إنّ الكابوس والخوف والحذر وشبح الحرب والدمار والتهجير، الذي كنّا نخشاه منذ تشرين الأول 2023، أصبح حقيقة مرّة ومؤلمة وواقعاً كارثياً.
إنّ الحرب الجديدة – القديمة، تُدمّر مرّة أخرى ما أعدنا إعماره مرّات عدة، وتدمّر أيضاً تراكم الإنتاجية من السياحة إلى التجارة والصناعة والتكنولوجيا والزراعة.
فتداعياتنا الأساسية أصبحت لمواجهة هذا العدوان، وقدرتنا الضئيلة على الصمود، لكنّ مشكلتنا الأساسية هي فقداننا للمرونة والرؤية والاستراتيجية المشتركة، وانعدام الثقة بإعادة الإعمار مرّة أخرى من دون أُسس وركائز.
إنّ لبنان يدفع ثمن حرب الآخرين على أرضه، ومرّة أخرى هو ورقة تفاوض لبعض الضغوط والاتفاقات المشبوهة، فيدفع ثمناً غالياً من الشهداء والدمار والتخريب لحرب لم نكن نريدها ولم نخترها. وخسرنا ليس فقط مقوّمات الصمود، لكن أيضاً خسرنا المثابرة لإعادة الإعمار من جديد.
نذكّر أنّه ما قبل اندلاع هذه الحرب، كنّا نعيش حرباً نقدية، مالية واقتصادية، إذ إنّ اقتصادنا وناتجنا المحلي تراجع من نحو 50 مليار دولار إلى نحو 18 ملياراً، ونتوقّع أن ينخفض أكثر من ذلك جرّاء هذا العدوان، في ظل تضخُّم مُفرَط على السلع الأساسية والحاجات المعيشية.
فعلى صعيد القطاع الصناعي، الذي كان القطاع الأبرز ويواجه الأزمة المالية والتدهور الاقتصادي، والذي كان يحاول إعادة التطوّر والإنماء، ها هو مِن جديد رهينة الحرب، ويدفع ثمناً باهظاً بارتفاع كلفة الإنتاج والنقل والتأمين، ولا سيما خسارة ثقة عملائه الدوليِّين، أي أنّ الطلبات الجديدة يُمكن ألّا تُسلّم.
في الوقت عينه، يشهد هذا القطاع نقصاً في العمالة والمواد الأولية، ومشكلات كارثية للإنتاج في ظل الغارات اليومية.
أمّا القطاع السياحي، فهنا أيضاً كانت الضربة مؤلمة بعد طعن أحلام وتوقعات صيفية في العام 2024 وخسارة أكثر من 4 مليارات دولار، كان يُؤمل بها. وها نحن نتحضّر لضرب موسم نهاية العام أيضاً، الذي كنا نأمله واعداً ومهمّاً لاقتصادنا المهزوم.
أمّا على صعيد القطاع الزراعي، المبني خصوصاً على أرضنا الخصبة في البقاع، فهنا أيضاً أصبح المزارعون رهينة هذه الحرب المدمّرة، التي لا تحرق الأراضي وحسب، لا بل تحرق النفوس والمرونة والعزيمة، فهذا القطاع مدمّر أيضاً في جنوب لبنان جرّاء القنابل الفوسفورية التي تحرق الأرض، ليس فقط على المدى المنظور، لكن على المديَين المتوسط والبعيد لمتابعة استراتيجية الأرض المحروقة.
على صعيد القطاع التكنولوجي والاتصالات، هنا أيضاً، حتى لو لا يزال هذا القطاع على قيد الحياة، فإنّه في أي وقتٍ يُمكن أن يتوقف ويُهدم وننقطع نهائياً ونُعزَل عن بقية العالم. فهذا القطاع لم يَعُد آمناً، لا بل تحوّل إلى قنابل حيّة وموقوتة.
أمّا على الصعيد الإستثماري، فهنا أيضاً لا نستطيع أن نتحدّث عن الإستثمارات الخارجية التي ستحتاج إلى عقود لإعادة تشجيعها وبناء الثقة، لا بل خسرنا أيضاً الإستثمارات الداخلية، لأنّه لا يوجد مستثمر عاقل يُمكن أن يُعيد أخطاء الماضي ويستثمر في أرض، باعتبار أنّه أصبح رهينة الخلافات الإقليمية والدولية.
فلا دعوة إلى المستثمرين بإعادة الإعمار وحتى للصمود، في ظل غياب رؤية موحّدة وإستراتيجية جامعة، وغياب الثقة في الحاضر والمستقبل.
في المحصّلة، إنّ مرونتنا المعروف عنها دولياً، أصبحت سيفاً ذا حدَّين، لأنّ الكلّ يتّكل عليها، لكنّ المعنيِّين لا يُريدون بعدئذٍ لا المثابرة ولا الإعمار من جديد، ودفع ثمن جبهات إسناد لا تعنيهم، ودفع ثمن حرب الآخرين على أرضهم الخصبة.
فبعدما خسرنا كل مقوّمات الصمود، خسرنا خصوصاً مقوّمات الإرادة الحقيقية لإعادة الإعمار من جديد، وبعدما سُرقت أموالنا وطُعنت أيضاً خياراتنا وعزيمتنا ومثابرتنا في ظل هذا المشهد الجديد – القديم، والنزف الذي لم ولن يتوقف.
د. فؤاد زمكحل