مرحلة الاستقرار النسبي في الوضع الاقتصادي قد لا تكون مفتوحة لفترة طويلة، لكنها كافية على ما يبدو لِنشر الاوهام، بحيث ان البعض بات يعتقد، ومن ضمنهم رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، انّ البلد اجتاز «قطوع» الانهيار وبدأ مرحلة التعافي.
في المرحلة الأخيرة، صدرت تقارير خارجية تضمّنت اشارات ايجابية تتعلق بنوع من الاستقرار، وفق مؤشرات ثانوية. ورغم ان هذه التقارير تحدثت بإسهاب عن الفجوات الهائلة القائمة بالنسبة الى الوضعين الاقتصادي والمالي، إلا أن البعض في الداخل، وعن قصد او عن سوء تقدير، سلّط الضوء كثيرا على الاشارت المُطمئنة الواردة في التقارير. طبعاً، هذا لا يعني ان مظاهر الاستقرار لا يُبنى عليها، لكن الواقعية تفرض إعطاء هذه الاشارات حجمها الحقيقي اولاً، واحتساب المخاطر المستقبلية التي قد تقضي بسرعة على هذه الايجابيات ثانياً.
خلال اللقاءات التي عقدها وفد صندوق النقد الدولي في بيروت، تحدث رئيس البعثة عن اشارات الاستقرار، واعتبرها خطوات متواضعة ينبغي استكمالها بخطوات اساسية اكثر شمولية. ومن الواضح ان الوفد كان مرتاحا الى الاجراءات التي اتخذها مصرف لبنان حيال الكثير من الامور المطلوبة من قبل الصندوق. ومن اهم هذه الخطوات، ما يلي:
اولاً – كَف يد الدولة عن الاموال الموجودة في مصرف لبنان من خلال وقف تمويلها.
ثانياً – توحيد سعر صرف الدولار. ويبدو ان صندوق النقد لا يأخذ في الاعتبار ان سعر الدولار المصرفي لا يزال على الـ15 الف ليرة، اذ بالنسبة له طالما لم يصدر تعميم عن المركزي يحدّد هذا السعر، فهذا يعني ان السعر موحّد، ولا وجود لسوق مُوازٍ. هذا الموقف يفسّر ربما لماذا يرفض حاكم المركزي بالانابة وسيم منصوري التدخّل العلني في تحديد سعر للدولار المصرفي، حرصاً على صورته امام الصندوق. وبالمناسبة، اين أصبح وعد ميقاتي بتحديد سعرٍ لدولار السحب من الودائع قبل نهاية شهر ايار؟
ثالثاً – الاستقرار في سعر الصرف، بما ساعد على الاستقرار الاقتصادي والمعيشي.
رابعاً – تكبير حجم الاحتياطي في مصرف لبنان من العملات الاجنبية.
في موازاة هذه «الايجابيات»، تبرز مخاطر مستقبلية داهمة قد لا يطول الوقت قبل ان تفرض نفسها على المشهد، وقد تؤدي الى قلب الوضع رأساً على عقب، وتقضي على الاستقرار الهش القائم حالياً. من أبرز هذه التحديات:
اولاً – موعد آذار 2025، وهو الموعد الاقصى الذي يفقد بعده حاملو اليوروبوندز حقهم في المطالبة بفوائد على السندات الدولارية. ومن البديهي ان حاملي السندات سيتقدمون بدعوى لحفظ حقوقهم في الفوائد.
ثانياً – تتجمّع الدعاوى التي يتم تقديمها في اكثر من دولة اوروبية، من قبل مودعين كبار، يسعون الى الحصول على احكام تتيح لهم أخذ ودائعهم من خلال اموال المصارف اللبنانية الموجودة في المصارف المراسلة. واذا كانت الاحكام في هذه الدول، لا سيما في باريس، قد تأخرت في الصدور، إلا أن المعلومات تشير الى اقتراب موعد إصدار الأحكام. وهذا يعني، في حال حصوله، سحب كمية من الاموال، العائدة الى جميع المودعين. وستنخفض حظوظ المودعين في الداخل، لا سيما الصغار منهم، في استرجاع كامل اموالهم.
ثالثاً – سيكون لبنان على موعد مع اللائحة الرمادية في الخريف المقبل، في حال بقيت الامور جامدة على ما هي عليه اليوم، خصوصا على مستوى الاقتصاد النقدي. وبعض من التقوا وفد صندوق النقد في بيروت، يؤكدون انّ ادارة صندوق النقد مقتنعة بأن لبنان أصبح نظرياً على اللائحة الرمادية مع وقف التنفيذ، لأنّ معايير هذه اللائحة تنطبق عليه، وان ما جرى من تأجيل لاعلان ذلك هو بمثابة فترة سماح اضافية لن تتجدّد في الخريف. بل انّ قناعة صندوق النقد ان لبنان سيتجه سريعاً نحو اللائحة السوداء. وهذا الامر اذا حصل سيشكل كارثة على المستوى المالي والاقتصادي.
خلاصة هذا الوضع، ان الاستقرار الذي يغشّ البعض في هذه المرحلة، هو بمثابة استقرار مزيّف، لن يستمر لفترة طويلة، ولن يصمد في وجه الاستحقاقات الداهمة التي تنتظر البلد في الاشهر الستة المقبلة. وهذا التوصيف قدّمه وفد صندوق النقد الى المسؤولين اللبنانيين بكل وضوح، وبلا مواربة، مؤكداً انّ تحاشي هذا المصير الاسود لا يمكن ان يحصل من دون ان تُباشر الدولة الاجراءات المطلوبة منها، والتي تدخل في اطار ورشة الاصلاحات والقوانين التي تحمي البلد، وتنظّم مسار التعافي. ولكن لا امل في هذه النقلة، قبل عودة الانتظام السياسي. وهذا يعني انه اذا لم يتم انتخاب رئيس للجمهورية قبل نهاية العام الجاري، ستكون احتمالات الانهيار بمرحلته الثانية، بعد الانهيار الاول في العام 2019، مرجّحة في العام 2025.
انطوان فرح