تأمل الورقة النقدية البسيطة. رغم ما قد يطرأ عليها من تجاعيد أو تمزقات، تبقى العملة القانونية الوحيدة الصادرة عن الدولة، والالتزام المباشر الوحيد من البنك المركزي الذي يمكن لمعظم الناس الوصول إليه.
وتُعدّ هذه الورقة الدعامة الأساسية لأنواع متعددة من النقود الخاصة، مثل الودائع المصرفية وأرصدة تطبيق “فينمو” (Venmo)، والتي أصبحت تهيمن على معاملات الحياة اليومية. غير أن قيمة هذه النقود الخاصة تستند، في النهاية، إلى القدرة على تحويلها إلى نقود ورقية ملموسة عند الحاجة.
لكن، ما الذي ينبغي فعله عندما تصبح الخدمات المالية رقمية بالكامل؟
يسعى البنك المركزي الأوروبي إلى أن يكون من أوائل البنوك المركزية التي تطرح إجابة عملية لهذا التحدي. إنها تجربة تستحق المتابعة عن كثب.
على مدار عدة سنوات، كان البنك المركزي الأوروبي يستعد لإطلاق ما يُطلق عليه اليورو الرقمي. وكما هو الحال مع الأوراق النقدية، سيكون هذا الشكل الرقمي من العملة صادراً عن البنك المركزي، ويمكن تداوله بحرية بين الأفراد دون الحاجة لأي تحقق من الرصيد. لكن على عكس العملة الورقية، يمكن لليورو الرقمي أن يُخزّن في الهاتف الذكي، وينتقل كرسالة نصية ليصل من بروكسل إلى بودابست في لحظة.
وإذا حصل المشروع على موافقة البرلمان الأوروبي، فقد تبدأ أولى المعاملات باستخدام اليورو الرقمي قبل نهاية العقد.
هل يحتاج الأوروبيون إلى عملة رقمية؟
ربما يتساءل الأوروبيون، وبشكل منطقي، عن سبب حاجتهم لمثل هذا الابتكار. فلطالما تمكنوا من إرسال الودائع البنكية بعضهم لبعض خلال ثوانٍ معدودة. كما يمكنهم شراء كل شيء تقريباً، من الملابس إلى المثلجات، باستخدام بطاقات الدفع مثل “فيزا” (Visa) و”ماستركارد” (Mastercard).
وبحسب تقديرات البنك المركزي الأوروبي، شكّلت هذه البطاقات نحو 45% من إجمالي قيمة عمليات الشراء عند نقاط البيع خلال عام 2024. بينما انخفضت حصة النقد الورقي إلى 39%، مقارنةً بـ54% في عام 2016، نتيجة تراجع عدد الشركات الراغبة في التعامل بالنقود التقليدية.
إذاً، لماذا لا يُترك المجال للنقود الخاصة لتكون البديل الكامل؟
رغم أن هذا الخيار يبدو جذاباً، إلا أنه محفوف بمخاطر كبيرة. فالودائع البنكية ما هي إلا التزامات على البنوك، التي قد تكون عرضة للانهيار، كما بيّنت أزمات مثل انهيار “سيليكون فالي بنك” في عام 2023، وأزمات البنوك اليونانية في العقد السابق.
إلى جانب ذلك، فإن الاعتماد على مؤسسات تتخذ من الولايات المتحدة مقراً، مثل “فيزا” و”ماستركارد”، قد يحمل في طيّاته مخاطر قانونية أو سياسية. وفي حال عانى المستخدمون من صعوبات في استخدام اليورو الخاص، أو لم يتمكنوا من الوصول إلى اليورو الصادر عن البنك المركزي، فقد تهتز ثقتهم في العملة ذاتها. وإذا لجأوا إلى بدائل مثل العملات المستقرة المقوّمة بالدولار، فإن البنك المركزي الأوروبي قد يواجه تراجعاً في قدرته على ضبط السياسة النقدية داخل منطقة اليورو.
العملة الرقمية وسيلة للاستقرار المالي
على النقيض من ذلك، فإن مجرد وجود عملة رقمية صادرة عن البنك المركزي، قابلة للاستبدال بالنقود الخاصة، كفيل بإضفاء عنصر من الاستقرار على النظام المالي، حتى لو لم تلقَ استخداماً واسعاً من قبل الجمهور.
علاوة على ذلك، فإنها ستنطوي على العديد من المزايا المحتملة، فقد تُسهل التحويلات الطارئة للمحتاجين خلال فترات الأزمات مثل جائحة كوفيد-19. وإذا تم ربطها بعملات رقمية أخرى صادرة عن بنوك مركزية، فقد تسهم في تقليص التكاليف والتعقيدات المرتبطة بالمدفوعات العابرة للحدود، بما يشمل التحويلات المالية الدولية.
مع ذلك، فإن هذا التوجّه لا يخلو من مخاطره الخاصة. فإذا أصبحت هذه العملة الرقمية شائعة جداً، فقد تؤثر سلباً على استقرار البنوك التجارية أو تمنح الجهات الحكومية قدرة مفرطة على مراقبة أو حتى التحكم في المعاملات. لكن مثل هذه المخاوف يمكن التخفيف منها.
فوفقاً للصيغة المقترحة حالياً، سيكون لليورو الرقمي حدود معينة لكل فرد، ولن يكون أداة تدر فائدة. كما سيتاح الوصول إليه عبر البنوك أو مقدمي خدمات أخرين، مع الالتزام بمعايير حماية خصوصية أكثر صرامة من تلك المطبقة في تطبيقات الدفع الحالية. بل إن المعاملات التي تتم دون اتصال بالإنترنت ستوفر مستوى من الخصوصية يقترب كثيراً من التعامل بالنقد الورقي.
ويبقى التحدي الأكبر أمام البنك المركزي الأوروبي هو تحقيق التوازن الصحيح، بحيث يصبح اليورو الرقمي منتشراً بشكل واسع، تماماً كما هو الحال مع اليورو الورقي، دون أن يصبح مهيمناً لدرجة تؤثر على وجود النقود الخاصة. وسيتطلب ذلك بذل جهود أكبر لكسب ثقة المستخدمين المحتملين.
لن يكون ضبط مثل هذه التفاصيل بالأمر السهل، لكنه يستحق العناء. فمن الأفضل أن تكون لدينا عملة رقمية صادرة عن الدولة لا نحتاجها حالياً، من أن نجد أنفسنا بحاجة ماسّة لها ولا تكون متوفرة.