لبنان وصندوق النّقد: الإنقاذ أو إعادة إنتاج الفشل؟

يختتم اليوم الأربعاء وفد من صندوق النقد الدولي زيارته لبيروت، التي جاءت محطة من المسار الطويل نحو  برنامج إنقاذ اقتصاديّ مأمول. الزيارة، على الرغم من رمزيّتها، جرت في ظلّ أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وفقدان شبه كامل للثقة بين الشعب اللبناني وطبقته الحاكمة، وهو ما يجعل من أيّ اتّفاق محتمل مع الصندوق خطوة محفوفة بالمخاطر، ما لم تُبنَ على العدالة والشفافيّة. فلبنان لا يمرّ بأزمة عابرة. إنّه في حالة انهيار.

 

منذ انتفاضة تشرين 2019، توالت الأزمات: تخلّف عن سداد الدين، إفلاس مصرفيّ، جائحة كورونا، تدهور في سعر الصرف، انفجار مرفأ بيروت، وغياب تامّ للإصلاحات. الدولة فقدت صدقيّتها، والمصارف فقدت السيولة، والناس فقدوا الأمل.

في أيّار 2020، طلب لبنان رسميّاً مساعدة ماليّة من صندوق النقد الدولي، لأوّل مرّة في تاريخه. لكن بعد مرور خمس سنوات، لم يتمّ التوصّل إلى أيّ اتّفاق نهائي. تعثّرت المفاوضات مراراً، بفعل التناحر السياسي، وتضارب المصالح، وغياب رؤية إصلاحيّة موحّدة. واليوم، مع ارتفاع معدّلات الفقر لم تعد المسألة: هل نلجأ إلى الصندوق؟ بل كيف؟

من التّحذير إلى المشروطيّة

منذ عام 2006 وصندوق النقد يحذّر من المخاطر الكامنة في النموذج اللبناني القائم على ربط العملة، والاعتماد على الودائع الخارجية، والخلط بين المصالح المصرفية والسياسية. لكن لا أحد أصغى.

أمّا اليوم فيعود الصندوق بدور مختلف: المفاوِض والمموّل، وربّما المُنقذ. تشير التقديرات إلى أنّ لبنان يسعى إلى الحصول على قرض بحوالي 10 مليارات دولار. لكن ما الثمن؟

إذا استندنا إلى تجارب دول الجوار، فإنّ البرنامج المرجّح سيتضمّن إجراءات تقشّفية قاسية تشمل رفع الضرائب غير المباشرة، وخصخصة بعض المرافق، ورفع الدعم، وتجميد الأجور في القطاع العامّ. وهذه التدابير، وإن كانت تبدو ضرورية لضبط الماليّة العامّة، فإنّها تهدّد بتوسيع الفجوة الاجتماعية، وتفجير نقمة شعبية جديدة.

من الإنقاذ الماليّ إلى العدالة الاجتماعيّة؟

يعترف صندوق النقد اليوم، ولو نظريّاً، بأنّ التقشّف في مجتمعات غير متكافئة قد يؤدّي إلى نتائج عكسيّة. غير أنّ توصياته للبنان حتّى الآن لا تزال تدور في فلك زيادة الضريبة على القيمة المضافة، وتقليص الدعم، دون مقاربة جدّية لإعادة توزيع الثروة.

زيادة الـTVA من 11% إلى 15% مثلاً، كما سبق أن اقترح الصندوق، قد تؤدّي إلى ارتفاع معدّل الفقر إلى أكثر من 50%. ورفع الدعم عن الكهرباء قبل تحسين الخدمة يعني تعميق الظلم، لا إصلاحه.

في المقابل، لا يُطلب من أصحاب الثروات الكبرى، ولا من المستفيدين من سنوات الهندسة المالية، أيّ مساهمة حقيقيّة في الإنقاذ. مع العلم أنّ 0.8% فقط من الحسابات المصرفية كانت تسيطر على أكثر من 50% من إجمالي الودائع في عام 2018.

إذا كان للصندوق أن يثبت جدّيّته في دعم العدالة، فعليه أن يطالب بفرض ضرائب تصاعديّة على الثروة، ورفع الضرائب على الفوائد والأرباح العقاريّة، بعد إلغاء السرّية المصرفية التي كانت ملاذاً آمناً للتهرّب الضريبي.

لبنان يتفاوض من موقع هشّ

يناقش الوفد الحاليّ من صندوق النقد ملفّات حسّاسة: إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ضبط الماليّة العامّة، تطبيق ضوابط على حركة رؤوس الأموال. لكنّ الإشكاليّة الأعمق ليست تقنيّة بل سياسيّة.

هل يمكن الوثوق بأنّ من تسبّبوا بالانهيار سيقودون الإصلاح؟ وهل يستطيع مصرف لبنان، الذي شارك في هندسات ماليّة مكلفة، أن يفرض ضوابط عادلة؟ وهل يمكن بناء خطّة إنقاذ بدون إشراك النقابات والمجتمع المدني وممثّلي المتضرّرين؟

أيّ برنامج يُبنى خلف الأبواب المغلقة سيفتقد الشرعية. وأيّ اتّفاق لا يضع العدالة الاجتماعية أولويّة هو وصفة لتكرار الكارثة.

لبنان لا يحتاج إلى “برنامج ضبط ماليّ” فقط، بل إلى رؤية إنقاذ وطنيّة شاملة.

برنامج مسؤول مع صندوق النقد يجب أن:

  • يضمن حدّاً أدنى من الأجور يتماشى مع التضخّم.
  • يعيد هيكلة الدين بطريقة عادلة تشمل مشاركة الدائنين المحلّيّين.
  • يحمي صغار المودعين، ويحمّل أصحاب الرساميل الكبرى بنسب متفاوتة كلفة الإنقاذ.
  • يجعل الأولويّة للتعليم والصحّة ويستثمر فيهما.
  • يضع نظام حماية اجتماعية شاملاً، بديلاً عن شبكة الأمان المؤقّتة.

الصندوق هو أيضاً أمام اختبار. هل يعيد إنتاج سياسات أثبتت فشلها كما في الأرجنتين؟ أم ينتهج مساراً جديداً يوازن بين الاستقرار الماليّ والعدالة الاجتماعية؟

لا يزال الأمل ممكناً، لكنّ الوقت يضيق. نجاح أيّ اتّفاق مع صندوق النقد لا يُقاس بحجم القرض، بل بقدرته على استعادة الثقة بأنّ الإصلاح لن يُحمّل الفقراء ثمن الإنقاذ مجدّداً، وبأنّ العدالة ليست ترفاً بل شرط لبناء وطن لا يُدار كـ”جمهورية بونزي”.

لبنان لم يعد يتحمّل مزيداً من الفشل. الخيار واضح: إمّا برنامج إصلاح عادل، أو انهيار مستمرّ بلا قاع.

محمد فحيلي