عاد ملف الدولار المصرفي الى الواجهة في الايام القليلة الماضية، من بوّابة إعلان رئيس حكومة تصريف الاعمال ان تحديد سعر هذا الدولار سيتمّ قبل نهاية ايار الجاري. ومع هذا الاعلان، عادت الاجتهادات في شأن السعر الذي سيُعتمد، والجهة التي ستتخذ القرار، وتتحمّل المسؤولية امام الناس.
مرّت اكثر من اربعة اشهر على نهاية مفعول التعميم 151، والذي كان يتيح سحب الاموال من الودائع الدولارية في المصارف، بالليرة، وعلى سعر 15 الف ليرة للدولار الواحد، من دون ان تنجح كل السلطات المعنية (المجلس النيابي، الحكومة، وزارة المالية، مصرف لبنان) في الاتفاق على تجديد مفاعيل التعميم، او تغيير سعر الدولار المصرفي، من خلال تعميم جديد، او قانون يصدر عن مجلس النواب، او قرار يصدر عن الحكومة او عن وزارة المالية. ومع الوقت، فقدَ المودع الأمل في تغيير سعر السحب، بعدما تبيّن له ان كل الاطراف التي يمكن ان تنصفه لا ترغب في تحمّل مسؤولياتها، وتفضّل استمرار الوضع على ما هو عليه.
فجأة، تبدّل المشهد، وبَدا كأنّ الحكومة استفاقت من غيبوبة، وأطلقت العنان لمشروع تغيير سعر الدولار المصرفي، وتحديد سعر جديد. فما الذي جرى لكي تتحرّك الحكومة في هذا الاتجاه؟ وهل سينتهي هذا الحراك الى قرار قبل نهاية الشهر الجاري، كما وعد الرئيس ميقاتي؟
من الواضح ان هناك بضعة معطيات ومستجدات فرضت على الحكومة ان تتخلى عن سلوك الاهمال المتعمّد لهذا الملف، وتقرّر تحريكه وانجازه، من أهمها ما يلي:
اولاً – في اطار سعيه الى تلبية مطالب الاميركيين، للتخفيف من حجم الاقتصاد النقدي (cash economy)، قرر حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري السماح للمكلفين (افرادا ومؤسسات) دفع ضرائبهم من خلال بطاقات الدفع الالكتروني، عبر استخدام ودائعهم في المصارف. وباشَر في الاجراءات التقنية لتسهيل هذا الامر. وفي الموازاة، قرر تكتل التنمية والتحرير مساعدة منصوري في مهمته، من خلال إعداد مشروع قانون ينظّم عمليات دفع الضرائب بواسطة البطاقات. وسيتم طرح القانون في المجلس النيابي قريباً. لكن هذا المشروع يحتاج الى تحديد سعر الدولار المصرفي لسحب الاموال على اساسه. وبما أن منصوري، ورغم تمسّكه الظاهري بالسعر الحقيقي أي 89.500 ليرة للدولار، الا انه في الواقع لا يريد السماح بسحب الودائع على هذا السعر، حرصاً على الاستقرار في سعر الصرف، والذي يشكّل اولوية بالنسبة له. ومن هنا، جرى التفاهم الضمني مع السلطتين التشريعية والتنفيذية على التدخّل لتحديد سعر جديد للدولار.
ثانياً – سبق لمنصوري، الذي نجح في فرض الاستقرار في سعر الصرف، ان قلّص حجم الكتلة النقدية بالتداول بالليرة الى مستويات قياسية، (ما يساوي حوالى 600 مليون دولار فقط). هذا التقليص ساعده في ضبط سوق الصرف، لكنه خنق السوق بعض الشيء، وظهرت حاجة الى سيولة اضافية بالليرة لتسهيل التداول والاعمال. وكان منصوري يدرس سبل تكبير الكتلة بالليرة، من دون المجازفة بالضغط على سعر الصرف. وهذا ما سيحصل من خلال دفع الضرائب بالبطاقات أو التحاويل الالكترونية. اذ ان وزارة المالية التي كانت تلمّ الليرات بواسطة تحصيل الضرائب نقداً، سوف تتقاضى الضرائب بالتحويلات الالكترونية، بما يعني ان مزيداً من السيولة بالليرة سيتوفر في الاسواق. وهكذا تكون مسألة الشح بالليرات قد عولِجت، من دون الحاجة الى ضخ سيولة اضافية.
ثالثاً – تدرك «الدولة» بشقيها التشريعي والتنفيذي انّ المواطن يحتاج الى سحب اموال من ودائعه الدولارية، وبالتالي، لا بد من انصافه بعض الشيء من خلال رفع سعر الدولار المصرفي. وفيما يتردّد ان السعر الجديد سيكون 25 الف ليرة، يهمس البعض بأنّ السعر قد يرتفع الى 30 الف ليرة، بهدف إحداث صدمة ايجابية لدى المودع. طبعاً، أي سعرٍ أقل من السعر الحقيقي (89.500) لن يُرضي المودع، لكن، وعلى طريقة الكحل افضل من العمى، سيتم رفع السعر الى 25 أو 30 الف ليرة.
في الموازاة، تدرك الدولة انه يمكن الطعن في اي قرار يحدد سعرا غير السعر الحقيقي للسحب من الودائع. ومع ذلك، تراهن على وجود حاجة الى سعر لا يضرب سعر صرف الليرة من جديد. وهي تعتقد انه كما تمّ التراجع عن فكرة الطعن والالغاء بالنسبة الى التعميم 151 عندما صدر للمرة الاولى، فإنّ الظروف نفسها، أي الواقعية والحاجة، ستفرضان القبول بتحديد سعر جديد للدولار المصرفي، ما دام السحب اختيارياً بالنسبة الى المودع.
أنطوان فرح