يصادف الصيف الحالي مرور 10 سنوات على بدء خطوات مسار جديد من أجل الخروج من أزمة الديون السيادية في اليونان والتي هددت بعد تصاعدها بتفكيك الاتحاد الأوروبي اقتصادياً ونقدياً، وتسببت في سنوات من المعاناة الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة في البلاد.
ففي يوليو/ تموز 2015، صوّت اليونانيون بالرفض في استفتاء على خطة الإنقاذ المتفق عليها مع الدائنين – بما يشمل دول في الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، والبنك المركزي الأوروبي – من أجل جدولة سداد الديون بناءً على إلحاح من حكومتهم الشعبوية اليسارية. وسعى رئيس الوزراء في ذلك الوقت أليكسيس تسيبراس، ووزير ماليته يانيس فاروفاكيس، إلى انتزاع شروط أفضل من دائني اليونان الأوروبيين وصندوق النقد الدولي.
عندما جاءت حكومة تسيبراس قبل نحو ستة أشهر من هذا الاستفتاء، حملت وعوداً بإنهاء سياسات التقشف وتخفيف العبء عن المواطنين اليونانيين، ولكن أدت سياسة حافة الهاوية التي انتهجتها تلك الحكومة إلى وضع البلاد على شفا الخروج من منطقة اليورو، والانهيار المالي، والكارثة الاقتصادية.
أدى ذلك إلى تراجع تسيبراس عن موقفه في غضون أيام قليلة، ورحل فاروفاكيس، وتوصلت الحكومة اليونانية في أغسطس/ آب 2015 إلى اتفاق جديد مع الدائنين للحصول على حزمة إنقاذ مالي جديدة بقيمة 86 مليار يورو، مقابل تنفيذ إصلاحات اقتصادية هيكلية وتقشفية.
ومثّل هذا التحول بداية لحقبة جديدة من امتثال اليونان لمتطلبات الإنقاذ، وإرساء أسس الانتعاش الاقتصادي الملحوظ الذي شهدته البلاد في العقد التالي، وهو ما تضمن خروج اليونان من برنامج الإنقاذ، والحفاظ على الانضباط المالي، وتجاوز النمو في بعض الاقتصادات الأكثر ثراءً.
بداية الأزمة المالية
عانت اليونان من نقاط ضعف هيكلية، وتجاوز مستوى عجزها العام في عام 2009 خمسة أضعاف الحد الأقصى الذي حدده الاتحاد الأوروبي والبالغ 3%، بحسب تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية، مما أدى إلى فقدان الثقة في قدرة اليونان على سداد ديونها.
وقال المسؤول السابق رفيع المستوى في مديرية الاقتصاد بالمفوضية الأوروبية، ماركو بوتي، للصحيفة: “كان السبب الحقيقي للأزمة في عامي 2009 و2010 هو التلاعب بالأرقام”. أدى هذا إلى نموذج الخطر الأخلاقي الذي شوّه الأزمة برمتها.
لم تتمكن اليونان من تنظيم أوضاعها المالية، واحتاجت إلى ثلاث عمليات إنقاذ دولية على مدى ثماني سنوات للبقاء واقفة على قدميها، مع تطبيق جولات متكررة من التقشف الصارم في ظل عدم استقرار سياسي واضطرابات اجتماعية.
وبدأ مسار التعافي بخطوات متعثّرة، فبرنامج الإنقاذ الأول لليونان، الذي أُطلق على عجل عام 2010، اتسم بالإلحاح أكثر من الدقة. وتم تصميم البرنامج بشكل فضفاض على غرار تدخلات صندوق النقد الدولي في أميركا الجنوبية وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وتطلّب تخفيضات في التمويل، إلا أنه لم يُراعِ القيود المفروضة على بلد داخل اتحاد نقدي يفتقر إلى سعر صرف مستقل أو سياسة نقدية.
وقال نائب وزير المالية المالي السابق وكبير المفاوضين الحكوميين في عهد تسيبراس، جورج تشولياراكيس، لفايننشال تايمز، إن خطة الإنقاذ الأولى “فرضت عملية توطيد صارمة للغاية، بأهداف مالية غير واقعية، ووضعت عبء التكيف الكامل على عاتق اليونان”.
انهار الاقتصاد اليوناني إلى حد كبير مع انكماشه بنسبة 26% بين عامي 2008 و2013. كما ارتفعت معدلات البطالة إلى 28%.
أيضاً لم يفلح برنامج الإنقاذ الثاني بحزمة تمويل 130 مليار يورو والذي تم الاتفاق عليه في انتشال الاقتصاد اليوناني من الأزمة رغم أنه أرجئ الانهيار المالي للبلاد، وانتهى البرنامج في يونيو/ حزيران 2015، تزامناً مع حكومة أليكسيس تسيبراس
حقبة تسيبراس
بدأت أثينا مع تولي الحكومة الجديدة السلطة، والتي جاءت بسياسات مناهضة للتقشف، في مفاوضات مع دائنيها لمدة سبعة أشهر. واعتقد وزير المالية وغيره في الحزب الحاكم بزعامة تسيبراس أن خطر خروج اليونان على بقية دول منطقة اليورو يمنحهم نفوذاً للحصول على أموال جديدة بشروط أفضل. لكن سرعان ما فقد الوزير ثقة نظرائه في منطقة اليورو.
ويقول المفوض الأوروبي السابق للسياسة الاقتصادية، بيير موسكوفيتشي، للصحيفة البريطانية عن الوزير اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس: “لم يكن يوماً في وضع تفاوضي. لم يكن أبداً في وضع تسوية. كان دائماً يُلقي دروساً بأسلوب نرجسي نوعاً ما… [كان] وزير مالية كارثياً”.
في يونيو/ حزيران 2015، دعا تسيبراس إلى استفتاء على شروط البرنامج الثالث لإنقاذ اليونان. كان يعلم أنه بحاجة إلى تفويض شعبي، كما يقول أحد حلفائه، للتوصل إلى تسوية مع الدائنين بشأن مقترح كان بعيداً كل البعد عما وعد به.
ويقول إقليدس تساكالوتوس، الذي تولى منصب وزير المالية خلفاً لفاروفاكيس عام 2015 للصحيفة: “كان من الصعب جداً التوصل إلى حل وسط مع قدر كافٍ من التقشف دون استفتاء”.
ويقول تساكالوتوس إن الصفقة التي اتفق عليها هو وتسيبراس في النهاية مع الدائنين كانت “أفضل بلا شك” لأن الأهداف المالية كانت أقل صرامة.
وينفي العديد من المسؤولين اليونانيين والأوروبيين الآخرين هذا بشدة، قائلين إن إدارة تسيبراس لم تحصل إلا على تنازلات طفيفة ولكن بتكلفة باهظة لأن سياساتها المتهورة بدّدت الثقة الناشئة في التعافي.
قبل التوصل إلى اتفاق أغسطس 2015، ومع تحدي اليونان لدائنيها ونفاد السيولة النقدية بشكل خطير، أغلقت بنوكها واحتاجت بشكل عاجل إلى إعادة رسملة جديدة. فُرضَت ضوابط رأس المال، ودخل الاقتصاد في حالة ركود. في الوقت نفسه، غادرت موجة من الشباب اليونانيين المتعلمين وذوي المهارات العالية البلاد بحثاً عن مستقبل أفضل في الخارج.
تطبيق بنود خطة الإنقاذ والخروج من البرنامج
ومع ذلك، في السنوات الأربع التالية، طبقت الحكومة اليونانية بقيادة تسيبراس بنود خطة الإنقاذ الثالثة لليونان بأمانة. ويقول جورج تشولياراكيس إنه كان عليها أن “تتفوق في الأداء” لإقناع المستثمرين بأن التوقعات القاتمة لصندوق النقد الدولي كانت خاطئة. واستقر الاقتصاد. بدأت تكاليف الاقتراض بالانخفاض، وعادت اليونان إلى السوق في عام 2017.
وفي 20 أغسطس/ آب 2018، وبعد ثلاث سنوات من بداية التطبيق، خرجت اليونان بشكل رسمي من برنامج الإنقاذ المالي الثالث والأخير، وهو ما جاء بعد ثمانية أعوام من الاعتماد على هذا النوع من الاقتراض من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي من أجل الخروج من تلك الأزمة المالية.
انتعاشة اقتصادية مع حكومة يمين الوسط
بعد عودة يمين الوسط إلى السلطة في اليونان خلال عام 2019 بقيادة رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، تسارع النمو الاقتصادي المتواضع، مما دفع البلاد إلى تحول مالي ملحوظ. تُحقق اليونان في الوقت الحالي فائضاً أولياً سنوياً بنسبة 4.8% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما ينخفض الدين العام بسرعة – ليس فقط بسبب التضخم، ولكن أيضاً بفضل السداد المبكر.
يقول ميتسوتاكيس، الذي تولى منصبه خلفاً لتسيبراس: “نحن نتحدث الآن عن اقتصاد مختلف عن الاقتصاد الذي ورثناه في عام 2019 من حيث صحته المالية وقدرته التنافسية الأساسية. لا يزال هناك الكثير مما يجب القيام به”.
ونجحت الحكومة اليونانية في التخلص من البيروقراطية من خلال رقمنة أجزاء من القطاع العام، والحد من التهرب الضريبي الذي كان متفشياً في السابق. كما أجرت إصلاحات في القطاع المصرفي وشركة الكهرباء العامة.
وبفضل صندوق التعافي من الجائحة التابع للاتحاد الأوروبي، تجاوز نمو الناتج المحلي الإجمالي اليوناني مؤخراً نمو الدول الأوروبية الأكثر ثراءً. كما تضاعفت الصادرات كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 2008.
استثمارات تكنولوجية
أثمرت إصلاحات مناخ الأعمال في أثينا عن قطاع تكنولوجي سريع النمو، وإن كان لا يزال صغيراُ. يقول مؤسس شركة Big Pi Ventures والمستثمر اليوناني الرائد في مجال التكنولوجيا، ماركو فيريمس، لفايننشال تايمز، إن الأزمة سببت ألماً، لكنها أطلقت العنان أيضاً لـ “تدمير إبداعي” – ومصطلح يشير إلى العملية التي تؤدي فيها الابتكارات والتطورات التكنولوجية إلى تدمير الصناعات والشركات القديمة، مما يؤدي إلى خلق فرص جديدة للنمو والابتكار.
ولكن على الرغم من ارتفاع نسبة الاستثمار من الناتج المحلي الإجمالي إلى 15%، فإنها لا تزال أقل بكثير من متوسط الاتحاد الأوروبي البالغ حوالي 20%. يشير رئيس الاتحاد اليوناني للمؤسسات، سبيروس ثيودوروبولوس، إلى أن اليونان تعاني من عجز استثماري صافٍ يزيد عن 100 مليار يورو – وهو إرث سنوات من نقص الاستثمار وانخفاض رأس المال. ويقول: “لقد فقدنا عقداً من الاستثمار الإنتاجي”، بحسب فايننشال تايمز.
لم يكتمل بعد مشروع كبير لشركة مايكروسوفت Microsoft لبناء مراكز بيانات في العاصمة اليونانية – والذي أشاد به رئيس الوزراء اليوناني عند إطلاقه عام 2020 كرمز لتحول اليونان إلى “وجهة استثمارية”.
ويقول الرئيس السابق لشركة Microsoft في اليونان وقبرص ومالطا، ثيودوسيس ميخالوبولوس للصحيفة البريطانية: “كان هناك زخم حقيقي بعد الأزمة، لكن التوقعات فاقت الواقع أحياناُ”. “مشاريع بهذا الحجم تتطلب وقتاً بطبيعة الحال”.
تحديات لا تزال تواجه البلاد
يعتبر متوسط الإنتاجية في الساعة أقل من نصف متوسط الاتحاد الأوروبي، وهو ما يُعزز المخاوف الأوسع بشأن القدرة التنافسية وعدم زيادة الأجور. لا تزال البلاد تعتمد بشكل كبير على قطاعات مثل السياحة والعقارات – وهي ميزة نسبية لليونان المُشمسة، ولكنها لا تُؤدي بالضرورة إلى خلق قيمة على المدى الطويل.
ويقول رئيس مؤسسة البحوث الاقتصادية والصناعية في اليونان، نيكوس فيتاس لفايننشال تايمز: “نحن بحاجة إلى المزيد من الإنتاج عالي القيمة – سلع وخدمات قائمة على الابتكار والتفرد وإمكانات التصدير – وليس مجرد سلع”.
لم تكن إصلاحات التعليم والنظام القضائي والإدارة العامة سوى “خطوات صغيرة”. يقول فيتاس: “لقد أضعنا فرصة ذهبية”. “حتى مع وجود رئيس وزراء مؤيد للإصلاح واستقرار سياسي منذ عام 2019، لم نسعَ إلى إصلاحات هيكلية طموحة بالقدر الكافي من الحزم”.
حققت اليونان معدل نمو في الناتج المحلي الإجمالي 2.3% خلال عام 2024، ومن المتوقع أن تحقق نفس المعدل في العام الجاري ومعدل نمو 2.2% في 2026، بحسب بيانات المفوضية الأوروبية.
ورغم ذلك، يرى نائب وزير المالية اليوناني السابق، جورج تشولياراكيس، أن العودة إلى حالة الازدهار التي كانت سائدة قبل الأزمة لا تزال هدفاً بعيد المنال، على الرغم من أرقام النمو التي تُسجلها اليونان اليوم. قد تتفوق اليونان في الأداء على نظيراتها، لكن الضرر الذي لحق بها خلال سنوات الأزمة كان عميقاً لدرجة أن التقارب سيتطلب جيلاً من الأداء المتفوق المستدام.
وقال جورج تشولياراكيس: “سنحتاج إلى نمو أعلى بنسبة 1% من بقية دول الاتحاد الأوروبي لمدة 15 عاماً أخرى لنصل إلى ما كنا عليه في عام 2007”.