مع متابعة التطورات الأخيرة لأرقام التضخم والبطالة والنمو تتوقع الأسواق تخفيضات متوالية، وإن كانت محدودة، في أسعار الفائدة العالمية مع النصف الثاني من هذا العام. ومن المتوقع أن يكون كل تخفيض في حدود ربع نقطة مئوية، بما يجعل التخفيض في أسعار الفائدة العالمية التي يقودها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لأقل من نقطة مئوية مع نهاية العام. هذا مع افتراض سلامة المسار من أي مربكات مفاجئة، واطمئنان الأعضاء الاثني عشر في لجنة السياسة النقدية بالبنك الفيدرالي بأنَّ هذه التخفيضات لن تؤثر سلباً على جهود كبح التضخم الذي لم يصل بعد إلى الهدف المعلن، وهو 2 في المائة سنوياً في الأجل الطويل، وأنها ستتسامح مع معدل تضخم أعلى قليلاً مما هو مستهدف في الأجل القصير.
وهذا التحفظ من جانب لجنة السياسة النقدية متفهم بعدما ارتفع التضخم لمعدلات غير مشهودة منذ الثمانينات، وبعد جدل حول طبيعة التضخم هل هي مؤقتة وانتقالية أم مستمرة وهيكلية. وهل كان اشتعال الأسعار لاضطرابات جانب العرض بارتفاع التكلفة لتعطل سلاسل الإمداد، أم جموح الطلب بتيسير نقدي سخي أثناء التعامل مع تداعيات الجائحة كمثل من يسقط أموالاً من طائرات الهليكوبتر فيما وفقاً لصياغة الاقتصادي الأميركي ميلتون فريدمان في عام 1969 للتعبير عن التوسع النقدي.
إذن، من المتوقع أن تنخفض أسعار الفائدة للإقراض والاقتراض من البنك الفيدرالي عن مداها الحالي، الذي يتراوح بين 5.25 في المائة و5.50 في المائة، إلى ما يقترب من 4.50 في المائة و4.75 في المائة مع نهاية العام. ومتابعة لقرارات البنوك المركزية الرئيسية المرتقبة في هذا الأسبوع تحديداً، أشارك الاقتصادي المصري المرموق محمد العريان فيما ذكره عن أنه من غير المتوقع صدور قرار بالتخفيض من البنك الفيدرالي، والأهم هو ما سيصدره من إشارات عن توجهاته بشأن تخفيض أسعار الفائدة مستقبلاً؛ وكذلك الأمر بالنسبة لبنك إنجلترا المركزي، مع احتمال أن يرفع البنك المركزي الياباني سعر الفائدة وفقاً لاعتبارات اقتصاده. أما بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي، فقد أفاد أكثر من ثلثي من شملهم استقصاء للرأي أعده مركز الأبحاث الألماني «زد إي دبليو» عن تخفيض متوقع على مدار الأشهر الستة المقبلة توافقاً مع انخفاض التضخم وتراجع النمو.
مع موجات انخفاض وارتفاع أسعار الفائدة العالمية على مدار العقود الأربعة الماضية، تفاوت أداء البلدان النامية بشدة وفقاً لقدرات اقتصاداتها على الاستفادة من هذه الموجات ومدى كفاءة السياسات النقدية والمالية تحديداً في التعامل معها. ففي ديسمبر (كانون الأول) من عام 1980 شهدت أسعار الفائدة العالمية أقصى ارتفاع لها إذ بلغ سعر الفائدة 20 في المائة للتعامل مع ارتفاع التضخم حينئذ، ثم انخفضت لتصل إلى صفر في المائة في عام 2008 مع الأزمة المالية العالمية، ثم في عام 2020. وكانت تحركات أسعار الفائدة في مجملها مترقبة ومتوقعة بما لا يحمل أي مبررات للمفاجأة من تداعياتها. فعلى سبيل المثال، فقد كتبت على صفحات هذه الجريدة الغراء أغسطس (آب) من عام 2019 ما يلي نصاً عن الاتجاه لتخفيض أسعار الفائدة العالمية، وهذا قبل اندلاع الجائحة بشهور، وصار التخفيض مع انتشارها أوجب وأسرع تنفيذاً في عام 2020: «… فإنه إذا ما تباطأت السياسة النقدية في القيام بدورها مع نزوع أسعار الصرف للثبات ستتزايد تدفقات رؤوس الأموال الهائمة والساخنة ذات الآجال القصيرة والتقلبات العنيفة، محدثة عند دخولها رفعاً لأسعار الصرف الاسمية، وعندما تلوح لها فرصة أفضل مع أسعار فائدة أعلى خارجية تندفع خارجة محدثة توتراً في أسواق النقد والمال. كما أن تخفيض سعر الفائدة على الدولار قد يغري بمزيد من الاقتراض الخارجي أو الإبطاء في إجراءات إعادة هيكلة الديون العامة؛ ولهذا هناك عواقب وخيمة إذا ما عاودت أسعار الفائدة الارتفاع».
واليوم يعاني الكثير من البلدان النامية مما أطلق عليه خبراء البنك الدولي في فبراير (شباط) الماضي «أزمة صامتة للديون» تعيد الذكرى لأزمات الثمانينات بعد الارتفاع الحاد لأسعار الفائدة. فرغم توقع انخفاض أسعار الفائدة العالمية، فإن 28 دولة نامية ذات تصنيف ائتماني ضعيف، و31 دولة نامية أخرى بلا أي تصنيف لن تستفيد من انخفاض نسبي لتكلفة التمويل من الأسواق الدولية، بما يجعل واحدة من كل ثلاث دول نامية تعاني مخاطر ارتفاع الديون وخدمتها التي تلتهم من مخصصات التعليم والرعاية الصحية والمتطلبات الحرجة للتنمية، بما يزيد من حدة الفقر والغلاء والبطالة فيها. وقد عانت بلدان نامية عدة من أنماط إدارة ديونها العامة، بالإفراط في الاعتماد على الاستدانة بأنواعها، مع التهوين من بعضها كالترويج أن طويل الأمد من القروض تنموي بالضرورة دون دراسة للأثر النهائي لها، أو بأن قصير الأجل منها من أشكال الاستثمار، وهي في حقيقتها تدفقات مالية ساخنة سريعة الدخول والخروج، بل الهروب، عند استشعار أي تغير محتمل في عوائدها النسبية. وينبغي أن تتعامل السلطات النقدية والمالية الحصيفة معها وفقاً لما قد تأتي به من منفعة محددة والتحوط ضد مخاطرها.
وأفسر الصمت حول أزمات ديون البلدان النامية أنها رغم كثرتها فهي كنيران متفرقة متناثرة، لكنها بلا تأثير أو مخاطر نظامية على المستوى العالمي؛ فقد تحوط المقرضون الدوليون من مخاطرها فلن تؤثر على محافظهم المالية، ولن ترى معاناة فقراء العالم وبطالتهم على شاشات البورصات فلا يكترث بهم أحد في ظن الكثيرين. ولكن هذا من بعض آثام الظن، فاضطراب اقتصادات هذه البلدان من شأنه الإضرار بسلاسل الإمداد لسلع وخامات أساسية وأسواق للمنتجات، كما يهدد تدهور اقتصاداتها الأمن والسلم الدوليين، ويدفع بالهجرة الاضطرارية دفعاً. فما يبدو اليوم صامتاً متناثراً من أزمات سرعان ما قد يتحول إلى صخب مصحوب بهلع وارتباك جراء الإهمال والتجاهل بدفن الرؤوس في الرمال.