قرن من الأزمات الاقتصادية

مع تعرض الاقتصاد العالمي لاهتزاز عنيف بسبب التحول الجذري في السياسة التجارية للولايات المتحدة، انتشرت موجة من الذعر في الأسواق العالمية، وسببت اضطراباً واسعاً في سلاسل التوريد، وخلال أيام قليلة هوت المؤشرات العالمية، واستعدّت الدول التي تعتمد على التجارة لتداعيات الأزمة، في حين سارع المستثمرون لتقييم آثار حرب تجارية تتسارع وتيرتها، وتصاعدت المخاوف من التضخم، وتباطأت الاستثمارات، وبدأ شبح الركود التضخمي الذي يجمع بين تباطؤ النمو وارتفاع الأسعار، يُخيّم على الأفق. هذه اللحظة من عدم اليقين تعيد إلى الأذهان قرناً كاملاً من الأزمات الاقتصادية التي رغم اختلاف أسبابها، فإنها تشترك في أنماطها وآثارها. وفي هذا الوقت، تلزم معرفة هذه الأزمات لربطها بالأزمات الحالية، وتوضيح حقيقة أن العالم تجاوز جميع هذه الأزمات السابقة رغم ضراوتها.

هنالك العديد من الأزمات الاقتصادية التي مر بها العالم خلال القرن الماضي، وأول ما يتبادر إلى الأذهان عند الحديث عنها هو الكساد الكبير عام 1929 الذي بدأ بانهيار سوق الأسهم، وتحوّل إلى أزمة ممتدة لعقد كامل، تميزت بانخفاض الإنتاج الصناعي، وارتفاع البطالة، وفقدان الثقة بالمؤسسات المالية. وبعد هذه الأزمة بعقود، وفي سبعينات القرن الماضي، اندلعت أزمة النفط عام 1973 عندما فرضت دول «أوبك» حظراً نفطياً، مما أدى إلى تضاعف أسعار النفط أربع مرات، وأدخل الاقتصادات الغربية في دوامة من التضخم والركود. وفي عام 1997، اندلعت الأزمة المالية الآسيوية بسرعة مذهلة؛ إذ انهارت العملات، وتدفقت رؤوس الأموال خارج دول جنوب شرقي آسيا، مما أدى إلى ركود حاد، وفقدان ثقة المستثمرين في الأسواق الناشئة. ومع دخول العالم العصر الرقمي، جاءت فقاعة «الدوت كوم» في أوائل الألفية الجديدة، والتي رسّخت مخاطر المضاربة المفرطة؛ إذ انهارت تقييمات شركات الإنترنت، وتكبدت الأسواق خسائر كبيرة. أما الأزمة المالية العالمية في 2008، فكانت واحدة من أعمق الأزمات الاقتصادية منذ الكساد الكبير، وقد نشأت نتيجة التوسع المفرط في سوق الرهن العقاري، وانهيار مؤسسات مالية كبرى. وأخيراً، وفي سياق مختلف تماماً، جاءت الجائحة في عام 2020 لتشكل صدمة غير مسبوقة، أوقفت النشاط الاقتصادي العالمي، وأغلقت الحدود، وأثرت في جميع مناحي الحياة.

ورغم اختلاف المحركات التي أشعلت هذه الأزمات – بين إخفاقات السوق، والتوترات الجيوسياسية، والفقاعات الاستثمارية، والأوبئة – فإن آثارها كثيراً ما تشابهت في مظاهرها؛ فانهارت الأسواق بفعل الذعر، وتبخّرت تريليونات الدولارات من القيم السوقية، وتلاشت الثقة، وارتفعت معدلات عدم اليقين، وتراجعت قدرة البنوك على الإقراض مع ازدياد الحذر، مما أدى إلى تجفيف السيولة أمام الشركات، كما ارتفعت معدلات البطالة بشكل حاد، فتراجع دخل الأسر، وانخفض الإنفاق الاستهلاكي. وشهدت بعض الأزمات تضخماً مفرطاً كما في أزمة النفط، وأخرى شهدت انكماشاً كما في الكساد الكبير. وربما الأهم من كل ذلك، هو الأثر النفسي العميق الذي خلفته هذه الأزمات؛ إذ سادت مشاعر الخوف والتوجس بين المستهلكين والمستثمرين – وهو ما يحدث اليوم – مما زاد من حدة الانكماش الاقتصادي.

لم تكن استجابات الحكومات لهذه الأزمات موحّدة، لكنها اتبعت نماذج متكررة من التوسع المالي، وخفض الفائدة، والتدخل المباشر؛ فخلال الكساد الكبير أطلقت الولايات المتحدة ما عُرف بـ«الصفقة الجديدة» التي شملت مشاريع بنية تحتية، وإصلاحات مالية واسعة. أما أزمة النفط، فقد دفعت الدول إلى البحث عن بدائل للطاقة وتعزيز كفاءة استهلاكها؛ فشهد العالم في بداية الثمانينات توسعاً في الطاقة المنتجة من الفحم بدفع من مجموعة الدول السبع، ولاحقاً سعت نفس الدول إلى تحويل الطاقة نحو الطاقة المتجددة أو النووية. أما الأزمة الآسيوية، فقد استدعت تدخلاً من صندوق النقد الدولي، وبرامج إصلاح هيكلية. أما بعد أزمة 2008، فقد أطلقت الحكومات حزم تحفيز ضخمة للشركات، وقوانين تنظيمية جديدة لحوكمة القطاع المصرفي. وفي مواجهة الجائحة، اتخذت الحكومات إجراءات مالية غير مسبوقة من حزم دعم ضخمة، من بينها الدعم المباشر للأسر، وإنقاذ الشركات والبنوك.

كل أزمة من هذه الأزمات تركت بصمتها على النظام الاقتصادي العالمي؛ فالكساد الكبير أسّس لدور الدولة في الاقتصاد بزيادة أدوار البنوك المركزية، وأزمة النفط غيّرت سياسات الطاقة حتى يومنا هذا، والأزمة الآسيوية طوّرت أدوات الرقابة على الأسواق الناشئة، وأزمة 2008 أسفرت عن تشديد التنظيم المالي، والجائحة سرّعت التحول نحو الرقمنة والعمل عن بُعد.

وليست الأزمة الحالية ببعيدة عن مثيلاتها اللاتي سبقنها؛ فأعلنت بعض الدول عن حزم مالية لدعم الصادرات، وبدأت الدول في إعادة النظر مرة أخرى في شراكاتها التجارية وسلاسل الإمداد فيها. وعلى الأغلب، فإن العالم يشهد اليوم تحوّلاً في النظام التجاري الذي استمر لنحو ربع قرن دون تغيير يُذكر، وكان لا بد من أن يتغير ليواكب العالم بوضعه الراهن. وسيأخذ هذا التغيير في الحسبان الترابط العميق بين دول العالم؛ ولذلك فإن العمل الجماعي الدولي هو ما سيصنع الفارق، وهو ما سيحدد ما إذا كانت هذه الأزمة قصيرة وعابرة، أم طويلة مؤلمة. وفي كل الأحوال، فالتاريخ يؤكد أن العالم قد شهد مثل هذه اللحظات من قبل، وخرج منها أكثر وعياً وصلابة، وقد تكون هذه الأزمة فرصة جديدة لتعزيز مرونة النظام العالمي للتجارة.

د. عبد الله الردادي