تترقَّب الأسواق ما سيسفر عنه المؤتمر السنوي للبنك الفيدرالي الأميركي، الذي سيعقد في الفترة من 22 حتى 24 أغسطس (آب)، في منتجع جاكسون هول بولاية وايومينغ. ويشارك في هذا الملتقى على ما جرت العادة قادة البنوك المركزية الرئيسية ونخبة من متخذي القرار والاقتصاديين، لتبادل الآراء في شكل ندوات ينظمها البنك الفيدرالي لكانساس سيتي، حول السياسات الاقتصادية والمتغيرات المختلفة المحلية والعالمية التي تؤثر فيها وتتأثر بها. وتحظَى التصريحات المرتقبة لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول عن توجهات السياسة النقدية باهتمام خاص بعدما شهدته البورصات العالمية، بعد الاجتماع الأخير للفيدرالي الأميركي، من تقلبات حادة.
ومع تنوع الموضوعات الفرعية التي سيتناولها الملتقى، فإنَّها ستركز في مجملها على «إعادة تقييم فاعلية وتأثير السياسة النقدية»، والمتوقع أنَّ كلمة جيروم باول ستستعرض خريطة طريق أسعار الفائدة، مع حرص في انتقاء الكلمات التي لن ترصدها فقط أسواق المال، لكنْ المتنافسان على مقعد البيت الأبيض، كامالا هاريس ودونالد ترمب، مع اقتراب انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني). وتتوقع الأسواق أن يكون الخفض بين ربع إلى نصف نقطة مئوية في اجتماع سبتمبر (أيلول) المقبل، وتتبع ذلك تخفيضات أخرى خلال الاجتماعات المقبلة حتى نهاية العام المقبل، ليصل سعر الفائدة إلى 4.75 في المائة مع نهاية هذا العام ثم تتراوح بين 3.5 في المائة و3.75 في المائة في نهاية عام 2025.
ولكل من المرشحين آمالٌ متعارضةٌ فيما سيكون عليه قرار البنك الفيدرالي من حيث خفض أسعار الفائدة. فمن الطبيعي أن تأمل هاريس ألا يستمر البنك الفيدرالي في تأخّره في خفض أسعار الفائدة، مع ازدياد التخوفات من دخول الاقتصاد في حالة من الركود. بينما أفصح ترمب من قبل عن أمله في أن يصاب الاقتصاد الأميركي بصدمة، ذلك لكي تتعلق به أصوات الناخبين غير محسومة التوجه بعد، كمنقذ للاقتصاد بسابق أداء جيد في دفعه للانتعاش في فترة حكمه المنتهية في 2020. ولكن لا يملك المرشحان شيئاً من أمر السياسة النقدية إلا الأمل في أن تسهم قرارات الفيدرالي، الذي يتمتع باستقلال سياسي، في تعزيز فرصهم الانتخابية.
وقد رصد الاقتصادي الأميركي، بول كروجمان، الحائز جائزةَ نوبل، مواقف المرشحيْن للرئاسة من حيث استقلال البنك المركزي. إذ عقبت هاريس على اقتراح ترمب بأن تكون للرئيس المنتخب سلطة في قرارات أسعار الفائدة، بالرفض القاطع لمقترحه مؤكدة أن الفيدرالي جهة مستقلة، وأنَّها لن تتدخل مطلقاً في أي قرار يتخذه؛ وهي بهذا تعبّر عن الرأي السياسي المستقر.
وقد شرحت أهداف استقلال البنك المركزي، وآليات تحقيقها تفصيلاً في مقال سابق نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» الغراء في شهر يونيو (حزيران) من العام الماضي؛ أكدت فيه أنه لا يوجد خلاف يذكر حول ضرورة استقلال البنك المركزي في وظيفته المتعلقة بالرقابة المالية الحصيفة على البنوك، وتحقيق الاستقرار المالي، ولكن الخلاف يظهر فيما يتعلق بهدف السيطرة على معدلات التضخم، وإذا ما كان من الواجب أن تترك إدارة السياسة النقدية للبنك المركزي وحده.
والمدافعون عن استقلال البنوك المركزية يستشهدون بمؤشرات للاستقلال، مثل الصلاحيات القانونية الممنوحة للبنك المركزي في تحديد أهدافه واستخدام أدواته، وحوكمته وسلطة تعيين محافظه ومجلسه، والشروط الواجب توافرها فيهم وفترات المجلس، والجهة المسؤول أمامها البنك المركزي ويقدم لها تقاريره.
والاستقلال في المقام الأول هو حماية للبنك المركزي، والجهاز المصرفي من ورائه والمودعين والمقترضين، من التدخل السياسي في قرارات فنية بطبيعتها، وعدم تغليب الأهداف السياسية قصيرة الأجل على هدفي تحقيق الاستقرار النقدي والاستقرار المالي، وعدم منح الحكومة رخصة للاقتراض التلقائي دون ضوابط.
ويبقى التطبيق العملي للصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها البنك المركزي محل اختبار مستمر للتحقق من جدارته بها. وقد تعرضت السلطات النقدية في بلدان متقدمة لمشكلات حادة في قدرتها على توجيه سياساتها بين البدائل المتاحة، بما عرض مصداقيتها للتساؤل، خصوصاً مع تأخر بعضها في اتخاذ قرار رفع الفائدة حين كان الرفع واجباً فلم تحتوِ الضغوط التضخمية مبكراً، كما تأخرت مرة أخرى في الخروج من حالة التقييد النقدي إلى التيسير فيه بما هدد الاقتصادات بالدخول في حالة ركود.
جدَّد هذا الدعوة لمراجعة قواعد الحوكمة والصلاحيات الممنوحة للبنوك المركزية – كسلطات مستقلة غير منتخبة – وحاجتها لضوابط، منها ما جاء في اقتراح الاقتصادي بول تكر، نائب محافظ بنك إنجلترا السابق، عن تفعيل حصيف لمبادئ التفويض، ووضع فريق من المفوضين الأكفاء لمتابعة قيام البنوك المركزية بواجباتها.
ويشيد ستيفان غيرلاتش، صاحب الخبرة العملية في السلطتين النقديتين في هونغ كونغ وآيرلندا، بالأداء المتميز للسلطة النقدية في سنغافورة التي حافظت على متوسط معدل تضخم بمقدار 2 في المائة سنوياً منذ اعتماد إطار السياسة النقدية في مطلع الثمانينات. ورغم أن أربعة وزراء من الحكومة ممثلون في مجلس السلطة النقدية مع وجود ضمانات، أكدتها الممارسة الكفؤة، بعدم تدخل الحكومة في السيطرة على السياسة النقدية.
إذن، فالاستقلال الشكلي للبنك المركزي أو المظهر القانوني للاستقلال يتضاءلان أهمية بالمقارنة بالممارسة في تمكين البنك المركزي من القيام بعمله، وتحديده لأدوات السياسة النقدية دون تدخل، مع المساندة السياسية لتحقيق هدف السيطرة على التضخم بتنسيق محكم مع السياسات العامة. ولننتظر ما سوف تسفر عنه مناقشات «جاكسون هول»؛ فهي ستتجاوز فيما ستسفر عنه حدود المنتجع الجبلي والاقتصاد الأميركي.