أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

إنحلال الدول وتوقيتها… النموذج اللبناني

يقع لبنان في قبضة أسوأ أزمة اقتصادية ومالية في تاريخه الحديث، لا سيّما أنّها متجذّرة في عقود من الفساد وسوء الادارة من قِبل الطبقة السياسية التي حكمت البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية. هذا وما زالت الطبقة السياسية تقاوم تنفيذ الاصلاحات كما يطالب بها المجتمع الدولي.

منذ بدء الانهيار الاقتصادي، يعيش ثلاثة أرباع سكان لبنان، بما في ذلك مليون لاجئ سوري، في فقر مع تضخّم آخذ بالارتفاع. وأخيراً، حدّد البنك المركزي سعر الصرف الرسمي عند 15000 ليرة للدولار، بينما سعر السوق السوداء يُستخدم الآن في جميع المعاملات تقريباً. ومع التعاميم المتتالية لمصرف لبنان، والتي أقل ما يُقال عنها إنّها تخالف الأعراف الاقتصادية والمالية، وتضرب بعرض الحائط كل الأسس الاقتصادية والمالية، في أكبر عملية رشوة يتعرّض لها شعب بكامله، ألا وهي الصيرفة. أي انّها سياسة ملتوية لإلهاء النّاس عن الأساس ودفعهم إلى المغامرة من أجل مبلغ من المال سيدفعونه حتماً في المحلات التجارية، وهذا ما يُعرف بالاقتصاد بـ «Money Illusion».

حسب البنك الدولي، يعيش لبنان واحدة من أسوأ ثلاث أزمات منذ منتصف القرن التاسع عشر (البنك الدولي- 1 حزيران 2021). والسؤال يبقى، ما مدى سوء الوضع، وكيف تتعامل معه الطغمة الحاكمة، والتي على ما يبدو فقدت شروط ومقوّمات الحسّ الوطني منذ زمن بعيد؟

 

وذكر البنك الدولي، أنّ الناتج المحلّي الاجمالي إنخفض إلى ما يقدّر بنحو 20.5 مليار دولار في العام 2021 من حوالى 55 مليار دولار في 2018، وهو نوع الانكماش المرتبط عادة بالحروب. وفقدت الليرة اللبنانية حوالى % 95 بالمائة من قيمتها، ما أدّى إلى ارتفاع الأسعار وهدم القوة الشرائية في بلد معتمد في إجماله على الاستيراد.

وقالت وكالة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا)، إنّ معدّلات الفقر قفزت بشكل كبير بين السكان، مع تصنيف 80% من السكان على أنّهم فقراء. هذا بالإضافة إلى الخسائر التي عانى منها النظام المالي، حيث تُقدّر الخسائر الاجمالية بحوالى 70 مليار دولار، وقد يرتفع هذا الرقم إذا لم تتمّ معالجة الأمور بشكل جدّي وجذري.

 

يبقى الأهم، أنّ مصرف لبنان يتلاعب بالدولار ويحاول إعادة هيكلة أمواله، علماً أنّ كل هذا يتمّ ضمن خطة تلاعب اسمها «صيرفة»، وإغلاق المصارف أبوابها وتوقف الخدمات العامة. وتتحدّث المؤسسات الدولية عن أنّ لبنان أصبح «دولة فاشلة»، كما انّ حالة الأمن الغذائي مقلقة مع انخفاض قيمة العملة وارتفاع تكاليف المعيشة التي تمنع الأسر من الحصول على ما يكفي من الغذاء والاحتياجات الأساسية اليومية.

يقول عبدالله الوردات، ممثل برنامج الأغذية العالمي والمدير القطري في لبنان: «أصبح عدد الأشخاص الذين يعتمدون الآن على المساعدة في لبنان أكثر من أي وقت مضى». ولبنان اليوم يعتمد معظم شعبه على المساعدات العائلية الخارجية، والتي بلغت في السنوات الأخيرة مبالغ جديرة بالذكر.

 

كلّ الذي ذكرناه غيض من فيض. ويبقى الأهم السؤال الذي يجب أن نطرحه: لماذا كل الدول تتعاون مع صندوق النقد الدولي إلّا لبنان؟ وهل شروطه مستعصية علينا، أم أنّها لا تناسب بعض فئات تعيش على التهريب والسرقة والفساد؟ وهل أنّ ضبط الحدود البريّة والبحريّة أمر غريب في أي دولة؟ أو انّ تطهير الادارة من فائضها ليس بالوارد لجماعات عاشت على هذه الاستنسابية، ضاربة بعرض الحائط مؤسّسات نفتخر بها، لا سيما أنّها تعطي فكرة واضحة عن بلدٍ بات محلولاً، وتضرب بعرض الحائط كل ما سعى رجالات لبنان لبنيانه، لا سيما المجلس التأديبي ومجلس الخدمة المدنية وغيرها من المؤسّسات التي أصبحت بحكم المنسيّة؟ وهل نحن على خصام مع المجتمع الدولي والمؤسّسات الدولية، ونرفض معونتها الّا بشروطنا؟ وما هي هذه الشروط سوى الإبقاء على الفساد والسرقة والتهريب، لطبقة حكمت البلد منذ سنين ولا تزال؟

يبقى القول، إنّ التزامنا مع صندوق النقد الدولي يبقى المخرج الوحيد للخروج من هذا النفق المظلم، ويضع لبنان على سكة الخلاص، الّا إذا كان المسؤولون فيه يطبّقون أجندة عمل أجنبية تسعى بلبنان إلى الخراب والزوال. ويبقى السؤال: هل نحن ندق أبواب التقسيم والكانتونات المذهبية، وهذا وللأسف ليس بالغريب في ظلّ ما يحدث من تجاذبات تأخذ منحى طائفياً، وتجيّش عامل الفرقة والتفاوت في التفكير بين مختلف فئات المجتمع اللبناني؟

 

أما الوقت والتوقيت فهو عالمي، والجدل والاستنسابية لا ينفعان في مثل هذه الحالة.

 

بروفسور غريتا صعب

أكبر عملة بالليرة أقل من أصغر عملة بالدولار

 

نعيش اليوم تاريخاً أسود من تاريخ لبنان، سيُسجّل في الكتب الداخلية وأيضاً في كل كتب تاريخ الإقتصاد العالمي، ويُعرف بأكبر عملية نهب وتدمير ذاتي، وأكبر أزمة إقتصادية، مالية ونقدية ستُحفر في التاريخ الدولي. وقد أصبحت أكبر عملة ورقية لبنانية (ورقة المئة ألف ليرة) تُوازي أقل من أصغر عملة ورقية بالدولار الأميركي. وتتواصل هذه الخطة من التدمير الشامل والمعتمد يوماً بعد يوم.

لقد خسرت العملة الوطنية حتى اليوم أكثر من 98% من قيمتها، وانهار سعر الصرف من 1500 ألف ليرة إلى 120 الفاً، أي 80 مرة أكثر، في ظل غياب أي خطط لأي نيّة للإصلاح، لا بل ثمة نيات لمتابعة التدمير الذاتي والشامل.

نذكّر بحزن وأسف، أنّه خلال سنوات الحرب الأهلية، كان الدولار الأميركي يُوازي 3 ليرات لبنانية ثم تدهور وانهار حتى وصل إلى 3300 ليرة للدولار، يعني 1100 مرة أكثر.

أما اليوم، بعد نحو 40 عاماً، ها هو التاريخ يعيد نفسه، حيث بلغ تدهور الليرة نحو 80 مرة حتى اليوم، وليس له أي آفاق ولا حدود، ويُمكن أن يصل إلى زيادة أصفار وعشرات ومئات الآلاف في خلال أيام قصيرة.

فالتدهور النقدي مستمر، من دون خطط واستراتيجيات ونيات لوقف النزف، والخسائر التي يتكبّدها الشعب الكادح والاقتصاد الأبيض.

في وجه هذه الخسائر الفادحة والضخمة، من قِبل الرياديين والمبتكرين والمستثمرين، هناك أرباح فادحة من قِبل المروّجين والمهرّبين والمبيّضين، الذين لهم مصلحة مباشرة ومستمرة جراء هذا الانهيار والتهديم.

لوكان هناك نية حقيقية لوقف الإنهيار، كان أولاً قد بدأوا وأجبروا الاقتصاد على متابعة سوق صرف موحّدة ورسمية، وليست منصّات هاتفية غامضة، لا نعرف مَن يديرها وبأي طريقة تعمل؟

لو كان هناك نية حقيقية جدّية، لكانت الأولوية لإعادة تنشيط الدورة الاقتصادية والنمو والاستقرار للقطاعين العام والخاص. شئنا أم أبينا، مهما كان التمويل والمساعدات والمؤتمرات من دون إعادة النمو والدورة الاقتصادية، ولا سيما الثقة، لا يُمكن إعادة سنت واحد للمودعين.

لا يمكن أن نحلم بإعادة نمو وثقة، من دون إعادة تمكين وعمل مؤسسات الدولة، والمؤسسات الخاصة والمالية، لتمويل النمو والاقتصاد الجديدين.

عندما اختلفت دول المنطقة، اختلفنا في لبنان، بعد أكثر، ورفعنا سقف الخلاف، والتشنجات، أما حين اتفقوا فكان تغييبنا سيّد الموقف، واستمررنا بالخلافات والتجاذبات الداخلية عينها، من دون أي حدود وحتى أي أهداف إلاّ الأهداف التخريبية، الذاتية والتدميرية.

مرة أخرى يُبرهن العالم لنا، أننا لم نعد من أولويات وحتى أجندات الدول، والحقيقة المرّة، التي لا نريد مواجهتها، وتصديقها، هي أنّ التدهور المالي والنقدي والإقتصادي سيستمر أكثر فأكثر، وسيزيد سعر الصرف ليس بالعشرات لكن بالمئات، ولا سقف لهذا التدهور المعتمد الراهن.

إنّ هذا البرنامج والحلقات وهذه المسرحية التدميرية مستمرة، بهدف واضح هو تدمير ما تبقّى من الاقتصاد الأبيض، وهدر ما تبقّى من أموال المودعين البخسة، ودعم الاقتصاد الأسود، والسوق السوداء المظلمة، والتبادل التجاري العشوائي والتدميري، وجذب كل الأيادي السود العالمية إلى منصتنا، وإلى أرضنا اليابسة.

لا شك في أنّ اقتصادنا يلين وشعبنا ينزف، لكن نذكر بفخر، أنّ إرادتنا لم ولن تُهدم، والرياديين والمبتكرين والمستثمرين لم ولن يستسلموا، وستبقى شعلتنا مضيئة ولا تنطفئ، ومرونتنا وصمودنا في قلب معركتنا المصيرية.

د. فؤاد زمكحل

من أين الدولارات للدولرة الشاملة في لبنان؟ المشروع بدأ منذ الثمانينات!

منذ انكشاف حجم الانهيار المالي- النقدي- المصرفي أواخر عام 2019 بعد تراكم احتقان متمادٍ منذ انقلاب المؤشرات الاقتصادية، لاسيما منها ميزان المدفوعات عام 2011، حتى أصبحت فجأة الإشكاليات الاقتصادية، ولاسيما النقدية، مادة سجال واسع النطاق وتجاذب إعلامي ونقاش مفتوح، بينما جوهر البحث يحتاج حداً أدنى من مرتكزات علمية دقيقة، لا يمكن فلشها بشكل شعبوي مهما حاولنا تبسيطها. اليوم، وبعد سقوط نظام سعر الصرف المرن في لبنان، واستحالة اعتماد نظام سعر صرف عائم في ظلّ معدّل دولرة جزئية جداً جداً مرتفع، الاتجاه الواقعي هو نحو نظام الربط الصارم لسعر الصرف المتمثّل بالدولرة الشاملة الرسمية أو رديفها «مجلس النقد»، إستناداً الى جميع النظريات العلمية النقدية المعروفة في كل الأدبيات الاقتصادية والتجارب الدولية المماثلة.. السؤال المركزي، لم يعد إذا كان يمكن الذهاب نحو هذا الخيار أو غيره. إنما كيف وبأي شروط وآلية يمكن تسهيل عملية الانتقال وضمان استدامتها؟ طبعاً الآلية التطبيقية العلمية لها أسسها وأركانها التي تحتاج تخصّصاً معروفاً، إنما من حق الرأي العام الاجابة عن السؤال البديهي الذي يرفعه الجميع: من أين الدولارات للدولرة الشاملة؟

قبل حرب 1975-1990 في لبنان، في نهاية عام 1974، لم تكن تتجاوز الودائع بالعملات الأجنبية (823 مليون دولار أميركي) 18% من إجمالي الكتلة النقدية في البلاد، وكانت أقل بكثير من الأصول الخارجية للعملات الأجنبية للنظام المصرفي (2.11 مليار دولار). وهذا يعني أنّ معظم العملات الأجنبية التي كانت تدخل لبنان كانت تحوّلت إلى ليرة لبنانية، ما أدّى إلى ارتفاع قيمة العملة الوطنية.

منذ اندلاع الحرب عام 1975، تراجعت التحويلات من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية تدريجيًا، وانعكست في النهاية مع اندلاع عملية الدولرة الجزئية غير الرسمية الناتجة من الاختيار الحرّ للقطاع الخاص، في أعقاب التدهور الحاد في شراء الطاقة للعملة الوطنية، خلال الأزمة النقدية في الثمانينات، لا سيما مع التضخم الجامح في عام 1987 الذي تلاه انخفاض حاد في قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والذي بلغ ذروته في عام 1992. وجاءت الزيادة في الودائع بالعملات بعد ارتفاع فائض ميزان المدفوعات تقريبًا، في نهاية عام 1992، 63% من إجمالي المعروض النقدي. خلال هذه الفترة، بدأ الدولار الأميركي يحتل مكان الليرة اللبنانية بوظائفها الثلاث: وحدة التسعير والحساب، وسيط التداول والدفع في التبادل التجاري، والادخار. ارتفع سعر الصرف، الذي كان قبل الحرب 3 ليرات لبنانية/ دولار أميركي، إلى أكثر من 2850 ليرة لبنانية / دولار أميركي في نهاية عام 1992.

منذ عام 1993، تخلّى لبنان عن نظام سعر الصرف العائم ليتبنّى نظام ربط انزلاقي من 1993 إلى 1997، يسمح بتخفيض سعر الصرف تدريجيًا حتى تطبيق نظام الربط المرن لعملة واحدة، يربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي بسعر الصرف بهامش 1501-1514 ومعدّل متوسط 1507.5 منذ عام 1997.

في الوقت نفسه، منذ عام 1993، بدأت تتنامى الفجوة بين نمو الودائع بالعملات الأجنبية والأصول الخارجية للنظام المصرفي، وأخذت تتسع تدريجياً. وفي محاولة لاستعادة الثقة بالليرة اللبنانية، إنتهج مصرف لبنان سياسة ترسيخ قيمتها، ولكن كان لها تأثير سلبي يتمثل في تعميم استخدام الدولار في المدفوعات الداخلية، خصوصاً بعد إنشاء غرفة المقاصة للشيكات بالدولار الأميركي بدءًا من عام 1994. وبعدها تطوّرت الدولرة باتجاه أجهزة الصرّاف الآلي التي أخذت تمتلئ بالدولار الأميركي، خلافًا لما هي حال جميع البلدان التي لا تملأ أجهزة الصراف الآلي سوى بالعملة الوطنية التي يمكن للمصرف المركزي للبلاد طباعتها، خشية من تعميم التداول الورقي بالعملة الأجنبية واستخدامها لتبييض الأموال والمضاربة على العملة الوطنية في السوق السوداء…. ثم تضمن العملة الوظيفة الثالثة لأي عملة، وهي أن تكون أداة صرف. وقد تمّ تأكيد هذا الاتجاه مع تثبيت سعر الصرف عند 1507.5 ليرات لبنانية بدءًا من نهاية عام 1997. وبالتالي، فإنّ المدفوعات بالدولار لا تتمّ فقط عن طريق بطاقات الدفع أو الشيكات المسحوبة على الودائع، ولكن أيضًا عن طريق الأوراق النقدية. بالإضافة إلى السماح بعمليات التحويل التلقائي من الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي. وأدّى استخدام العملة كأداة دفع إلى تطوير منح قروض مصرفية للقطاع الخاص بالدولار الأميركي للسوق الداخلية، ومنحها حتى لمن مدخولهم بالليرة اللبنانية، بما في ذلك من مخاطر تقلّب سعر الصرف وعدم إمكانية السداد كما حصل بعد 2019، حتى تمّ السماح لهم بالتسديد بالليرة اللبنانية وعلى سعر الصرف الرسمي. وهذه خيارات تؤدي في جميع مصادرها إلى خلق المزيد من النقد عن طريق «مضاعف الائتمان» .. حيث يتبيّن صوريًا أنّ الودائع تتزايد بالدولار، وهي معظمها مجرّد تحويل ودائع من الليرة إلى الدولار من دون غطاء دخول دولار فعلي وتحديداً من تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ عام 2011. وكذلك عمدت الدولة اللبنانية إلى دولرة متنامية للدين العام، بما في ذلك من مخاطر صعوبة التسديد، وتوّجهتها من خلال «الهندسات المالية» التي كان من أهدافها تخفيض وهمي لخدمة الدين العام، لأن الفوائد على الأوروبوند أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية (بفعل فرق عامل المخاطرة بين العملتين) فضلًا عن محاولة تسويق الأوروبوند في الأسواق المالية الدولية (الأمر غير الممكن بالنسبة لسندات الخزينة بالليرة اللبنانية).

تمّ الحفاظ على هذا الوضع طالما كان ميزان المدفوعات فائضًا، أي حتى عام 2011 الذي بدأ فيه ميزان المدفوعات في تسجيل تراكم للعجز (باستثناء عامي 2016 و 2017 بسبب «الممولين الهندسيين»، والذي جعل من الممكن جذب رأس المال بالدولار الأميركي من الخارج لاستثمارها في سندات اليورو وشهادات الإيداع بالدولار الأميركي لدى مصرف لبنان). منذ عام 2011، اتسعت الفجوة بطريقة بارزة، مثل «تأثير القمع» بين الودائع بالدولار الأميركي التي كانت تتزايد بوتيرة متسارعة، والأصول الخارجية للنظام المصرفي التي بدأت في الانخفاض، مما قلّل تدريجيًا من القدرة على تلبية جميع طلبات سحب ودائع العملاء بالعملة الأجنبية في عام 2019 ، مما سلّط الضوء على انهيار نظام 2019، مع العلم أنّ مصرف لبنان لا يستطيع طباعة الدولارات لتزويد المصارف، واحتياطياته من العملات الأجنبية بدأت في النضوب (بسبب التدخّل المستمر على العملات الأجنبية) في سوق الصرف للحفاظ على تثبيت سعر الصرف، ومشاركته في تمويل الدولة سواء عن طريق سندات الأوروبوند أو التمويل المستمر لشراء الوقود للكهرباء أو لضمان الدولارات للواردات المختلفة بسعر الصرف الرسمي، فضلًا عن سياسة الدعم ومن ثم منصة صيرفة»..

باختصار، كل الأمكنة التي تمّ فيها توظيف الودائع بالدولار الأميركي (الدولة والمصرف المركزي والقطاع الخاص) تخلّفت عن إعادتها بالدولار الفعلي النقدي الى المصارف، فهي إما أعلنت العجز عن السداد (الدولرة) أو سدّدتها بالليرة اللبنانية أو بشكل تدريجي أقل من قيمتها وفق سعر السوق..

بعد تجاوز عتبة 80% من الدولرة الجزئية في لبنان، لم يعد المقدار الضروري من احتياطيات العملات الأجنبية مرتفعًا للتحول المحتمل إلى نظام الربط الصارم عبر الدولرة الشاملة، لأنّه يحتاج فقط تغطية القاعدة النقدية بالدولار الأميركي (وليس كل الكتلة النقدية): أي النقد المتداول خارج النظام المصرفي، بالإضافة إلى الاحتياطيات الإلزامية بشكل أساسي على الجزء من الودائع التي سيتمّ سدادها «بالدولار الأميركي الجديد» بالإضافة إلى الحدّ الأدنى من الودائع التي سيتمّ تحويلها إلى الليرة اللبنانية (لأنّه سيتعيّن تقسيمها على سعر السوق بعد شهر من التعويم الحرّ، لتحويلها مرة أخرى إلى «دولارات جديدة»). فليس من الضروري تكوين احتياطيات إلزامية على جزء من الودائع التي سيتمّ تحويلها إلى أسهم وسندات. إذا اعتبرنا مثلًا أنّ مجموع الأوراق النقدية المتداولة هي 75 تريليون ليرة لبنانية أو بسعر صرف 100.000 كاليفورنيا يتطلّب: 0.75 مليون دولار أميركي) التغطية اللازمة للودائع بالدولار الأميركي حتى 100،000 دولار أميركي وفقًا لخطة الحكومة اللبنانية: 19 مليار دولار والتي تتطلب احتياطيات مطلوبة (14%) بقيمة 2.66 مليار دولار (بمعدل مرجعي 100،000 يبقى 2.66 مليون دولار أميركي).

الودائع المتبقية بالدولار الأميركي: 101394 – 19 = 82394 مليار دولار (والتي لن يتمّ إرجاعها جديدة ولا تتطلب تغطية كاملة في الاحتياطيات الجديدة .. يجب تحويلها إلى ليرة لبنانية ثم تقسيمها على سعر الصرف في السوق. افترض أنّ التحويل إلى ليرة لبنانية بسعر 15000 ثم أقسم على 100000 للتحويل إلى دولار أميركي جديد، للاحتفاظ باحتياطي 14% (بمعدل 100000: 14% * 82494 * 15000/100000 = 1.732 مليون دولار أميركي). الودائع بالليرة اللبنانية: 47535 مليار ليرة تُقسّم على 100،000: 0.475 مليون دولار.

بذلك يكون المبلغ المطلوب من الاحتياطيات بالدولار الأميركي لتغطية القاعدة النقدية بسعر السوق البالغ 100000 دولار أميركي / ليرة لبنانية، ستتمّ تغطية القاعدة النقدية فقط بـ :: 0.75 + 2.66 + 1.732 + 0.475 = 5.617 مليار دولار.

وبحسب الميزانية العمومية لمصرف لبنان في آذار 2023 ، تبلغ الاحتياطيات المتبقية في مصرف لبنان بالدولار الأميركي 9.5 مليار دولار، إضافة إلى 5.03 مليارات دولار من سندات اليورو التي أعلنت الدولة اللبنانية عن عدم سدادها. فيما بلغ احتياطي الذهب حوالى 16.65 مليار دولار. وسيحدّد هذا المبلغ من الدولارات الحجم الفعّال الجديد للاقتصاد، وسيُلزم الدولة باعتماد صرامة في الميزانية لتجنّب حدوث عجز وإلزام البنك المركزي بتكوين أموال لتغطيتها.

الانتقال إلى الدولرة الشاملة هو أعلى مستوى للإصلاح النقدي الذي يجب أن ترافقه مجموعة من الإصلاحات المالية والمصرفية والاقتصادية والإدارية اللازمة … والصدمة الإيجابية الناتجة من هذا الانتقال ستعيد الثقة في الاقتصاد اللبناني وبعودة الاستقرار في الحسابات بعملة دولية ثابتة، وتشجيع الاستثمار والنشاط الاقتصادي والسياحي وسرعة تداول الدولارات المجمّدة اليوم من قِبل الأفراد والشركات خوفاً من الغد.

إنّ القرار الرئيسي بوضع حدّ لازدواجية النقد التي تسبّب اليوم كل الفوضى في الأسواق، وأبشع أنواع قلّة العدالة بين أفراد المجتمع الواحد والتفاوتات الاجتماعية الناتجة من دولرة كل الفواتير حتى منها احتساب كلفة خدمات الدولة، فيما لا يزال جزء كبير من المواطنين يتقاضى مدخوله فقط بالليرة اللبنانية..

طباعة الليرة المستمرة، لم تعد اليوم سوى مصدر فقر لحامليها ومصدر ثروة للمضاربين عليها والمتسببين بتدهور قيمتها…

د. سهام رزق الله

ماذا كشفت ميزانية المركزي الأخيرة؟

تظهر أرقام ميزانية مصرف لبنان الاخيرة تراجعاً كبيراً للنقد بالتداول، أي السيولة بالليرة اللبنانية من 83 تريليون ليرة الى 68 تريليون ليرة، لتمثّل فقط ثلث حاجة السوق من متوسط السيولة. في المقابل وبدلاً من ان يتراجع الدولار، فإنه ما زال يحقق مستويات قياسية. فما الاسباب؟ وما كانت تداعيات قرار المركزي الاخير بشراء الليرة من السوق؟

تعكس ميزانية مصرف لبنان نصف الشهرية للفترة الممتدة بين 28 شباط 2023 و15 آذار، والتي صدرت مؤخراً، نتائج تداعيات قرار المصرف المركزي الصادر في الاول من آذار بالتدخل في السوق بائعاً للدولار وشارياً لليرة وفق سعر منصة صيرفة 70 الفاً.

وفي السياق، يشرح الخبير الاقتصادي بيار الخوري انّ الميزانية نصف الشهرية للمصرف المركزي كشفت عن ارتفاع طفيف في الاصول من 442 مليار ليرة الى 443 مليار ليرة، عازياً ذلك الى تقليص المصرف المركزي خلال هذه الفترة النقد بالتداول من 83 تريليون ليرة اي ما يساوي تقريباً حوالى مليار دولار وفقاً لسعر الصرف في السوق السوداء الى 68 تريليون ليرة بما يوازي حوالى 680 مليون دولار وفقاً لسعر السوق السوداء، متراجعة بذلك حوالى 15 الف مليار ليرة اي نحو 200 مليون دولار وفقاً لسعر صيرفة التي اشترى الدولار على اساسه.

تابع: كان يتوقع ان يؤدي تقلّص السيولة بالعملة اللبنانية من السوق الى تراجع في سعر الدولار في السوق السوداء، لكن ما حصل هو العكس تماماً حتى تخطى الدولار الواحد المئة الف ليرة رغم ان المركزي ضخّ خلال الفترة الممتدة من الاول من آذار الى 15 منه نحو 200 مليون دولار في السوق. فلماذا لم يتراجع الدولار؟

ويشرح الخوري ان النقطة الابرز التي يجب التوقف عندها في ارقام ميزانية المركزي هي حركة «النقد بالتداول» لأنه في اقتصاد يعتمد على الكاش، ويغيب اي دور للمصارف فيه، تشكل كل السيولة الموجودة اليوم بالليرة في السوق حجم «النقد بالتداول»، وبدل ان ترتفع مع ارتفاع الدولار ومع الحاجة المتزايدة لليرة بنتيجة الارتفاع اليومي والمتواصل لاسعار السلع، وارتفاع الضرائب والرسوم والدولار الجمركي الى 45 الفاً مؤخّراً تقلّصت، عازياً ذلك الى تدخّل المركزي الاخير شارياً لليرة، بحيث ما عاد حجم الكتلة النقدية او السيولة المتوفرة في السوق يكفي لتلبية الاكلاف المرتفعة المطلوب تسديدها نقداً.

وتابع الخوري: انّ كل السيولة الموجودة اليوم في السوق لا تعادل قيمتها الحقيقية الـ 650 مليون دولار وفقاً لدولار السوق السوداء. في المقابل ومع بداية الأزمة في اواخر العام 2019 كان حجم الكتلة النقدية في السوق حوالى 9000 مليار اي 6 مليارات دولار، وبينما كان يتوقع ان يتقلص حجم السيولة كنتيجة طبيعية لتقلص حجم الاقتصاد الى حوالي الملياري دولار كي تكفي حاجة الناس نلاحظ انها تراجعت الى 650 مليون دولار، اي بما يوازي ثلث الكمية التي كان يجب ان تكون في السوق لتكفي حاجة اللبنانين وتحريك شريان الاقتصاد.

وعن الاسباب، يشرح الخوري ان المركزي ما عاد قادراً على ضخ دولارات لتكبير حجم النقد بالتداول تخوّفاً من انهيار أكبر واسرع بالليرة. والواضح ان المصرف المركزي في مأزق اليوم، اذ انه في السابق كان كلما زاد التضخم عمدَ الى ضخ ليرة لبنانية في السوق، وكانت ترتفع السيولة لتوازي نسبة التضخم، لكن ما حصل مؤخراً ان التضخم استمر بالارتفاع مسجّلاً زيادات شهرية مخيفة، ورغم ذلك عَمد المركزي في تدبيره الاخير الى امتصاص مزيد من السيولة بالليرة لأنه يعلم انّ ثمن ضَخ سيولة بالسوق هذه المرة سيكون باهظاً جداً. الا انّ هذا التدبير أدخلَ الاقتصاد بمأزق، فمن جهة ضَخ السيولة سيسرّع أكثر بانهيار الليرة أما سحبها من السوق فيكربج الاقتصاد. وبالتالي، نحن امام طريق مسدود، والمركزي مُجبر على ضخ مزيد من السيولة في السوق لأن مستوى الاسعار ما عاد يتوافق مع حجم النقد بالتداول الذي هو أصغر رقم اليوم من ضمن بقية البنود الكبرى الواردة في جدول ميزانية المركزي.

ورداً على سؤال، أوضح الخوري ان المواطن لم يشعر بضيقة السيولة لأنه بات يدفع اغلبية مصاريفه بالدولار مباشرة ما يرفع من حجم الدولرة بالاقتصاد، لافتاً الى انّ تدبير المركزي دفع باللبناني الى إخراج دولاراته للدفع، وهذا جزء من مسار الدولرة الشاملة.

وتابع: انّ استمرار قبول الدفع بالليرة اللبنانية في مرافق الدولة يؤكد انّ هذه العملة ورغم انهيارها لا تزال عملة اساسية بالتداول. وهذا الأمر يجعلنا ايضا امام خطرين: الاول: دولرة تسويات المدفوعات كنتيجة طبيعية لتقلص حجم الكتلة النقدية. والثاني: انّ اي تكبير للكتلة النقدية يجعلنا امام انهيار اكبر واسرع لليرة.

اما كيف يرتفع الدولار في السوق السوداء في مقابل تقلّص الكتلة النقدية في السوق؟ يؤكد الخوري انّ هذا اكبر دليل على ان سعر الدولار هو في جزء منه لعبة سياسية للمسيطرين على السوق الذين يستعملون السوق كورقة ضغط سياسية.

إسترجاع الودائع… وهم وكذب أو حقيقة وواقع؟

يكون استرجاع الودائع كاذباً ووهماً عندما يُجرّ الشعب بوحول السياسة، وتتبارى بعض المجموعات السياسية والحزبية لتحريك الشارع لأهداف شخصية، ومن دون أي نية حقيقية لحماية الشعب الكادح والمذلول. فالهدف الواضح جرّ البلاد إلى الفوضى الشاملة والإنهيار الكامل لضرب ما تبقّى من الأمن وطمر جرائمهم.

يكون استرجاع الودائع وهماً وكاذباً عندما تكون الإستراتيجية الأساسية المتبعة، سياسة التجميد والشلل والمقاطعة، والتدمير الذاتي لكل مؤسسات الدولة، لطعن العدالة وما تبقى من الحقوق والحقيقة.

يكون استرجاع الودائع وهمياً وكاذباً عندما يتحوّل هذا المشروع إلى خطة إفلاسية وتصفية عوضاً من أن تكون إصلاحية ولإعادة الهيكلية. فإذا نُفذت هذه الخطة لن يصل للمودعين أي قرش من ودائعهم حتى على المدى الطويل.

يكون استرجاع الودائع وهمياً وكاذباً عندما تنشأ بسحر ساحر يوماً بعد يوم، شركات وهمية، وسوق موازية أو السوق السوداء الموازية، ليستفيد منها مَن سرق ودائع المودعين، أو مَن يدّعي أنهم يُخلّصون الودائع بأثمان بخسة، وهم المسؤولون وسارقو الودائع الأساسي، فيُبنى اقتصاد أسود ليُدمّر ما تبقى من الإقتصاد الأبيض، كي يُهرّب المستثمر والريادي والمبتكر، ويُستقطب المروّج والمهرّب والمبيّض.

يكون استرجاع الودائع حقيقياً وواقعياً، عندما نبدأ تحديد قيمة الودائع في تاريخ معين، بعد شطب بعض الفوائد الفادحة وبعض التحويلات غير المنطقية، فحسب مرصد صندوق النقد الدولي إن الودائع الرسمية والمفترضة تُراوح بين 70 و75 مليار دولار. فنقطة الإنطلاق تبدأ عندما تعترف الدولة بمسؤوليتها وتلتزم استرجاع جزء منها، على المدى القصير، المتوسط والبعيد، حينئذ تُجبر المصارف على تحديد نسبة مسؤوليتها وتلتزم دورها باسترجاع جزء من هذه الودائع المتراكمة على المدى القصير والمتوسط والبعيد.

يكون استرجاع الودائع حقيقياً وواقعياً عندما تبدأ فعلياً جدولة هذه الديون وتنفيذ الإسترجاع بطريقة دقيقة وشفافة.

يكون استرجاع الودائع حقيقياً وواقعياً عندما تُحدد المسؤوليات ويوضع جدول الإسترجاع على المدى القصير، المتوسط والبعيد. وحينئذ يُعاد تنشيط مؤسسات الدولة، والقطاع المصرفي ليكون منتجاً وقادراً على تحقيق الأرباح كي يستطيع تنفيذ إعادة الجدولة.

يكون استرجاع الودائع واقعياً وحقيقياً، عندما تبدأ الدولة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتعطي جزءاً من الملكية للمودعين المغدورين والمطعونين.

يكون استرجاع الودائع حقيقياً وواقعياً عندما نُعيد الدورة الإقتصادية وبناء النمو وجذب الإستثمار، فنعيد بناء الثقة الداخلية والخارجية، ونبرهن نية حقيقية لإعادة الهيكلية وإعادة الجدولة بطريقة منتظمة ومستمرة.

في المحصّلة، إن الوعود التي نشهدها اليوم ليس فيها شيء من الحقيقة والواقعية، لكنها وعود وهمية وكاذبة وتكملة لكابوس النهب الجماعي والتدمير الذاتي المُستدام. لا عتب على الذين يقدمون وعوداً وهمية وشعارات كاذبة على الشاشات والمنصات، لكن العتب على الذين يصدقونهم ويصفقون مرة أخرى لجلاّديهم الذين ينهبونهم أكثر وأكثر.

د. فؤاد زمكحل

قصة استيلاء الدولة على الودائع خلال 12 عاماً

بعد أكثر من ثلاث سنوات على بدء الانهيار المالي والاقتصادي، بات هناك قناعة مكوّنة من شقين: أولاً، انّ الاطراف الثلاثة المسؤولة عن الأزمة هي الدولة، مصرف لبنان والمصارف. وثانياً، انه اذا لم تشارك الدولة في تسديد ديونها، أو جزء منها، فإنّ مصير الودائع لن يكون واعداً.

في توزيع المسؤوليات، لا يزال هناك خلاف على التراتبية بين الاطراف الثلاثة، بمعنى ان البعض يعتبر ان المصارف مسؤولة أولاً، ومن ثم مصرف لبنان واخيراً الدولة. في حين يعكس آخرون هذه التراتبية، ويضع الدولة على رأس قائمة المسؤولية وبعدها المركزي ومن ثم المصارف. وفي موضوع تسديد الدولة لديونها، هناك وجهات نظر متضاربة، اذ يعتبر البعض انّ المسؤول ليس مَن اقترض وأنفَق، بل مَن وافق على الاقراض.

في النتيجة، تبدو المواجهة اليوم أبعد من مسألة تتعلق بالتشريعات ووحدة المعايير في القضاء، لتصل الى عمق الأزمة، أي الى الخاتمة التي ستنتهي إليها هذه الأزمة. وفي هذا السياق، تبرز نية السلطة في التنصّل من اية مسؤولية، بذريعة عدم القدرة على تنفيذ أية خطة إنقاذية، اذا لم يتم شطب ديونها، والبدء على بياض.

من هنا، ستكون المواجهة قاسية بين السلطة والمصارف، في حين انّ بعض جمعيات المودعين، ولأسباب غير مُقنعة، لا تتدخل في هذه المعركة الحاسمة، مع انّ نتيجتها ستقرّر مصير أموال المودعين. وما يؤكد على قساوة المواجهة، مضمون الدعوى التي تقدمت بها جمعية المصارف اللبنانية الى مجلس شورى الدولة لِوقف تنفيذ البند 3 من قرار مجلس الوزراء تاريخ 20/05/2022. والقرار المُستهدف بالدعوى يتناول ما أطلقت عليه الحكومة في جلستها الاخيرة قبل ان تتحول الى حكومة تصريف اعمال، تسمية «خطة الحكومة للتعافي المالي والاقتصادي»، وضَمّنتها وثيقة بعنوان «استراتيجية النهوض بالقطاع المالي» قضت في البند الثالث منها بـ»إلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف اللبنانية لخفض العجز في رأس مال المصرف المركزي».

وفي قراءة مضمون الشكوى التي تقدمت بها المصارف، هناك اتهام واضح للسلطة بمصادرة اموال المودعين ومحاولة تملّكها بالقوة، من خلال إصدار قرارات وزارية، كما هي حال القرار الصادر في 20 ايار 2022. وتصف المصارف في احد بنود الادّعاء، ما جرى على الشكل التالي: «بعد قيام الدولة اللبنانية بمصادرة ودائع المصارف لدى مصرف لبنان والتصرّف بها وتَملّكها ما بين 2010 و2021 من دون الإعلان عن ذلك في حينه، وبالتالي فإنّ القرار المَشكو منه لا يتعلق بعمل مستقبلي تنوي الحكومة القيام به، بمعنى أن القرار لا يعبّر عن رغبة الدولة اللبنانية في المستقبل ‏بالاستدانة من مصرف لبنان بما يوازي الودائع الخاصة لديه وتملّكها نهائياً، بل انّ القرار المشكو منه هو قرار استلحاقي أتى لإعلان a posteriori وبمفعول رجعي أن تملّك الودائع الذي نفذته الدولة اللبنانية وانتهت من تنفيذه من دون أن تسميه في حينه كذلك، أصبح بموجب القرار تملكاً نهائياً».

وتستعين المصارف بكلام حاكم مصرف لبنان، والذي كشف فيه «انّ الدولة استدانت من مصرف لبنان ما بين العام 2010 والعام 2021 مبلغ 62 مليار دولار، وأنّ هذا المبلغ مساوٍ لديون مصرف لبنان تجاه المصارف اللبنانية من جهة، وموجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية من جهة أخرى. وبالتالي، مساوٍ لأموال المودعين لدى المصارف اللبنانية».

وهكذا تكون الدولة قد قررت، وبمفعول رجعي، الاستيلاء على اموال المودعين، بقرار يكرّس استيلائها ومصادرتها لأموالهم. وبذلك تحاول الدولة جَعل المودعين يحلّون مكانها في دفع الخسائر، «عبر تحويل المبالغ التي استدانتها الدولة وأنفقتها من ودائع المودعين من دين إلى ملكية نهائية».

هذه باختصار الروحية التي بَنت عليها المصارف مضمون الدعوى ضد الدولة اللبنانية. وهي تُظهر، بما لا يقبل الشك، في انّ المواجهة المثلّثة الأضلع، بين الدولة ومصرفها المركزي، والمصارف والمودعين ستكون مُحتدمة في المرحلة المقبلة. خصوصاً ان المشكلة ستبرز ايضاً على مستوى تحديد المسؤولية في موافقة المركزي على إقراض الدولة، وهل ان بنود قانون النقد والتسليف تغطي هذا الامر؟

يبقى انّ هذه الاشكالية ترتبط بديون أخذتها الدولة ولا تريد تسديدها، وتبيَّن انها اموال المودعين. ولكن السؤال الآخر المطروح، كيف سيتم التعاطي مع 20 الى 24 مليار دولار تمّ إنفاقها من اموال المودعين ايضاً، منذ اندلاع الأزمة، من خلال ما عُرف بسياسة الدعم؟ هل يمكن اعتبار هذه الاموال بمثابة ديون ام مجرد قرار بمصادرة اموال الناس، بذريعة انّ الضرورات تبيح المحظورات؟

التعقيدات كثيرة ومتشعّبة، لكن المعالجات العقلانية، وبصرف النظر عمّا يقوله القانون، تبدأ بمقاربة واقعية تسمح بالوصول الى نتائج مقبولة لكل الاطراف المعنية بالأزمة، وكل ما عَدا ذلك أشبَه بفقاقيع لملء الوقت الضائع، وزيادة الانهيار عمقاً وضرراً.

انطوان فرح

الليرة تنهار… شطب أصفار أم ورقة المليون؟

إستغرقت رحلة انهيار الليرة وصولاً إلى دولار الـ 100 الف حوالى 3 سنوات ونصف من التخبّط في إدارة الأزمة المالية، إنهارت خلالها الليرة 98.5%، أي 60 مرة أكثر مما كانت عليه عشية 17 تشرين الاول 2019، يومها كان حجم احتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة نحو 32 مليار دولار، وحجم الودائع في المصارف نحو 110 مليارات دولار. مبالغ كانت كافية لبناء دولة واقتصاد من الصفر، لولا الطريقة الملتوية التي أُديرت بها الأزمة.

لا يمكن اعتبار وصول الدولار إلى 100 الف ليرة هو الانهيار في عينه، وتناسي انّ مشوار الانهيار بدأ منذ 3 سنوات ونصف، عندما ارتفع من 1500 ليرة للدولار إلى أكثر من 100 الف ليرة اليوم. فوضع الدولار اليوم لا يختلف ابداً عن الاتجاه العام، لا بل هو تطور طبيعي لمسار الامور ومتوقع، خصوصاً بعدما تكشّف فقدان مصرف لبنان قدرته على السيطرة على دولار السوق السوداء، وذلك منذ تدخّله ما قبل الأخير في السوق، اي نهاية العام 2022 شارياً لليرة. وللتذكير، فقد ضخّ في حينه أكثر من مليار دولار من دون ان يتمكن من تهدئة السوق.

كذلك سجّل تدخّل مصرف لبنان الاخير في منصة صيرفة فشلاً ذريعاً، نتج منه التحاق المنصة بشكل يومي بالسوق السوداء، بدليل ارتفاع دولار صيرفة من 70 الفاً الى 78 الفاً ليرة، وذلك في غضون ايام، اي بتناغم واضح مع السوق السوداء، ما يعني انّ هذه السوق الرديفة هي التي باتت تقود وليس مصرف لبنان الذي لم يعد اللاعب رقم واحد في السوق.

وبناءً عليه، من المتوقع ان تصبح نسبة التدهور اليومي في سعر الصرف أكبر. على سبيل المثال، بارتفاع الدولار من 40 الفاً إلى 48 الفاً، تكون نسبة الزيادة 20%، في حين انّ انعكاس النسبة ذاتها على دولار الـ 100 الف سترفعه إلى 120 الفاً، لذا الاحتساب اليوم يجب ان يتركّز على نسبة الزيادة وليس على الارقام. هذا الامر يستدعي من مالكي الدولار الراغبين التصريف على قدر الحاجة، حتى لو اضطروا إلى ذلك بشكل يومي او مرات عدة في اليوم، وذلك حفاظاً على قيمة ما يملكون، ولعدم التخوّف من انخفاصه قليلاً، لأنّ في ذلك لعبة سوق يهدف من خلالها المضاربون إلى شراء الدولار بسعر اقل لبيعه بسعر أعلى لتحقيق أرباح أكبر.

وقت شطب الأصفار؟

في ظلّ استمرار التدهور وارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة إلى 100 الف ليرة، وهي أكبر عملة لبنانية مطبوعة، هل حان الوقت لشطب الاصفار من العملة او ربما طبع ورقة المليون ليرة؟

في السياق، يؤكّد الخبير الاقتصادي باسم البواب لـ»الجمهورية»، انّ مسار الانهيار سيُستكمل في الفترة المقبلة، طالما لم يتمّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ولم تُشكّل حكومة ولم يتمّ الاتفاق على مشروع اصلاحي مع صندوق النقد. وإلى ذلك الحين، فمن الواضح انّ الدولار سيواصل ارتفاعه، وقد يصل قريباً إلى 150 الفاً وربما إلى 200 الف او 300 الف، قبل ان ننتقل إلى مرحلة انتقالية يبدأ معها الحل الشامل.

وقال البواب: «بعد مستوى الانهيار الذي وصلنا اليه بات لزاماً على المسؤولين اتخاذ إجراء تجاه العملة، إما طبع عملة بقيمة أكبر، وإما الغاء الأصفار من العملة، وهو الحل الأمثل، لأنّ الارقام باتت كبيرة جداً، بحيث يصعب استيعابها»، لافتاً إلى انّ كلا الحلين يحتاجان إلى مجلس نواب لإقرارهما، الامر الغير وارد راهناً.

وأوضح، انّ طبع عملة المليون سيخفّف من حمل الاوراق النقدية، لافتاً إلى أنّ كلفة طباعة العملات التي هي ما دون الدولار أي ما دون الـ100الف، باتت اكبر من قيمتها، مثل طباعة ورقة الـ1000 او الـ5 آلاف، حتى كلفة طباعة الـ100 الف تتجاوز الدولار ما بين طباعة وشحن. لذا لا مصلحة للمركزي حتى من طباعة الـ 100 الف. مشيراً إلى انّه في غالبية الدولة كل عملة تساوي قيمتها أقل من دولار تكون على شكل coin. واشار البواب الى انّه من إحدى مساوئ طباعة عملة جديدة بقيمة أكبر انّه يؤكّد انّ مسار الانهيار متواصل على عكس إلغاء الأصفار.

وقال: «انّ إلغاء الأصفار لن يؤثر لا سلباً ولا ايجاباً على نسبة التضخم، ولا على الوضع الاقتصادي، ولن يوقف الانهيار، انما يسهّل قراءة الاسعار فقط لا غير، ويسهّل تقبّلها نفسياً، ويعني انّ مرحلة انتهت ومساراً جديداً بدأ». لافتاً إلى انّه كلما كبرت العملة كلما زادت الرواتب وزادت الاسعار وكلما باتت الليرة منبوذة وغير مقبولة من أحد.

واقترح البواب ان يتمّ إلغاء صفرين من العملة في المرحلة الاولى، فيصبح الدولار بـ1000 ليرة، وإذا ما وصل الدولار الى 150 الفاً مع الغاء صفرين، يعود الدولار إلى 1500 ليرة، كما كان الوضع منذ ما قبل الأزمة. بهذه الطريقة يعود كل شيء كما كان في العام 2019، وتعود الاسعار كما كانت عليه وستتراجع الرواتب والاسعار كما كانت في السابق.

وأوضح رداً على سؤال، انّه لا يمكن تصغير العملة اللبنانية إلى ليرة، فهذا يدل إلى انّ العملة قوية جداً حتى أقوى من الدولار، وتصبح غالية الثمن، اي لا تسعّر بالرخيص. لافتاً الى انّ العملات تسعّر عادة بين الصفر والـ 100 ليرة، وقلّة هي العملات التي تُسعّر بالآلاف. والأفضل اليوم إعادة العملة الى اقرب مستوى كانت عليه قبل الأزمة.

ايفا ابي حيدر

أربعة أطراف تتوزّع مسؤولية ضياع الودائع: الدولة، مصرف لبنان، المصارف والقضاء

تتوزّع مسؤولية تبديد الودائع بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف. ولكن للقضاء ايضاً حصته في المسؤولية، «لأنه أباحَ للمدينين المقترضين من المصارف بالعملة الصعبة أن يسدّدوا ديونهم بالعملة الوطنية على سعر صرفها الأساسي (1507 ل. ل./د.أ.)». الأمر الذي أوقَعَ تلك المصارف في خسائر ارتدّت شحّاً في سيولتها بتلك العملة الصعبة تجاه المودعين لديها.

المسؤولون عن تبدّد ودائع المودعين بالعملة الصعبة المودعة في المصارف، هم كالتالي:
الأول: الدولة اللبنانية، لأنها استباحت لنفسها اقتراض أموال المودعين بالعملات الأجنبية وهي تعلم أن لا مداخيل لها بتلك العملات من مواردها الطبيعية، وهي ليست بدولة مُنتجة بل مُنفقة ومُبذّرة وفاسدة. وقد استخدمت هذه الأموال المستدانة في مهارب رئيسة ثلاثة:

-1 الكلفة التشغيلية لمؤسسة كهرباء لبنان ولمؤسسات الدولة عامةً وصناديقها الثلاثة وما رافَقها من سمسرات وفساد وغشّ وتجاوزات في عقود الصيانة والتلزيم والتعهدات وغيرها.
-2 سياسة الدعم العشوائي واللامحدود للسلع الإستهلاكية والمحروقات.
-3 سياسة تثبيت سعر صرف العملة الوطنية، دونما الأخذ في الاعتبار معدلات التضخّم السنوية، مما فاقمَ من كلفة عملية التثبيت. 

الثاني: مصرف لبنان، لأنه مَوّل الدولة اللبنانية بالعملة الصعبة ليس فقط من احتياطاته الخاصة كشخص معنوي، بل خصوصاً من ودائع المودعين المودعة من المصارف لديه. وذلك بدون أية سقوف وبدون أية ضمانات لردّ تلك المديونية. مع علمه بأنه ليس للدولة اللبنانية أية موارد طبيعية لردّها، كما أسلفنا، وأن طبيعة مديونيتها ولو السياديّة لا تشكّل بذاتها ضمانةً لعملية الردود تلك.
كما ان تَلطّيه وراء قوانين الإقتراض التي كان يقرّها المجلس النيابي ويجيز بموجبها للحكومة بواسطة وزير المالية الإقتراض (من مصرف لبنان وسواه) لتسديد عجوزات الموازنة السنوية على مدى عقود، لا يُبرّر له، وفق أحكام قانون النقد والتسليف، وَضع يده، عنوةً او حتى رضاءً، على ودائع المودعين في المصارف، المودعة لديه، ليستجرّ منها السيولة التي تموّل تلك القروض.
بل كان يتعيّن عليه أن يرفض تمويل تلك القروض من ودائع المودعين حتى تُحمل الدولة على الإقتراض بمقدار احتياجاتها من خارج تلك الودائع

الثالث: المصارف، لأنها عمدت الى توظيف ودائع المودعين بالعملة الصعبة المودعة لديها، إمّا لدى مصرف لبنان وامّا لدى الدولة اللبنانية ممثّلةً بوزير المالية، خلافاً لأحكام قانون النقد والتسليف، بدون أية سقوف وبدون أية ضمانة فعلية للردود، مُستسهلةً لنفسها هذه التوظيفات كونها كانت تدرّ عليها فوائد بالمليارات الدولاريّة تستوفيها سيولةً نقدية من صناديقها وتوزّعها على مساهميها وكبار إداريّيها، أرباحاً صافية، فيقوموا بإخراجها الى خارج البلاد.
وما يُضاعف مسؤولية تلك المصارف حتى القول بخطئها الجسيم وتواطئها على مصير ودائع المودعين لديها، بالتنسيق والتفاهم مع أركان الدولة ومصرف لبنان، هو أنها كانت تعلم تمام العلم أنّ تلك القروض تحمل أقصى درجات المخاطر حول المؤونات المتوافرة لها وحول إمكانية إيفائها. لأنّ الدولة ومصرف لبنان هما في حالة عجز تراكميّة وتصاعديّة منذ عقود ومن دون أي أفق للمعالجة. وإن قولها، انّ ديونها لهما هي سياديّة ومبرّرة من هذه الزاوية، فإنه لا يستقيم إطلاقاً لعِلم تلك المصارف تمام المعرفة بأنّ الدولة اللبنانية ومصرف لبنان قد امتهَنا على مدى عقود الإقتراض من المؤسسات الدولية من دون أن يتمكّنا يوماً من الإيفاء بالتزاماتهما تجاهها (باريس 1 و2 و3).

الرابع: القضاء، لأنه أباح للمدينين المقترضين من المصارف بالعملة الصعبة أن يسدّدوا ديونهم بالعملة الوطنية على سعر صرفها الأساسي (1507 ل.ل./ د.أ.). الأمر الذي أوقعَ تلك المصارف في خسائر ارتدّت شحّاً في سيولتها بتلك العملة الصعبة تجاه المودعين لديها. ذلك أن الأموال التي تقوم المصارف بإقراضها هي تلك التي يكون قد تمّ إيداعها لديها. وإنه إذا كانت تتحمّل هي الخسائر بين عمليتيْ الإيداع والإقتراض، غير أن تلك الخسائر تتحوّل بحدّ ذاتها الى شحٍّ في سيولتها تجاه مودعيها وتعثّرٍ في الإيفاء بالتزاماتها تجاههم.

في حين أن هذا المنحى الإجتهادي يكتنز أخطاءً جسيمة في علم القانون، لا سيما مخالفة لإحكام قانون الموجبات والعقود وقانون النقد والتسليف وقانون التجارة وشرعة المتعاقدين، كذلك لمرتكزات الإجتهاد السابق. وهو يجافي قواعد الإنصاف، إذ يُثري المدين السيئ النية بصورة غير مشروعة على حساب الدائن الذي يُلحق به غبناً فاحشاً، كما ويضرب مرتكزات الإقتصاد الوطني ويعيق إعادة التوظيفات المالية في البلاد. 

الخامس: أما المودعون، فلم يتلمّسوا بعد الإستراتيجية المتكاملة الواجب اتّباعها حتى يعزّزوا حظوظ ردّ ودائعهم إليهم. فحصروا مواجهتهم بالمصارف وبالإدعاء عليها، الخاوية من النتائج المثمرة الفعلية. لأنّ سيولتها النقدية المتبقية والقيم المالية الناتجة عن تصفية أصولها، والتي قد تستغرق سنوات طويلة بل عقود لإنجازها، من خلال المؤسسة الوطنية لضمان الودائع (كما هو حاصل نسبةً الى عدد من المصارف التي وُضعت قيد التصفية منذ سنة 1990 والتي لم تنجز تصفيتها بعد)، لن توازي، في أحسن حال، أكثر من خمسة بالمئة (5%) من قيمة ودائعهم لديها.
وقد أغفلوا مداعاة مصرف لبنان أمام القضاء العدلي لإبطال تعاميم مصرف لبنان، التي تناولت أحجام وسقوف وكيفية احتساب سحوباتهم النقدية من ودائعهم (لا سيما التعاميم رقم 151 و158 و161)، وتناولت أيضاً كيفية تسديد القروض المصرفية المدينة، لمخالفتها، على حدٍّ سواء، قانون النقد والتسليف وقانون التجارة وشرعة المتعاقدين وقواعد الإنتظام العام المالي.

 

كما أغفلوا، حتى تاريخه، التصدّي لمشاريع القوانين التي أعدّها المجلس النيابي والتي ترمي الى تصفير ودائعهم، كما الى تنصّل الدولة من مديونيتها العامة وتبرّوئها منها ورفضها المشاركة في أي صندوق سياديّ لإيفائها.

حتى بات يصحّ القول انّ حقوق المودعين لن تكون مصانة أو محمية أو مؤهّلة للردود والإيفاء، حتى بالحدّ المقبول، إلاّ إذا وسّع المودعون رقعة تحرّكهم ومداعاتهم لتشمل مصرف لبنان والدولة اللبنانية، على حدٍّ سواء، حتى يضمنوا يإيرادات أصولهما ردّ ودائعهم المشروعة، وفق برنامج زمني يوازن بين احتياجاتهم وتدفق تلك الإيرادات.

فرانسوا ضاهر

نوعية جديدة من المواجهات بين المصارف و«الدولة»

 

لا شك في انّ قراءة متأنية في مضمون البيان الصادر عن المصارف في 3 آذار الجاري، تُظهر انّ أسلوب المصارف في مقاربة الأزمة بدأ يتبدّل، وأن المقتنعين في صفوف المصرفيين بضرورة اتخاذ موقف صَلب حيال السلطتين السياسية والنقدية، بدأ يزيد عددهم. وهذا يعني ان نوعية المواجهات في المرحلة المقبلة قد تتغيّر. لماذا هذا التغيير الآن؟ والى أين يمكن أن يصل في النتيجة؟

يبدو انّ ادارات المصارف أُصيبت بصدمة بعدما لاحظت انّ المسؤولين لا يقدّرون حجم المخاطر التي تهدّد القطاع المالي، جرّاء بعض الممارسات القضائية، وبعض الاستهتار القائم، سواء من السلطات القضائية المختصة، او من قبل السلطات السياسية. وشهدت المصارف على حالة من العقم في اتخاذ القرارات، وشعرت في فترة من الفترات بأن القطاع المصرفي قد ينهار بخفّة غير مسبوقة. وهذا ما يفسّر اللجوء الى الاضراب، مع علمها المسبق بأنّ الاغلاق سيؤدي الى زيادة النقمة الشعبية ضدها. لكنها اعتبرت انها الطريقة الوحيدة التي قد توقِظ من يعنيهم الامر من سباتهم العميق.

اليوم، تبدو المصارف وكأنها انتقلت الى مرحلة جديدة عنوانها الضغط والمواجهة مع الطرفين اللذين يرتبط الحل بالقرارات التي سيتخذانها، وهما «الدولة» ومصرفها المركزي. وهنا، يعتبر البعض ان لا وجود لطرفين، بل لطرف واحد هي الدولة على اعتبار انّ البنك المركزي، وإن كان يتمتع بالاستقلالية في عمله، الا أنه جزء من هذه الدولة، بل انّ الدولة مسؤولة عنه وفق ما ينص القانون. وهذا ما يفسّر ورود المادة 113 من قانون النقد والتسليف في بيان المصارف الاخير. وهو البند الذي ينصّ على مسؤولية الدولة في تسديد الخسائر التي قد يُمنى بها مصرفها المركزي.

بالاضافة الى خسائر المركزي، باتت المصارف تصرّ على ان تحسم الدولة أمرها من مسألة الديون المترتبة عليها، وان تعلن كيف ستتعاطى مع هذه الديون. ولا بد من البدء في التفاوض مع الاطراف الداخليين والخارجيين حول مصير هذه الديون، لأنّ ذلك سيشكّل خارطة طريق لمعرفة الاتجاه الذي ستسلكه الأزمة في المرحلة المقبلة.
إنطلاقاً من هذه المواقف المصرفية، يمكن توقّع مرحلة عضّ اصابع قاسية في الفترة المقبلة، بين المصارف والدولة ومعها مصرف لبنان. فقد وصلنا الى ساعة الحسم، خصوصاً ان المودع، وإن أدرك ان امواله أنفقتها الدولة، إلا أنه يعتبر، وهذا حقه الطبيعي، انّ المصرف هو المسؤول تجاهه عن ضياع وديعته. وبالتالي، أدركت المصارف بدورها ان سياسة المهادنة الدائمة مع الدولة ومع مصرف لبنان قد تجعلها تدفع الثمن لوحدها. وبالتالي، سيدفع المودع ايضا الثمن الأكبر، بحيث سيفقد امواله، وسيفقد البلد قطاعه المصرفي.

هذه الوقائع التي شكّلت الدافع الاساسي نحو اعلان الاضراب، ومن ثم إصدار البيان الأخير، تعني عملياً انّ المصارف تتخلى تدريجاً عن سياسة التحفّظ والمهادنة، وقد نشهد في المستقبل القريب قرارات لم تكن واردة من قبل. هذه القرارات يمكن ان تأخذ سياق محاولة تحديد المسؤوليات، لكي لا يبقى القطاع لوحده في المواجهة، في حين انّ الطرف الاساسي في الأزمة (الدولة) تلعب دور الحَكَمْ، وأحياناً المُحرّض. وما هو مُستغرب اكثر ان الدولة تتعاطى مع مصرفها المركزي وكأنه كيان غريب عنها، اذ انّ قسماً ممّن في السلطة يهاجم البنك المركزي ويحمّله مسؤولة الانهيار، من دون ان يَعي انّ الدولة، والسلطة السياسية التي تمثل هذه الدولة، بموجب نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة، هي المسؤولة قانونياً وأخلاقياً عن النتائج التي قد تتمخّض عن اي سياسة يتبعها البنك المركزي.

في المرحلة الجديدة، لن يكون مستبعداً ان ينتقل «الصراع» بين الدولة ومصرفها المركزي من جهة، وبين المصارف من جهة أخرى، الى القضاء، سواء المحلي او الدولي. وهناك من يعتقد ان الوصول الى هذه المواجهة قد لا يكون كارثياً، لأنه قد يحسم الجدل في تحديد المسؤوليات، وفي توزيع الخسائر، ويعطي دفعاً لتسريع الاتفاق على خطة للتعافي، تسمح بإعادة الحقوق الى المودعين المستحقين، وتمنع انهيار القطاع المصرفي، وتعيد الاقتصاد الى سكة
التعافي.

انطوان فرح

لبنان لم يعد في أولويات الدول الكبرى وأجنداتها

ينتظر بعض اللبنانيين الأيادي الدولية للتدخّل المباشر وحل مشاكلنا السياسية والإقتصادية والإجتماعية والمالية والنقدية، لأنهم اعتادوا عبر العقود الأخيرة، على واقع أنّ فك العقد يأتي من الخارج وليس من الداخل.

علينا أن نُدرك أن العالم قد تغيّر، كذلك حكّامه واستراتيجياتهم، وأولوياتهم وطريقة إدارتهم وأيضاً أجنداتهم. أما في لبنان فم يتغير شيء، ولا حكامنا ولا إداراتهم الفاسدة والسيئة، ولا أولوياتهم الغامضة، ولا وعودهم الوهمية، ولا تشنجاتهم التدميرية.

إن أولويات دول العالم اليوم، تركّز على إعادة هيكلتها الداخلية، من بعد مواجهة وباء «كوفيد-19» وإعادة بناء اقتصاداتها والإتفاقات التجارية، وإعادة نموها الداخلي.
إن أولوياتها الثانية هي الحد من التضخم الجامح، والذي سيصل إلى التضخم المفرط والذي يُسمّى بالـ Hyperinflation، المتزامن مع الإنكماش والركود، والذي سيصل إلى Stagflation، فدول العالم تواجه زيادة خانقة في أسعار صناعتها ومنتجاتها الأولية، والإنحدار بالإستهلاك.

أما الأولوية الثالثة والأهم فهي مواكبة الحرب الروسية – الأوكرانية، والتي مرت الذكرى السنوية الأولى على اندلاعها، والتي زعزعت استقرار أوروبا والعالم، ودفعت كل الأسعار النفطية والغازية وحتى المواد الزراعية، وتحولت إلى حرب عالمية ثالثة، باردة مع تدخلات عظمى.

إن تداعيات هذا الخلاف الدولي، يؤثر مباشرة على أكثرية الدول ونلاحظ تدخلاً كبيراً أميركياً – صينياً وطبعاً أوروبياً في أرض هذه المعركة الشرسة.
أما الأولوية الجديدة فهي المساعدات الإنسانية لسوريا وتركيا من بعد «زلزال القرن»، الذي خلّف دماراً كبيراً بالأرواح والممتلكات.

فمن ينتظر في لبنان أو يَعِد نفسه بأنه ستعقد مؤتمرات إستثمارية ومالية لمساعدة لبنان مثل الماضي، فهو واهِم لأن هذا البلد لم يعد، ليس فقط في سلم الأولويات، لكن أيضاً في الأجندات الدولية.

ومَن يعتقد أن دول العالم ستنتخب لنا رئيساً للجمهورية وحكومة فاعلة وخطة إنقاذ إقتصادية وإجتماعية هو واهم أيضاً، لأننا لم نعد تحت الأضواء والهموم بعدما أهدرَ السياسيون كل المساعدات السابقة وأفسدوها، بينما بنوا منها قصوراً لهم ودمّروا بيوت شعبهم.

فلبنان واللبنانيون الذين يواجهون أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية في تاريخ العالم، وخسروا 90% من مداخيلهم، وودائعهم ونسبة عيشهم، ونجوا من أكبر ثالث انفجار في تاريخ العالم، ها هم متروكون لوحدهم لمواجهة إدارة المافيات والإقتصاد الأسود وهم أسرى التهريب والترويج وتمويل الإرهاب، وينظرون عاجزين إلى انهيار عملتهم المتجهة نحو آفاق مجهولة ومخيفة.

العالم من حولنا قد تعب من سياسيينا وإدارتهم الفاسدة وليس لهم عندئذ شبه ثقة ولن يستثمروا سنتاً واحداً لِمن أهدروا مئات المليارات. فالذي ينتظر التدخل الإقليمي والدولي واهِم وكاذب، وسينتظر سنوات عديدة وطويلة. لقد حان الوقت ليصبح لبنان أولوية اللبنانيين وقرار لبنان يُصنع في لبنان، وليس في الخارج، والذين سينتظرون الحل المستورد يكونون في الحقيقة يحفرون بالنفق الأسود ذاته المظلم. فالحل الوحيد هو بالإتفاق الداخلي والحل اللبناني، واستراتيجية إعادة البناء عوضاً عن استراتيجية الشلل والتدمير الذاتي.

 

د. فؤاد زمكحل

رئيس الإتحاد الدولي لرجال وسيدات الأعمال اللبنانيين MIDEL وعميد كلية إدارة الأعمال في جامعة القديس يوسف USJ

فرصة نادرة لوقف السرقــة وإنقاذ المودعين

مِن ضمن الاشكاليات المطروحة في إطار البحث عن حلول للأزمة المالية والاقتصادية، النقطة المتعلقة بإنشاء صندوق لاستعادة الودائع، مهمته تأمين إيرادات، عبر وسائل متنوعة، لتكوين أصول مالية تُستخدم في تأمين إعادة الودائع الى أصحابها.

هذا الصندوق مدار نقاشات وخلافات انطلاقاً من نظريتين تتجاذبانه: النظرية الاولى تقول انه لا يجوز استغلال اي مرفق عام، وتحويل إيراداته لسد الفجوة المالية، على اعتبار انّ هذه الايرادات هي من حق كل اللبنانيين، ولا يمكن تجييرها للمودعين دون سواهم. النظرية الثانية تقول ان ايرادات هذا الصندوق لن تُجيّر للمودعين حصراً، بل انّ الفائض، او نسبة مئوية مُتفق عليها مسبقاً، ستذهب الى المودعين. ومثل هذا الامر لا يؤمّن اعادة الحقوق الى أصحابها فحسب، بل يساهم في تسريع التعافي الاقتصادي.

في الواقع، ما ينبغي التركيز عليه في هذا الموضوع، هو الفرصة المتاحة امام اللبنانيين للتخلّص من قسم أساسي من الفساد السائد في البلد. والواقعية تحتّم القول ان السياسيين الذين يرفضون كل انواع الشراكة او خَصخصة الادارة في المرافق العامة، لا يتخذون هذا الموقف انطلاقاً من حرصهم على أصول ومؤسسات الدولة، بل بسبب تمسّكهم بالسيطرة على هذه المؤسسات العامة. ويعتبر البعض ان هؤلاء السياسيين يتصرفون وكأنّ المؤسسات العامة هي ملكية خاصة لهم. لكنّ الواقع غير ذلك تماماً، لأنّ مَن يمتلك مؤسسة يرفض تعريضها للخسائر والافلاس. ما يفعله هؤلاء انهم يعتبرون أنفسهم شركاء مُضاربين في هذه المؤسسات العامة، يوظفون فيها المحاسيب بلا سقف، ويسرقون من إيراداتها ما تَيسّر، ويسمحون للأزلام بالسرقة والهدر، من دون أن يخشوا التعرّض للخسائر كما يفعل اصحاب المؤسسات. في المرفق العام، الأرباح للمضاربين، والخسائر على عاتق الخزينة والناس. وهذا ما جرى في كل المؤسسات، ومن ضمنها الكهرباء، وهذا هو السبب الحقيقي للانهيار الذي أصاب البلد منذ أواخر 2019.

من هنا، لا ينبغي مناقشة ملف صندوق استعادة الودائع وفق منطق افادة المودعين على حساب بقية المواطنين غير المودعين، بل ان حقوق المودعين فرصة للضغط على القوى السياسية التي تَستسيغ استمرار السرقة وتشغيل المحاسيب من كيس الدولة، لإجبارهم على رفع أيديهم عن كل المؤسسات العامة. وتأسيس ادارة جديدة تقوم على مبدأ الشراكة بين القطاعين الخاص والعام (PPP)، او تخصيص ادارات كل هذه المؤسسات، أو اللجوء الى الـBOT… كل الافكار التي تسمح برفع هيمنة القوى السياسية عن كل المرافق والمؤسسات العامة مقبولة، وهي تشكّل عامل خير للمواطن وللبلد، على عكس ما يدّعيه من يتحدث عن حماية أصول الدولة.

في الواقع، ليس مُستحبّاً فصل صندوق استعادة الودائع، عن صندوق «ضرب الفساد»، ولو أنّ الفصل يبدو عملياً وواقعياً اكثر. لكن هذه الفرصة للضغط على جهات سياسية تريد استمرار الفساد في المؤسسات العامة، قد لا تتكرّر، لذلك ينبغي الجمع بين الصندوقين، أي اعتماد مبدأ سحب كل المؤسسات والمرافق العامة من هيمنة السياسيين، وإقامة مشروع شراكة حقيقية مع القطاع الخاص.

وبالمناسبة، أصبح النواب اليوم أمام الامتحان الصعب. وما قالوه في «قدسية» الودائع حانَ الوقت لترجمته في القوانين الماثِلة أمامهم، ومن أهمها اقتراح قانون اعادة التوازن الى الانتظام المالي. ولا شك في انّ الزيارة التي قام بها النواب الاربعة الى واشنطن ترتدي أهمية استثنائية. والمواقف التي أعلنها هؤلاء مشجعة لجهة الحرص على حقوق المودعين، وعلى استمرارية القطاع المالي في البلد. لكنّ عملية إقناع صندوق النقد الدولي تحتاج الى دراسة مفصّلة عن مشروع صندوق استعادة الودائع وخفض الفساد، ضمن مؤسسة واحدة تتولى إدارة كل المرافق العامة، ومن ضمنها المطارات، المرافئ، الاتصالات، النقل، الطرقات، الكهرباء، المياه، الضمان الاجتماعي، استثمار الاراضي… هذه الدراسة ينبغي ان تقوم بها جهة مُحايدة، وان تكون ثمرة عمل مشترك بين جهات لبنانية متخصصة، وشركات عالمية معروفة، للخروج بخطة عمل تتضمّن خارطة طريق واضحة، قادرة على إعطاء توقعات علمية للتطوير المُبرمج الذي يمكن إدخاله الى المؤسسات العامة ومرافق الدولة. ومن خلال هذا البرنامج، لن يصعب إعطاء تقديرات مبدئية لتطور الايرادات المتوقعة خلال السنوات الخمس الاولى بعد بدء تنفيذ المشروع، ومن ثم تقديرات مُمنهجة على مدى عشر سنوات الى الامام. بهذه الطريقة، لا يتم إقناع صندوق النقد فحسب، بل ايضاً كل الدول الراغبة في مساعدة لبنان، والأهم ان اللبنانيين، المودعين وغير المودعين، سيقتنعون بأن هذا الطريق هو الأسلم والأنجع في الانقاذ واستعادة الثقة والازهار، وتقليص مجالات الفساد والسرقة والسمسرات لقسم كبير من الطبقة السياسية الحاكمة والفاسدة. أمّا الكلام عن صندوق لاستعادة الودائع من خلال استعادة الاموال المنهوبة والمهرّبة وما الى ذلك، فكلامٌ يُدغدغ المشاعر ليس إلّا. وفي حال النجاح في مهمة مستحيلة من هذا النوع، فخيرٌ وبركة. ولكن، لا يمكن الاعتماد على «الرومانسية» أو الشعبوية لإنقاذ البلد.

أنطوان فرح

لبنان بلد فريد وفق كل المعايير

لبنان بلد فريد على أصعدة عدّة، إيجابياً وسلبياً، فاجأ ويُفاجىء، وسيفاجىء العالم. نفخر باللبنانيين، الذين يتميّزون بفرادتهم في دول المنطقة والعالم، ويُصدرّون ليس فقط سلعهم، لكن خصوصاً نجاحاتهم وإبداعاتهم. نجحوا بزرع علم الأرز حول الكرة الأرضية، وحتى لو هربوا من لبنان، يأساً واضطراباً، فقد بنوا لبناناً صغيراً، إينما حطّوا، في العالم. نفخر باللبنانيين والرياديين والمستثمرين والمغتربين الفريدين.

من الجهة السلبية، إنّ لبنان البلد الوحيد والفريد من نوعه الذي صنع بيديه أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية في تاريخ العالم، بحسب مرصد البنك الدولي، وعوضاً عن المحاولة لوقف الإنهيار والتدمير الذاتي، يتابعون الحفر عميقاً في النفق السوداوي عينه، نحو القعر والإرتطام.

إن لبنان، البلد الوحيد في العالم، الذي بنى داخلياً قنبلة نووية، وجرّبها بشعبه، وطمر الحقيقة، ويُحاول طيّ الصفحة، كأنّ شيئاً لم يكن.

إن لبنان البلد الفريد من نوعه الذي أهدر وأفسد وسرق ليس فقط مئات المليارات من الدولارات، من البلدان المانحة، والتي كانت مخصصة لبناء البنى التحتية، لكنه أهدر أيضاً أموال وجنى عمر شعبه وودائعهم. وبعد صرف مليارات الدولارات، لتأمين التيار الكهربائي لشعبه، وهدر مليارات الوعود الفاسدة والوهمية، نفّذ وعده، لكنه بالعكس، وها هو يؤمّن 23 ساعة من الظلام، والذل والإحباط والحرمان.

لبنان البلد الفريد من نوعه، الذي وعد بالخصخصة، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، ونفّذ خصخصة المافيات، والشراكة بين المهربين والمروجين، عوضاً عن المستثمرين والرياديين.

لبنان البلد الوحيد من نوعه، الذي دمّر بيوت شعبه مرات عدة، ومن نواح عدة، ولا يزال يخلق الإستراتيجيات للتدمير الذاتي الشامل.

لبنان البلد الوحيد الذي خلق عبارات جديدة، للحرية والديموقراطية، واخترع بدعة الديموقراطية التوافقية، التي تناقض بعضها وهي بالحقيقة، تطعن بمعنى الديموقراطية وأساس التوافق.

لبنان البلد الوحيد الذي دمر قطاعه الخاص، واقتصاده الأبيض على حساب قطاع التهريب والترويج، والإقتصاد الأسود.

لبنان البلد الوحيد، الذي يريد قطع جذوره وطمر تاريخه على حساب شعبه، وماضيه وحاضره ومستقبله.

لبنان البلد الوحيد الذي يلحق شعبه ويصفّق لجلاديه وبعد عقود من الشعارات الكاذبة والوهمية والفارغة، لا يزال يلحق الذين طمروه بالوحول والرمال المتحركة، التي تغرقه يوماً بعد يوم.

في المحصّلة، لبنان واللبنانيون هم الشعب الوحيد الذي لم ولن يستسلم، فاقتصاده يلين، ينزف، لكن لن ينكسر ولن ينهار. أولاده يهربون باحثين عن حياة أفضل، لكن يعودون إليه ولن يتخلّوا عن أرضهم الأم. لبنان البلد الوحيد، الذي مات مرات عدة، لكنه قام من جديد ونَما نحو آفاق أبعد. إننا واثقون من أنّ اللبنانيين سيصمدون ويُثابرون وسيتغلبون على كل الأزمات، مسلّحين بحبهم للحياة وشرفهم وعزيمتهم، وطموحاتهم، وريادتهم، خصوصاً أنهم مباركون ومحميّون من اليد الإلهية التي تحمي لبنان وهذه الأرض المقدسة.

د. فؤاد زمكحل