يرى خبراء أن النهج الذي يتعامل به رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي، جيروم باول، مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته في ظل الضغوط التي يمارسها الأخير عليه مؤخراً، يظهر أهمية القيادة الثابتة، ويعطي دورساً لقادة الأعمال في التعامل مع الصراعات والضغوط.
وشنّ ترامب سلسلة من الهجمات على باول، والتي تضمنت توصيفات شخصية تحمل بعضاً من الإهانات مثل “المتأخر جداً” و”الأحمق” و”الغبي”، إلى جانب الدعوات المتكررة للتنحي، وذلك في ظل رفض رئيس الفدرالي خفض معدلات الفائدة بالسرعة التي يرغب بها الرئيس الأميركي.
كانت آخر تلك الضغوط التي مارسها ترامب على باول، زيارته – التي تعد نادرة لرئيس أميركي – لمقر الاحتياطي الفدرالي الأميركي في واشنطن يوم الخميس، إلى جانب تلميحه أمام الصحفيين بتجاوز ميزانية تجديد المقر ما تمت الموافقة عليه من قبل، وهو رد عليه رئيس الفدرالي مخالفاً لتصريحات ترامب ولكن بهدوء
وأجرى ترامب وباول جولة مشتركة في مقر الاحتياطي الفدرالي، للوقوف على تطورات مشروع التجديد الذي يستغرق سنوات بتكلفة 2.5 مليار دولار.
وأمام الصحفيين قال ترامب إن تكاليف تجديد مبنيين تاريخيين تابعين للاحتياطي الفدرالي تجاوزت 3.1 مليار دولار. لكن باول هز رأسه ورد عليه بكل هدوء رافضاً ما قاله الرئيس، وقال: “لم أسمع ذلك من أحد”. وأضاف أن ترامب كان يضيف تكاليف مبنى حكومي ثالث، والذي “تم بناؤه قبل خمس سنوات”.
دفع ذلك ترامب إلى احتواء المناقشة بقوله: “سنلقي نظرة. سنرى ما يحدث، والطريق طويل”
في تقرير لموقع بيزنس إنسايدر، قال مراقبو الاحتياطي الفدرالي إن سلوك باول، إلى جانب تركيزه على بناء التوافق والقدرة على التكيف، يُظهر أهمية القيادة الثابتة.
وقال أستاذ الاقتصاد في جامعة برينستون الأميركية، آلان بليندر، والذي شغل منصب نائب رئيس مجلس محافظي الاحتياطي الفدرالي في منتصف التسعينيات، للموقع، عن باول: “إنه لا يتأثر بسهولة”.
وقال مراقبو الفدرالي إن أسلوب باول الهادئ والعملي في التعامل مع الصراعات السياسية والتحديات الاقتصادية يستحق الاقتداء به – بغض النظر عن التوجهات السياسية لقادة الأعمال أو الموقف من أسعار الفائدة.
وذكروا أن هناك ثلاثة دروس يمكن لقادة الأعمال استخلاصها من نهج باول في التعامل مع الضغوط والتحديات:
1- الحفاظ على الهدوء، حتى في ظل الاضطرابات
قال الزميل البارز في معهد بروكينغز، دونالد كوهن، والذي قضى 40 عاماً في الاحتياطي الفدرالي، لموقع بيزنس إنسايدر، إن جزءاً من مهمة رئيس الاحتياطي الفدرالي يتمثل في تقديم تحليل لما يجري والحفاظ على رباطة جأشه في الأوقات الصعبة. هذا ما يرى كوهن أن باول يفعله في الوقت الحالي.
وأضاف كوهن، في إشارة إلى انتقادات ترامب: “رباطة الجأش رد فعل مناسب لما يمر به”. وفي خضم هذه الانتقادات، قال باول، الذي تنتهي ولايته كرئيس في مايو/ أيار المقبل، بأنه لن يغادر البنك قبل نهاية فترته.
وعندما سُئل عن قيادة باول وما إذا كان ترامب سيسعى لإقالته، أشار متحدث باسم البيت الأبيض إلى تصريحات ترامب الأخيرة عن عدم اعتزامه فعل ذلك، بما في ذلك تصريحاته يوم الخميس، عندما قال للصحفيين: “القيام بذلك خطوة كبيرة، ولا أعتقد أنه ضروري”
وسبق أن طرح ترامب فكرة إمكانية إقالة باول بتهمة “الاحتيال”، في إشارة واضحة إلى انتقاداته لتجديد بنك الاحتياطي الفدرالي.
ووسط الانتقادات المتكررة من البيت الأبيض، قال كوهن إن جزءاً من نهج باول يبدو أنه يتمثل في إبقاء الاحتياطي الفدرالي مركزاً على الأهداف التي حددها الكونغرس له، و”محاولة تجاهل الضجيج”، ولا سيما من الرئيس.
وذكر كوهن أنه في وقت سابق من ولاية باول، أظهر نفس الشعور بالهدوء والعزيمة عندما هددت جائحة كوفيد 19 استقرار الأسواق المالية.
الأمر ليس سهلاً دائماً، لكن قادةً ومنهم ستيف جوبز، مؤسس شركة آبل Apple، وسام ألتمان، مؤسس شركة OpenAI، تحدثوا من قبل عن أهمية الحفاظ على التركيز، لا سيما في الفترات العصيبة.
2- بناء التوافق
قالت كبيرة الاقتصاديين في شركة الاستثمار “New Century Advisors”، كلوديا ساهم، وهي خبيرة اقتصادية سابقة في الاحتياطي الفدرالي، لموقع بيزنس إنسايدر، إن باول، بصفته قائداً، غالباً ما يسعى إلى إيجاد نقاط اتفاق مع المشرعين وبين زملائه من مسؤولي البنك المركزي.
وأضافت ساهم أنه على الرغم من أن الاحتياطي الفدرالي يميل إلى أن يكون هيئة تعمل بالتوافق، إلا أنه قد يتطلب جهداً كبيراً لوضع جدول أعماله والحصول على موافقة المشاركين التسعة عشر في لجنة السوق المفتوحة الفدرالية التابعة للبنك، والتي تضع السياسة النقدية، وأعضائها المصوتين الاثني عشر. وقالت: “هذا أمر برع (باول) فيه”.
وقال كوهن أيضاً إن باول يعمل بجد لإيجاد أرضية مشتركة. وأضاف: “إنه يفخر، عن حق، بقدرته على الإقناع والشرح”.
ويمكن أن تكون هذه صفات مفيدة للقادة الذين يرغبون في تحفيز فرقهم. علاوة على ذلك، تشير الأبحاث إلى أن نهج المدير الصارم ليس بالضرورة أنجح استراتيجية قيادة.
وقال آلان بليندر إن جزءاً من استراتيجية باول يتمثل في إقناع الناس بقبول وجهة نظره. وأضاف: “لقد واجه بعض المعارضة خلال فترة رئاسته للاحتياطي الفدرالي، ولكن ليس كثيراً”.
3- إظهار المرونة وتجنب الغطرسة
تقول كلوديا ساهم إنه على الرغم من أن باول كان “واضحاً تماماً” في أن الاحتياطي الفدرالي ارتكب بعض الأخطاء، فإن براغماتيته ساعدته على التقدم.
وتضيف ساهم أن الاقتصاد الأميركي لم ينزلق إلى الركود، على الرغم من سلسلة سريعة من زيادات معدلات الفائدة بدءاً من عام 2022، والتي حذر بعض المراقبين من أنها قد تُعيق النمو الاقتصادي.
وتشير الخبيرة الاقتصادية إلى أن باول لم يقضِ بالضرورة وقتاً طويلاً في الخوض في التفاصيل الاقتصادية الدقيقة كما فعل بعض أسلافه. ويبدو أن ذلك كان ميزةً له عندما أدت جائحة كوفيد 19 إلى إغلاق قطاعات ضخمة من الاقتصاد بشكل سريع ومفاجئ.
وأضافت ساهم: “إنه ليس مُتشدداً”. هذا يعني أنه مُسلح بـ”انفتاح” وواقعية، مما قد يُؤدي، كما قالت، إلى أسئلة مثل: “ماذا نرى هنا؟ ما الذي ينبغي لنا فعله بعد ذلك؟”.
ويمكن للانفتاح على الأفكار الجديدة – وعدم محاولة الظهور بمظهر مُدّعي المعرفة – أن يُساعد القادة على بناء مصداقيتهم.
وبعد أن اقتنع باول بأن الاحتياطي الفدرالي كان بطيئاً جداً في رفع معدلات الفائدة كوسيلة لكبح التضخم، قال كوهن، إن رئيس البنك المركزي “تحرك بسرعة كبيرة وبحزم مُذهل لتصحيح هذا الخطأ”.
ويمكن للقادة الذين يُقرّون بأخطائهم – والذين يُشجعون فرقهم على الاعتراف بأخطائهم – خلق ثقافات صحية داخل المؤسسات.
وقال كوهن إن من سمات القائد الجيد أن يقول: “انتظر لحظة. لقد أخطأنا نوعاً ما”. في حالة الاحتياطي الفدرالي، قال إنه باعتراف باول بأن الوضع اتضح أنه مُختلف عما توقعه صانعو السياسات، كان من الحكمة التحرك “بجرأة وحزم” للتكيف مع الوضع المُستجد.
وذكر أن الاستعداد لتغيير المسار هو نقطة قوة. وقال: “يقع القادة في المشاكل عندما لا يعترفون بخطئهم”.