تجاوز مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف، أو إعادة هيكلتها، محنة النقاش في اللجنة البرلمانيّة الفرعيّة، التي شابها خلافٌ بين المصرف المركزي والحكومة حول بعض التفاصيل. أنجزت اللجنة الفرعيّة مسودّة جديدة متّفق عليها بين الطرفين، وبات المشروع أكثر جاهزيّة لعبور الأشواط المتبقية: الإقرار في لجنة المال والموازنة، ثم في الهيئة العامّة للمجلس. وهذا القانون سيضع الإطار الناظم لصلاحيّات لجنة الرقابة على المصارف والهيئة المصرفيّة العليا، عند تصفية المصارف أو إصلاح أوضاعها.
غير أنّ إقرار هذا المشروع، على أهميّته الشديدة، لن يكون كفيلاً بإطلاق عمليّة إعادة الهيكلة نفسها. فحتّى في حال إقراره، سيستلزم تنفيذه انتظار إقرار مشروع قانون الفجوة كما بات يُعرف، أو الانتظام المالي وفق التسمية الرسميّة. قانون الفجوة، هو ما سيحدد كيفيّة التعامل مع الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي، مع ما يتّصل بهذه الإشكاليّة من أسئلة، مثل مصير الودائع وكيفيّة التدرّج في تسديدها. وقانون الفجوة أو الانتظام المالي، سيكون القانون الثالث والأخير في حلقة متكاملة من تشريعات الإصلاح المالي، إلى جانب قانونَين: رفع السريّة المصرفيّة (تم إقراره في البرلمان)، وإعادة الهيكلة أو إصلاح أوضاع المصارف (قيد الدراسة في البرلمان، كما أسلف الذكر).
ثلاث مستويات لصياغة المشروع
يمكن القول أنّ عمليّة صياغة مشروع معالجة الفجوة، أو الانتظام المالي، ستمرّ بثلاثة مستويات، يُحدّد كلٌّ منها جانبًا من الإطار العام للمعالجات المُزمع تنفيذها: لجنة الرقابة على المصارف، ومصرف لبنان، والحكومة. وستتحدّد أدوار كل من هذه المستويات على الشكل التالي:
– لجنة الرقابة على المصارف: ربط وزير الماليّة ياسين جابر ما بين تعيين أعضاء هذه اللجنة، وبدء التحضير لصياغة قانون الفجوة الماليّة. وهذا الربط مردّه دور اللجنة في عمليّة تقصّي الحقائق، وجمع المعلومات، التي سيتم على أساسها صياغة المعالجات لاحقاً. ومن هذه المعلومات المطلوبة مثلاً تركيبة الودائع الموجودة في القطاع، وتشريحها بحسب النوع والحجم في كل مصرف على حدة، فضلاً عن حجم السيولة المتوفّرة في كل مصرف وفي القطاع ككل. وبغياب هذه المعلومات، سيستحيل بناء المشروع على أساس معطيات سليمة. وفي المرحلة اللاحقة، من المفترض أن تلعب اللجنة دوراً في متابعة تصنيف الودائع بحسب مشروعيّتها، وفقاً للفكرة التي يلحّ عليها رئيس الحكومة نوّاف سلام في مقابلاته.
– حاكميّة مصرف لبنان: بناءً على المعلومات والمعطيات التي ستجمعها لجنة الرقابة، يمكن للحاكميّة البدء باقتراح المعالجات المطلوبة على المستوى التقني، بالتنسيق مع الحكومة. وكان حاكم مصرف لبنان كريم سعيد قد أعلن أساساً، في آخر لقاء له مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، عن وضعه خريطة طريق تم تقديمها لصندوق النقد الدولي، آملاً تحويلها إلى خطّة رسميّة تتبناها الحكومة لاحقاً.
– الحكومة: بناءً على المعطيات والمقترحات التقنيّة التي تم تقديمها من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، يمكن للحكومة صياغة نصّ مشروع القانون، ببنوده التفصيليّة. وهنا، سيحدّد القانون بشكلٍ واضح كيفيّة تصنيف الودائع، وفقاً لمصادرها وحجمها، وكيفيّة التدرّج في تسديدها. كما سيحدّد الآليّات التي سيتم اعتمادها لتقليص الفجوة الماليّة، التي تتمثّل حالياً في الفارق ما بين موجودات والتزامات القطاع المصرفي. مع الإشارة إلى أنّ وزيري الماليّة والاقتصاد، إلى جانب رئيس الحكومة، هم الأطراف المعنيّة بالمناقشة الأوليّة للمقترحات، قبل عرضها على مجلس الوزراء.
ولتقليص الفجوة، ثمّة نوعين من الإجراءات التي يمكن اتخاذها: تلك التي تستهدف تقليص حجم الالتزامات، مثل ضبط الودائع أو الأرباح المشبوهة المصدر. وتلك التي تستهدف زيادة السيولة، مثل عمليّات إعادة الرسملة عبر إدخال مساهمين جدد إلى المصارف. والمطلوب في الحالتين هدف واحد، إعادة التوازن إلى الميزانيّات المصرفيّة، أي تلاءم بين حجم الالتزامات وقيمة الموجودات الفعليّة.
معايير الحكومة والمصرف المركزي
في آخر مقابلاته التلفزيونيّة، حدد رئيس الحكومة نوّاف سلام المعايير الأساسيّة التي سيُبنى عليها مشروع القانون: رفضَ فكرة شطب الودائع، من دون التغاضي عن هدف تصنيف الودائع بحسب مشروعيّتها أو مصدرها، مع إعطاء صغار المودعين الأولويّة في السداد. واستبعد فكرة بيع الأصول العامّة، لأنّ خصخصتها في الظروف الحاليّة ستعني التفريط بها بأثمان بخسة لا تكفي للتعامل مع الخسائر أصلاً. ووازن سلام ما بين أولويّتين: دور المصارف في تحمّل نصيبها من الخسائر، وضرورة إعادة رسملة المصرف المركزي. وبذلك وضع سلام الإطار العام للخطة، من دون الغوص في التفاصيل والأرقام قبل جمع المعطيات من قبل لجنة الرقابة.
أمّا حاكم مصرف لبنان، كريم سعيد، فيتمسّك حاليًا بفكرة تقسيم الودائع إلى شطور، حَسَبَ حجمها، مع أولويّة تسديد الصغرى منها. وما زال سعيد يكرّر تمسّكه بإجراء عمليّة إعادة هيكلة للقطاع، بما يفرض إعادة رسملة المصارف ودمج بعضها، مع إمكانيّة تحويل بعض الودائع إلى مساهمات. وفي إطار عمليّة إعادة الهيكلة، يمكن للدولة أن تفرض تشريعات استثنائيّة، بما يعيد النظر في عمليّات ومعاملات كانت قانونيّة في وقتها، ما دامت هذه التشريعات ستبقى مؤقتة ونسبيّة وتصب في المصلحة العامة.
من خلال تصريحات سلام وسعيد، يبدو أنّ ثمّة نقاطاً مشتركة واضحة سيتضمّنها قانون الانتظام المالي، وفي طليعتها البدء بسداد الودائع الصغيرة تدريجياً، مع إيجاد حلول للودائع الأكبر. كما يوحي كلام سعيد بوجود اقتراحات لإجراءات استثنائيّة، مثل مراجعة بعض الأرباح غير العادلة التي حققتها بعض المصارف في الماضي، لمحاولة تقليص الفجوة. إلا أنّ فهم المعادلة الكاملة لعمليّة توزيع الخسائر، لن يكون ممكناً إلا بعد صدور المسودّة الكاملة لمشروع القانون، التي ستبيّن مساهمة كل إجراء على حدة في تقليص الفجوة.
علي نور الدين