تقود سيارتك وتطالع لوحة القيادة والتحكم فتفاجأ بأن كل مؤشر يُفترض ارتفاعه في نقصان، وكل دليل يجب الحرص على انخفاضه في ازدياد. هذا هو وضع الاقتصاد العالمي بعد جائحة كورونا: فالنمو الذي كان يتباكى مقدروه على انخفاضه في أول العام لأنه سيقل عن 3 في المائة، لن يقل تراجعه عن 8 نقاط مئوية عما كان مقدراً له ليصل إلى سالب 5 في المائة، وفقاً لأفضل تقدير من المؤسسات الدولية الثلاث التي تحدث تقديراتها بانتظام وهي صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك الدولي. وقد خفضت كل هذه المؤسسات تقديراتها في شهر يونيو (حزيران) عما قدرته منذ أسابيع معدودة في شهر أبريل (نيسان). وتشير منظمة العمل الدولية إلى خسارة سوق العمل لما يعادل 300 مليون فرصة عمل حول العالم، من العمالة المنتظمة، وهو أكثر بخمس عشرة مرة لخسائر البطالة عما سببته الأزمة المالية العالمية.
وقدرت منظمة التجارة العالمية تراجع التجارة العالمية بما قد يتجاوز 30 في المائة عما كانت عليه في العام الماضي. وذهبت منظمة الأنكتاد التابعة للأمم المتحدة إلى أن الاستثمار الأجنبي المباشر سينخفض بنسبة لن تقل عن 40 في المائة ليقل رقمه عن تريليون دولار لينحدر لما كان عليه منذ خمسة عشر عاماً في عام 2005. وفي هذه الأثناء تتراجع تحويلات العاملين بالخارج بأكثر من 20 في المائة مقارنة بالعام الماضي. أي أنه لم تسلم قناة من القنوات الثلاث للعولمة الاقتصادية، المتمثلة في التجارة والاستثمار وعوائد هجرة العمالة من ضرر بالغ.
وفي ظل هذه الأوضاع تتزايد أرقام الفقر المدقع ليضاف إلى من يعانون منه ما يقدر بحوالي 70 مليونا و100 مليون إنسان، وفقاً لتقديرات البنك الدولي، بما يجعل الرقم الكلي للفقراء وفقاً لهذا المعيار يقترب من مليار إنسان. ويحذر برنامج الغذاء العالمي في الوقت نفسه من تفاقم مشكلة شح موارد الغذاء لتطول 265 مليون من البشر.
وفي هذه الأثناء تطالعك أرقام البورصات المالية العالمية وهي في ارتفاع متراقص غير مبالية بركود أو بتهديد بكساد، فتعوض خسائر شهري فبراير (شباط) ومارس التي تكبدتها مع أنباء الوباء، وتتجاوزها ارتفاعاً. وفي حين يرى البعض أن مستثمري البورصات يرون في المستقبل ما لا يرى عموم الناس، فالواقع يدل على أن مرتادي شارع وول ستريت، حيث تقع بورصة نيويورك، قد انفصلوا عن شوارع أسواق الاقتصاد الحقيقي المصدومة، طلباً وعرضاً، والمواجهة لضغوط إعادة جدولة المديونيات والصلح الواقي من الإفلاس، لمن لم يفلس بالفعل، إذ لم يكونوا من المشمولين بحزم الدعم المعلنة.
فلا توجد هناك أدلة دامغة على أن البورصة مرآة للاقتصاد الحقيقي حتى في الأحوال العادية بعيداً عن الأزمات. فالبورصة سوق لتداول الأوراق المالية ومجال للاستثمار وللتمويل، وكذلك التوسع والتخارج لشركات مسجلة. وفي حالة البورصات العالمية قد تكون الشركات غير متواجدة أصلاً في الاقتصاد الحقيقي للدولة، أو أن أغلب نشاطها خارجها مثل حالة الشركات الأجنبية المسجلة في بورصتي لندن ووول ستريت. كما أن هناك أنشطة اقتصادية هادفة للربح غير ممثلة في البورصات. وفي الدول النامية ينشط القطاع غير الرسمي في الاقتصاد لا علاقة بينه وبين البورصات فهو غائب عن أي سجل معتمد أو تعداد.
فالقول إذن بأن البورصة مرآة للاقتصاد ومؤشراتها تعبر عن أدائه الكلي لا يستند إلى دليل إلا إذا أخذنا في الاعتبار أن من المرايا أنواعا غير مستوية مقعرة ومحدبة، وهناك أخرى مكسورة ومشوهة. وتظل العلاقة بين الشارع المالي والشارع الاقتصادي أكثر تعقيداً واختلافاً عما يصوره أصحاب المرايا. فما يجب أن تعكسه البورصات هو أداء الشركات المسجلة وتوقعات نشاطها وهذا هو المطلوب من مؤشراتها؛ لكن في الأزمة العالمية الحالية تضطرب المعايير، خاصة مع وجود تمويل رخيص متاح لبعض المستثمرين وضخ غير مسبوق للنقد من البنوك المركزية التي مدد أكبرها قوائمها لتشتري أصولاً تجاوزت 6 تريليونات دولار بما في ذلك من أصول مالية عالية المخاطرة. ويتزايد مع التمويل الرخيص نشاط المقامرين، وليس المضاربين فقط، وأنماط شرحتها، في مقال سابق في هذه الصحيفة الغراء، عن «بونزي وشركائه» ونماذج التمويل الهرمي يفوز فيها من يدخل السوق ويخرج منها مبكراً قبل موجات الانخفاض الحاد أو انفجار الفقاعات المالية مثلما حدث مراراً من قبل في أزمات مالية سابقة. لكن ذاكرة الأسواق تتبدد مع سيطرة سلوكيات الأزمة بين جشع لمحترف قديم وطمع لمستجد غشيم.
والواجب هو الدفع بتطوير سوق المال بالعمل على تنويع محافظ شركاتها المدرجة مع تدعيم الرقابة وإتاحة المعلومات المدققة عن أوراقها المتداولة وتبصير المستثمرين بالمخاطر والعوائد، وحبذا لو اتخذت هذه الإجراءات قبل وقوع الأزمة لا أن تأتي في شكل عظات بعد اندلاعها.
أما الاقتصاد الحقيقي فله محدداته ومؤشراته التي ظهر مدى تأثرها بالأزمة ولا تحسن لها إلا باستكمال إجراءات التصدي لأزمة الوباء الصحية وتداعياتها الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية:
وفي هذا أميز بين ستة مجالات للسياسات العامة وتنفيذها بالمشاركة مع قطاع الأعمال والمجتمع المدني:
أولاً، اتخاذ تدابير التعايش مع فيروس كورونا وتكاليف توفير وسائل الوقاية وتدابير التباعد الاجتماعي وتوفير العلاج ومستلزماته، خاصة مع غياب وجود لقاح ضد الفيروس.
ثانياً، مكافحة الركود ومنع تحوله لكساد من خلال الإنفاق الاستثماري في تطوير رأس المال البشري من خلال الرعاية الصحية والتعليم، وتدعيم البنية الأساسية والتكنولوجية، الاستثمار في التوقي من آثار تغيرات المناخ وتمتين قدرة المجتمع على احتواء الصدمات؛ ولا يوجد تناقض بين هذه الاستثمارات وأولوياتها فهي متكاملة يمسك بعضها من أجل التنمية بعضاً.
ثالثا، التصدي لمشكلات زيادة الديون خاصة في شقها الخارجي قبل تحولها لأزمة كتلك التي شهدتها بلدان أميركا اللاتينية في الثمانينات وجنوب شرقي آسيا في أواخر التسعينيات.
رابعاً، تبني التحول الرقمي وتكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها كأسلوب حياة وإنتاج وتطور وليس مجرد قطاع منفصل.
خامساً، توطين التنمية المستدامة بدفع الاستثمارات المحلية في أركان اقتصاد الدولة بدأ من الأقل دخلاً ورفاهاً.
سادساً، التعامل المتوازن بين أدوار مؤسسات الدولة الحكومية والخاصة وتلك المرتبطة بالمجتمع، فلكل مجاله وشأنه لا يجب الافتئات عليه، مع ضرورة مواكبة القواعد الرقابية لمستلزمات العصر وشدة تغير معطياته.
وعلى صناع السياسات في المجالات الستة المذكورة مراعاة تأثر إجراءاتها وكفاءة تطبيقها بفعل عاملين من عوامل أزمة الجائحة يدفعان بعضهما دفعاً. فبعدما جاءت الأزمة كاشفة لمواطن القوة والوهن في الاقتصاد والمجتمع ومؤسسات الدولة، ترى العامل الأول كمعجل لحدوث ما كان ينتظر وقوعه في سنوات فيصير حدوثه في أشهر معدودة. أما العامل الثاني فيرجع لتأثير القصور الذاتي يدفع الأمور لمسارها القديم، ويتصدى للتغيير كأن أزمة لم تقع. ويدفع العاملان بعضهما بعضاً حتى يصير الأمر لواقع جديد في عالم شديد التغير.
د. محمود محي الدين.