في نهاية تداولات يوم أمس الأربعاء، كانت قيمة سهم مصرف فيرست ريببلك بنك قد انخفضت إلى حدود 5.68 دولار أميركي، بينما كان سعر السهم قد قارب 16 دولارًا أميركيًا خلال تداولات يوم الإثنين الماضي. باختصار، فقد المصرف الأميركي نحو ثلثي قيمته خلال فترة لم تتجاوز اليومين، ما يعيد التذكير بفترات التخبّط والقلق التي سبقت انهيار مصرفي سيليكون فالي وكريدي سويس مؤخرًا. أمّا الأخطر هنا، فهو أنّ قيمة السهم الحاليّة لم تعد تتجاوز 3.7% من قيمته قبل سنة واحدة بالضبط. ما يشير بشكل واضح إلى ترقّب المساهمين انهيار المصرف وشطب رساميله كليًا.
ببساطة، كل ما يجري يدل على أنّ فيرست ريببلك بنك سيكون التالي في أحجار دومينو المصارف الغربيّة، التي تتساقط تباعًا. كما لا يبدو أنّ الإجراءات التي تم اتخاذها مؤخرًا، للحؤول دون سقوط المصرف، ستتمكّن من إبعاده عن هذا المصير المحتوم. وكل هذه التطوّرات، تؤكّد مرّة جديدة أن أسواق المال العالميّة ما زالت بعيدة عن الخروج من الأزمة المصرفيّة التي تعيشها، خصوصًا في ظل التشابه بين الظروف التي تضغط على فرست ريببلك اليوم، وتلك التي أدّت إلى الإطاحة بمصرف سليكون فالي في شهر آذار الماضي (راجع المدن).
علامات الانهيار الواضحة
يحل فيرست ريببلك بنك في المرتبة 14، على قائمة أكبر مصارف الولايات المتحدة الأميركيّة، وهو ما يضفي على كل هذه التطوّرات حساسيّة استثنائيّة. وفي واقع الأمر، لا يحتاج المرء إلى كثير من التحليل في أرقام المصرف، ليرى علامات الانهيار التي تراكمت في ميزانيّاته، منذ بداية هذا العام.
في بداية هذه السنة، امتلك المصرف ما يقارب 176.43 مليار دولار من الودائع المصرفيّة، قبل أن يخسر خلال الربع الأوّل من العام الحالي نحو 102 مليار دولار من هذه الودائع، نتيجة سحوبات عملائه. بصورة أوضح، خسر المصرف خلال الأشهر الثلاثة الأولى من السنة أكثر من 57% من قيمة ودائعه، وهو ما كان يفترض أن يكون كفيلًا بدفع المصرف للانهيار منذ أسابيع العديدة.
لكن لتفادي سيناريو السقوط التام، لجأ المصرف في 17 آذار الماضي لاقتراض نحو 30 مليار دولار، من خلال رزمة تمويليّة ضخمة، أمّنتها مجموعة من كبرى المصارف الأميركيّة، مثل بنك أوف أميركا وسيتي غروب وجي. بي. مورغان. وكما كان واضحًا في ذلك الوقت، لجأت هذه المصارف الأميركيّة الكبيرة إلى إعطاء هذه الرزمة التمويليّة الهائلة، بالرغم من خطورتها الشديدة، وذلك لتفادي حالة الهلع التي يمكن أن تؤثّر عليها في حال سقوط مصرف فيرست ريببلك بنك.
مع الإشارة إلى أنّ الأسواق كانت تعيش في تلك الأيّام حالة الهلع التي تلت إقفال مصرف سيليكون فالي، ما عنى أنّ انهيار مصرف آخر كان من شأنه إثارة موجة كاملة من الانهيارات المصرفيّة المتتالية. وهكذا، ولحسن حظ فيرست ريببلك بنك في شهر آذار، كانت المصارف الأميركيّة الكبيرة مهتمّة بتأجيل انهياره لبضعة أسابيع، بانتظار هدوء عاصفة انهيار سيليكون فالي بنك.
لم تستطع رزمة التمويل الضخمة هذه مساعدة المصرف لأكثر من شهر ونصف، إذ سرعان ما أثار خفض تصنيف المصرف في مطلع هذا الأسبوع هلع الأسواق، ما أدّى إلى الانهيار السريع الذي شهده سعر سهم المصرف هذا الأسبوع. مع الإشارة إلى أنّ موجات سحوبات الزبائن استمرّت طوال الأسابيع الماضية، حتّى بعد منح المصرف رزمة التمويل الضخمة، في ظل تحسّس عملاء المصرف من ارتفاع المخاطر التي تهدد ودائعهم.
وهكذا، عاد المصرف إلى دائرة اهتمام الرقابة المصرفيّة الأميركيّة المشدّدة هذا الأسبوع، بانتظار اتخاذ قرار إقفال المصرف، في اللحظة التي ترتفع فيها مخاطر انهياره إلى مستويات لا يمكن استيعابها. وهذه اللحظة، حسب المتابعين، قد تحصل في أي لحظة خلال الأيّام القليلة المقبلة، بما فيها ساعات عطلة نهاية الأسبوع. ومن المعلوم أنّ السلطات الرقابيّة المصرفيّة تفضّل في العادة اتخاذ قرارات من هذا النوع قبيل أو خلال العطلة، لضبط العمليّات المصرفيّة ومراجعة الأرقام واتخاذ القرارات الحاسمة قبل فتح الأسواق في الأسبوع التالي.
أسباب هلع المودعين
من الناحية العمليّة، ثمّة مخاطر استثنائيّة تعرّض لها فرست ريببلك بنك خلال الأشهر الماضية، وهو تحديدًا ما أثار هلع المودعين وتسبب بموجة السحوبات الأخيرة، بالتوازي مع تأزّم أوضاع القطاع المصرفي الأميركي بشكل عام.
فهذا المصرف، اعتمد بشكل أساسي على توظيف أمواله في قروض الرهن العقاري، التي يستفيد منها كبار المقترضين. وبمجرّد بدء الفوائد الأميركيّة بالارتفاع خلال العام الماضي، اضطرّ المصرف لرفع الفوائد التي يدفعها للمودعين لديه، للحؤول دون نزوح الودائع باتجاه الدين. لكنّ في المقابل، لم يتمكّن المصرف من رفع العوائد التي يجنيها من استثماراته في قروض الرهن العقاري، ذات الفوائد الثابتة، وهو ما بدأ بتعريضه تدريجيًا لمخاطر خسائر أسعار الفائدة. وفي الوقت نفسه، أدرك المصرف سريعًا أن بيع محافظ قروض الرهن العقاري التي يملكها، سيكبّده خسائر كبيرة في ميزانيّته، نتيجة انخفاض قيمة هذه المحافظ بسبب ارتفاع أسعار الفوائد في السوق.
بمجرّد انكشاف كل هذه المخاطر، بدأت موجات سحوبات المودعين من المصرف. وبطبيعة الحال، لم يمتلك المصرف مرونة الحصول على السيولة من الأسواق، لتلبية هذه السحوبات، في ظل ارتباط استثماراته بقروض ضخمة لمصلحة عدد محدود من كبار المقترضين. وهذا ما دفع المصرف لبيع بعض الموجودات الاستثماريّة بأسعار منخفضة وخسائر كبيرة، لتفادي سيناريو الإفلاس في حال عدم تأمين السحوبات.
وبعد حصول المصرف على رزمة القروض الضخمة في شهر آذار، من المصارف الأميركيّة الكبيرة الأخرى، تمكّن المصرف من الهروب من لحظة الإفلاس التام. إلا أنّ الجميع أدرك أن المصرف ورّط نفسه في المزيد من المخاطر على المدى البعيد. فمن الناحية العمليّة، اعتمد المصرف على هذه القروض لتأمين السحوبات لمصلحة المودعين عليه. وبذلك، استبدل المصرف التزاماته للمودعين، بالتزامات مكلفة وبفوائد أعلى لمصلحة المصارف الأميركيّة الأخرى. وهذا ما سيعني تكبيد المصرف خسائر إضافيّة على المدى المتوسّط، وإن تفادى السقوط على المدى القصير جدًا. وهذا بالضبط ما يفسّر عدم انتهاء حالة القلق في صفوف المودعين في المصرف، حتّى بعد تأمين هذا التمويل.
في النتيجة، عادت الأزمة لتشتد خلال الأيّام القليلة الماضية، فيما تتجه الأمور إلى اتخاذ قرار إقفال المصرف خلال الأيّام المقبلة. أمّا الإشكاليّة الأساسيّة التي ستواجه صنّاع القرار في الولايات المتحدة، فستكمن في عدم شمول تأمينات المؤسسة الفيدراليّة لضمان الودائع لنحو ثلثي ودائع المصرف، التي تتخطّى سقف الضمان. وهذا ما سيضع المسؤولين في المؤسسة والاحتياطي الفيدرالي أمام عدّة خيارات، بالنسبة لطريقة التعامل مع هذه الودائع في حال اتخاذ قرار التصفية. وفي جميع الحالات، سيترقّب العالم لاحقًا تداعيات انهيار هذا المصرف على مستوى أسواق المال، إذ سيكون من الطبيعي أن يزيد انهيار أحد أكبر المصارف الأميركيّة من قلق المودعين، تمامًا كما حصل إثر انهيار مصرف سيليكون فالي الشهر الماضي.
علي نور الدين