اختفت النزعة المحافظة في السياسة المالية بشكل أو بآخر من المشهد السياسي الأميركي. فعلى الرغم من قوة الاقتصاد، يستمر اقتراض الحكومة في دفع الدين العام إلى مستويات قياسية، ولا يتفوه المرشحون في الانتخابات الرئاسية ولا أحزابهم بكلمة واحدة حول هذا الموضوع. بل إن نواياهم المتعلقة بالضرائب والإنفاق العام من شأنها أن تجعل مستقبل المالية العامة أشد سوءاً، ذلك إذا ناقشوا السياسة الاقتصادية من الأساس.
لا يمكن تجاهل هذه المشكلة إلى ما لا نهاية. وعاجلاً أم آجلاً ستُلحق بالاقتصاد ضرراً كبيراً.
ينبغي أن يكون ذلك واضحاً لكل من يلقي نظرة على أحدث توقعات المالية العامة. وذلك على الرغم من أن الصورة أسوأ كثيراً مما تشير إليه التوقعات، التي تخفي صعوبة حل مشكلة تزداد تعقيداً بوتيرة سريعة كلما استمر تأجيل الإصلاحات.
“نعم إنها مشكلة وسوف نتوصل إلى حلها في نهاية المطاف”، هذا القول ينطوي على مغالطة تدعي أن الديون ستخضع لإجراءات علاجية ذات جدوى مهما بلغ حجمها. غير أن ذلك لن يحدث بالضرورة. فسوف نصل إلى لحظة، ربما ليست بعيدة، يصبح عندها “العلاج” المجدي الوحيد علاجاً كارثياً.
العوامل المؤثرة في تطور الدين العام
يتعلق الأمر بديناميات الدين العام، إذ يعتمد المسار المستقبلي للدين العام على أمرين– توازن الميزانية العامة باستثناء مدفوعات الفائدة، أو ما يُطلق عليه التوازن الأولي، والفرق بين تكلفة الاقتراض ومعدل نمو الاقتصاد.
لنفترض أن الحكومة تغطي جميع مصروفاتها بإيرادات الضرائب، وبالتالي تحقق توازناً أولياً في الميزانية، وأن سعر الفائدة طويل المدى يساوي معدل النمو تقريباً. في هذه الحالة، لن ترتفع نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي ولن تنخفض.
في الوقت الحالي، تحقق الحكومة عجزاً أولياً يبلغ 4% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن سعر الفائدة المعدل بالتضخم يساوي تقريباً معدل النمو. لذلك ستنمو الديون نمواً سريعاً، من أقل قليلاً من 100% من الناتج المحلي الإجمالي حالياً، إلى 122% متوقعة بحلول 2034. وسوف تشكل، كما يحدث الآن، ضغوطاً صعودية على تكاليف الاقتراض، والتي قد تشكل بدورها ضغوطاً هبوطية على النشاط الاقتصادي. وبمعنى آخر، إن الخطر لا يقتصر على استمرار ارتفاع نسبة الديون، بل يمتد إلى تسارع وتيرة هذا الارتفاع.
هذه دورة كلما طال أمدها زادت صعوبة إيقافها. إن زيادة الضرائب أو تخفيض الإنفاق أو كليهما مما يلزم تطبيقه للقضاء على العجز الأولي، أكبر من تصورات السياسيين– وأكرر أنه اعتماداً على ما يحدث بالنسبة لأسعار الفائدة ومعدل النمو، قد لا يكفي التوازن الأولي في الميزانية العامة لوقف ارتفاع الدين.
وكلما تأخر التدخل لمعالجة ذلك، اشتدت الحاجة إلى زيادة أكبر في الضرائب وخفض الإنفاق ورفع الفائض الأولي في الميزانية نتيجة لذلك. وفي مرحلة ما، يصبح حل المشكلة بأسلوب منظم وهادئ مستحيلاً من الناحية السياسية. ويترتب على ذلك فشل في تغطية الالتزامات– إما بشكل صريح أو عن طريق التنصل من سداد الديون من خلال رفع معدل التضخم في الولايات المتحدة.
تجربة الركود في 2008 وما بعد الجائحة
هذا الاحتمال لا يحظى باهتمام يُذكر حتى بين الاقتصاديين لأن الكثيرين لا يزالون أسرى للأخطاء التي ارتُكبت بعد ركود عام 2008.
في ذلك الوقت، لم تفعل السياسة المالية شيئاً يُذكر لتحفيز الطلب بعد انهياره، وكان التعافي اللاحق بطيئاً للغاية. فأصبحت جملة “لا مزيد من التقشف” هي شعار المرحلة.
هذا الشعار لم يزل هو الرأي السائد، حتى ونحن نواجه موقفاً عكسياً. ففي مرحلة ما بعد الجائحة، ضخت الولايات المتحدة تحفيزاً مالياً فوق آخر مع عودة الاقتصاد إلى التوظيف الكامل. ومن هنا جاءت الزيادة في الديون الفعلية والمرتقبة.
فيما يتعلق بآفاق المستقبل، تذكروا أن التوقعات القياسية تفترض أن التخفيضات الضريبية التي أقرتها إدارة دونالد ترمب في عام 2017 ستنتهي بالكامل في عام 2026 وما بعده (ويقول كلا الحزبين إن ذلك لن يحدث) وإنه لن يحدث ركود اقتصادي خلال العقد القادم (ناهيك عن هذا العام أو العام المقبل).
قد تسأل: ماذا عن اليابان؟ لقد تجاوزت ديونها الإجمالية نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي لسنوات عديدة وتبلغ الآن أكثر من 250%. فما هي المشكلة إذاً؟ في الواقع، وعلى أساس صافي الالتزامات المجمعة، فإن نسبة ديون اليابان إلى الناتج المحلي الإجمالي هي تقريباً نفس نسبة ديون الولايات المتحدة. فمعظم ديونها مستحقة لهيئات حكومية أخرى، كما أن الحكومة لديها الكثير من الأصول. علاوة على أن خدمة ديون اليابان أسهل بكثير لأن ديونها، ومعظمها مقترضة من المدخرين المحليين، رخيصة للغاية وأصولها تحقق عوائد عالية.
لا سبيل إلى تثبيت الديون في وقت قريب
دعك من اليابان. إن الفكرة القائلة إن الولايات المتحدة لا ينبغي أن يساورها القلق حتى ترتفع ديونها كثيراً هي فكرة خاطئة.
تؤكد بعض نماذج المحاكاة الجديدة مدى صعوبة تحقيق الاستقرار المالي حتى لو بدأت محاولة ذلك مباشرة وعلى الفور.
ووفقاً لهذه التجربة، فلن يؤدي تخفيض الإنفاق العام تخفيضاً كبيراً بما يعادل 1% من الناتج المحلي الإجمالي ولا أي زيادة كبيرة في الضرائب (مثل بلوغ التخفيضات الضريبية لعام 2017 نهايتها) في حد ذاتهما إلى استقرار نسبة الدين إلى هذا الناتج. ولن يتحقق ذلك بفضل أسرع معدل للنمو الاقتصادي يستمر لسنوات. ولم يعد هناك أي طريقة مجدية سياسياً لتثبيت الدين في وقت قريب – مثلاً حتى عام 2026.
سوف يستغرق الأمر وقتاً أطول، مع مزيج من خفض الإنفاق وزيادة الضرائب للسيطرة على العجز، بدءاً من الآن، مع استمرار هذه الجهود متجاوزة المدى القصير، وعدم حدوث ركود في هذه الأثناء.
هل هذا المطلب صعب المنال؟ ليس بالصعوبة التي سيكون عليها إذا مر عام آخر من عدم القيام بأي شيء.
الرهان المنطقي اليوم هو أن المشكلة لن تُحل في الواقع. وعندما تقتنع الأسواق المالية بهذه الطريقة في التفكير –مما يتسبب في ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل وانكماش الطلب– سيصبح ذلك الرهان نبوءة تحقق ذاتها. وعندها سنرى المعنى الحقيقي للديون “غير المستدامة”.
بالمختصر
يناقش الكاتب في هذا المقال أزمة الدين العام في الولايات المتحدة ويشير إلى أن تجاهلها أصبح سمة من المشهد السياسي الحالي. على الرغم من الأداء القوي للاقتصاد الأميركي، تستمر الحكومة في الاقتراض بشكل مفرط، مما يزيد من مستويات الدين العام إلى مستويات غير مسبوقة. لا يبدو أن المرشحين السياسيين يولون اهتماماً كافياً لهذه المشكلة، رغم خطورتها المتزايدة.
يركز الكاتب على أن تأجيل حل هذه الأزمة سيؤدي إلى زيادة صعوبة التعامل معها في المستقبل، حيث ستزداد الحاجة إلى خفض أكبر في الإنفاق أو زيادات في الضرائب. ويرى أن استمرار هذه الديناميكيات المالية سيتسبب في ضغوط على تكاليف الاقتراض والنشاط الاقتصادي، مما يؤدي إلى دورة تصاعدية من زيادة الدين وتفاقم الأزمة.
يشير المقال أيضاً إلى أن الفشل في التعامل مع الدين العام في الوقت المناسب قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، مثل العجز عن سداد الالتزامات أو الاضطرار إلى رفع معدلات التضخم بشكل كبير.
في النهاية، يحذر الكاتب من أن الأسواق المالية قد تفقد ثقتها في قدرة الولايات المتحدة على السيطرة على ديونها، مما سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض وتباطؤ الاقتصاد، محذراً من أن هذه الأزمة قد تصبح عصية على الحل إذا استمرت السياسات الحالية.