لم يوضّح خلف المقصود باللجان والنقاشات، التي تريد المصارف “الشراكة” فيها. غير أن العالمين بخبايا الغرف المقفلة، يعرفون هدفين تقاتل من أجلهما الجمعيّة اليوم: حفظ مقعدها داخل الهيئة المصرفيّة العليا، التي ستحدّد لاحقًا مصير كل مصرف. إذ إنّ الجمعيّة تتحفّظ على مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف، الذي يقصيها من هذه الهيئة. وحفظ دورها في مناقشة مسودّة مشروع قانون الانتظام المالي، الذي سيحدّد أصول التعامل مع الفجوة وكيفيّة تسديد الودائع وضمان الحد الأدنى من كل وديعة. الشيء الإيجابي في كلام خلف، هو إخراجه هذا الكلام إلى الفضاء العام، ليتسنّى لنا مناقشته، بدل إبقائه أسير الاجتماعات المغلقة والبعيدة عن أعين الجمهور.
الجمعيّة أقصت نفسها
قبل الخوض في الجانب القانوني والعلمي من النقاش، لنبدأ من مسألة مهمّة. لم تكن جمعيّة المصارف ضحيّة إقصاء أو تهميش، بل كانت الجمعيّة هيَ من أقصت نفسها بنفسها. لا تملك الجمعيّة اليوم، بكافّة أعضائها، مقاربة موحّدة للمسائل التي تطلب الاشتراك في مناقشتها. بإمكانك بسهولة أن تفرز المصارف إلى أجنحة متعدّدة، وفقًا لرأيها في كل مسألة: رفع السريّة المصرفيّة، أو مسودّة مشروع قانون الانتظام المالي، أو مشروع قانون إصلاح اوضاع المصارف، أو كيفيّة احتساب الخسائر المترتبة على توظيفات المصارف… إلخ. وفي بعض الأحيان، لا تقتصر المسألة على تباين الآراء والأولويّات، بل تصل إلى حدّ تعارضها وتناقضها.
والمسألة هنا ليست مسألة اختلاف في التقدير أو الآراء أو التوقّعات. بل جوهر التباين هو الاختلاف في المصلحة. خذ على سبيل المثال هذا الاختلاف: من بين أعضاء الجمعيّة، هناك من كان محظيًا في زمن الحاكم السابق رياض سلامة، فنسج مع الحاكم تقاطعات ملتبسة في المصالح، بل وتورّط معه شخصيًا في شراكات وعمليّات ماليّة تُطرح حولها علامات الاستفهام. وهناك من يُشتبه باستخدامه أموال المصرف لتهريب بعض الودائع إلى الخارج، في مرحلة الأزمة. وتطول قائمة الأمثلة المشابهة. يمكن للمراقب أن يفهم أكثر سبب تباين المصارف الأعضاء في تقييم قانون رفع السريّة المصرفيّة قبل إقراره، وخصوصًا في ما يتصل بمفعوله الرجعي.
لنقارب مثلًا موقف المصارف من أكثر القضايا حساسيّة: توزيع الخسائر. الوضعيّة الماليّة لكل مصرف تُظهر أنّ بعضها تورّط أكثر من غيره بالاستثمار في سندات اليوروبوند، فيما تورّط البعض الآخر إلى حدٍ أبعد في شراء شهادات الإيداع. وكذلك يتباين تورّط المصارف في الاستفادة من أرباح الهندسات الماليّة، وغيرها من العمليّات الاستثنائيّة. حين تصل المسألة إلى احتساب الخسائر وتوزيعها، هل يمكن لأحد أن يتوقّع مقاربة مشتركة لهذه المصارف؟ في الواقع، مصلحة هذه المصارف متعارضة هنا، وزيادة العبء على بعضها، سيعني تخفيفه عن البعض الآخر.
لهذا السبب، لم تتمكّن الجمعيّة من وضع مقاربة مشتركة لأي قضيّة حسّاسة مؤخرًا. ولهذا أيضًا اكتفت بإحالة ملاحظات محامي الجمعيّة إلى المصارف الأعضاء، بدل صياغة ورقة مشتركة تعبّر عن رؤيتها. وهي لم تعد تلعب أصلًا دورها البديهي، كلوبي يعمل لتحقيق مصالح أعضائه. والخلاف بين أجنحة الجمعيّة، الحمائم والصقور، وانفراد بعض المصارف بالاجتماعات غير العلنيّة مع صندوق النقد والمسؤولين اللبنانيين، ليس سوى أحد عوارض هذا التشظّي.
الجمعيّة سلطة رابعة؟
بمعزل عن الخلافات داخل الجمعيّة، لا يوجد أيّ سند قانوني يبرّر وضعها في “شراكة” مع الدولة من الند للند، عند صياغة الحلول، لمجرّد أن مسؤولي الدولة ومصرف لبنان تورّطوا -تماماً كبعض المصارف- في تبديد الأموال. في واقع الأمر، تتصرّف الجمعيّة هنا وكأنّها “سلطة رابعة”، إلى جانب السلطات التنفيذيّة والقضائيّة والتشريعيّة، لأنّ “شراكة” ما جمعتها مع بعض رموز الدولة ومصرف لبنان، في الجريمة الماليّة التي شهدها لبنان خلال السنوات السابقة.
إنّ الدولة، في مطلق الأحوال، هي الكيان المخوّل بالقيام بالمحاسبة وتطبيق القانون. وإذا أخطأ المسؤول في هذه الدولة، فهو يخضع للقانون والمحاسبة، تمامًا كما يخضع أي مواطن (أو مصرفي) شاركه هذه الارتكابات. وإنّ اشتراك المسؤول في أي ارتكاب، لا يجعل شركائه -في هذه الحالة بعض المصرفيين- أصحاب حق في إيجاد الحلول على قاعدة “الشراكة”. التمييز بين الدولة كشخص معنوي، له دوره في فرض القانون، والمسؤول المرتكب، مسألة أساسيّة هنا. وكذلك التمييز بين المصرفي المرتكب والمصرفي النظيف، وهو ما يفترض أن يحدده التدقيق الموضوعي في ميزانيّات المصارف (ولن تكون المحاسبة جديّة إذا اشتركت في تطبيقها جمعيّة المصارف!).
ما تطلبه المصارف هو أن تكون شريكًا في الهيئة المصرفيّة، التي ستتخذ القرارات بخصوص المصارف المخالفة، بعد تدقيق ميزانيّاتها. وهذه مسالة تنطوي على تضارب فاقع في المصالح. أمّا أن يشرف المصرف المركزي، الوصيّ على القطاع، على عمليّة إعادة الهيكلة، فهذه المسألة بديهيّة. ولا يفترض أن ينتقص من دور المصرف المركزي، أو الدولة أو القضاء، مشاركة الحاكم السابق أو أي إداري ومسؤول آخر في ارتكابات كبرى. بل يكون القانون، ودولة القانون، هما الحكم في محاسبة المسؤول أو السياسي أو شركائه المصرفيين.
وإذا ذهبنا باتجاه تقزيم دور الدولة والمركزي والقضاء، وتحديد أدوارهم كـ “شركاء” مع المرتكبين في المصارف، بذريعة أن مسؤولين أو سياسيين تورّطوا في ارتكابات، فهذا ما يقودنا إلى شريعة الغاب. الأصح، هو المطالبة بأن تلعب الدولة دورها في التدقيق والمساءلة والمحاسبة، ومن ثم وضع الحلول المناسبة، وعلى حساب كل من ارتكب في القطاعين العام والخاص.
لكل هذه الأسباب، لا يجب أن تكون المصارف شريكًا أو سلطة دستوريّة جديدة، تتقاسم الصلاحيّات مع المصرف المركزي أو القضاء أو المشرّعين في مجلس النواب.