قانون تنظيم المصارف: تدوير للأزمة لا حلّها..

منذ لحظة التعثّر غير المنظّم في آذار 2020، وما تلاه من انهيار ماليّ ومصرفي غير مسبوق، لم تُبدِ السلطة الحاكمة في لبنان أيّ إرادة جدّية لحماية المجتمع من تداعيات الانهيار. بل على العكس، أظهرت سلوكاً ممنهجاً في إهمال الواجبات، وتفادي القرارات المصيرية، وشراء الوقت بالتسويف والمماطلة.

لم يُسجّل أيّ تحرّك فعليّ يُعادل حجم الأزمة، بل وُظّفت الدولة ومؤسّساتها في هندسة إنكار الخسائر، وتضييع المسؤوليّات، وتأجيل الاستحقاقات تحت ذرائع فارغة. جاءت خطّة التعافي، فتبعثرت. وظهرت مشاريع القوانين، فتآكلت. والنتيجة: أزمة بلا نهاية، ومجتمع بلا حماية، وثقة انهارت على امتداد النظام. وفي هذا السياق، أقرّت لجنة المال والموازنة النيابية في تمّوز 2025 نسخة معدّلة من مشروع قانون “إصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها”. يبدو القانون في ظاهره محاولة متأخّرة لتدارك الفشل، لكنّه في جوهره يكرّس فلسفة التأجيل ويديم حالة الانهيار.

مضمون القانون، ولماذا الآن؟

يهدف القانون الجديد، نظريّاً، إلى وضع إطار قانوني لمعالجة المصارف المتعثّرة، بما يشمل التصفية أو إعادة الهيكلة، من دون الاعتماد على المال العامّ. ويتضمّن إنشاء غرفتين للهيئة المصرفية العليا، آليّات للتقويم المستقلّ، وصلاحيّات جديدة للجهات الرقابية. وعلى الرغم من أنّ القانون جاء متأخّراً خمس سنوات عن لحظة الانهيار، إلّا أنّ توقيته يرتبط بشكل مباشر بمطالب المجتمع الدولي، وعلى رأسه صندوق النقد الدولي، الذي يشترط إصلاح القطاع المصرفي كإحدى ركائز أيّ خطّة إنقاذ للبنان.

نقاط التّقدّم وإشكاليّات لا تُغتفر

يُحسب لهذا القانون أنّه يعترف رسميّاً بوجود مصارف غير قابلة للاستمرار، ويؤسّس لمبدأ “البايل إن “(Bail-in) لتوزيع الخسائر داخل هيكل الدائنين بدلاً من الإنقاذ عبر المال العامّ. ويُنشئ هيئات مختصّة، ويعطي الهيئة المصرفية العليا سلطات غير مسبوقة. لكنّ كلّ ذلك يُقوَّض أمام جملة من الثغرات الجوهرية:

1- تضارب المصالح البنيويّ. لا تزال مؤسّسة ضمان الودائع، الممثّلة للمصارف التجارية، تتمتّع بعضويّة فاعلة في غرفة اتّخاذ قرارات التصفية. هذا التمثيل، حسب صندوق النقد، يجب تجميده إلى حين إصلاح المؤسّسة لتصبح جهة عامّة مستقلّة تماماً. استمرار هذا الواقع يهدّد حياديّة القرارات ويفتح الباب أمام نفوذ المصارف على إجراءات يُفترض أنّها إصلاحيّة.

2- الطّعن بالتقويمات المستقلّة. يسمح القانون للمصارف بالاعتراض على التقويمات التقنيّة والعلميّة المستقلّة لأوضاعها الماليّة، على الرغم من أنّها يجريها خبراء مستقلّون. هذا يخالف أبسط معايير الحوكمة ويعرقل سرعة الحسم المطلوبة في أوقات الأزمات. فهل يُعقل أن يُمنح الطرف الخاضع للتصفية حقّ تأخيرها بالطعن المتكرّر؟!

3- تأجيل التطبيق إلى قانون غير موجود. ربط دخول القانون حيّز التنفيذ بصدور “قانون معالجة الفجوة المالية واسترداد الودائع” يُفرغه من مضمونه. حاله كحال مرسوم يصدر مشروطاً بحلم مؤجّل. وهكذا يبقى مصير المودعين مرهوناً بتشريع غائب، فيزيد انعدام اليقين ويفقد القانون فعّاليّته الاجتماعية والاقتصادية.

4- تغليب الشّكل على الجوهر. على الرغم من وفرة الموادّ القانونية وتعدّد الهيئات المنشأة بموجب هذا القانون، يعاني النصّ ثغرة قاتلة تتعلّق بغياب مبدأ “سموّ القانون”. فلا يتضمّن نصّاً صريحاً يُقرّ بأنّ هذا القانون يعلو على أيّ قوانين سابقة أو متعارضة، كقانون التجارة أو قوانين الشركات. ونتيجة لذلك، قد يجد قاضٍ نفسه مضطرّاً إلى تعليق تنفيذ قرار إصلاحيّ أو تصفويّ صادر عن الهيئة المصرفية العليا، فقط لأنّ قانوناً أقدم لم يُلغَ صراحة. هذا النوع من الغموض القانوني لا يخلق فقط إرباكاً في التطبيق، بل يفتح الباب أمام تجميد الإجراءات تحت ذرائع شكليّة، ويقوّض فعّاليّة القانون بأكمله.

المصارف

5- ضعف حماية المودعين. لا يضع القانون حدّاً أدنى مضموناً لحماية صغار المودعين، ولا يقرّ بمسؤولية الدولة عن تغطية الخسائر الناتجة عن إدارتها الفاشلة. وفي غياب “قانون الفجوة”، تبقى جميع الضمانات حبراً على ورق.

ماذا قال صندوق النّقد الدّوليّ؟

في وثيقة التعليقات الأوّلية على القانون، أشار صندوق النقد بوضوح إلى ما يلي:

– ضرورة إلغاء صلاحيّة الاعتراض على التقويم الماليّ، إلّا في حال وجود “خطأ وقائعي مثبت”.

– المطالبة بحصر الطعن بقرارات الهيئة المصرفية العليا ضمن نطاق قانوني ضيّق لا يتيح للسلطة القضائية تعطيل القرار الفنّي.

– دعوة إلى تقييد تأجيل تنفيذ القانون، ورفض ربطه بأيّ تشريع لاحق.

– مطالبة بتوسيع مفهوم الاستقلاليّة ليشمل أقارب المعنيّين، وتمديد فترة المراجعة إلى خمس سنوات.

– غياب خطّة واضحة لتوزيع الخسائر، وتحذير من أيّ آليّات تُبقي المصارف الهشّة على قيد الحياة دون إصلاح حقيقي.

ليست هذه الملاحظات تقنيّة فقط، بل تشير إلى أنّ القانون، بشكله الحالي، لا يُرضي حتّى الحدّ الأدنى من شروط الشفافية، الفعّالية والعدالة.

من أين يبدأ الإصلاح الحقيقيّ؟

إذا كان هذا القانون هو “الخطوة الأولى”، فإنّ الخطوة التالية يجب أن تكون:

1- إقرار قانون الفجوة الماليّة فوراً وبصيغة عادلة تُحمّل الدولة والمصرف المركزي والمصارف حصصاً عادلة من الخسائر، وتحمي صغار المودعين دون تأجيل أو استنسابية.

2- تعديل القانون الحالي بما ينسجم مع تعليقات صندوق النقد الدولي، خصوصاً لناحية الاستقلالية، آليّات الاعتراض، وتأكيد سموّ هذا القانون على ما سواه.

3- تمكين المؤسّسات الرقابية الجديدة من العمل دون تدخّل سياسي. فلا إصلاح حقيقي ممكن بوجود الطبقة نفسها التي تواطأت في الانهيار.

4- وضع خطّة واضحة لتصنيف المصارف إلى قابلة للحياة، قابلة للدمج، وغير قابلة للاستمرار، بناءً على مراجعات مستقلّة ونزيهة.

5- وقف الإنكار الرسمي للواقع الماليّ. فالتعامل مع الانهيار لا يتمّ عبر التجميل القانوني بل عبر الاعتراف بالخسائر وتوزيعها بعدالة.

ما بين القانون والحقيقة فجوة أوسع من الخسائر

ليس القانون الجديد مادّةً تشريعيةً تُضاف إلى أرشيف الدولة، بل هو مرآة لما تنوي فعله السلطة، أو بالأحرى لما تُصرّ على تجنّبه. وفي حال بقي هذا القانون على حاله، دون تعديلات جوهرية تستجيب لملاحظات صندوق النقد الدولي ولنداءات الضحايا، فلن يُعبّر عن نيّة للإصلاح، بل يعكس إرادة صريحة للتأجيل، والتدوير وإبقاء الأزمة في حالة سبات قسريّ.

محمد فحيلي

* باحث لدى كليّة سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت  (AUB).