في بداية الأزمة الإقتصادية، والإجتماعية، والمالية، والنقدية في لبنان، والتي أصبحت اليوم من المتعارف عليها من أكبر الأزمات في العالم، تميّزنا أيضاً بوجود أكثر من 7 أو 8 منصات وأسواق صرف في السوق اللبنانية. سنُركز في هذا المقال على سوق صرف الشيكات بالدولار اللبناني في السوق اللبنانية، منذ بدايتها حتى وصولها إلى «هيركات» يُقارب الـ90%، ومستقبلها.
عندما بدأت الأزمة في أواخر العام 2019، وأُقفلت المصارف أكثر من 12 يوماً متتالياً، كان لدى المصارف اللبنانية ودائع بنحو 180 مليار دولار، كما كان أيضاً لديها ديون عند حدود الـ 55 ملياراً، الذي كان يشكل 110% من الناتج المحلي، والذي كان يقارب الـ 50 ملياراً.
فبعدما فتحت المصارف أبوابها بشكل خجول، هلع المودعون لسحب أموالهم أو تحويلها إلى الخارج، ومن المنطق أن هذه الودائع لم تكن موجودة، لأن قسماً منها كان مديناً للقطاع الخاص، وقسماً آخر كان مُستثمراً بسندات الخزينة والأوروبوندز، والقسم الثالث كودائع في البنك المركزي. فكان مستحيلاً تلبية الطلبات النقدية.
فبدأ المدين تسديد ديونه بتحويلات مصرفية أو بشراء شيكات من السوق. وبدأ بعض المودعين إستثمار ودائعهم بالشيكات، وشراء بعض العقارات، لحماية قسم من ودائعهم. هكذا بدأ تداول الشيكات بطريقة عشوائية وحادة.
فبدأ الشيك يُباع بـ 90% من قيمته في مقابل الكاش، ومن ثم انخفض إلى 85%، ومن ثم 80%، 70%، 60%، وصولاً إلى الـ 10% راهناً. وكان يلحق سوق العرض والطلب. فالواضح أن العرض كان يتزايد يوماً بعد يوم، والمودعون يقبلون الـ«هيركات» الذي يتزايد أكثر فأكثر حتى وصلت الخسائر إلى 90% اليوم.
فمَن كان يشتري الشيك، كان همّه تسديد ديونه بسعر أقل، والذي كان يبيع الشيك كان أولاً يريد الحصول على بعض الكاش، حتى بخسائر لحماية ما تبقّى من ودائعه، أو يراهن على استثماره في بعض العقارات لحماية رزقه بالحجارة والبناء، ويُهرّبه من وجه المؤسسات المالية. وكان هذا الرهان رابحاً وناجحاً، لأن مَن استثمر ودائعه بالعقار منذ بداية الأزمة، بات يستطيع بيعه اليوم بالفريش كاش، وإسترجاع بعض قيمته، حتى ولو بخسائر طفيفة.
كانت سوق الشيكات هذه نشطة جداً للأسباب المذكورة، فالناشطون كانوا يُسدّدون ديونهم، أو مَن يستثمر في العقار، أو مَن يهرب من السوق المالية لشراء الكاش، وبعض الجهات المجهولة التي كانت تراهن على تجميع هذه الشيكات، لربما بُغية أخذ حصص من المصارف يوماً ما إذا حصلت إعادة أي هيكلة، وتثبيت مشروع الـ Bill in. لكن مع مرور الوقت إنخفضت الودائع ووصلت إلى الـ 100 مليار دولار أو أقل.
أما ديون القطاع الخاص فإنخفضت أيضاً ووصلت إلى نحو 15 مليار دولار تقريباً. ففي النتيجة إنخفض العرض والطلب على هذه الشيكات باللولار، وإنخفضت قيمتها حتى وصلت إلى 10%.
من جهة، إن تسعير هذه الشيكات مربوطاً بصرفها بحسب تعميم 151، الذي يلحق التسعير الرسمي، والذي ارتفع إلى 15 ألفا في شباط 2023، ومقارنته بسعر السوق السوداء من جهة أخرى. فعندما تنخفض النسبة بين هذين العاملين ينخفض سوق صرف الشيكات، وإذا إرتفعت على نحو طفيف تلحقه. فالنسبة اليوم هي بتحويل الشيكات بالدولار إلى الليرة اللبنانية بحسب تعميم 151، ومن ثم بيع الشيك بالليرة لشراء العملة بالليرة اللبنانية، ومن ثم شراء الفريش كاش من السوق السوداء أو من منصة صيرفة، حيث يكون تقريباً نحو 12%-13%.
فهكذا يتقلّص سعر الشيكات بالدولار اللبناني من جهة بحسب العرض والطلب لتسديد الديون، ومن جهة أخرى بحسب تعميم 151، ومنصة السوق السوداء، التي توصل في النهاية إلى بعض الدولار الفريش. إضافة إلى كل هذه الضغوط، بدأت المصارف أكثر فأكثر ترفض استقبال الشيكات من غير المصارف، لتخفيف تعارضها ومخاطرها على المصرف المركزي، فتجارة الشيكات تطوّرت وأصبح هناك سعر مختلف بحسب أسماء المصارف، وبدأ عرض وطلب جديد بحسب طلبات السوق.
فيُمكن أن يُتاجر ببعض الشيكات بأسعار أعلى أو أقل بحسب متطلبات السوق والمدينين، وأصبح هناك خيارات انتقائية، في هذه المنصة والتجارة. فبعض الشيكات تُرفض، وبعضها الآخر يُبحث عنها، بعض الأسماء تُشطب، لبعض المخاطر والعقوبات، ولأسباب الإمتثال، وبعض الأسماء البيضاء يُرفع سعر شيكاتها.
الحقيقة المرّة وراء كل هذه التجارة الوهمية، وسوق الشيكات هذه، التي هي «هيركات» مبطّن، تعني أن هذه الدولارات اللبنانية أصبح يُتاجَر بها، كأنها بعض الودائع بالليرة اللبنانية، بحسب سعر الصرف الرسمي، الذي يبلغ أكثر من 85% من قيمته فقط، والإستحصال عليه يكون ببعض السيولة النقدية، حيث تزداد الخسارة إلى ما يقارب الـ5% إضافية. ونصل إلى خسارة 90%، ويتبقّى 10% مما تعب به اللبنانيون مدى حياتهم ولعقود مديدة.
في المحصّلة، إن تجارة الشيكات ستنخفض مع الوقت، تزامناً مع العرض والطلب، وسيتتابع تحويل الودائع باللولار اللبناني، بحسب التعاميم المتتالية، بأسعار بخسة، وبخسائر فادحة. فالكل يريد طمر رأسه بالتراب كالنعامة أمام هذه الجريمة المالية والنقدية وأكبر عملية نهب في تاريخ العالم.
د. فؤاد زمكحل