كوريا تهتز

كوريا الجنوبية، التي لطالما عُدت قوة اقتصادية رائدة في التقنية، تواجه تحديات زائدة تهدد استقرارها ومسار نموها، فقد سلطت الأحداث السياسية الأخيرة، إلى جانب القضايا الاقتصادية الهيكلية، الضوء على نقاط الضعف في نموذجها الاقتصادي القائم على التصدير، وبينما تكافح البلاد الضغوط الخارجية من المنافسين العالميين والتحولات الجيوسياسية، فإن آفاقها على المدى الطويل تتطلب اهتماماً عاجلاً.

شهدت كوريا الجنوبية عدم استقرار سياسي بعد إعلان الرئيس يون سوك يول الأحكام العرفية لفترة وجيزة، وعلى الرغم من التراجع السريع عن هذا القرار، فقد هزّ هذا الحدث الأسواق المالية، وأثار مخاوف بشأن مرونة المؤسسات الديمقراطية في البلاد، فتراجعت الأسواق بشكل كبير، حيث فقد مؤشر «كوسبي» أكثر من 2 في المائة من قيمته، كما انخفضت العملة الكورية أمام الدولار بشكل ملحوظ.

ورغم التدخل السريع من السلطات المالية، بما في ذلك الوعد بضخ السيولة بشكل غير محدود، فقد أظهرت هذه الأحداث نقاط الضعف في الإطارين السياسي والاقتصادي للبلاد، ويمكن أن يؤدي عدم الاستقرار السياسي المطول إلى تثبيط الاستثمار الأجنبي، وإضعاف ثقة المستهلكين، وتعطيل التقدم التشريعي في الإصلاحات الاقتصادية الضرورية.

في صميم تحديات كوريا الجنوبية يكمن نموذجها الاقتصادي القديم، لعقود، تم تحقيق النمو الاقتصادي السريع، المعروف باسم «معجزة نهر الهان»، من خلال نموذج قائم على التصدير تقوده التكتلات الكبرى مثل «سامسونغ» و«هيونداي». لكن هذا النموذج يظهر علامات الإجهاد. الاتجاهات الديموغرافية في البلاد تنذر بالخطر؛ حيث تمتلك كوريا الجنوبية أدنى معدل خصوبة في العالم، ومن المتوقع أن ينخفض عدد السكان في سن العمل بنسبة 35 في المائة بحلول عام 2050، مما قد يؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 28 في المائة مقارنة بمستويات عام 2022، بالإضافة إلى ذلك، أدى هيكل الاقتصاد الذي تهيمن عليه التكتلات إلى خلق اقتصاد ثنائي المستوى، حيث تكافح الشركات الصغيرة والمتوسطة لتحقيق النمو والابتكار بسبب سيطرة التكتلات، وللتأكيد فإن كوريا لطالما استفادت من التقنيات المبتكرة خارجها، واستثمرت ميزتها التنافسية في القدرة على تتجير التقنيات بما تملكه من ممكنات لا تُضاهَى.

وتبقى الإنتاجية مشكلة مستمرة في كوريا، حيث تحتل إنتاجية العمالة فيها مرتبة متدنية بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، مما يعكس كفاءة ضعيفة تعيق القدرة التنافسية العالمية، ومن دون إصلاحات جوهرية لتنويع الاقتصاد ومعالجة الاختلالات الهيكلية، فإن البلاد معرضة لخطر التباطؤ الاقتصادي المطول.

وتبرز الصين بوصفها تهديداً لكوريا بعد تحولها من شريك تجاري إلى منافس شرس، فخلال العقد الماضي، واجهت الصناعات الكورية الجنوبية منافسة زائدة من الشركات الصينية في قطاعات، مثل أشباه الموصلات، وبناء السفن، وتقنيات العرض. والشركات الصينية، المدعومة من الحكومة، تسد الفجوة التقنية بسرعة مع كوريا الجنوبية، مما قوّض ميزتها التنافسية، والتغيرات الجيوسياسية أدت أيضاً إلى تخفيض العمليات الكورية في الصين، بينما تتطلب المنافسة إيجاد أسواق جديدة، مما يضيف عبئاً إضافياً على المصدرين الكوريين.

وتشكل عودة ترمب إلى الرئاسة الأميركية تحدياً إضافياً لكوريا الجنوبية، فقد تميزت فترة رئاسته السابقة بسياسات تجارية عدوانية، بما في ذلك رسوم جمركية باهظة، ودفع نحو تقليص الفوائض التجارية. ومع اعتماد كوريا الجنوبية بشكل كبير على الصادرات إلى الولايات المتحدة، فقد تواجه البلاد حواجز جديدة في ظل إدارة ترمب الجديدة، فسياسات ترمب الحمائية قد تقوّض أيضاً قيادة كوريا في صناعة أشباه الموصلات، حيث تستثمر الشركات الكورية مثل «سامسونغ»، و«هيونداي» بكثافة في الولايات المتحدة، للتوافق مع الحوافز الأميركية، ورغم أن هذه الاستثمارات توسع نطاقها العالمي، فإنها تسلط الضوء على ضعف كوريا الجنوبية أمام التغيرات في السياسات التجارية الأميركية.

إن كوريا الجنوبية، وعلى الرغم من كل هذه التحديات، تتمتع بتاريخ من التغلب على الشدائد، مما يدل على قدرتها على التكيف والصمود، ومع ذلك، فإن معالجة القضايا الحالية تتطلب إصلاحات جريئة لتنويع الاقتصاد، وتحسين الإنتاجية، وتقليل الاعتماد على التكتلات الكبرى. بالإضافة إلى ذلك، يجب على كوريا الجنوبية الاستثمار في الابتكار، وتعزيز بيئة اقتصادية أكثر شمولاً لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتقليل التفاوتات الإقليمية، وعلى الصعيد العالمي، سيكون من الضروري الحفاظ على نهج متوازن في علاقاتها مع الصين والولايات المتحدة للتنقل في هذا العصر غير المستقر.

د. عبد الله الردادي