المناخ الاقتصادي المقلق واستكشاف فرص الانماء

المواطن اللبناني الراشد قلق على مستقبله ومستقبل أولاده وأحفاده، وغالبية المودعين لدى المصارف باتت تخشى ان تتآكل مشاريع الاقتطاع من ودائعها القدرة على الاستمرار في مستوى معيشي مقبول.

اقترحت الحكومة خطة اقتصادية لا يبدو انها مقنعة. فالمقدمة تشير الى ان نجاح الخطة رهن بتأمين تمويل من صندوق النقد الدولي على مستوى 10 مليارات دولار، وتمويل من مجموعة الدول والمؤسسات الدولية التي اجتمع ممثلوها في باريس في نيسان 2018، وتنتهي الخطة بالحديث عن استعادة النمو سنة 2024 وخفض الدين العام قياسًا بالدخل القومي القائم من 170 في المئة حاليًا الى 90 في المئة سنة 2024 وهذا الخفض لن يتحقق لان الدخل القومي يتناقص بسرعة مخيفة وسيكون في حال استمرار الازمة سنة 2023 على مستوى 35-40 مليار دولار بدل رقم الـ60 مليارًا في نهاية 2019. فهل يتدنى مستوى الدين العام الى 30 مليار دولار، وكيف نبلغ هذه النتيجة وبداية الامل معلقة على توافر 15 مليار دولار وان كان بعضها بالتقسيط، لكن القيمة الكلية هي اقتراض اضافي.

التعليقات الاقتصادية متفاوتة القيمة وكتّاب التعليقات السياسية ادمنوا ادراج آرائهم الاقتصادية ولسوء الحظ أن أكثر تحليلاتهم كانت خاطئة، واليوم نجد مثلاً رسالة الى صندوق النقد الدولي. تتضمن شروطاً اصلاحية وقد نشرت في “النهار” بتاريخ 28/5/2020 ووقعها عدد كبير من الاقتصاديين واصحاب الخبرة في ادارة المال والشأن العام.

على رغم كل ذلك، تخصص الرسالة لموضوع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي جزءًا ملحوظًا وتزكّي خفض عدد اعضاء مجلس الادارة والاستعانة بخبرات صندوق النقد الدولي في هذا المجال، علمًا بان مشروعاً وضع لتحسين شروط ادارة الصندوق وتجهيزه بالطاقات الالكترونية منذ عام 2005 ولم يؤخذ به لان قانون انشاء الصندوق ينص على ان أي اقتراح يسقط في حال اعتراض عضوين من ممثلي الفئات الثلاث الذي يتكون المجلس منها، أي العمال وارباب العمل وممثلي الدولة، عليه وما دام القانون هو إياه، لن يتحسن الصندوق ولن تصبح ادارته للتأمين الصحي مبرمجة الكترونيًا لتخفيف عجز هذا الفرع الذي يمول من فرع نهاية الخدمة، الامر الذي يخالف قانون انشاء الصندوق.

نأتي هنا الى موضوع حيوي يتناول مؤسسة أساسية للحياة الاقتصادية، أي ادارة واستثمار مرفأ بيروت، وهذه المؤسسة الاهم بين ثلاث مؤسسات تملكها كليًا أو جزئيًا الدولة أو مصرف لبنان، والمؤسستان الأخريان هما ادارة حصر التبغ والتنباك (الريجي) وشركة طيران الشرق الاوسط الخطوط الجوية اللبنانية.

هذه المؤسسات الثلاث حققت التجهيز بافضل سبل المعلوماتية ولكل منها طواقم من ذوي الاختصاص في البرامج الالكترونية، علمًا بان طيران الشرق الاوسط، على رغم تجهيزها بالبرامج وطواقم التشغيل، ستعاني خسائر فادحة بسبب الكورونا واقفال المطار الخ. ودراستنا اليوم تنصب على ادارة واستثمار مرفأ بيروت لسببين: الأول اهمية المرفأ للحياة الاقتصادية في لبنان، والثاني أن ادارة المرفأ تعرضت لتشويه عن قصد او غير قصد من كتاب لم يكلفوا انفسهم محاولة درس الوضوع، الامر الذي مهد لهذه الدراسة واستخلاصاتها المهمة.

ادارة واستثمار مرفأ بيروت يمارسان بالطبع من مبنى حديث في المرفأ، يتعجب الزائر لدى دخوله المبنى من التجهيزات التي تواجهه، ومنها غرفة للاجتماعات مجهزة بادوات عرض الدراسات والتحليلات لاي مهتم، وفي على جانب من الغرفة سيدة وشاب يسيران البرامج الالكترونية التي تبين أسس خدمات لا نشهدها إلا في مؤسسات القرن الحادي والعشرين في الدول المتقدمة.

تشرح السيدة ان البواخر المحملة بالمستوعبات الوافدة الى مرفأ بيروت، سواء من المانيا وفرنسا وانكلترا وايطاليا واليابان والصين، تتواصل مع المركز بارسال صور للسفن المحملة مستوعبات وتبين التي منها مخصصة لاسواق لبنان، والفسحات المتوافرة لنقل مستوعبات من انتاج لبنان.

وحين تربط الباخرة الوافدة مراسيها على الرصيف الذي تتوافر مواصفاته لربانها ومساعديه، تبدأ الرافعات cranes عملها أوتوماتكيًا يشغّلها متمكن واحد من قيادة الرافعة وتنفيذ خطة التفريغ او التحميل، ويجري العمل بسرعة ودون اخطاء. وقد سألت السيدة عمن وضع البرنامج، فاجابت بفخر: أنا وضعت البرنامج، وكذلك زميلها، وكلاهما من خبراء تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين ودراسات انخفاض النشاط الاقتصادي العالمي. وفي رأي استاذ الاقتصاد الايطالي الاميركي Nouriel Roubini الذي كشف ازمة عام 2008 قبل حصولها بسنتين، ان الازمة الحالية ستكون أقوى من الازمة المالية التي تنبأ بحصولها وان المؤسسات التي ستستطيع الاستمرار هي تلك المجهزة ببرامج الذكاء الاصطناعي، كما هو الحال في ادارة واستثمار مرفأ بيروت.

أرقام الانجاز وبياناته

ادارة واستثمار مرفأ بيروت كلفت شركة استشارية معروفة في مجال دراسة حركة المرافىء والتجارة البحرية، انجاز دراسة عن معايير الادارة ومقارنتها بحركة مرافىء دولية معروفة تدرس اوضاعها وتنشرها وكالة “رويترز”، واسم المؤسسة GA Consult, Stephan Building, Riad Solh St-Solidere.

الدراسة شملت السنوات المنصرمة من 2005 الى 2018 وانجزت في تاريخ 5 آذار 2019، وقد راجعتها اكثر من مرة للالمام بمحتوياتها التي تغطي 45 صفحة وتشمل عشرات الرسوم البيانية التي تقيس الانتاج، وحصيلة الاعمال، والتطور التجهيزي الحاصل، وأصررت على مراجعة قواعد الانتاج والعمل بالعين المجردة، وخلال زيارة استغرقت الجزء الاكبر من يوم الاربعاء في تاريخ 27/5/2020.

ارقام حيوية

لا بد قبل عرض الارقام من الاشارة الى ان ادارة المرفأ كانت في يد القطاع الخاص بموجب فرمان عثماني صادر عام 1888 وصورة الفرمان في قاعة المحاضرات. وبعدما تولى ادارتها أفرقاء عدة آخرهم شركة برئاسة الوزير والنائب السابق الراحل هنري فرعون، تسلّمت الادارة الجديدة مهمات الادارة والتطوير منذ عام 2002، علمًا بان الارقام المدرجة في الدراسة تبدأ في عام 2005 عندما استطاعت الادارة تأمين المستلزمات الادارية الفعالة.

ارقام الصفحة الاولى من التقرير توفر المؤشرات الكلية الآتية:

الدخل القائم المحقق عام 2005 بلغ 89 مليون دولار، ارتفع هذا الرقم الى 313 مليون دولار عام 2017.

بين 2001 (قبل قيام هيئة ادارة واستثمار مرفأ بيروت بسنة)، ارتفع معدل الربح السنوي والتمويل للخزينة من 8 ملايين دولار ربحاً و9 ملايين تحويلات الى 131 مليون دولار ربحاً عام 2018 وتحويلات الى الخزينة بلغت 183 مليون دولار.

ومن أجل تقدير تحسن الكفاءة في الانتاج يمكن ادارج الارقام الآتية من الدراسة:

حصيلة الدخل من كل طن في المرفأ ارتفعت من 3.2 ملايين دولار عام 2005 الى 15 مليون دولار عام 2017، وكان الارتفاع بنسبة 13 في المئة سنويًا.

التحسين في الاداء ارتبط بالخطوات الادارية في انتقاء الموظفين الاكفياء، وتأمين التجهيز سواء برامج المعلوماتية أو الرافعات التي تسير بموجب البرامج، ولهذا السبب انخفض عدد العمال والموظفين من 1029 عام 2002 الى 191 عام 2019، ولتحقيق كل مليون دولار من الدخل انخفض عدد العمال والموظفين لتحقيق هذه النتيجة من 14 عام 2002 الى 1 عام 2016.

عام 2017/2018 بلغ متوسط الربح السنوي 131 مليون دولار والتحويلات الى الخزينة 183 مليون دولار.

الارباح التي حوّلت الى الحكومة بين 2005 و2017 بلغت 834 مليون دولار، والرسوم التي حوّلت الى الخزينة بلغت 752 مليون دولار – أي أن مجموع الدخل المتحصل للقطاع العام بلغ 1586 مليون دولار.

الحصيلة كانت نتيجة ارتفاع المداخيل في الفترة المشار اليها 2005-2017 بنسبة 11 في المئة سنويًا بينما ارتفعت التكاليف بنسبة 7.7 في المئة سنويًا.

ويذكر ان ارباح التشغيل كانت تحتسب على الاساس الآتي: الدخل القائم محسومة منه النفقات الجارية (باستثناء الانفاق على التجهيز والتطوير) مثل تأمين الادوات الالكترونية المتطورة، والرافعات التي زاد عددها من 4 عام 2005 الى 13 عام 2018 بتجهيز الكتروني حديث.

قد لا يكون القارىء قد تمكن من احتساب المعطيات الرقمية، ولهذا أدرج جدولاً بيانيًا. يبيّن الارقام المقارنة عن امكانات مرفأ بيروت ومقدار كفاءة الادارة:

بنود التقويم اوائل التسعينات الوضع الحالي

طول الارصفة 200-250 متراً 350 مترًا واكثر

عمق المياه 12 متراً حداً اقصى 16 مترًا

مساحة محطة التفريغ 150000 م2 500000 م2

قدرة استيعاب المستوعبات 4000 حاوية 35000 حاوية

معالجة التفريغ رافعة متحركة رافعة من السفن الى الشاطىء

الحركة السنوية اقل من 300000 1100000

نوع المرفأ مرفأ لتفريغ حمولات مرفأ اقليمي للتواصل

تواصل المرفأ المباشر أقل من 10 مرافىء اكثر من 50 مرفأ

الخلاصة

ادارة واستثمار مرفأ بيروت نجحت في زيادة الانتاجية سنة بعد سنة وحرية تصرف ادارتها كانت بفضل تأسيسها على انها هيئة موقتة لحمايتها من تدخلات السياسيين وكان النجاح رفيق مسيرتها طوال 18 سنة.

التقرير الذي انجزته شركة متخصصة في القضايا المالية والتنظيمية للشركات يبدو كأنه دراسة لتقدير قيمة هذه الادارة التي تسير، اعمالها وكانها شركة خاصة، علمًا بانها ملك للقطاع العام.

الصفحة الاخيرة من التقرير توفر تقديرًا لقيمة الادارة يشمل موجوداتها النقدية والتجهيزية والمساحات الضرورية للتشغيل، وفي رأي خبراء شركة المشورة أن قيمة ادارة واستثمار مرفأ بيروت تراوح بين 3 و4 مليارات دولار حسب المقارنات الدولية.

الوضع الذي يشابه انجاز ادارة واستثمار مرفأ بيروت يتجلى في ادارة حصر التبغ والتنباك. فهذه الادارة تغذي المالية العامة بخامس أعلى مصدر، وهي تشرف على نشاط 25 الف مزارع وعائلاتهم، وتؤمن لهم المشورة العلمية وفي حالات كثيرة تزود المياه النظيفة، كما وفرت برامج تعليمية. ونجاح الريجي يعود الى تمتعها، كما ادارة المرفأ، بمجلس ادارة عدد اعضائه معقول، وهم يعملون بتناغم وقد اختصروا عدد الموظفين والعمال من نحو 2300 الى نحو 700-800. وفي الوقت عينه وتعويضًا لخسارة الدخل بسبب تهريب التبغ من سوريا، توصلت ادارة الريجي الى الاتفاق مع ثلاث شركات تبغ دولية لتصنيع بعض انتاجها في لبنان بهدف تصديره، وهكذا حافظت على مداخيلها ونموها.

الحكومة تبحث عن وسائل لضبط العجز والتغلب على ازمة البطالة التي توسعت بعد انتشار وباء كورونا، وهنالك مجال حقيقي لتخصيص خدمات المرفأ والريجي وتحصيل ما لا يقل عن 5 مليارات دولار من العمليتين والمطلوب انجاز دراسة عن قيمة الريجي.

ان المهتمين بشؤون تخصيص المؤسستين يصرون على ابقاء الادارة في أيدي المشرفين الحاليين عليها الذين تمكنوا من تحويل مؤسسات خاسرة الى مؤسسات تعج بفرص النجاح والتطور التقني: وفي حال انجاز عمليات التخصيص خلال ستة اشهر يمكن التمهيد لبدء انجاز مرفقين لتكرير النفط الخام في الزهراني وشمال طرابلس بطاقة 6-7 ملايين طن سنويًا. وهذه المنطلقات، اضافة الى انجاز حقل لانتاج الكهرباء من الالواح الزجاجية التي تحفظ الطاقة، تضمن الانطلاقة سواء تأمنت الموارد من صندوق النقد أو لم تتأمن.

لا ينقص لبنان للخروج من ازمته الحالية سوى التصميم على تعزيز طاقات الانتاج واعتماد التقنيات الحديثة، والشباب اللبناني من اصحاب هذه الطاقات ومن الذين يكتسبونها في معاهدنا يعودون ويستقرون ويشهدون على قيامة البلد.

– مروان اسكندر .