وزارتي الخارجية والعدل للوضع في سوريا، وموافقة الكونغرس.

المحامية ورئيسة شركة “سكاراب رايزينغ” المتخصصة بتقديم الاستشارات الاستراتيجية إيرينا تسوكرمان أشارت إلى هذه النقطة أيضاً.

واعتبرت في مقابلة مع “الشرق” أن “قانون قيصر لن يختفي بين ليلة وضحاها”، إذ تم وضعه لاستهداف “سلوك الأسد لا شخصه”، في إشارة إلى التوترات المسلحة التي لا تزال سوريا تشهدها.

ورأت أن الإلغاء الكامل للقانون يتطلب إجماعاً في الكونغرس، وهو أمر غير محسوم بالنظر إلى الانقسام الحزبي، مع إشارتها أيضاً إلى عامل “القلق الإسرائيلي من النظام الجديد في سوريا” كعنصر مهم في هذه المعادلة. ولفتت إلى أن ترمب قد يلجأ إلى إصدار إعفاءات محدودة لقطاعات محددة، كمحاولة للتخفيف من فعالية هذا القانون.

ماذا يعني ذلك لسوريا؟

تنفيذ القرار يمثل “دفعة كبيرة” للحكومة السورية التي تعاني من صعوبات في تأمين التمويلات لإعادة الإعمار وإحياء الاقتصاد، وسيساعد البلاد أيضاً في الحصول على دعم من البنوك العالمية والمقرضين مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وفق مزاري.

وأضاف أن مجرد الإعلان لا يعني “تدفق التمويل إلى سوريا”، معتبراً أن مستويات الديون المرتفعة إحدى الإشكاليات الرئيسية.

لا يوجد رقم رسمي بالنسبة لحجم الديون المترتبة على سوريا، ولكن محمد أبازيد وزير المالية السابق في حكومة تصريف الأعمال، أشار في تصريحات إعلامية إلى أن الدين الأجنبي يتراوح بين 20 و23 مليار دولار، فضلاً عن “المليارات من الديون المحلية”.

الاعتراف الرسمي

المسؤول السابق في صندوق النقد لفت إلى إشكالية أخرى تتمثل في عدم وجود اعتراف دولي رسمي بالحكومة السورية الجديدة، خصوصاً من قبل الجهات المقرضة.

وأوضح أنه عند تغير الأنظمة في الدول، يجتمع مجلس إدارة صندوق النقد لتحديد الموقف من الحكومة الجديدة، و”غالباً ما يتم ذلك بالتوافق، وهو ما لم يحدث بعد”. إلا أن رفع العقوبات “قد يسرّع هذه الخطوة”.

في أبريل الماضي، قام صندوق النقد بتعيين رون فان رودن رئيساً لبعثته في سوريا في أول خطوة من نوعها منذ أكثر من 14 سنة، وفقاً لما ذكره وزير المالية السوري آنذاك.

رفع العقوبات والأثر الاقتصادي

تسوكرمان رأت أن رفع العقوبات يعني العودة إلى النظام العالمي، ويمنح البلاد القدرة على الوصول إلى الأصول المجمدة في الخارج، واستعادة العلاقات المصرفية مع العالم.

كما تسمح الخطوة للحكومة بالتفاوض على العقود الاستثمارية وتوقيعها، ولكنها ستصبح المسؤولة أمام المجتمع الدولي في حال العجز عن السداد أو حدوث أي خلافات تجارية أو اقتصادية مع المقرضين.

من جهته، اعتبر الخبير الاقتصادي مازن إرشيد أن رفع العقوبات يشكل “نقطة تحول”، وقد يعيد للبلاد “جزءاً من استقرارها الاقتصادي المفقود”.

وأشار في مقابلة مع “الشرق” إلى أن رفع العقوبات يمكن أن يرفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 5% الى 7% خلال العام الأول، بسبب عودة التحويلات الخارجية التي تمثل نحو 18% من الاقتصاد السوري سابقاً، وعودة الاستيراد بشكل اكثر انسيابية.

كما يتوقع أن ترتفع قيمة الليرة السورية بنسبة 30% أمام الدولار خلال الأشهر الستة الأولى، بعد أن كانت قد تجاوزت عتبة 20 ألف ليرة للدولار في السوق الموازية.

أعلن مصرف سوريا المركزي الثلاثاء عن رفع قيمة الليرة لتصل إلى 11 ألفاً مقابل الدولار، بعدما كان السعر 12 ألف ليرة للدولار قبل يوم.

إرشيد أضاف أن معدل التضخم قد ينخفض من 120% إلى نحو 60% خلال العام الأول لرفع العقوبات، شرط “فتح المعابر وعودة تدفق السلع الأساسية”.

أما على المدى الطويل، فإن رفع العقوبات يفتح المجال أمام مشاريع إعادة إعمار تقدر تكلفتها الإجمالية بأكثر من 400 مليار دولار، حسب البنك الدولي، وهو ما يمكن أن يخلق 3 ملايين فرصة عمل خلال 10 سنوات.

آثار أبعد من سوريا

بالنسبة لميزاري، فإن رفع العقوبات قد يمثل “أهم دفعة اقتصادية تشهدها المنطقة منذ فترة طويلة”، متوقعاً أن يؤثر القرار إيجابياً على الدول المحيطة مثل تركيا ولبنان والعراق والأردن.

إرشيد شدد على هذه النقطة أيضاً، معتبراً أن حجم الصادرات الأردنية إلى سوريا قد يرتفع بنسبة تتجاوز 70% خلال العامين المقبلين مقارنة بالمستويات الحالية، في حال تم إعادة فتح المعابر الحدودية وتحرير حركة التجارة.

هذا التطور سينشط قطاع النقل والخدمات اللوجستية، كما سيخلق فرصاً حقيقية للشركات الأردنية للمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار.

أما على صعيد لبنان، فرأى إرشيد أن تخفيف العزلة الاقتصادية عن سوريا يعيد تفعيل التجارة البينية، ويسمح بإعادة إحياء خطوط التصدير والربط المالي التي كانت قائمة قبل الحرب.

البنوك اللبنانية قد تستفيد من هذا الانفتاح في حال تم تسهيل المعاملات المصرفية. ورأى إرشيد أن الخطوة قد “تشكل متنفساً للنظام المصرفي اللبناني الذي يعاني من أزمات هيكلية”.

الحضن العربي

لعل أهم ما في الإعلان أنه يشكل إشعاراً لا لبس فيه بعودة سوريا إلى الحضن العربي، وهو أمر طالما أكد الرئيس السوري أحمد الشرع على أهميته.

الباحث ماركو مسعد أشار إلى أن القرار من شأنه أيضاً أن يغير تموضع سوريا السياسي، لتصبح أكثر قرباً إلى الولايات المتحدة والسعودية وقطر وتركيا، بعدما كانت روسيا وإيران من الأطراف المهيمنة في البلاد قبل سقوط الأسد.