منذ الانهيار الكبير الذي شهده اقتصاد لبنان عام 2019، يستيقظ اللبنانيون يومياً على سؤال واحد: ما سعر صرف الدولار اليوم؟
على مدى 5 سنوات، كان هذا السؤال يشغل بال اللبنانيين، حيث كانت أسعار الصرف تتقلب بشكلٍ شبه يومي. ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية قبل عام بالضبط، تفاقمت الهواجس بشأن انهيار الليرة. لكن رغم تعاظم ضراوة القتال إلى حدّ تدمير الضاحية الجنوبية لبيروت، بقي سعر الصرف مستقراً على مستواه منذ نهاية العام الماضي عند حدود 90 ألف ليرة للدولار.
ما أسباب هذا “الاستقرار”؟
يشرح مسؤول مصرفي لـ”الشرق” مشترطاً عدم الكشف عن هويته، أسباب هذا “الاستقرار” بسعر الصرف، معتبراً أنه منذ تسلّم وسيم المنصوري مهامه كحاكم بالإنابة لمصرف لبنان، خلفاً لرياض سلامة، أوقف عمليات شراء “المركزي” للدولار من السوق، كما أوقف المنصات التي كانت تُستخدم لتحديد سعر الصرف مثل “صيرفة”.
ويضيف أن الحاكم السابق كان يلجأ إلى السوق عند حاجته إلى الدولار، ما خلق ضغطاً كبيراً، لأنه أدخل البنك المركزي في منافسة مع القطاع الخاص على الدولارات المتاحة.
أما الآن فتغيّرت هذه الآلية، وبات مصرف لبنان يركز على بيع الليرة اللبنانية لمن يطلبها، خصوصاً دافعي الضرائب التي ما زالت تُحصَّل بالليرة اللبنانية، على رغم أن غالبية أركان الاقتصاد باتت “مدولرة”، وفق المصرفي المطلع، الذي اعتبر أن هذه الإجراءات أدّت إلى إنهاء الضغط على الدولار في السوق، وأطلقت عملية إعادة دمج الاقتصاد الشرعي في لبنان بالقطاع المصرفي، و”الأهم من ذلك أنها ساهمت في فصل الاقتصاد المدولر عن اقتصاد الليرة”.
الدولار متوفر في السوق
أدّى الانهيار الاقتصادي والمالي في 2019 إلى انهيار سعر صرف العملة اللبنانية من 1500 ليرة إلى 90 ألفاً مقابل كل دولار، وسط تقييد المصارف لحقوق أصحاب الودائع بالوصول إلى أموالهم.
وفي محاولةٍ لحل الأزمة، التي أفقدت المواطنين والمودعين ثقتهم بالنظام المصرفي ككل، لجأ البنك المركزي إلى إصدار “التعميم 158″ الذي يتيح لكافة المودعين الحصول على 300 دولار شهرياً من ودائعهم، و”التعميم 166” الذي يسمح لأصحاب الحسابات المفتوحة قبل 30 يونيو 2023، وغير المشمولين بالتعميم السباق، بالحصول على 150 دولاراً شهرياً.
وفي سبتمبر الماضي، طلب البنك المركزي من المصارف، وبصورة استثنائية، تسديد 3 دفعات شهرية للمستفيدين من التعميمين، على أن يعود العمل بالتعميمين في نوفمبر. هذا يعني أن المستفيدين من “التعميم 158” يمكنهم الحصول على 900 دولار في أكتوبر، بينما يمكن لمستفيدي “التعميم 166” الحصول على 450 دولاراً في الشهر ذاته.
إضافة لما سبق، فإن مصرف لبنان أعلن في أغسطس أنه سيتم دفع رواتب القطاع العام بالدولار الأميركي على سعر صرف 85500 ليرة، وهو مستمر بهذا الإجراء حتى شهر نوفمبر القادم على الأقل.
يُقدّر المسؤول المصرفي أن الطلب الاستثنائي بتسديد 3 المصارف دفعات شهرياً بالدولار للمودعين، سيضخ نحو 200 مليون دولار في السوق بشكل فوري، بالإضافة إلى ما بين 120 و130 مليون دولار قيمة رواتب القطاع العام، معتبراً أن كمية الدولار في السوق أكبر من حاجتها، في وقتٍ لا توجد فيه ضغوطات كبيرة على العملة المحلية نظراً لكون الاقتصاد “مدولر” بالكامل.
ويتوقّع المصرفي أن يبقى سعر الصرف ثابتاً للمنظور، خصوصاً مع تخفيض البنك المركزي للكتلة النقدية بالليرة لتصل إلى 53 تريليون ليرة من نحو 60 تريليوناً في بداية الأزمة، ما أضعف قدرة المضاربين على التأثير بأسعار الصرف. بموازاة طلبه من المصارف والحكومة التخفيف من ضخ السيولة بالليرة في السوق. مضيفاً أن “المركزي” لا يزال في وضع يمكنه من “التحكم بكمية الليرات التي ستضخ في السوق”، كما يمكنه “وقف بيع الليرة” في حال ظهور ضغوط جديدة، ما “يجبر من يحتاجها على شرائها من السوق، وبالتالي سيزداد الطلب على الليرة بدلاً من الدولار، بما يسهم في استقرار سعر الصرف أو حتى خفضه”.
الليرة تفقد دورها
يتفق جهاد الحكيّم، أستاذ الاقتصاد والأسواق المالية العالمية، مع ما أفصح عنه المسؤول المصرفي. لكنه لفت إلى أن سعر الصرف “لم يعد مهماً أبداً”، فالاقتصاد اللبناني اليوم أصبح “مدولراً بشكل تام، وفقدت الليرة دورها كوسيلة لتخزين القيمة أو للتداول”.
وأفاد في تصريح لـ”الشرق”، أن كل “عملية دفع تفوق قيمتها 10 دولارات، باتت تتم بالدولار الأميركي حصراً”، خصوصاً بعدما سمحت الحكومة اللبنانية في مارس 2023 للمؤسسات أن تسعر منتجاتها وتبيعها بالدولار.
لقد بات مشهد المنتجات المسعرة بالدولار على أرفف المتاجر مألوفاً وطبيعياً، حتى أن عملية الدفع من المواطن لبائع التجزئة تتم بالعملة الأميركية، كما يمكن للشاري أن يسترد المبلغ المتبقي له بالدولار أيضاً، ما يظهر أن “الدولرة” التي كانت تسود الاقتصاد جزئياً قبل أزمة 2019، تغلغلت في السوق والحياة اليومية، ما يقدّم تفسيراً إلى حدٍّ كبير لأسباب عدم انهيار الليرة بشكلٍ أكبر رغم تزايد حدّة الأعمال العسكرية على لبنان كل يوم، والتخوف من إمكانية تحولها إلى حرب إقليمية.