الأسواق أصدق إنباءً من الصواريخ. وكل التحليلات والتوقعات التي تستهدف رسم مسار تقديري للحرب التي اندلعت بين إسرائيل وإيران، ودخلت الولايات المتحدة على خطها ليل السبت الأحد، لن تكون أصدق، وأشدّ دقة، من “الكلام” الذي تعلنه الأسواق المالية منذ انطلاقة الرصاصة الأولى في العاشر من حزيران.
هذا الواقع خبرهُ اللبنانيون في حرب الإسناد. إذ، ما إن اشتدت المواجهة، واتخذت طابعًا مختلفًا عمّا كانت عليه في بدايتها، وفيما كان الرأي العام يشعر بالرهبة والقلق حيال النتائج التي قد تتمخّض عنها هذه الحرب، راحت الأسواق المالية ترسل إشارات نقيضة للقلق. وارتفعت أسعار سندات اليوروبوندز اللبناني في الخارج، تدريجياً حتى تجاوز الارتفاع الـ 200 %. وهو ارتفاع لا يمكن التعاطي معه على أساس أنه عادي وطبيعي في الأسواق المالية. وهكذا تكون رسالة الأسواق وصلت بوضوح: نتائج الحرب، وعلى عكس التخوّف السائد، ستكون لمصلحة لبنان.
لا يمكن الادعاء حاليًا، ورغم كل النكسات التي أصابت الناس، جراء بعض التخاذل والبطء في تنفيذ الاتفاقات والقرارات الدولية، أن الوضع في لبنان ليس أفضل بكثير من الوضع الذي كان قائمًا قبل حرب الاسناد.
في عودة إلى الحرب الإيرانية الإسرائيلية، ومنذ اليوم الأول لاندلاعها، سجلت الأسواق المالية تفاعلًا سريعًا مع صدمة المفاجأة. وتوالت التراجعات والارتفاعات في الأسواق. ارتفعت أسعار النفط بنسبة وصلت إلى 11 %. فيما ارتفعت أسهم الصناعات العسكرية بنسب أقل (حوالى 3 % كمعدل عام). هذه الزيادات حافظت على مستوياتها منذ صدمة 13 حزيران حتى اليوم. أما الملاذات الآمنة، مثل الذهب والفرنك السويسري وسندات الخزانة الأميركية، فقد تحرّكت قليلًا، لكنها ما لبثت أن خضعت لتصحيح أعادها تقريباً إلى أسعارها ما قبل 13 حزيران.
في المقابل، هبطت مؤشرات الأسهم والعقود، وعرفت البورصات العالمية والإقليمية تراجعات. هذا الهبوط لم يدم طويلًا، وبدأت مسيرة تصحيح الأسعار بحيث أنها عادت بدورها إلى ما كانت عليه قبل بدء الحرب.
وهناك مؤشرات أخرى مهمة جدًا في قياس توجهات الأسواق المالية، من أهمها مؤشر (VIX) الذي يقيس مزاج وسلوك المستثمرين. مع بداية الحرب هبط هذا المؤشر بنسبة وصلت إلى 17 %، ومن ثم بدأ الارتفاع مجددًا، وصولًا إلى اقترابه من وضعه القائم قبل الحرب.
التفسيرات التي أعطيت لتفاعل الأسواق المالية متنوعة ومتناقضة. من أبرزها، التحليلات التي قرأت في الهدوء الذي عاد إلى الأسواق بعد صدمة الضربة الأولى، مؤشرًا إلى اطمئنان المستثمرين إلى أن الحرب ستبقى محدودة ولن تتدخّل فيها دول أخرى.
في الموازاة، برزت تحليلات تركّز على أن استقرار الأسواق مجددًا، وتجاوزها منطقة الاضطرابات (Volatility) له علاقة بقراءة مُبكرة لنتائج الحرب. وهذا يعني أن المستثمرين يراهنون على وضع أفضل في المنطقة ما بعد الحرب. ولا يتوقعون طبعًا، مسارًا طويلًا زمنيًا للقتال. والرهان هنا، هو على “سقوط” طهران بالمعنى المجازي للكلمة، بحيث ينحسر النفوذ الإيراني في دول المنطقة، ويتم الانتقال إلى مرحلة أكثر استقرارًا.
هل هذا التحليل أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة؟
يصعب الجزم بالإجابة على السؤال، لكن التجربة اللبنانية في هذا السياق، تدعم هذه القراءة لمؤشر الأسواق، ولو أنه لا يمكن الركون إلى هذا النموذج، للخروج باستنتاجات غير قابلة للنقاش.
أنطوان فرح