لقد أحدثت الثورة الرقميّة تحوّلًا كبيرًا في الطريقة التي نتعامل بها مع الأموال، وفي طليعة هذا التحوّل؛ المحافظ الإلكترونيّة، وهي تُعرَف أيضًا باسم المحافظ الرقميّة. وهي محافظ افتراضيّة توفِّر وسيلة مريحة وآمنة وفعّالة للدفع وإدارة المعاملات الماليّة. كذلك تشكّل أداة رقميّة لتخزين المعلومات الماليّة، أو المصرفيّة، أو بطاقات الائتمان، أو الأموال، أو العملات الرقميّة إلكترونيًا.
يعود تاريخ مفهوم المحافظ الإلكترونيّة إلى أواخر التسعينات، حيث كانت الأمثلة المبكرة مثل PayPal رائدة في مجال الدفع الرقميّ. ومع ذلك، أدّى الانتشار الواسع للهواتف الذكيّة، والتقدّم في تكنولوجيا الإنترنت في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين إلى انتشار استخدام المحافظ الإلكترونيّة على نطاق واسع. واليوم، توفّر منصّات خاصّة بشركات عالميّة مثل سامسونغ، وآبل، وغوغل تجربة دفع سلسة للجميع.
إنّ استخدام الدفع الإلكترونيّ أمرٌ لا مفرّ منه، وبالرغم من الأزمة الاقتصاديّة التي هزّت لبنان منذ تشرين الأوّل ٢٠١٩، فالزيادة الكبيرة في عمليات الشراء عبر الإنترنت، وانخفاض قيمة الليرة اللبنانيّة، ما هي إلّا بعض الأسباب التي أعادت اللبنانيّين إلى طريق الابتكار والشمول الماليّ. وفي خضمّ هذه البيئة الصعبة، برزت المحافظ الإلكترونيّة كأداة حيويّة لتسهيل المعاملات الماليّة، وأعادت شيئًا من الاستقرار والراحة.
لقد غيّرت الأزمة الاقتصاديّة في لبنان من طريقة إدارة الناس لأموالهم بشكل كبير، التي اتّسمت بالتضخّم المفرط، وانهيار القطاع المصرفيّ، وانخفاض قيمة العملة. فقد أصبحت الأنظمة المصرفيّة التقليديّة غير موثوقة، حيث تفرض البنوك ضوابط على رأس المال، وتحدّ من عمليات السحب. واستجابة لذلك، اكتسبت المحافظ الإلكترونية زخمًا كوسيلة بديلة لإجراء المعاملات وإدارة الأموال.
وافق مصرف لبنان على 13 محفظة إلكترونيّة حتّى الآن، في حين أنّ هناك تطبيقات أخرى قيد الدراسة. وقد أجاز البنك المركزيّ للمصارف وشركات تحويل الأموال تقديم خدمة المحفظة الإلكترونيّة وفقًا للشروط المنصوص عليها في التعميمين ٦٩ و٦٣ وتعديلاتهما اللاحقة. ومن أهمّ هذه الشروط موافقة المصرف المركزيّ على الآليات التقنيّة لتطبيقات تكنولوجيا المعلومات المستخدمة لإدارة المحفظة الإلكترونيّة.
علمًا أنّه بموجب شروط التعميم، يجب أن يكون لدى مقدّمي خدمات المحفظة الإلكترونيّة رأس مال لا يقلّ عن عشرة مليارات ليرة في جميع الأوقات. وإذا سجّلت هذه الكيانات خسائر، فيجب عليها إعادة بناء رأسمالها في غضون ستّة أشهر، وإلّا فإنّها ستواجه خطر سحب ترخيص التشغيل الخاصّ بها.
وقد وضع مصرف لبنان حدًّا أقصى للأموال التي يمكن أن تكون متاحة في المحفظة الإلكترونيّة، فلا يتجاوز إجمالي الأموال في المحفظة الإلكترونيّة للشخص الواحد في أيّ وقت من الأوقات ١٥٠ مليون ليرة لبنانيّة، أو ٣٠٠٠ دولار أميركيّ. وإذا كان العميل تاجرًا أو يمارس مهنة حرّة، فإنّ الحدّ الأقصى للأموال المتاحة في المحفظة هو مليار ليرة أو ٥٠٠٠ دولار. علاوةً على ذلك، وتماشيًا مع المعايير الدوليّة، يجب ألّا يتجاوز مجموع الأموال المُرسلة من كلّ عميل ١٥ مليون ليرة لبنانيّة في اليوم الواحد، و١٥٠ مليون في الشهر للمعاملات التي تتمّ بالعملة المحليّة. وفي حالة التعامل بالعملات الأجنبيّة، يكون السقف الأقصى ٣٠٠ دولار في اليوم الواحد و٣٠٠٠ دولار في الشهر.
كما أصدر مصرف لبنان القرار الوسيط رقم ١٣٣٣٨ بموجب التعميم الوسيط ٥٨٨ الذي يسمح لكلّ لبنانيّ بالحصول على محفظة إلكترونيّة، حتّى اللبنانيّين الذين لا يملكون حسابًا مصرفيًّا. وتسمح هذه المحفظة الإلكترونيّة بتخزين الأموال على وسيط إلكترونيّ – مثل شريحة الهاتف المحمول، أو عن بعد على مُخَدِّم، عبر حساب إلكترونيّ – وإجراء المعاملات من دون استخدام حساب مصرفيّ. وتمّ التصريح بالفعل باستخدامها لأصحاب الحسابات المصرفيّة منذ كانون الثاني ٢٠٢٠، بعد اعتماد التعميم الوسيط رقم ٥٣٩.
يُجيز التعميم السابق لحاملي المحافظ الإلكترونيّة توريدها، أو إجراء عمليات السحب النقديّ، عبر الشبكة الفعليّة لشركة وسيطة مثل أحد البنوك أو شركة تحويل الأموال، بالإضافة إلى تحقيق هذه العمليات عبر حسابهم أو بطاقة مصرفيّة. كما يمكن أن تكون هذه المحفظة بالليرة اللبنانيّة أو بالعملات الأجنبيّة.
تعمل المحافظ الإلكترونيّة في لبنان عن طريق الربط بالحسابات المصرفيّة أو بطاقات الائتمان الخاصّة بالمستخدمين، أو عن طريق السماح للمستخدمين بتحميل الأموال مباشرة في التطبيق. كما أنّها تُتيح مجموعة متنوّعة من المعاملات، بما في ذلك التحويلات من نظير إلى نظير، ومدفوعات التجزئة، ودفع الفواتير، والمعاملات الدوليّة. كذلك، تسمح التحويلات للمستخدمين بإرسال الأموال إلى الأصدقاء والعائلة على الفور، متجاوزين الحاجة إلى النقد، أو التحويلات المصرفيّة.
كما تعمل المحافظ الإلكترونيّة على تسهيل المدفوعات لدى التجار المحليّين، سواء عبر الإنترنت أو خارجه، ممّا يوفّر خيار الدفع غير النقديّ المفيد بشكل خاصّ نظرًا لنقص السيولة النقديّة الماديّة. كذلك يمكن للمستخدمين أيضًا دفع فواتير الخدمات، والرسوم المدرسيّة، وغيرها من النفقات مباشرةً عن طريق محافظهم الإلكترونيّة، ممّا يسهِّل عمليّة الدفع. وتدعم بعض المحافظ الإلكترونيّة التحويلات الدوليّة، فتساعد المستخدمين على تلقّي التحويلات الماليّة من المغتربين اللبنانيّين، وهو مصدر دخل مهمّ للعديد من الأسر.
كما نجد أنّ الكثير من المحافظ الإلكترونيّة متعدّدة المنصّات، ممّا يعني أنّه يمكننا الوصول إلى المحفظة الإلكترونيّة من أجهزة مختلفة عبر تطبيقات مخصّصة أو مواقع إلكترونيّة آمنة، أو حتّى حلول برمجيّة خاصّة بالمنصّات. ولكن من المهمّ أن تكون متوافقة مع المنصّات المختلفة، وتوفّر مُزَامنة آمنة بين الأجهزة لضمان اتّساق المعلومات والمعاملات. علمًا أنّه يمكن أن تكون الهواتف الذكيّة قابلة للتتبّع، وفي بعض الحالات، يمكن أن تخضع لفكّ التشفير. وتعتمد سهولة الأمر على العديد من العوامل، بما في ذلك التدابير الأمنيّة المعمول وفقها، وطريقة استخدام الجهاز، والحماية الماديّة التي يتمتّع بها.
وفي هذا السياق، يُنصح باختيار المحافظ الإلكترونيّة الموثوقة التي توفّر تدابير أمنية قويّة. ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ أمن المعاملات، وسريّة البيانات لا يعتمدان فقط على التدابير التي يتّخذها مقدّمو خدمات المحفظة الإلكترونيّة، ولكن على الممارسات الأمنيّة التي يتبنّاها المستخدمون أيضًا، مثل حماية أجهزتهم من البرمجيّات الخبيثة، واستخدام كلمات مرور قويّة، ومراقبة المعاملات بانتظام للكشف عن أيّ نشاط مشبوه.
اليوم، يعرف اعتماد المحافظ الإلكترونيّة في لبنان العديد من التأثيرات المهمّة على الوضع الاقتصاديّ. فقد أدّت إلى توسيع نطاق الشمول الماليّ عن طريق توفير إمكانيّة الوصول إلى الخدمات الماليّة الرقميّة لأولئك الذين قد لا يمتلكون حسابات مصرفيّة تقليديّة، ولا سيّما في المناطق الريفيّة، والأماكن التي تعاني من نقص الخدمات. ومع وجود القطاع المصرفيّ في حالة من الفوضى، توفِّر المحافظ الإلكترونيّة بديلًا لإجراء المعاملات اليوميّة، ممّا يقلّل من الاعتماد على البنوك التقليديّة، وإجراءاتها التقييديّة. وفي ظلّ الاقتصاد الذي يعاني ضائقة ماليّة، تعمل المحافظ الإلكترونيّة على تسهيل المعاملات غير النقديّة. كما يقلّل هذا التحوّل أيضًا من المخاطر المرتبطة بحمل مبالغ نقديّة كبيرة. وتوفِّر للشركات الصغيرة حلًّا فعّالًا للدفع، فتساعدها على مواصلة عمليّاتها على الرغم من البيئة الاقتصاديّة الصعبة.
وبالمختصر، تكمن فوائد المحافظ الإلكترونيّة، أوّلًا بتوفير الراحة، حيث يمكن للمستخدمين إجراء مدفوعات سريعة من دون الحاجة إلى البحث عن النقود أو البطاقات. وهذا مفيد بوجهٍ خاصّ للمعاملات اليوميّة الصغيرة مثل شراء القهوة أو دفع ثمن سيارة أجرة. ثانيًا بتأمين معايير الأمان، فتستخدم أساليب تشفير ومصادقة متقدّمة، مثل التحقق البيومتريّ (بصمة الإصبع أو التعرّف الى الوجه)، ممّا يجعلها أكثر أمانًا من المحافظ التقليديّة. ففي حالة فقدان الهاتف أو سرقته، يمكن إلغاء تنشيطها عن بُعد.
بالإضافة إلى ما ذُكر، توفِّر السرعة في المعاملات الفوريّة، ممّا يسرّع عملية الدفع لكلّ من المستهلكين والتجّار. وهذا مفيد بشكلٍ خاصّ في بيئات البيع بالتجزئة المزدحمة. كذلك، توفّر للمستخدمين تاريخًا مفصّلًا للمعاملات، ممّا يساعدهم على إدارة شؤونهم الماليّة بشكل أفضل. وغالبًا ما يتمّ دمج أدوات وضع الميزانيّة وتحليلات الإنفاق في هذه التطبيقات.
أخيرًا تحفّز المستخدمين عن طريق المكافآت والحوافز، فيعرض العديد من مقدّمي هذه الخدمات على تبنّي المدفوعات الرقميّة. إذ يمكن لهذه الحوافز أن تجعل المحافظ الإلكترونيّة مربحة من الناحية الماليّة.
وعلى الرغم ممّا عددناه من فوائد كثيرة، إلّا أنّ المحافظ الإلكترونيّة تواجه العديد من التحدّيات، خصوصًا بما يخصّ البُنى التحتيّة، مما يؤدّي إلى عوائق تبنّي هذه التكنولوجيا. ففي الوقت الذي تبنّت فيه المناطق الحضريّة المحافظ الإلكترونيّة، تتخلّف المناطق الريفيّة ذات الولوج المحدود إلى الإنترنت. بالإضافة إلى ذلك، قد تقاوم الأجيال الأكبر سنًّا اعتماد التكنولوجيا الجديدة. من ناحية أُخرى، تبرز المخاوف الأمنيّة، فعلى الرغم من أنّ المحافظ الإلكترونيّة آمنة بشكل عامّ، إلّا أنّها ليست محصّنة ضدّ التهديدات الإلكترونيّة. ويشكّل التصيّد الاحتياليّ، والقرصنة، وغيرها من أشكال الجرائم الإلكترونيّة أخطاراً، ممّا يستلزم اليقظة المستمرّة والتدابير الأمنيّة القويّة.
بالإضافة إلى ما ذُكر، تبرز العقبات التنظيميّة، وهي تختلف باختلاف المشهد التنظيميّ للمحافظ باختلاف البلدان. فقد يكون الامتثال للوائح الماليّة المحليّة معقّدًا، ومكلِفًا لمقدّمي الخدمات. وبما أنّه ليست جميع المحافظ الإلكترونيّة مقبولة عالميًّا، قد يُقبل بعض التجّار على محافظ إلكترونيّة معيّنة من دون غيرها، ممّا يحدّ من إمكانيّة استخدامها.
ختامًا، في حين أنّ المحافظ الإلكترونيّة تقدّم العديد من الفوائد في لبنان، إلّا أنّها تواجه أيضًا العديد من التحديّات. فقد تكون مشاكل البنية التحتيّة غير موثوقة، ممّا يعوق الاستخدام المستمرّ لخدمات المحافظ الإلكترونيّة. كما أنّ البيئة التنظيميّة للمدفوعات الرقميّة في البلد لا تزال قيد التطوّر، ويمكن أن تشكِّل اللوائح غير الواضحة عقبات أمام مقدّمي خدمات المحافظ الإلكترونيّة. ومن الضروري بناء الثقة بين المستخدمين الذين يشعرون بالقلق من الخدمات الماليّة الرقميّة. كما أنّ ضمان اتّخاذ تدابير أمنيّة قويّة وتثقيف المستخدمين أمر بالغ الأهميّة لاعتمادها على نطاق واسع.
واستشرافًا للمستقبل، من المرجَّح أن تؤدي المحافظ الإلكترونيّة دورًا أشدّ أهمّيّة في النظام الماليّ في لبنان. ولتحقيق إمكاناتها الكاملة، من الضروريّ اتّخاذ عدّة خطوات. فسيؤدّي تحسين موثوقيّة شبكة الإنترنت، وشبكة الهاتف المحمول، إلى تعزيز إمكانيّة استخدام المحافظ الإلكترونيّة.
كما أنّ وضع إطار تنظيميّ واضح سيوفّر الاستقرار، ويشجّع الاستثمار في حلول الدفع الرقميّ. إذ يمكن أن يؤدّي تثقيف المواطنين والمواطنات بشأن مزايا المحافظ الإلكترونيّة وأمنها إلى زيادة معدّلات اعتمادها. كذلك، يجب على مقدّمي هذه الخدمات الاستمرار في الابتكار، وتقديم ميزات مصمَّمة خصيصًا لتلبية الاحتياجات الخاصّة بالسوق اللبنانيّة.
لكن، ماذا بقي في جيب اللبنانيّ من دولار ولولار وغيره… كي يضعه في أيّ محفظة كانت أو في جُعبة مؤسسة ماليّة، أو وسيط يؤتمن على فتات مدّخراته…؟ وهل هذه التقنيّة مجرّد «موضة» مؤقّتة نقلّد فيها البلدان المتطوّرة، لعلّنا نتشبّه بها؟ أم أنّها ستكون خطوة حقيقيّة نحو هيكليّات مُستدامة نستفيد منها لأزمتنا في «العصر الرقميّ».
البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ