بدأت أكبر دولتين في العالم من حيث عدد السكان الانفتاح على العالم بشكل متزامن تقريباً، وذلك في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. رغم أن كلاً منهما شهد نمواً سريعاً، وانتشل مئات الملايين من الفقر، إلا أن دخل الفرد في الصين بات الآن أكثر من ضعف نظيره في الهند، عند تعديل عملتيهما وفقاً للقوة الشرائية الحقيقية. فما السر وراء هذا التباين؟
اتبعت بكين ونيودلهي مسارين متباينين نحو العولمة؛ إذ ركّزت إحداهما على أن تصبح مصنع العالم، بدءاً من إنتاج الألعاب والإلكترونيات، ثم السيارات الكهربائية وأشباه الموصلات، بينما أولت الأخرى اهتماماً خاصاً بخدمات مثل برمجيات الحاسبات. كذلك تباينت بنيتهما السكانية؛ حيث أدت سياسة الطفل الواحد إلى بروز شريحة شبابية كبيرة في الصين جعلتها على أعتاب وضع الدول الغنية قبل أن تبدأ شريحة كبار السن بالزيادة. أما مصير الهند الديمغرافي، فهو يتشكل الآن، ولكن دون أن تتوفر الوظائف اللازمة لاستيعاب الفائض من اليد العاملة الزراعية.
اختلافات سياسية
ثم تأتي الاختلافات في المؤسسات السياسية؛ فالصين هي دولة ذات حزب واحد، في حين أن الهند تعج بتعقيدات الديمقراطية الانتخابية متعددة الأحزاب.
هذه هي الرواية التقليدية. لكن ماذا لو كانت هناك قوة أعمق تعمل من وراء الكواليس، واختلاف جوهري في التاريخ الطويل لطريقة تبني البلدين للتعليم الحديث؟ هذه هي أطروحة ورقة بحثية جديدة بعنوان “صناعة الصين والهند في القرن الواحد والعشرين” للباحثين نيتين كومار بهارتي ولي يانغ اللذين يعملان في مختبر عدم المساواة العالمي بـ”كلية باريس للاقتصاد”. استند الباحثان إلى تقارير رسمية وسجلات تعود إلى عام 1900 لإنشاء قاعدة بيانات حول من درس في كلا البلدين، ومدة الدراسة، وما الذي تم تدريسه لهم. قد يكون المساران المختلفان اللذان اتبعتهما الصين والهند على مدى المئة عام الماضية أثمرا نتائج مبهرة في رأس المال البشري والإنتاجية.
وجد الباحثان أن الهند، بفضل تقدم زمني بنحو خمسين عاماً في الانفتاح على الدراسة في الغرب، كانت تمتلك عدداً من الطلاب يفوق نظيره في الصين بثماني مرات عند بداية القرن العشرين. لم تبدأ الصين في اللحاق بالركب إلا بعد إلغاء نظام الامتحانات الإمبراطوري في عام 1905، مما وضع حداً للكونفوشيوسية. وبحلول عقد الثلاثينيات، تمكنت من التساوي مع الهند من حيث نسبة الالتحاق الإجمالية.
في الخمسينيات من القرن الماضي، واصلت جمهورية الصين الشعبية حديثة التأسيس آنذاك التوسع في التعليم بخطى ثابتة، ولم تسمح حتى للثورة الثقافية (1966-1976) بأن تعرقل التعليم الثانوي. أما الفوضى التي تخللت ذلك العقد، فقد كانت تكلفتها ثقيلة على التعليم الجامعي. في أوائل الثمانينيات، كانت نسبة الالتحاق بالجامعات في الهند أعلى بخمسة أضعاف منها في الصين. إلا أنه بحلول عام 2020، تغيّر الوضع؛ إذ أصبحت الصين ترسل نسبة أكبر من الفئة العمرية الجامعية إلى المؤسسات التعليمية العليا مقارنةً بالهند.
جذور تاريخية متباينة
ينتمي المساران المختلفان إلى جذور تاريخية؛ فقد أراد حكام أسرة تشينغ الصينية في أواخر القرن التاسع عشر قوة عاملة تمتلك مهارات مهنية للتعامل مع الإنتاج المرتبط بالجيش. في المقابل، لم يكن لدى الاستعمار البريطاني في الهند اهتمام كبير ببناء قاعدة صناعية، فأنشأ منظومة تعليمية تركز على إعداد كوادر في وظائف الكتبة والإداريين. وكان الوصول إلى الوظائف الحكومية والتعليم اللازم لها مقتصراً على الطبقات الثرية. بعد الاستقلال في عام 1947، ضاعفت الهند استثمارها في مؤسسات التعليم العالي، وركّزت على الكليات المرموقة على حساب مهارات القراءة الأساسية والحساب.
كان التركيز على التعليم العالي قراراً من أعلى المستويات في الدولة، ففي الهند كان من المحتمل أن يبقى نصف الأفراد المولودين في الستينيات أُمّيين، مقارنة بـ10% فقط في الصين، وفقاً لدراسة “بهارتي-يانغ”. كان معظم الأطفال في سن الدراسة في الهند ينقطعون عن الدراسة سريعاً، لو كانوا بدأوا من الأساس، إما لأن أحداً لم يأتِ لتعليمهم في قراهم، أو لأن الأسرة كانت بحاجة إلى أيدٍ عاملة إضافية. بينما ركزت الصين على استراتيجية تصاعدية، تبدأ بإتاحة خمس سنوات من التعليم لعدد كبير من الشباب، ثم إتاحة التعليم الثانوي لعدد أكبر تدريجياً، قبل فتح مسارات التعليم العالي.
إحدى النتائج الأكثر وضوحاً في الدراسة يتعلق بتخصصات الجامعات؛ فقد كانت الهند تاريخياً تتميز بأعداد كبيرة من خريجي العلوم الاجتماعية في مستوى البكالوريوس. أما في الصين، فقد بدأ التمثيل المفرط في مجالات مثل العلوم الإنسانية والقانون والأعمال في التراجع في الثلاثينيات، مع زيادة أعداد المتخصصين في التدريس، والعلوم، والهندسة، والطب، والزراعة.
قد يكون لهذا أثر على النمو؛ إذ أظهرت دراسة في عام 1991 لكيفن ميرفي وأندريه شلايفر وروبرت فيشني أن الدول التي تريد التوسع السريع تحتاج إلى مهندسين أكثر من المحامين. (الجدير بالذكر أن القانون والاقتصاد شهدا انتعاشاً في الصين بعد الإصلاحات الاقتصادية التي أوجدت طلباً جديداً على رأس المال البشري في هذين المجالين).
الهند.. أرض المهندسين
النظرة الشائعة، خاصة في الولايات المتحدة، إلى الهند هي أنها “أرض المهندسين”. وهذا صحيح إلى حد ما، فالكثير من مؤسسي شركات التكنولوجيا والرؤساء التنفيذيين، بما في ذلك رؤساء “مايكروسوفت” و”ألفابت”، وُلدوا وتعلموا في الهند. لكن التوسع الهائل في شبكة السكك الحديدية فائقة السرعة في الصين أو تطور صناعة المركبات الكهربائية يُظهر أن الدراسة التي أجراها بهارتي ويانغ قد تكون قد سلطت الضوء على مصدر تنافسية الصين الذي يغفل عنه البعض. يشير الباحثان إلى أن “النسبة الأعلى من خريجي الهندسة والتعليم المهني في الصين، إلى جانب نسبة أعلى من خريجي التعليم الأساسي والثانوي، جعلت التركيز على التصنيع أمراً أكثر سهولة”.
كانت جولة دنغ شياو بينغ في جنوب الصين في عام 1992 إشارة إلى رغبة بكين في الانخراط مع رأس المال الغربي مع الحفاظ على سيادة الحزب الشيوعي. قبل أشهر قليلة، اتخذ مانموهان سينغ، الذي كان آنذاك وزير المالية الهندي الجديد، خطوة حاسمة بعيداً عن عقود من الاشتراكية المستوحاة من الاتحاد السوفييتي والعزلة. فقد أعلن سينغ أن الهند ستصبح لاعباً اقتصادياً كبيراً، قائلاً: “لا توجد قوة على الأرض تستطيع وقف فكرة قد حان أوانها”، مقتبساً من كلمات فيكتور هوغو.
لكن بقايا التاريخ غالباً ما يكون من الصعب محوها. فقد استمرت النزعة النخبوية التي غرسها البريطانيون في النظام التعليمي الهندي. تؤكد إحدى النتائج النهائية في دراسة بهارتي-يانغ هذه النقطة؛ ففي عام 1976، كان هناك 160 مليون شخص في الصين ممن فاتهم التعليم الرسمي قد حصلوا على برامج تعليم للكبار، مقابل مليون شخص فقط في الهند. ربما لعب هؤلاء الملايين من الأفراد الذين منحتهم الصين القدرة على القراءة والكتابة دوراً أكبر مما يُتصور في تفوقها على الهند في النمو.