أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

كيف نختار القيامة؟

إن الكتابة من قبلي في أواخر هذه السنة تنجز بعد خمسين عاماً من أول مقال حول أزمة #بنك أنترا التي أشرت إلى أنها مفتعلة وأن حلها ممكن، وهكذا كان. واليوم شركة انترا للاستثمار المملوكة بالنسبة الأكبر من مساهمين حملوا الأسهم لأنهم كانوا مودعين، وحتى تاريخه يتقاضون أرباحاً سنوية وقيمة موجودات الشركة تفوق المليار دولار. ربما ممارسة توزيع أسهم على المودعين طريقة مناسبة لمعالجة عجز المصارف عن تأمين ودائعهم دون تقنين مخالف للقانون مقنّع حالياً.

لقد لاحقت تقارير #صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وتقييم #الأمم المتحدة والعديد العديد من التعليقات، ولم أستكشف في جميع التقارير ما يوحي بحلول واقعية تنقذ البلد من السقوط في خانة الدول الممانعة أي سوريا وإيران. والبلدان يعانيان من مصاعب اقتصادية واجتماعية والتغلب على مصاعبهما يستوجب انقضاء سنوات قبل ظهور تباشير الحلول الحديثة.

 

دراساتي شملت إصدار كتيّب حول الأزمة المصرفية وإمكانات تجاوزها، لأن #لبنان دون مصارف متحرّكة وقادرة لن يكون مقبلاً على النموّ والتحرّر، وممارسات المصارف الجارية حالياً لا تخدم أهداف استعادة الحياة الاقتصادية لطبيعتها الحرة وممارساتها الصحية غير الخاضعة لاستهداف إنقاذ أصحاب المصارف وعدد المودعين يفوق 1.5 مليون لبناني وغير لبناني وعدد المصارف العاملة لا يتجاوز 60 منها عدد مرشح للانطواء دون خسائر ملحوظة.

هنالك تصوّران لافتان للاهتمام وقد أنجزهما مروان أديب مرشي الخبير بالأسواق المالية العالمية الذي ترأس ثاني أكبر شركة للتعامل المالي، تسويقاً وإصداراً للسندات الحكومية ومعالجة مشاكل عدد من الدول شملت الأرجنتين، والمكسيك والإكوادور وحتى السويد، التي بلغ مجموع قيمها حوالى تريليون دولار أي ألف مليار دولار في حينها. وقد عرض دراساته على عدد من المسؤولين، وأظهر الاهتمام الأساسي بحلول مروان مرشي الرئيس نبيه بري، وهو قضى ساعة مستمعاً ومناقشاً لافتراضات مروان مرشي واستشعر أن دراساته قد تكون البوابة الصالحة للمجلس النيابي الحالي الذي يشمل طاقات جديدة على السياسة وتوجهات غير تقليدية.

المصدر الثاني مذكرة مختصرة، لكن غنية بالأفكار والتوجهات غير التقليدية بل إنها تشمل انتقادات أساسية لمنطلقات وتفسيرات وتوجهات ما سُمّي خطة حسان دياب، والرجل بريء من المعرفة بشؤون الاقتصاد وإن هو ادّعى أن برنامج حكومته – بعد انقضاء شهر على تأليفها – عالج 97% من مشاكل لبنان الاقتصادية، والأمر الذي يدعو الى التنبّه بعد ادعاءات حسان دياب، أن برنامج حكومة نجيب ميقاتي بحسب تقييم الدكتور منير راشد الذي كان خبيراً في صندوق النقد الدولي، ويرأس حالياً جمعية الاقتصاديين اللبنانيين، هو أسوأ من برنامج حكومة حسان دياب، كما أن دراسته القيّمة تبيّن أن النظام اللبناني كان يسمح بتحويل الأموال دون عائق ما دامت صحة البنوك متوافرة، وهو يعتبر أن البنوك التي تحوز سيولة بنسبة 10-12 في المئة مقابل الودائع قادرة على الحياة، وهكذا كان الوضع مع بنوك عالمية خلال الأزمة المالية العالمية 2007/2008. فبنوك مثل بنك الاعتماد السويسري أو اتحاد البنوك السويسرية كانت بالفعل مفلسة لولا مسارعة الدول لإنقاذها، وأكبر بنك في إنجلترا اضطرت السلطات الى تملكه مقابل ضخ 150 مليار جنيه استرليني كانت تساوي أو تزيد على 180 مليار دولار.

يرى الدكتور منير راشد أن التحويلات التي أنجزت حتى بعد تظاهرات شهر تشرين الأول عام 2019 كانت شرعية بل هي تشكل ارضية رئيسية لاستعادة تدفق الأموال الى لبنان، وهو يعتبر أن برنامج صندوق النقد الدولي غير صالح، وهنا أقتبس بضعة أسطر من استخلاصات الدكتور منير راشد الذي يقول:

“سياسات صندوق النقد الدولي التي تحصر دور المصارف هي غير مناسبة حالياً. فاقتراحات صندوق النقد الدولي تشمل الاعتراف بخسائر كبيرة في القطاع… وتوصي بتضييق الاعتماد على المصادر التابعة للدولة. وهذا الاقتراح مخالف لقانون النقد والتسليف حيث ينص القانون في المادة 113 على أن الدولة مسؤولة عن تغطية خسائر مصرف لبنان (ومنها ودائع المصارف) وعلى الدولة واجب ضمان جميع الموجودات المالية”. وقد بيّن حاكم مصرف لبنان أن 65% من الدين العام مترسّب من التحويلات لعجز الكهرباء وفوائدها، وربما هنا سبب التهجمات البذيئة على الحاكم.

برنامج دراسة مروان مرشي ينطلق من ضرورة معالجة قرض اليوروبوند في المكان الأول وهو يشير الى أن بداية الأزمة انطلقت من توصيات حكومة حسان دياب بالامتناع عن تسديد فوائد هذا الإصدار بتاريخ أواسط شهر آذار من عام 2020.

وبعد تظاهرات شهر تشرين الاول التي انطلقت وتمنّع لبنان عن دفع مستحقات الفائدة كان الطلب الذي أطلقته الجماهير، استعادة حوالى 10 مليارات دولار حُوّلت لحسابات أصحابها في الخارج، والواقع أن هذه الأموال وغيرها ممّا يتوافر للبنانيين قد تكون، عند استعادة الثقة بالحكم وقطاع المصارف، النواة الضرورية لإحياء الاقتصاد اللبناني.

بالمناسبة نشير الى أن تحويلات اللبنانيين الى لبنان خلال 2007/2008 بلغت 24 مليار دولار وساعدت على تحقيق فوائض على حساب ميزان المدفوعات حتى عام 2013.

إضافة إلى برنامج مروان مرشي لاستعادة نبض الحياة الإنتاجية خلال 3 سنوات، ظهرت بوادر المطالبة بتأسيس صندوق وطني تتكوّن موجوداته من المؤسسات المملوكة والمسيّرة من القطاع العام، وقد طالبت شخصياً بمعالجة قضيّة الكهرباء بتحويل مسؤولية الإنتاج والإمداد وتركيب العدادات الإلكترونية والفوترة والجباية الى القطاع الخاص منذ عشر سنوات، ولم يكن هنالك من متحمّس لهذه الخطوات… وبالتالي لا بدّ من التشديد على ما يأتي:

الابتداء بمعالجة دين اليوروبوند البالغ أساساً 32 مليار دولار قبل احتساب الفوائد والذي يحظى بخطة متكاملة في معالجة مروان مرشي، والمبادرة الى تأليف هيئة مستقلة لشؤون الطاقة – أي الكهرباء والمياه ومعالجة النفايات، ثم التدرّج في تخصيص خدمات الهاتف والانترنت وتخصيص نسبة ملحوظة من الريجي وإنجاز اتفاقات تسيير وإدارة المرافئ وتخصيص المصفاتين في طرابلس والزهراني ومطار رينه معوض، وتعزيز خدمات الصحة – في عهد الأوبئة الصحية والحكمية – وإعطاء لبنان وأهله بصيص الأمل، وكل ذلك يستوجب حكومة لا تشمل من يماثل نائب رئيس مجلس الوزراء أو وزير الطاقة، وصاحب الصوت العالي وزير الشؤون الاجتماعية.

مروان اسكندر

موازنة رفع عتب لـ IMF وتدميرية للشعب والاقتصاد

صُدّقت ونُشرت موازنة 2022 وبدأ تنفيذها. هذه الموازنة عينها التي هوجِمت على المنابر، ورُفعت الشعارات الشعبوية من أكثرية نواب الأمة، ومن ثم صوّتوا عليها حينما جاءتهم كلمة السر.

هذه الموازنة “العجائبية” هي في الحقيقة موازنة ضريبية بامتياز، ستُطبّق على شعب منهوب، واقتصاد مهترئ. فالموازنات في البلدان عادةً تُمثّل رؤية واضحة للسنوات المقبلة، بالتوازي مع خطة استراتيجية تُواكبها.

 

الموازنة تبدأ بنية مزدوجة مع الرؤية، ومن ثم استراتيجية على المدى القريب، المتوسط والبعيد، وخطة تنفيذ وخصوصاً ملاحقة.

 

وإذا نظرنا اليوم حولنا، من الواضح أن لا نيات صافية، ولا شبه رؤية، ولا استراتيجية إلاّ الإستراتيجية التخريبية، ولا خطة إلاّ الخطط الشعبوية لمتابعة الإنهيار، ولا ملاحقة إلاّ ملاحقة الأبرياء.

 

هذه الموازنة الضريبية ستطعن القلوب والأيادي البيضاء، وستُحفّز التهريب وتبييض الأموال.

 

إذا ركّزنا على التنفيذ، نتساءل مَن سيُنفذ هذه الموازنة؟ أهي الدولة العاجزة عن دفع أجور ورواتب ونقل موظفيها؟ وقرطاسية وحبر وأقلام وزاراتها؟ وهل المراقبون على تنفيذ هذه الموازنة هم الذين يقبضون الرشى بالدولار الفريش، والذين سيُلاحقون بشفافية هذا المشروع الوهمي؟ علماً أن التنفيذ والملاحقة هما كلمتان لن توجدا في قاموس الدولة والسياسة في بلدنا المنهار.

 

من جهة أخرى، نتساءل كيف يُمكن تسديد العجز بالضرائب، وهذا أخطر وأسوأ هدف مستحيل. فالضرائب ستُعمّق الفجوة، وتزيد الإنهيار، والتدمير الذاتي.

 

إن تخفيض العجز لم ولن يكون إلاّ بإعادة الحركة الإقتصادية، والنمو المستدام وجذب الإستثمارات والمستثمرين، خلافاً لهذه الموازنة الضريبية والتي ستُهرّب ما تبقّى من الإستثمارات، وتزيد الإنكماش والإنهيار.

 

نتفهّم مطالبة صندوق النقد الدولي، وعملية حساباته التي تنص على زيادة الضرائب التي ستزيد مداخيل الدولة، لكن هؤلاء يغفلون أن كتب اقتصاد لبنان والمنطق المالي والضرائبي يختلف تماماً عن المحاسبة والإقتصاد الدولي. ففي لبنان عندما ترتفع الضرائب، تنخفض مداخيل الدولة ويتضاعف التهريب وينمو الإقتصاد الأسود على حساب الإقتصاد الأبيض.

 

إضافة إلى ذلك، نتساءل على مَن ستُفرض هذه الضرائب، على شعب منهوب؟ والذي سُرقت ودائعه، وهُدرت مداخيله بأكبر أزمة اقتصادية واجتماعية في تاريخ العالم؟ وهل ستُنفذ على شعب دُمّرت منازله وشركاته بثالث أكبر انفجار في تاريخ العالم؟ وعلى شركات لن يؤمّن لها أقلّ حاجاتها وحاجات الشعب، من البنى التحتية والخدماتية مثل الكهرباء والمياه والإتصالات؟

 

إن هذه الموازنة الضريبية ورفع العتب على الصندوق، هي موازنة لن تُطبّق، ولن تُبصر النور عملياً، لكن مرّة أخرى نشهد مشاريع عشوائية، ووعوداً كاذبة، في ظل غياب أي نية صافية واستراتيجية واضحة، وخطة تطبيقية، وملاحقة دقيقة.

د. فؤاد زمكحل.

لماذا تُصرّ الحكومة على ابتلاع الودائع؟

في ظلّ الانتظام السياسي، ومع وجود رئيسٍ للجمهورية، وحكومة مكتملة الأوصاف والصلاحيات، وفي منتصف الولاية الرئاسية، حين يكون العهد لا يزال قوياً، عجزت الدولة بكل سلطاتها التنفيذية والتشريعية عن إطلاق خطة للتعافي والبدء في الخروج من النفق. فهل يمكن ان تنجح اليوم، في غياب رئيسٍ للجمهورية، ومع حكومة تصريف أعمال منقسمة على نفسها، ومع سلطة تشريعية تتكوّن من القوى نفسها التي تتصارع داخل وخارج الحكومة؟

مع انتهاء العام 2022، يكون مرّ شهران ونيف من السنة الرابعة من عمر أزمة الانهيار المالي، من دون ان تبرز حتى الآن معطيات تسمح بالقول انّ مرحلة الخروج من النفق سوف تبدأ عمّا قريب. وقد بات واضحاً انّ ادارة الأزمة كانت أسوأ من الأزمة نفسها.

 

ماذا ينبغي ان نتوقع في المرحلة المقبلة؟ هل يمكن للوضع ان يسوء اكثر؟ وما هي فرص تغيير المشهد والانتقال إلى مرحلة التعافي التدريجي؟

 

في مقارنة بين الوضع المالي عشية 17 تشرين الاول 2019، والوضع اليوم، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

 

اولاً- كان البنك المركزي يمتلك في حساباته حوالى 32 مليار دولار، تراجعت اليوم إلى حوالى 10 مليار دولار، بما فيها حقوق السحب الخاصة (SDR) ومن دون احتساب المطلوبات، ومن ضمنها مستحقات فواتير ينبغي على مصرف لبنان تسديدها.

 

ثانياً- كانت المصارف التجارية تمتلك في حساباتها الخارجية والداخلية حوالى 6 إلى 7 مليار دولار، وفق التقديرات القائمة في حينه، وكانت سجلاتها تشير إلى موجودات تقترب من 210 مليار دولار، من ضمنها حوالى 177 مليار دولار كودائع. وكان هناك عدد منها، يعتمد بنسبة لا تقلّ عن 30% في تحقيق وحداته الخارجية الارباح. اليوم، تراجع حجم الودائع إلى اقل من 100 مليار دولار، وتراجعت محفظة القروض للقطاع الخاص من حوالى 50 مليار دولار إلى ما دون الـ20 ملياراً، وباعت المصارف في غالبيتها كل استثماراتها في الخارج، ولم يتبقَ من السيولة في الداخل والخارج سوى النذر اليسير. أما الرساميل التي بلغت 22 مليار دولار، فإنّها مهدّدة بالتراجع الى حوالى 3 مليار دولار، مع بدء احتساب سعر صرف الدولار الرسمي على 15 الف ليرة، بدءاً من الاول من شباط 2023.

 

ثالثاً- كان حجم موازنة الدولة حوالى 17 مليار دولار، أصبح اليوم أقل من مليار واحد.

 

رابعاً- كان حجم الاقتصاد يبلغ حوالى 55 مليار دولار، تراجع اليوم الى حوالى 18 مليار دولار، ولو انّه أعلى بقليل من الناحية الإسمية بسبب زيادة حجم الاستيراد اصطناعياً، ربطاً بالاحتياطات التي اتخذها المستوردون الكبار مع الاعلان المسبق عن النية في زيادة سعر الدولار الجمركي.

 

خامساً- كان معدّل الاجور في لبنان، في القطاعين العام والخاص، إعلى من 1000 دولار، أصبح اليوم حوالى 150 دولاراً.

 

هذه بعض من المعطيات المالية والاقتصادية التي تدل بوضوح إلى ما استهلكته السنوات الثلاث الماضية من دولارات، ومن فرص إنقاذية كان يمكن انجازها بأثمان مقبولة.

 

اليوم، لا تزال فرص الإنقاذ قائمة، ولو انّ الأثمان أصبحت باهظة اكثر، والوجع اكبر. وفي حسبة بسيطة، يتبيّن انّ مصرف لبنان لا يزال يحوز على حوالى 25 مليار دولار بين الاحتياطي من العملات والاحتياطي من الذهب. ولا تزال الدولة اللبنانية تمتلك كل اصولها العقارية ومؤسساتها العامة. ولا تزال المصارف قادرة على تلبية ما يُطلب منها في التعاميم التي يصدرها مصرف لبنان، ومن ضمنها التعميم 158 لإعادة الودائع حتى مبلغ 50 الف دولار، رغم انّ المركزي عاجز حتى الآن، عن إعادة ودائع المصارف لديه، والتي تقدّر بحوالى 82 مليار دولار.

 

هذه الوقائع تشي بإمكانية البدء في خطة للتعافي للخروج من الأزمة تدريجياَ. ومع ارتفاع حجم تحويلات المغتربين إلى لبنان، والتي وصلت إلى 6,8 مليار دولار، من دون احتساب الاموال التي دخلت من يد إلى يد. ومع الأخذ في الاعتبار وجود مليارات الدولارات في المنازل، يمكن القول انّ لبنان قادر على الخروج من الأزمة في فترة قياسية نسبياً، رغم انّ أزمته عميقة وحادة ومُصنّفة ثالث أسوأ أزمة شهدتها الدول في تاريخها الحديث.

 

المطلوب في هذه الحالة، عودة الانتظام السياسي اولاً، ومن ثمّ تخلّي السلطة عن فكرة ابتلاع الودائع، ورفض المشاركة في تمويل الإنقاذ من خلال الاختباء وراء صندوق النقد الدولي، بذريعة انّ الصندوق يرفض المس بأصول الدولة او عائداتها خلال السنوات المقبلة. ينبغي تغيير العقلية التي تقارب فيها السلطة المفاوضات مع الصندوق، وستكتشف انّ امكانيات التفاهم مع صندوق النقد على خطة تُنقذ الاقتصاد، وتعيد الانتظام المالي إلى البلد من دون ابتلاع حقوق المودعين، او التسبّب بإفلاس القطاع المالي، موجودة وكبيرة، وكل المطلوب التحلّي بالعقلانية والواقعية في المفاوضات، والأهم وجود نية حقيقية للوصول الى هذا الهدف. وأخيراً، من المعيب والمشين ان نصل إلى مرحلة أصبحت فيها السلطة التي أهدرت وسرقت الاموال، تضغط على المصارف اليوم لدفعها إلى القبول بمشروع شطب الودائع!

انطوان فرح

أزمة أرقام بين مصرف لبنان والبنك الدولي

يلاحظ المراقبون انّ الحركة الاقتصادية في البلد شهدت تغييرات في خلال العام 2022، بحيث انّ الوضع بات يختلف عمّا كان عليه في العام 2021. فهل هناك فعلاً حركة نمو، أم انّه وهم مرتبط بعوامل نفسية، وعوامل ظرفية، توحي بذلك، في حين انّ الأزمة تتجّه نحو مزيد من التعقيدات والبؤس والمخاطر في المرحلة المقبلة؟

يستند الناس في حكمهم على الحركة الاقتصادية على ما يشهدونه من ملاحظات في حياتهم اليومية. هذه الملاحظات توحي للبعض بأنّ «البلد ماشي»، رغم الأزمة: حركة المبيعات في بعض الاسواق ناشطة، المطاعم مفوّلة، حركة السير كثيفة رغم الارتفاع الجنوني في اسعار المحروقات، الكثير من الاعمال الحرفية والمهنية باتت مُسعّرة بالدولار، ومع ذلك جدول العمل لدى هؤلاء مليء بالمواعيد…

 

في المقابل، تستند الدوائر الاقتصادية والمالية المتخصصة إلى الارقام والمعايير الثابتة في تقييم نسب النمو، وترصد المؤشرات في قراءة الاتجاهات التي قد يسلكها الاقتصاد في المستقبل. لكن المفارقة، انّ لغة الارقام لم تكن موحّدة بالنسبة إلى هذه المؤسسات. ولعلّ التناقض النافر ظهر بين تقديرات البنك الدولي الذي تحدث عن نمو سلبي (انكماش) في العام 2022 سيصل إلى ناقص 5,4%، وبين إحصاءات وتقديرات مصرف لبنان التي تتحدث عن نمو نسبته 2%. وهذا ما أكّده حاكم المركزي في إطلالته التلفزيونية الأخيرة مع قناة «الحرة».

 

هل بدأ الاقتصاد فعلاً يتأقلم مع الوضع القائم، إلى حدّ الانتقال من الانكماش إلى النمو قبل البدء في خطة للتعافي، وقبل معالجة أزمة التوقف عن الدفع (الافلاس)، ومعالجة الوضع المصرفي ليعود إلى دوره الطبيعي؟

 

لا شك في انّ الاختلاف في التقديرات بين مصرف لبنان والبنك الدولي نافر، لأنّ الاختلاف في الرأي بالنسبة إلى النمو تحديداً كان يحصل في الماضي، قبل أزمة الانهيار، لكن الفارق لم يكن يتجاوز الـ1 أو2 في المئة في الحالات الاستثنائية. في حين انّ فارق التقديرات اليوم وصل إلى 7,4%.

 

من الواضح انّ مصرف لبنان يستند في إحصاءاته على وقائع قائمة، لكنها لا تعكس المسار الذي سيسلكه الاقتصاد لاحقاً، ولا تعكس في بعض الجوانب النمو الحقيقي الذي غالباً ما ينعكس على الحركة الاقتصادية، ويلمسه المواطن، ولو بنسبة ضئيلة. ومن هذه الظواهر والحقائق ما يلي:

اولاً- انّ حجم تدفق الدولارات إلى لبنان لم يحافظ على وتيرته المرتفعة قياساً بحجم الاقتصاد فحسب، بل انّه ارتفع.

ثانياً- انّ حجم الاستيراد زاد بما لا يقل عن نسبة 20% عمّا كان عليه في العام 2021.

ثالثاً- نشطت الحركة السياحية في الصيف، وسجّلت المطاعم والمقاهي حركة عمل ناشطة، وحتى بعد انتهاء موسم السياحة، استمرت الحركة وفق وتيرة جيدة.

رابعاً- رغم الارتفاع الهائل في اسعار المحروقات الناتج من تراجع قيمة الليرة، ووقف كل انواع الدعم على المادة، وارتفاع الاسعار عالمياً، وارتفاع اسعار الشحن والنقل، إلّا انّ الكميات المستوردة لم تنخفض سوى بنسبة تُعتبر ضئيلة قياساً بالأسباب الآنفة الذكر، بما يوحي بأنّ اللبناني لا يزال يتمتّع بقدرة شرائية مقبولة.

خامساً- ارتفعت الرواتب في القطاع الخاص بنسب متفاوتة. وهناك عدد كبير من المؤسسات باتت تدفع الرواتب بالدولار او تقسّم الراتب إلى دولار وليرة. وهذا الامر اتضح بسبب الضجة التي أُثيرت في شأن مشروع ضرائب الدخل الجديدة، بما يوحي بوجود نسبة لا بأس بها من اللبنانيين العاملين في القطاع الخاص باتوا يتقاضون رواتبهم بالدولار.

 

هل كل هذه المؤشرات كافية للقول انّ إحصاءات المركزي أكثر دقة من البنك الدولي، وانّ النمو موجود فعلاً، بصرف النظر عن نسبته؟

 

اللافت في هذا الموضوع، انّ تقديرات صندوق النقد الدولي للنمو في اقتصادات العالم جرى خفضها أخيراً بعد آخر تحديث للإحصاءات، بحيث تبين انّ معدل النمو في العالم قد ينخفض إلى ما دون الـ2%. وهذا يعني انّ الاقتصاد اللبناني المفلس حقق نمواً يعادل معدل النمو العالمي!

 

لا شك في انّ مظاهر التأقلم مع الأزمة في لبنان قائمة وحقيقية. لكن التأقلم لا يعني انّ الاقتصاد خرج من الأزمة وبدأ مسيرة الانتعاش. وكل الوقائع التي يستند اليها إحصاء النمو الحالي، إن وجد، مموهة او مؤقتة. الاستيراد ارتفع استباقاً للدولار الجمركي، انخفاض استيراد المحروقات بنسبة ضئيلة واستمرار حركة السير ناشطة سببهما انعدام وسائل النقل البديلة للمواطن للذهاب إلى مقر عمله. ارتفاع تدفق الدولارات قد يعكس زيادة حالات البؤس بما يضطر اللبنانيين العاملين في الخارج إلى إرسال المساعدات.

 

إلى ذلك، ينبغي الأخذ في الاعتبار الدولارات التي سُحبت من المصارف بناءً على التعميم 158، والتي بلغت حتى الآن حوالى 600 مليون دولار. جزء من هذه الدولارات جرى ضخه مجدّداً في السوق، لكن ذلك يعني ايضاً انّ المواطن يستنفد مدخراته ليؤمّن معيشته اليومية في هذه الأزمة.

 

خلاصة الامر، وبصرف النظر عن وجود نمو ايجابي كما يقول مصرف لبنان، ام انكماش كما يؤكّد البنك الدولي، ما هو اكيد انّ الاقتصاد مكربج، والاستثمارات الخارجية غير موجودة، والاستثمارات الداخلية الضئيلة، لا تبقي على أرباحها في الداخل، بل تعمل على إخراجها، والتفاوت الطبقي ينمو بشكل خطير يهدّد بالانفجار الاجتماعي. كل ذلك يعني انّ استمرار التأخير في البدء بالحل يزيد الأزمة صعوبة، ويزيد الكلفة على الجميع. ولا خلاص سوى بالاعتراف بالحقائق واستعجال المعالجة، قبل الوصول إلى وضع أسوأ بكثير من الوضع الحالي.

انطوان فرح

الوعود باسترجاع الودائع حلم أم حقيقة؟

مشروع استرجاع الودائع، والوعود الوهمية التي تتردّد، بات «سمفونية يومية»، من دون أي نتيجة عملية تُذكر. هذه الوعود الكاذبة والشعارات الفارغة تذكّرنا بوعود محاربة الفساد، حيث الذين يتبارون ويتنافسون على المنابر، ويُنادون بمحاربة الفساد هم اكبر الفاسدين، وهم أيضاً الذين يعدون باسترجاع الودائع المصرفية، وهم أنفسهم الذين أهدروها.

يبلغ مجموع قيمة الودائع المصرفية اليوم، تقنياً وبكل موضوعية، بين 15% و17%، لعملية صرف أي وديعة، بحسب سعر صرف السوق السوداء، وتحصيل ما تعادله بالـ»الفريش كاش».

 

الحقيقة المرة، التي علينا أن نقتنع بها في الوقت الحالي، أن الودائع المصرفية ليست لسوء الحظ مختبئة، في صناديق ما أو دهاليز، لكنها أُهدرت، وصُرفت وسُرقت. والمعنيّ الأول والمسؤول الأساسي باسترجاعها هو الدولة اللبنانية، التي صرفت وهدرت هذه الأموال. لكن لو توافرت النيات، كنا شاهدنا في هذه السنوات الثلاث الأخيرة، خطة إستراتيجية لبيع بعض العقارات، وإعادة هيكلة بعض المؤسسات، وبناء صناديق سيادية، لهذا الهدف.

 

لكن بعد ثلاث سنوات، من أكبر أزمة إقتصادية، وإجتماعية، ومالية ونقدية في العالم، لم تجرؤ الدولة على إتخاذ أي خطوة، أو مبادرة لتسديد الديون المتراكمة على عاتقها.

 

فالعملية الجارية عبر أمطار من التعاميم، (تعميم 151، 158، 161) التي بموجبها تُدفع بعض الودائع بـ»الملاليم» بخسارة أو «هيركات» يُراوح بين 75% و80%.

 

هذا يعني أن ليس هناك أي نية جدية من قبل الدولة لإسترجاع الودائع، وهدفها المبطّن هو دفعها بالليرة اللبنانية بالتقسيط، وبعد تراكم خسائر فادحة.

 

إضافة إلى ذلك، حتى قانون «الكابيتال كونترول»، الذي يتباحثون به منذ ثلاث سنوات، بدلاً من إقراره بعد أيام من الأزمة، يُبرهن أن لا نية جادة للتعامل مع هذه الكارثة وعملية النهب التي تتكامل، حيث لا يوجد بعدئذ أي «كابيتال» ولا نية أو قدرة على «الكونترول».

 

على صعيد المصارف، فهي تحت المقصلة، يربط حبل السكين الدولة التي لا تريد إصلاحها ولا إعادة هيكليتها، ولا حتى إفلاسها. فمصيرها معلّق بالهواء، مع مصير المودعين المفجوعين والمنهوبين. وحتى لو باعت المصارف بعض أصولها لن تستطيع استرجاع الودائع المتراكمة في المصرف المركزي، وقد أصبحت حبراً على ورق. وبعض المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، تطلب شطبها من سجلات المصرف المركزي.

 

ولو ذهبنا إلى أقصى الحدود، وأُفلست المصارف، مثلما البعض يطالب ويُراهن، فلن يُحصّل المودعون أكثر من 10% من الودائع، وبعد حروب ودعاوى ومحاكم طويلة الأمد.

 

أما في موضوع المردود من الغاز والبترول، الذي يعد السياسيون به، فعلينا أن نكون واقعيين، وندرك تماماً أننا لن نحصل على سنت واحد من المردود من هذه الموارد الطبيعية، سوى بعد سنوات بعيدة وطويلة، وإذا حصلت بأعجوبة، فستُهدرها الدولة، ويتقاسمها السياسيون، مثل عاداتهم التي باتت معروفة منذ عقود. ولن يرى المودعون المنهوبون منها سنتاً واحداً.

 

الحلّ الوحيد لإسترجاع الودائع تقنياً اليوم، هو فقط باستعادة الدولة الدورة الإقتصادية، وجذب الإستثمارات الخارجية، واستقطاب الدولار «الفريش» إلى السوق المحلية، وتنشيط الحركة والتبادل التجاري، وخصوصاً التصدير. فهذا هو الحل الوحيد لإسترجاع الودائع بالدولار وبالتقسيط، حسب الأرباح الجديدة التي سيتقاضاها الإقتصاد.

 

في الخلاصة، إننا نقفز من أزمة إلى أخرى، والجمود سيّد الموقف، وفقدان الثقة يزداد يوماً بعد يوم، بين اللبنانيين لبعضهم البعض، وأكثر مع الدولة، وأكثر بين المجتمع الدولي والدولة الفاسدة، ولا يوجد حتى الساعة أي نية حقيقية لمشروع إنقاذي، لا بل ثمة مشاريع تخريبية تتواصل، والتدمير يستمر، والشعب يدفع الثمن، ويُنهب يوماً بعد يوم.

د. فؤاد زمكحل

أخطاء معرفية مضرّة بالاقتصاد اللبناني

الأزمة التي يمر بها #لبنان لم يشهد ما يماثلها في تاريخه منذ الاستقلال حتى اليوم، والتعليقات الكثيرة من معلقين سياسيين واختصاصيين اقتصاديين تضيف الى مناخ اللاقرار أبعاداً مخيفة.
نريد أن نعرض في هذا المقال أخطاءً شائعة أصبحت تمثل قناعات اللبنانيين العاديين غير الملمّين بالشأن الاقتصادي.
أولى هذه الشائعات وأسوأها أن الدخل القومي أصبح على مستوى 22 مليار دولار أي ما يساوي 40% من مستوى الدخل القومي المقدَّر عام 2018 بـ55 مليار دولار.

سبب الخطأ في التقدير يعود الى أن دراسة الإحصاءات الحيوية لا يجريها معلقون سياسيون كما لا يحتسب الاقتصاديون حجم الاقتصاد غير الرسمي وتأثيره على مستويات الدخل وعلى مستويات الكفاية وكيف يمكن حقيقةً إنجاز تقدير للاقتصاد غير الرسمي، ونحن نقدّره بنسبة 30% من الدخل القومي لأن هذا الاقتصاد يشمل اقتصاد إنتاج وتجارة المخدرات، يشمل استيراد وتصدير #المشتقات النفطية على مدى سنتين أو ثلاث ودعم هذه المستوردات ومن ثم تصديرها الى سوريا، وقد أعطينا في مقال سابق عن تقدير حجم تسريب المشتقات استناداً الى الإحصاءات العامة غير القابلة للتلاعب الرقمي. فمستوردات لبنان من المشتقات بلغت عام 2013 حوالى 4.8 مليارات دولار، وعام 2014 بلغت 8.8 مليارات دولار، ولم يكن هناك مبرّر لارتفاع أسعار المشتقات في ذلك التاريخ يفسّر هذه الارقام، وقد أشرنا إليه في جلسة مع خبراء البنك الدولي وتمنينا على ممثلهم في السنتين المذكورتين أن يستوحي من كبار تجار المشتقات أسباب التفاوت، وحينما استعلم خبراء البنك الدولي عن السبب بلغهم الجواب بأن الفارق في الأسعار يعود الى استمرار استيراد الكميات ذاتها ومن ثم تصدير 35-40% منها الى سوريا.

 

إضافة الى تسريب المشتقات المدعومة حينذاك الى سوريا، الضغط على ميزان المدفوعات اللبناني كان كبيراً لاستيراد الكمّيات ذاتها لكن العائد من بيع نسبة 30-40% لم يتوافر للبنان وإن كان جزء منه توافر لأن أحد كبار تجار النفط في سوريا كان يملك 20% من أسهم بنك في لبنان كان يتفاخر كل سنة بأنه البنك الذي يفتح أكبر الاعتمادات لاستيراد النفط.

اليوم نشاهد مظاهر التلاعب في الأرقام عبر برامج مخصصة لبحث الشأن الاقتصادي. معلوم أن محطة MTV أصبحت بتنوّع برامجها الأولى على صعيد الإعلام المرئي والمسموع، وأصحاب المحطة يبادرون الى مساندة الشأن العام بحملات التبرّع للمصابين بأمراض تستوجب العلاج في الخارج ويسهمون مع وزارة الاشغال بطمر الحفر التي تضر بالسيارات وتعوق حركة السير.

لقد أدخلت الـMTV برنامجاً اقتصادياً تقدّمه لفترة 5 دقائق كل يوم سيدة محتشمة أنيقة الثياب وحركة اليدين تحاول تبيان أسباب تردي الاقتصاد، وهي لا تعلم عن الاقتصاد سوى ما يسطره لها موظفو المحطة وبالتالي تقع في أخطاء تضر بالسامعين وصاحبة البرنامج. فعلى سبيل المثال قبل فترة قريبة أوردت أرقاماً عن المستوردات وأرقاماً عن الصادرات والتفاوت بينهما، ومن هنا استنتجت أن الدخل القومي انحسر بقوة، وكأن المستوردات والصادرات تشكلان عناصر تحديد الدخل القومي، وهي تجاوزت تأثير نفقات القطاع العام التي توازي 70% من الرقم الذي وفرته للدخلالقومي. وفي الوقت ذاته لم تتذكر أو هي تجاوزت ذكر تأثير التحويلات المالية والاستثمارية التي كانت دائماً السند الاساسي للاقتصاد اللبناني.

مؤخراً تناولت أرقام صندوق الضمان الاجتماعي وقد بادرت الى القول إن موارد الصندوق تتحصّل من الاشتراكات التي يدفعها أرباب العمل عن عمالهم، والجزء الذي يتوافر من العمال، ولم تشر الى أن الدولة مجبرة على تغطية نسبة ملحوظة من أكلاف فرع المرض والامومة الذي هو الفرع الاكبر في عدد المنتسبين إليه، كل ما قالته أنه يستحق على الدولة 5000 مليار ل.ل دون أن تذكر أن هذه اشتراكات أساسية من نظام الضمان ودون أن تذكر أن فرع المرض والامومة يغطي حوالى 1.5 مليون لبناني ولبنانية فيما تعويضات نهاية الخدمة لا تغطي أكثر من 150 ألف لبناني ولبنانية.

إن تعليقات من النوع المشار إليه بالغة الضرورة لأنها لا تبيّن حقيقة الالتزامات المالية ونسبة المستفيدين منها، والأمر المثير للعجب إدخال البرنامج وكأنه طُوّر لتغطية نقص في الإعلام الاقتصادي علماً بأن محطة MTV لديها أفضل مقدمة للشؤون الاقتصادية في لبنان وكانت حصلت على خبرة كبيرة في العمل في تلفزيونات #الخليج العربي.
ولا ننسى أن برنامج مارسيل غانم يطرح أحياناً القضايا الاقتصادية الاساسية ويحوز عدداً من المعلقين، بعضهم يستحق السماع إليه والبعض الآخر يستحق المعاقبة بالإرسال الى كليات لتعليم شؤون الاقتصاد والاعمال… واللبناني المستمع يتحمّل شظايا أغلاط اللااقتصاديين.

مروان اسكندر

هيركات على «الدولار البلدي» من 73 إلى 50%

هل يُعتبر الاول من شباط 2023، محطة مفصلية في الوضع المالي والاقتصادي، وهو الموعد المبدئي للانتقال إلى سعر صرف رسمي جديد لليرة مقابل الدولار، أم انّه مجرد محطة ثانوية لن تبدّل في المعطيات القائمة، خصوصاً اذا استمر النزف المالي، والمراوغة السياسية التي أدّت حتى الآن إلى عقمٍ أحبط كل محاولات الخروج من النفق.

رقم الـ15 سيكون طاغياً على المستوى المالي في المرحلة المقبلة. الدولار الجمركي أصبح مُسعّراً على 15 الف ليرة. وكذلك سعر صرف الدولار الرسمي سيصبح 15 الف ليرة بدءاً من اول شباط 2023. وفي التوقيت ذاته، سيتمّ رفع السحب من الودائع الدولارية المحلية على التعميم 151 من 8 آلاف الى 15 ألفاً. والأمر نفسه سيجري تطبيقه على التعميم 158، حيث سيرتفع سعر السحب باللبناني من 12 الفاً الى 15 الفاً.

 

هل يعني ذلك انّ الاول من شباط سيكون محطة مهمّة في الطريق نحو توحيد اسعار الصرف، وهو من الامور التي يطالب بها صندوق النقد الدولي؟

 

«تسعيرة» الـ15 الفاً، ستعطي الانطباع بأنّ عملية توحيد سعر الصرف قد اقتربت. لكن الاسئلة المطروحة كثيرة ومتشعبة بانتظار هذا الموعد، ومنها:

 

اولاً- ما المستوى الذي سيبلغه سعر الصرف في السوق السوداء من الآن، وحتى شباط؟ حالياً، واذا افترضنا انّ سعر دولار منصة صيرفة هو حوالى 30 الف ليرة، والمودع يسحب على سعر 8 آلاف ليرة، فهذا يعني انّ نسبة الهيركات على الدولار «البلدي» تصل الى 73%. وفي حال بقي الدولار على سعره الحالي، فإنّ نسبة الهيركات سوف تنخفض إلى حوالى 50%. فهل هذا الامر وارد، ام انّ الدولار سيواصل ارتفاعه إلى مستويات يعود معها الهيركات إلى نسبته القائمة اليوم؟

 

ثانياً- كيف سيتمّ التعاطي مع مسألة القروض الدولارية التي كان يتمّ تسديدها على الـ1500 ليرة؟ وفي هذا السياق، هناك مروحة واسعة من هذه القروض، منها الشخصية او السكنية وصولاً إلى القروض الاستثمارية.

 

ثالثاً- ما هي الانعكاسات المتوقعة على ميزانيات الشركات التي كانت لا تزال تعتمد تسعيرة الـ1500 في قيودها المحاسبية؟ وهل من تأثيرات استثنائية على ملف إعادة هيكلة المصارف؟

 

لا شك في انّ سعر الـ15 الف ليرة للدولار محطة في طريق توحيد سعر الصرف. هذه المحطة لا ينبغي ان تستمر لفترة طويلة، لأنّ إطالتها يعني انّه لم يتمّ الوصول الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وانّ الانهيار مستمر. ولن يطول الامر قبل ان يصبح هذا الرقم شبيهاً بمفاعيله بالرقم 1500 ليرة، سواء بالنسبة إلى التعاملات الرسمية، او للقيود المحاسبية في موازنات الشركات. وسيؤدّي ذلك إلى تسريع وتيرة التضخّم، بحيث انّ سعر العملة الوطنية سينهار دراماتيكياً، مقابل الاستمرار بزيادة الاجور وتكبير الكتلة النقدية في التداول.

 

بالنسبة إلى سعر الدولار من الآن وحتى شباط، ورغم صعوبة اعطاء تقديرات دقيقة، بسبب احتمال تدخّل مصرف لبنان في أية لحظة لدعم الليرة، وهذا ما أعلنه حاكم المركزي بصراحة في حديثه التلفزيوني الأخير، إلّا أنّ ذلك لا يمنع انّ الدولار سيواصل الارتفاع تدريجياً. وقياساً بالمنحنى القائم منذ سنة حتى اليوم، يمكن القول انّ احتمال وصول الدولار إلى فوق مستوى الـ50 الفاً في الاول من شباط، مرجّح حتى الآن.

 

في موضوع القروض، لا بدّ من تدخّل مصرف لبنان لتنظيم هذا الملف. ومن المرجّح أن يصدر تعميم او قرار عن المركزي قبل نهاية العام الجاري، يحدّد كيفية التعاطي مع القروض الدولارية. والترجيحات تفيد بأنّه سيتمّ تقسيم القروض إلى شرائح. ومن المؤكّد انّ شريحة القروض السكنية سيحظى اصحابها بوضعية خاصة في تسديد هذه القروض.

 

في موضوع الانعكاسات على وضعية ميزانيات المصارف، هناك اكثر من احتمال. وسبق لرئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي ان اعلن، بعد صدور تصريح وزير المالية المفاجئ في شأن تغيير سعر الصرف الرسمي، انّ التغيير لن يشمل رساميل المصارف، في اشارة إلى هذه الرساميل سيتواصل احتسابها على 1500 ليرة. لكن الأجواء السائدة اليوم، لا توحي بأنّ ما قاله ميقاتي سيبقى قائماً، ربما لأنّ صندوق النقد الدولي لن يوافق على هذا الاستثناء، ولو كان مؤقتاً بانتظار البدء في تنفيذ مشروع إعادة هيكلة المصارف. وبالتالي، ستكون هناك ورشة محاسبية لإعادة تقييم الملاءة في القطاع المصرفي، في ضوء الارقام الجديدة الناتجة من سعر الصرف الرسمي.

 

ويبقى سؤال أخير يتعلق بنهائية البدء في تنفيذ قرار رفع سعر الصرف في الاول من شباط. وفي هذا السياق، اصبح من الصعب تأجيل البدء في تنفيذ القرار، طالما انّ حاكم المركزي اعلن ذلك على الملأ، لكن القرار الرسمي لم يصدر بعد، وطالما انّه لم يصدر، فإنّ احتمالات التغيير تبقى قائمة ربطاً بالتطورات التي قد تفرض مثل هذا الأمر.

أنطوان فرح

واستفاقت الحكومة على الـbail-in… ماذا ينبغي أن نتوقّع؟

كثُر الحديث في الأيام الأخيرة عن الـbail-in كإجراء سوف تعتمده الحكومة في خطة التعافي واعادة هيكلة القطاع المالي. فهل ان هذا الاجراء عملي، ويمكن ان يكون جزءا من الحل؟ ولماذا تتجه الحكومة، أو من يرسم خطط الانقاذ فيها، الى هذا الاجراء اليوم؟

 

هناك لائحة من القواعد والمفاهيم التي يتم اللجوء اليها لمعالجة الأزمات المالية والاقتصادية حول العالم. لكن الاختيار بين سلة القواعد المتاحة، لا يتم بناء على مزاجية او رغبة من يملك حق الاختيار، بل وفق توصيفٍ للأزمة يتيح رؤية أفضل لنتائج هذا الخيار او ذاك. وبالتالي، لا توجد وصفات جاهزة يمكن إسقاطها على كل أنواع الأزمات المالية، بل هناك قواعد تصلح لأنواع محدّدة من الأزمات، وقد لا تصلُح لأزمات من نوع آخر.

 

في العادة، كان علم الاقتصاد، والبراغماتية بشكل عام، يدفعان في اتجاه الانقاذ عبر ما يُعرف بالـbail-out. وهذا ما فعلته، على سبيل المثال، الحكومة الاميركية في خلال أزمة 2008. اذ اضطرت الى التدخل لمنع انهيار قطاعها المالي، مع علمها المسبق بالنتائج التي قد تترتب عن السماح بهذا الانهيار. وهذا التدخل الرسمي لإنقاذ مصارف أخطأت في سياستها، كان موضع جدل عميق في واشنطن، قبل أن يُتخذ القرار.

 

في المقابل، دخل مفهوم الـbail-in حديثاً الى لائحة قواعد معالجة الأزمات المالية حول العالم. وتعتبر التجربة القبرصية من أوائل التجارب الحديثة التي جرى فيها اعتماد الـbail-in في العام 2013، لمعالجة الفجوة المالية في اكبر مصرفين على الجزيرة. هذه التجربة لا تزال موضع نقاش حتى اليوم، سواء لجهة قانونيتها ودستوريتها، أو لجهة النتائج التي أدّت اليها، وهل ساهمت فعلاً في الانقاذ، ام تركت تداعيات سلبية لا يزال الاقتصاد القبرصي يعاني منها حتى اليوم؟

 

بالنسبة الى المودعين الكبار في المصرفين القبرصيين، والذين تحولت ودائعهم الى أسهم وحقوق ملكية، خسروا قسماً من هذه الودائع بسبب الفارق بين سعر السهم كما جرى تخمينه في عملية التحويل (سعر اسمي)، وبين سعره الحقيقي في عمليات البيع والشراء. واعتبر ذلك بمثابة haircut فَرضَه الاتحاد الاوروبي على قبرص. ويؤكد كثيرون ان هذا الاقتطاع المموّه من الودائع في المصرفين المذكورين، انما اعتُمد كعقاب سياسي على اعتبار ان قسماً كبيراً من هؤلاء المودعين هم من الاثرياء الروس الذين استخدموا المصرفين لتهريب الاموال وتبييضها.

 

في عودة الى الوضع اللبناني، هناك مجموعة من الاسئلة ينبغي طرحها في موضوع الـbail-in، قبل المغالاة في دعم او انتقاد هذا الاجراء ضمن خطة الانقاذ:

 

اولاً – هل يمكن تطبيق الـbail-in على القطاع المصرفي بشكل عام، من دون الأخذ في الاعتبار الوضعيات المختلفة للمصارف، وقد شهدنا مؤخرا تدخل مصرف لبنان لإقصاء ادارة مصارف وتعيين مدير من قبله للاشراف على الانقاذ او تصفية هذه المصارف التي لم تعد قادرة على الاستمرار؟

 

ثانياً – ما هي النسبة التي سيتم اعتمادها في الـbail-in، وما هو السقف الذي سيجري تحديده لحجم الوديعة التي ستخضع لمثل هذا الاجراء؟ مليون، عشرة ملايين، 50 مليون دولار؟

 

ثالثاً – كيف سيتم تقييم الاسهم، وهل ستكون العملية مجرد اجراء صوري لتطبيق الـhaircut تحت مُسمّى آخر؟

 

رابعاً – هل يمكن تحديد الـbail-in قبل ان تقرر السلطة كيف ستتعامل مع ديونها، ومع ديون مصرف لبنان، ومع ودائع المصارف في مصرف لبنان والتي تقارب قيمتها الـ83 مليار دولار؟

 

خامساً – ماذا يضيف الـbail-in الى الحل، اذا لم تتم معالجة مشكلة الملاءة في القطاع المالي الناتجة عن عجز الدولة ومصرف لبنان عن اعادة الديون والمطلوبات الى المصارف؟

 

سادساً – هل هناك مودعون، على غرار المودعين الروس في قبرص، ترغب السلطة اللبنانية في الاقتصاص منهم، بقرار سياسي؟

 

الأزمة في لبنان ليست مجرد أزمة في القطاع المالي، ولا هي مجرد ازمة انهيار في قيمة النقد الوطني، ولا هي أزمة انكماش اقتصادي، بل انها مزيج من كل هذه العوامل، قادت اليها سياسة المالية العامة للدولة، بما يضفي عليها صفة الأزمة الشاملة التي تحتاج الى معالجات استثنائية. والقضية لا تتعلق بتأييد او رفض الـbail-in من قبل المودع، أو المصرف، بل تحتاج الى معالجة أعمق، تبدأ من الاجابة عن سؤال بسيط: هل نريد فعلاً حفظ حقوق المودعين؟ وهل المسؤول الاول عن الأزمة، أي الدولة، مستعدة للمساهمة في تعويض الخسائر، ام انها شريك مضارب، التهمت الودائع سنة بعد سنة، لسدّ العجز الناتج عن الانفاق والهدر والسرقات، وهي تدعو المودعين اليوم الى مسامحتها على طريقة عفا الله عمّا مضى؟

انطوان فرح

البنك الدولي يستبعد تعافي اقتصاد لبنان إذا استمر الشلل السياسي

دحض البنك الدولي ترقبات مصرف لبنان بتحقيق نمو إيجابي للناتج المحلي بنسبة 2 في المائة هذا العام، ليستخلص في أحدث تقديراته استمرار انكماش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 5.4 في المائة في العام الحالي، بافتراض استمرار حالة الشلل السياسي وعدم تنفيذ إستراتيجية للتعافي. ولينبّه بالتالي إلى ارتفاع المخاطر الاقتصادية للبلاد في ظل حالة عدم اليقين المستمرة منذ فترة طويلة، ما يؤكد ضرورة المضي قدماً في توزيع الخسائر المالية بصورة أكثر إنصافاً للمساعدة في وضع الاقتصاد اللبناني على مسار النهوض.

وفي توصيف لا يقل قساوة في مضمونه، أشار جان كريستوف كاريه المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي إلى «أن عمق الأزمة واستمرارها يقوضان قدرة لبنان على النمو، إذ يجري استنفاد رأس المال المادي والبشري والاجتماعي والمؤسسي والبيئي بسرعة وعلى نحو قد يتعذر إصلاحه. وعلى لبنان اعتماد حل منصف وشامل على وجه السرعة يعيد الاستقرار للقطاع المالي ويضع الاقتصاد على مسار التعافي».

وبرزت هذه الاستنتاجات ضمن ملخص التقرير الأحدث لمرصد الاقتصاد اللبناني، الذي يصدر دورياً عن المؤسسة الدولية، والذي تناول التطوُّرات الاقتصادية الأخيرة والآفاق والمخاطر الاقتصادية للبلاد، مستخلصاً منها تموضع لبنان في الصفوف الأخيرة للترتيب العالمي الذي يقيس الأداء الكلي للاقتصادات الوطنية، ومرجحاً أن يتبوأ مركز «الأسوأ» ضمن المجموعة المحددة من الدول التي انحدر إلى خانتها، وتضم زيمبابوي واليمن وفنزويلا والصومال.

وإذ حمل التقرير عنواناً لافتاً بأنه «حان الوقت لإعادة هيكلة القطاع المصرفي على نحو منصف»، فقد رجّح أن يؤدي الفراغ السياسي غير المسبوق إلى زيادة تأخير التوصل لأي اتفاق بشأن حل الأزمة وإقرار الإصلاحات الضرورية، ما يعمّق محنة الشعب اللبناني. ليؤكد بالتالي، أنه بعد مرور أكثر من 3 سنوات على نشوب أسوأ أزمة اقتصادية ومالية في تاريخ لبنان، لا يزال الخلاف بين الأطراف المعنية الرئيسية حول كيفية توزيع الخسائر المالية يمثل العقبة الرئيسية أمام التوصل إلى اتفاق بشأن خطة إصلاح شاملة لإنقاذ البلاد.

وتشير التقديرات الواردة في التقرير إلى انكماش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 5.4 في المائة عام 2022، بافتراض استمرار حالة الشلل السياسي وعدم تنفيذ إستراتيجية للتعافي. ونظراً لتوفُّر بيانات أفضل مما كان متوقعاً سابقاً، فإن البنك الدولي يعدّل تقديراته لانكماش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي للعام الماضي إلى 7 في المائة بخلاف نسبة 10.4 في المائة المقدرة سابقاً. مع التنويه بأن الانكماش في الناتج الذي شهده لبنان منذ عام 2018 والبالغ 37.3 في المائة، يُعد من بين أسوأ معدلات الانكماش التي شهدها العالم، ما يقوض قدرة الاقتصاد على التعافي.

وفيما يخلص التقرير إلى أن الأزمة الحالية ستعزِّز على الأرجح مستويات الدولرة المرتفعة، حتى بعد تحقيق التعافي، فإنه يلاحظ أنه رغم تدخلات مصرف لبنان لمحاولة تثبيت سعر الصرف في السوق الموازية على حساب الاحتياطي بالعملات الأجنبية الآخذ في التناقص، فإن الانخفاض الحاد في قيمة الليرة اللبنانية مستمر. وهو ما أدى إلى دخول معدل التضخم في خانة المئات منذ صيف العام 2020، ويتوقّع أن يبلغ متوسطه 186 في المائة العام الحالي. وبذلك، فهو من بين أعلى المعدلات عالمياً. كما يُعد لبنان من أكثر البلدان تضرُّراً من التضخم الذي طرأ مؤخراً على أسعار المواد الغذائية التي تتأثر بها بشكل خاص الأسر الفقيرة والمحتاجة، إذ تشكّل نسبة كبيرة من نفقاتها في ظل التآكل الشديد لقوتها الشرائية.

ويرى التقرير أنه مع زيادة الخسائر المالية عن 72 مليار دولار أميركي، أي ما يعادل أكثر من 3 أضعاف إجمالي الناتج المحلي في عام 2021، فإن تعويم القطاع المالي بات أمراً غير قابل للتطبيق نظراً لعدم توفر الأموال الكافية لذلك. فأصول الدولة لا تساوي سوى جزء بسيط من الخسائر المالية المقدَّرة، كما لا تزال الإيرادات المحتملة من النفط والغاز غير مؤكَّدة ويحتاج تحقيقها سنوات.

علي زين الدين

لماذا يجمع ســلامة الدولارات في الخزنة؟

لماذا يجمع حاكم مصرف لبنان الدولارات من السوق، رغم علمه المسبق انّ عملية الجمع هذه تزيد الضغوطات على الليرة، وقد ساهمت في إعطاء دفع إضافي لارتفاع الدولار الذي وصل اليوم إلى مستويات الـ40 الفاً، ويتجّه إلى الـ50، وفق مسار تصاعدي سريع نسبياً.

إحتاج الدولار في السوق السوداء الى حوالى 18 يوماً، لكي يعود الى السعر الذي بلغه في الفصل الاخير من تشرين الاول الماضي، قبل ان يذيع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بيانه الشهير مساء 23 تشرين، ويعلن فيه التوقّف عن شراء الدولار من السوق، والاكتفاء ببيعه عبر منصة «صيرفة». نجح البيان في إسقاط الدولار في ساعة واحدة إلى 36 الف ليرة، اي ما نسبته 10%. ومن ثم بدا وكأنّ الدولار ثبُتَ على سعر متماوج بمعدل وسطي بلغ 37 الف ليرة. لكن هذا «الثبات» سقط بعد بضعة ايام، وعاد الدولار الى مسار تصاعدي، ولو بطيء نسبياً، ليعود اليوم الى المستوى الذي بلغه قبل بيان 23 تشرين.

 

ما الذي جرى في الايام الـ18 التي تفصل بين هبوط الدولار المفاجئ، وعودته إلى مستوياته السابقة؟ وهل تتجّه العملة الخضراء إلى مستوى الـ50 الفاً، ام انّ المفاجآت التي قد تغيّر المسار، كما حصل في 23 تشرين واردة في حسابات مصرف لبنان؟

 

ما تبيّن من خلال الارقام التي ينشرها مصرف لبنان، انّ احتياطي العملات لديه لا يزال يرتفع. وقد نجح في غضون شهرين تقريباً، في جمع اكثر من 600 مليون دولار. هذا الأمر لافت، لجهة حجم السوق الحرة. اذ يُبيّن انّ حجم السوق الحرة اكبر من التقديرات السائدة. وهذا الامر ايجابي في مكانٍ ما، لأنّه يعكس وجود تدفقات مرتفعة نسبياً من الدولارات الى السوق، بما يعطي الأمل في انّ التعافي، فور البدء في تطبيق خطة إنقاذية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وبمواكبة ورعاية دولية، سيكون اسرع من التوقعات المُستندة الى تجارب الدول.

 

في الموازاة، أظهرت التطورات انّ مصرف لبنان أحجم عملياً عن بيع الدولارات بعد بيان 23 تشرين، ويبدو انّه استمر في شراء الدولارات من السوق، ولو بوتيرة ابطأ مما كان يفعل قبل البيان. وباع كميات صغيرة من الدولار في هذه الحقبة عبر منصة «صيرفة». وهذا يعني انّ مصرف لبنان لديه مخطط لجمع العملة الصعبة وتعزيز احتياطه. وقد استفاد من مناخ الإشاعات في شأن احتمال خفض الدولار لأسباب سياسية، لشراء المزيد من الدولارات بأسعار «مُخفّضة»، نتيجة ارتفاع العرض في فترة من الفترات.

 

لماذا يعطي المركزي الأولوية لجمع الدولارات، ولو على حساب خفض القدرات الشرائية للمواطنين، الذين يواجهون مأزق ارتفاع نسب التضخم وارتفاع اسعار السلع بوتيرة غير مسبوقة، خصوصاً في ظلّ الارتفاع العالمي في اسعار المحروقات، ورفع تعرفة الكهرباء، والارتفاعات المتوقعة في اسعار الخدمات، تماهياً مع رفع سعر الدولار الجمركي ورفع سعر الصرف الرسمي إلى 15 الف ليرة.

 

في المعلومات والقراءات التحليلية، انّ مصرف لبنان يتحضّر لمرحلة ما بعد رفع أجور موظفي القطاع العام، ورفع سعر سحب الودائع إلى 15 الفاً، ورفع تسعيرة الدولار الجمركي، وإلى التداعيات المتوقعة فور بدء تطبيق مندرجات موازنة العام 2022 بعد نشرها في الجريدة الرسمية، والمتوقّع غداً الثلثاء. بالإضافة إلى عملية تمويل شراء الفيول للكهرباء، والتي ينبغي ان تتمّ وفق دولار «صيرفة».

 

هذه الإنفاقات الاضافية المتوقعة، خصوصاً بعد رفع سقف التحويل الى الدولار عبر «صيرفة» لموظفي القطاع العام للسماح لهم بقبض رواتبهم المضاعفة 3 مرات بالدولار، ستضطر المركزي إلى بيع المزيد من الدولارات.

 

ويبقى السؤال عن المسار الذي سيأخذه الدولار بعد نشر الموازنة وبدء تطبيق مندرجاتها؟

 

لا شك في انّ المشكلة الرئيسية التي سيواجهها مصرف لبنان تتعلق بحجم الخسائر المتوقعة بين الشراء من السوق على سعر 40 الفاً، والبيع عبر صيرفة على 30 أو 31 الفاً. وبالتالي، سيضطر المركزي الى الاستمرار برفع سعر «صيرفة» لتخفيف الضغوطات على احتياطي العملات لديه، وكلما خفّف مصرف لبنان الضغط على احتياطه، زاد الضغط المعيشي على اللبنانيين. هذه هي المعادلة الظالمة للجميع، والتي لا يمكن تغييرها قبل تغيير المشهد العام والانتقال الى مرحلة الإنقاذ والتعافي.

 

يبقى أنّ المفاجآت واردة دائماً، وليس مستبعداً ان يلجأ المركزي، وبدلاً من رفع سعر «صيرفة»، إلى ضخ كمية من الدولارات في السوق، بما يؤدّي الى خفض سعر الدولار، واستقراره نسبياً لفترة محدّدة. لكن كل القرارات لن توقف مسيرة الخراب، طالما انّ المسار الانحداري للوضع العام في البلد لم يتوقف.

انطوان فرح

الآلية العلمية لإقرار الدولرة الشاملة للبنان: أي إحتياطي بالدولار لتغطية القاعدة النقدية؟

لأنّ القليل من المعرفة خطير، من الطبيعي أن يرفض المرء ما يجهله، ومن واجباتنا كمتخصصين بالسياسة النقدية وتجارب البلدان المدولرة، أن نقوم بإطلاع الرأي العام الرسمي والشعبي على كامل واقع الدولرة الشاملة التي فرضت نفسها، بغياب أي نظام سعر صرف بديل عن الذي سقط منذ ثلاث سنوات. اليوم أصبحت الدولرة تتخطّى 85%، وتشمل الإدخار والتداول والتسعير في مختلف القطاعات (ما عدا فقط السوبرماركت)، حتى رواتب الموظفين، لاسيما في القطاع العام، يتمّ سحبها بالدولار الأميركي وفق «صيرفة»، ولدى المصرف المركزي أصلاً غرفة مقاصة للشيكات بالدولار على غرار الولايات المتحدة الأميركية.. باختصار، تخطّينا مرحلة إبداء الرأي بالدولرة الشاملة، وبات الخيار محصوراً بين ترك السوق يفرضها بشكل فوضوي، أو تحمّل المسؤولية باعتماد الآلية العلمية لإقرارها رسمياً، وتأمين الاحتياطات المناسبة بالعملات الأجنبية، وفق دراسات كبار الباحثين من جامعة هارفرد وتجارب البلدان المماثلة، والحدّ من ازدواجية العملة…

بغية تفادي فوضى الدولرة الشاملة كأمر واقع، كما حصل في تيمور الشرقية وكوسوفو قبل عام 2000 وزيمبابوي قبل عام 2016، بما يحمل ذلك من مخاطر تفتيت الدولة والفوضى الشاملة غير القابلة للانضباط، في ظل عجز تمويل المؤسسات العامة التي تحسب موازناتها بالليرة وتسدّد نفقاتها بالدولار..

 

لا بدّ من الاعتراف الرسمي بالدولرة الشاملة وفق آلية علمية قابلة للتطبيق كما حصل في الأكوادور ومونتينيغرو…أو مجلس النقد الناجح كما في بلغاريا…

 

نعرض الآلية المفصّلة التي يقدّمها ريكاردو هوسمان (جامعة هارفرد) بغية الانتقال السليم إلى الدولرة الشاملة الرسمية:

1- تطوير إجماع وطني. السعي لأوسع نقاش عام ممكن حول الخيارات الممكنة للسياسة النقدية وسعر الصرف. يجب أن يتفق جميع أصحاب المصلحة: الحكومة ومجتمع الأعمال والقطاع المالي والمنظمات العمالية والمجتمع المدني.

 

2- إستكشاف إمكانية عقد معاهدة ارتباط نقدي مع الإدارة الأميركية وصندوق النقد الدولي لدعم النظام الجديد.

 

3- الإعلان عن برنامج دولرة شاملة مسبوق باعتماد سياسات تضمن نجاحه.

 

4- إقرار برنامج إصلاح سياسات ضمان الملاءة والسيولة للقطاع المالي وقدرة سوق العمل على مواجهة الصدمات الحقيقية من دون اللجوء إلى تخفيض قيمة العملة أو التضخم.

 

5- وضع برنامج زمني، سنتان أو ثلاث سنوات، قبل بلوغ الدولرة الشاملة (وتفادياً لفرضها الفوضوي من السوق).

 

6- التأكّد أنّ البنك المركزي لديه دولارات كافية لتحويل القاعدة النقدية، وليس الكتلة م3 إلى الدولار Monetary Base القاعدة النقدية = الأوراق النقدية والعملات المعدنية التي يحتفظ بها الجمهور + احتياطيات المصارف كودائع نقدية تحتفظ بها في حساباتها في المصرف المركزي (علماً أنّ معدل السيولة لا يتخطّى عادة 10% من الودائع)

 

7- تنفيذ إصلاح النظام المصرفي قبل الدولرة، وضمان الملاءة والسيولة للنظام.

 

8- البحث عن بديل لمقرض الملاذ الأخير، وهو نوع من التمويل، لتجنّب تحويل المخاطر إلى دول أخرى.

 

9- إعتماد التغييرات اللازمة لإلغاء قواعد المفاضلة في عقود العمل، أي تقليل القيود المفروضة على خلق فرص العمل وزيادة تنقّل العمالة.

 

10- تحديث إجراءات الإفلاس لجعل «حل التقصير» أقل تكلفة. كيف يعمل النظام النقدي المدولر كلياً؟ تستفيد الدولة المدولرة من حصة من المعروض من العملة الأجنبية التي حلّت محل عملتها الوطنية، كما لو كانت منطقة إضافية ضمن نطاق البلد المصدّر لهذه العملة الأجنبية، في حالة الدولار الأميركي، فهي الولايات المتحدة.

 

لا يحتاج البلد المعتمد على الدولار إلى وجود فائض في الحساب الجاري لتجميع الدولارات؛ يمكن أن يؤدي تدفق الاستثمار الأجنبي إلى تعويض عجز الحساب الجاري. في بلد يعتمد على الدولار، تميل أسعار السلع والخدمات إلى الحفاظ على مستوى أسعارها في الولايات المتحدة. قد يختلف تضخم أسعار المستهلك بين الدولة المُدولرة والولايات المتحدة الأميركية، تمامًا كما يختلف بين منطقتين في الولايات المتحدة نفسها.

 

ويميل معدّل الفائدة إلى التقارب مع مستوى أسعار الفائدة الأميركية، بالإضافة إلى علاوة أو خصم، اعتمادًا على الاختلاف في المخاطر السياسية والاحتياطيات الضرورية للبنوك وغيرها. تميل المضاربة على سعر الصرف إلى الاختفاء، لأنّه لم يعد هناك عملة وطنية لتخفيض قيمتها. الدولرة عن طريق تجاوز المصرف المركزي تتضمن الدولرة الكاملة والرسمية التحويل الكامل للقاعدة النقدية (وليس كل الكتلة النقدية م3) من العملة الوطنية إلى الدولار الأميركي. ومع ذلك، فإنّ البنوك المركزية التي لديها احتياطيات كافية بالدولار لتحويل إجمالي قاعدتها النقدية إلى دولارات على الفور، قليلة. مع العلم أنّ صافي احتياطيات القاعدة النقدية بالدولار = أصول بالعملات الأجنبية – خصوم بالعملات الأجنبية. ومع ذلك، يمكن أن تكون الدولرة تدريجية، وتتطور مع توفر احتياطيات العملات الأجنبية.

 

وهذا يعني أنّ الدولرة يمكن أن تنقسم إلى جزءين: جزء يشمل البنك المركزي وجزء آخر يشمل باقي النظام المالي. في ما يلي مراحل دولرة الجهاز المصرفي غير البنك المركزي:

 

1- إزالة الرقابة على الصرف، على الأقل في ما يتعلق باستخدام الدولار. من الأفضل إلغاء ضوابط أسعار الصرف تمامًا، ولكن إذا لم يكن ذلك ممكنًا، فسيكون الوكلاء على الأقل قادرين على استخدام الدولار بحرّية دون الخضوع للرقابة.

 

2- إعلان الدولار الأميركي عملة وطنية قانونية موازية للعملة الوطنية المبدئية للدولة، الدولرة مع جميع امتيازات العملة الوطنية. سيكون للوكلاء الاقتصاديين الحرية في إجراء مشترياتهم ودفع رواتبهم والحصول على قروض أو ودائع بالدولار أو العملة الوطنية. إذا رغبت الحكومة، يمكنها السماح للمواطنين بدفع الضرائب بالدولار بسعر الصرف الحالي بالعملة الوطنية. بمجرد تنفيذ هذه الخطوات القانونية، تهتم المبادرات الفردية بالباقي. الودائع الجديدة بالدولار التي تأتي للمصارف تضمن احتياطي الدولار وتشكّل قاعدة للاعتمادات الدولارية. وبالتالي، تزداد الدولرة في النظام المالي، حتى لو استمرت العملة الوطنية في التداول، وحتى إذا استمرت الحكومة في استخدام العملة الوطنية حصريًا. دولرة المصرف المركزي حتى لو كان من الممكن دولرة النظام المالي من خلال تجاوز البنك المركزي، لجعل الدولرة كاملة وآمنة، من الضروري أيضًا دولرة البنك المركزي. طالما بقي مبلغ من أموال البنك المركزي متداولًا، فإنّ الحكومة دائمًا لديها الوسائل لاستعادة العملة الوطنية التي أصدرها البنك المركزي على الفور.

 

الخطوات اللازمة لدولرة البنك المركزي هي كما يلي، مع الأخذ في الاعتبار أنّ بعض الاختلافات ضرورية حسب البلد، وأنّ الخطوات من 4 إلى 7 متزامنة.

1- الأساس هو تحويل القاعدة النقدية الى الدولار وليس كل الكتلة النقدية… وقد لا يكون من الضروري تحويل القاعدة النقدية بأكملها إلى دولار، إذا كانت الاحتياطيات المطلوبة من قِبل المصارف مرتفعة، فقد يكون جزء كبير من القاعدة النقدية في شكل احتياطيات يتمّ إيداعها لدى البنك المركزي، ولا تستطيع المصارف التجارية استخدامها مباشرة.. في بعض الأحيان، يتمّ تحويل جزء كبير أو إجمالي الاحتياطيات غير المدفوعة مع البنك المركزي إلى سندات خزينة تضمن لها الفائدة. ومع ذلك، فمن الحكمة تحويل جزء من الاحتياطيات إلى دولارات بدلاً من سندات الخزينة، لأنّه إذا لم يتمّ تدويل النظام المصرفي بغياب دور البنك المركزي «كمقرض الملاذ الأخير» فقد تكون هناك حاجة للاحتفاظ بالمزيد من الاحتياطيات، بعد طرح الاحتياطيات التي سيتمّ تحويلها إلى سندات خزينة، تصبح حصة القاعدة النقدية التي سيتمّ تحويلها إلى الدولار أقل بكثير.

 

2- يمكن تحقيق الدولرة الشاملة والرسمية بسهولة أكبر عندما تساوي أصول البنك المركزي بالعملات الأجنبية، أو تتجاوز بالفعل حصة القاعدة النقدية التي سيتمّ تحويلها إلى الدولار، كما هو مذكور في الخطوة 1. إذا كانت أصول المصرف المركزي بالعملات الأجنبية أقل من القاعدة النقدية، يجب أن يكون إجمالي صافي الأصول، الأجنبية والمحلية، مساويًا أو أكبر من حصة القاعدة النقدية المراد تحويلها إلى الدولار. في هذه الحالة، يمكن للبنك المركزي أن يبيع أصوله المحلية مقابل الدولار، إلى جانب أصوله الأجنبية. ومن المعلوم أنّ معظم المصارف المركزية التي تبلغ أزمتها النقدية درجة التخلّي عن عملتها الوطنية، تكون غير قادرة على بيع ديونها بسهولة إلى الدولة أو المؤسسات المملوكة منها، خصوصاً أنّ العديد من حكومات هذه البلدان تكون سبق وشجّعت المصارف المركزية على الاكتتاب في سندات الخزينة، وخصوصاً سندات الخزينة غير الجذابة والمطلوبة في السوق، كما حصل في لبنان بعد أن تراجع الإقبال على شراء سنداتها، حيث عمد بين «العصا والجزرة» إلى دفع الجهاز المصرفي على الاكتتاب بها… في حالة صعوبة بيع الأصول المحلية للمصرف المركزي على الفور، يمكن تحقيق الدولرة على مرحلتين. تتمثل المرحلة الأولى في التأمين الفوري على الحكومة، عن طريق إصدار سندات خزينة بالدولار، أو في حال كان وضع البلد لا يسمح، لأنّه سبق وأعلن وقف سداد ديونه بالدولار مسبقًا، يمكن أن يلجأ للاقتراض بالدولار مباشرة من صندوق النقد الدولي أو الحكومة الأميركية بعد التفاوض الرسمي لمعالجة أزمة نظام الصرف فيه. تتكون المرحلة الثانية من دولرة القاعدة النقدية عبر مراحل عدة، حيث يتمّ تجميع احتياطيات النقد الأجنبي. ليست هناك حاجة للانتظار حتى تتساوى أصول المصرف المركزي بالعملات الأجنبية مع حصة القاعدة النقدية التي سيتمّ تحويلها إلى الدولار. تشرح الخطوة 6 هذه الملاحظة بمزيد من التفصيل.

 

3- في حالة وجود رقابة على سعر الصرف، يجب إلغاؤها والسماح بتحرير سعر صرف العملة لفترة معلنة مسبقًا لا تتجاوز 30 يومًا. لأنّه خلال فترة نظام ربط سعر الصرف السابق لم يكن سعر الصرف يعكس واقع السوق. من هنا تأتي الحاجة إلى السماح بتعويم العملة الوطنية بحرية لمدة لا تتجاوز 30 يومًا دون تدخّلات من البنك المركزي.

 

4- إعلان سعر صرف ثابت أمام الدولار، والإعلان عنه فوراً. يجب أن يكون سعر الصرف هذا أقرب ما يمكن من سعر الصرف الملاحظ خلال فترة التعويم المشار إليها في المرحلة 3، وعلى وجه الخصوص، أقرب ما يمكن من سعر الصرف المحقق في نهاية هذه الفترة. وتظهر التجارب أنّ الاقتصاد سيوفر بسرعة تعديلًا لسعر الصرف يكون صحيحًا تقريبًا. سيُطلب من البنك المركزي استبدال الدولار بالعملة الوطنية أو العكس بالسعر الثابت. سيتمّ الإعلان عن الدولار كعملة وطنية، مع جميع حقوقها. وجميع المدفوعات التي ينبغي أن تتمّ بالعملة الوطنية يمكن أن تتمّ بالدولار الأميركي بسعر الصرف المحدّد أخيرًا.

 

5- الإعلان فورًا عن أنّ جميع الأصول والخصوم بالعملة الوطنية (الودائع المصرفية والقروض المصرفية وما إلى ذلك) تصبح أصولًا والتزامات بالدولار الأميركي بسعر الصرف الجديد. الإعلان عن فترة انتقالية لا تتجاوز 90 يومًا لاستبدال عروض الأسعار بالدولار الأميركي.

 

6- تجميد القاعدة النقدية الوطنية واستبدالها بالدولار وفق توفر الاحتياطيات بالدولار. إذا كانت احتياطيات البنك المركزي كافية، فإنّ دولرة القاعدة النقدية ستكون فورية، وإلاّ فإنّ الدولرة ستتمّ على مراحل. يجوز للبنك المركزي أن يشرع في بيع جزء من أصوله أو كلها، ويجوز له بيع أصوله بالعملة الوطنية التي يتلقاها شهريًا. كما يمكن للدولة الاستدانة بالدولارلتحقيق عملية الانتقال. وتجدر الإشارة إلى أنّ تحويل الودائع والائتمانات في القطاع المصرفي من العملة الوطنية إلى الدولار لا ينبغي أن يفرض أي عمولة على العملاء. حتى بعد أن يجمع البنك المركزي احتياطيات كافية بالدولار لسحب العملة الوطنية المتداولة، يجب على النظام المصرفي الاستمرار في قبول العملة وفقًا لسعر الصرف الثابت لمدة عام على الأقل، لإعطاء الوقت لتكيّف الاقتصاد، وليقوم الوكلاء باستبدال جميع أرصدتهم النقدية التي بحوزتهم بالدولار الأميركي.

 

7- استخدام الأوراق النقدية المحلية: بعد إتاحة الوقت الكافي للاعتماد اللازم، يجب اتخاذ الترتيبات لاستبدال الأوراق النقدية بالعملة الوطنية بأوراق نقدية من الدولارات. إذا بدأت الدولرة على عجل، وقد يكون المعروض من الأوراق النقدية بالدولار غير كافٍ، ويبدو أنّ سعر الصرف ليس هو سعر الصرف الذي تكون فيه الأوراق النقدية مرتبطة بالدولار، فقد يتمّ تخفيض قيمة الأوراق النقدية وحدها إلى مبلغ معادل يسهّل التقسيمات العشرية للدولار.

 

8- إنهاء الأنشطة المالية للمصرف المركزي، وإعادة تكليف باقي مهامه حسب احتياجاته. لم يعد البنك المركزي مؤسسة مالية، إذا استمرت بعض الأنشطة، فمن المحتمل أن تكون إحصائية أو تنظيمية بحتة. يبقى القول، إنّ الاقرار بالدولرة الشاملة لم يكن يومًا خيارًا مرغوبًا لأي بلد، بل يأتي على طريقة «مكره أخاك لا بطل» كأمر واقع يفرض نفسه، بعد افتقاد الثقة والشفافية والاصلاحات الحقيقية وتعثّر بقية الخيارات… في حال ثمة خيارات أخرى لا تزال متاحة، لا بدّ من فتح النقاش العلمي حولها.. إما الفوضى وإما الحوار العلمي المسؤول للآليات الرسمية… * بروفسورة في جامعة القديس يوسف – كلية العلوم الاقتصادية

 

بغية تفادي فوضى الدولرة الشاملة كأمر واقع، كما حصل في تيمور الشرقية وكوسوفو قبل عام 2000 وزيمبابوي قبل عام 2016، بما يحمل ذلك من مخاطر تفتيت الدولة والفوضى الشاملة غير القابلة للانضباط، في ظل عجز تمويل المؤسسات العامة التي تحسب موازناتها بالليرة وتسدّد نفقاتها بالدولار.. لا بدّ من الاعتراف الرسمي بالدولرة الشاملة وفق آلية علمية قابلة للتطبيق كما حصل في الأكوادور ومونتينيغرو…أو مجلس النقد الناجح كما في بلغاريا…

 

نعرض الآلية المفصّلة التي يقدّمها ريكاردو هوسمان (جامعة هارفرد) بغية الانتقال السليم إلى الدولرة الشاملة الرسمية:

1- تطوير إجماع وطني. السعي لأوسع نقاش عام ممكن حول الخيارات الممكنة للسياسة النقدية وسعر الصرف. يجب أن يتفق جميع أصحاب المصلحة: الحكومة ومجتمع الأعمال والقطاع المالي والمنظمات العمالية والمجتمع المدني.

2- إستكشاف إمكانية عقد معاهدة ارتباط نقدي مع الإدارة الأميركية وصندوق النقد الدولي لدعم النظام الجديد.

 

3- الإعلان عن برنامج دولرة شاملة مسبوق باعتماد سياسات تضمن نجاحه.

 

4- إقرار برنامج إصلاح سياسات ضمان الملاءة والسيولة للقطاع المالي وقدرة سوق العمل على مواجهة الصدمات الحقيقية من دون اللجوء إلى تخفيض قيمة العملة أو التضخم.

5- وضع برنامج زمني، سنتان أو ثلاث سنوات، قبل بلوغ الدولرة الشاملة (وتفادياً لفرضها الفوضوي من السوق).

6- التأكّد أنّ البنك المركزي لديه دولارات كافية لتحويل القاعدة النقدية، وليس الكتلة م3 إلى الدولار Monetary Base

القاعدة النقدية = الأوراق النقدية والعملات المعدنية التي يحتفظ بها الجمهور + احتياطيات المصارف كودائع نقدية تحتفظ بها في حساباتها في المصرف المركزي (علماً أنّ معدل السيولة لا يتخطّى عادة 10% من الودائع)

7- تنفيذ إصلاح النظام المصرفي قبل الدولرة، وضمان الملاءة والسيولة للنظام.

8- البحث عن بديل لمقرض الملاذ الأخير، وهو نوع من التمويل، لتجنّب تحويل المخاطر إلى دول أخرى.

 

9- إعتماد التغييرات اللازمة لإلغاء قواعد المفاضلة في عقود العمل، أي تقليل القيود المفروضة على خلق فرص العمل وزيادة تنقّل العمالة.

 

10- تحديث إجراءات الإفلاس لجعل “حل التقصير” أقل تكلفة.

 

 

 

كيف يعمل النظام النقدي المدولر كلياً؟

تستفيد الدولة المدولرة من حصة من المعروض من العملة الأجنبية التي حلّت محل عملتها الوطنية، كما لو كانت منطقة إضافية ضمن نطاق البلد المصدّر لهذه العملة الأجنبية، في حالة الدولار الأميركي، فهي الولايات المتحدة. لا يحتاج البلد المعتمد على الدولار إلى وجود فائض في الحساب الجاري لتجميع الدولارات؛ يمكن أن يؤدي تدفق الاستثمار الأجنبي إلى تعويض عجز الحساب الجاري.

 

في بلد يعتمد على الدولار، تميل أسعار السلع والخدمات إلى الحفاظ على مستوى أسعارها في الولايات المتحدة. قد يختلف تضخم أسعار المستهلك بين الدولة المُدولرة والولايات المتحدة الأميركية، تمامًا كما يختلف بين منطقتين في الولايات المتحدة نفسها. ويميل معدّل الفائدة إلى التقارب مع مستوى أسعار الفائدة الأميركية، بالإضافة إلى علاوة أو خصم، اعتمادًا على الاختلاف في المخاطر السياسية والاحتياطيات الضرورية للبنوك وغيرها. تميل المضاربة على سعر الصرف إلى الاختفاء، لأنّه لم يعد هناك عملة وطنية لتخفيض قيمتها.

 

 

 

الدولرة عن طريق تجاوز المصرف المركزي

تتضمن الدولرة الكاملة والرسمية التحويل الكامل للقاعدة النقدية (وليس كل الكتلة النقدية م3) من العملة الوطنية إلى الدولار الأميركي. ومع ذلك، فإنّ البنوك المركزية التي لديها احتياطيات كافية بالدولار لتحويل إجمالي قاعدتها النقدية إلى دولارات على الفور، قليلة. مع العلم أنّ صافي احتياطيات القاعدة النقدية بالدولار = أصول بالعملات الأجنبية – خصوم بالعملات الأجنبية.

 

ومع ذلك، يمكن أن تكون الدولرة تدريجية، وتتطور مع توفر احتياطيات العملات الأجنبية.

وهذا يعني أنّ الدولرة يمكن أن تنقسم إلى جزءين: جزء يشمل البنك المركزي وجزء آخر يشمل باقي النظام المالي.

 

 

 

في ما يلي مراحل دولرة الجهاز المصرفي غير البنك المركزي:

1- إزالة الرقابة على الصرف، على الأقل في ما يتعلق باستخدام الدولار. من الأفضل إلغاء ضوابط أسعار الصرف تمامًا، ولكن إذا لم يكن ذلك ممكنًا، فسيكون الوكلاء على الأقل قادرين على استخدام الدولار بحرّية دون الخضوع للرقابة.

 

2- إعلان الدولار الأميركي عملة وطنية قانونية موازية للعملة الوطنية المبدئية للدولة، الدولرة مع جميع امتيازات العملة الوطنية. سيكون للوكلاء الاقتصاديين الحرية في إجراء مشترياتهم ودفع رواتبهم والحصول على قروض أو ودائع بالدولار أو العملة الوطنية. إذا رغبت الحكومة، يمكنها السماح للمواطنين بدفع الضرائب بالدولار بسعر الصرف الحالي بالعملة الوطنية.

 

بمجرد تنفيذ هذه الخطوات القانونية، تهتم المبادرات الفردية بالباقي. الودائع الجديدة بالدولار التي تأتي للمصارف تضمن احتياطي الدولار وتشكّل قاعدة للاعتمادات الدولارية. وبالتالي، تزداد الدولرة في النظام المالي، حتى لو استمرت العملة الوطنية في التداول، وحتى إذا استمرت الحكومة في استخدام العملة الوطنية حصريًا.

 

 

 

دولرة المصرف المركزي

حتى لو كان من الممكن دولرة النظام المالي من خلال تجاوز البنك المركزي، لجعل الدولرة كاملة وآمنة، من الضروري أيضًا دولرة البنك المركزي. طالما بقي مبلغ من أموال البنك المركزي متداولًا، فإنّ الحكومة دائمًا لديها الوسائل لاستعادة العملة الوطنية التي أصدرها البنك المركزي على الفور.

 

الخطوات اللازمة لدولرة البنك المركزي هي كما يلي، مع الأخذ في الاعتبار أنّ بعض الاختلافات ضرورية حسب البلد، وأنّ الخطوات من 4 إلى 7 متزامنة.

1- الأساس هو تحويل القاعدة النقدية الى الدولار وليس كل الكتلة النقدية… وقد لا يكون من الضروري تحويل القاعدة النقدية بأكملها إلى دولار، إذا كانت الاحتياطيات المطلوبة من قِبل المصارف مرتفعة، فقد يكون جزء كبير من القاعدة النقدية في شكل احتياطيات يتمّ إيداعها لدى البنك المركزي، ولا تستطيع المصارف التجارية استخدامها مباشرة..

 

في بعض الأحيان، يتمّ تحويل جزء كبير أو إجمالي الاحتياطيات غير المدفوعة مع البنك المركزي إلى سندات خزينة تضمن لها الفائدة. ومع ذلك، فمن الحكمة تحويل جزء من الاحتياطيات إلى دولارات بدلاً من سندات الخزينة، لأنّه إذا لم يتمّ تدويل النظام المصرفي بغياب دور البنك المركزي “كمقرض الملاذ الأخير” فقد تكون هناك حاجة للاحتفاظ بالمزيد من الاحتياطيات، بعد طرح الاحتياطيات التي سيتمّ تحويلها إلى سندات خزينة، تصبح حصة القاعدة النقدية التي سيتمّ تحويلها إلى الدولار أقل بكثير.

 

2- يمكن تحقيق الدولرة الشاملة والرسمية بسهولة أكبر عندما تساوي أصول البنك المركزي بالعملات الأجنبية، أو تتجاوز بالفعل حصة القاعدة النقدية التي سيتمّ تحويلها إلى الدولار، كما هو مذكور في الخطوة 1.

 

إذا كانت أصول المصرف المركزي بالعملات الأجنبية أقل من القاعدة النقدية، يجب أن يكون إجمالي صافي الأصول، الأجنبية والمحلية، مساويًا أو أكبر من حصة القاعدة النقدية المراد تحويلها إلى الدولار. في هذه الحالة، يمكن للبنك المركزي أن يبيع أصوله المحلية مقابل الدولار، إلى جانب أصوله الأجنبية. ومن المعلوم أنّ معظم المصارف المركزية التي تبلغ أزمتها النقدية درجة التخلّي عن عملتها الوطنية، تكون غير قادرة على بيع ديونها بسهولة إلى الدولة أو المؤسسات المملوكة منها، خصوصاً أنّ العديد من حكومات هذه البلدان تكون سبق وشجّعت المصارف المركزية على الاكتتاب في سندات الخزينة، وخصوصاً سندات الخزينة غير الجذابة والمطلوبة في السوق، كما حصل في لبنان بعد أن تراجع الإقبال على شراء سنداتها، حيث عمد بين “العصا والجزرة” إلى دفع الجهاز المصرفي على الاكتتاب بها…

 

في حالة صعوبة بيع الأصول المحلية للمصرف المركزي على الفور، يمكن تحقيق الدولرة على مرحلتين.

 

تتمثل المرحلة الأولى في التأمين الفوري على الحكومة، عن طريق إصدار سندات خزينة بالدولار، أو في حال كان وضع البلد لا يسمح، لأنّه سبق وأعلن وقف سداد ديونه بالدولار مسبقًا، يمكن أن يلجأ للاقتراض بالدولار مباشرة من صندوق النقد الدولي أو الحكومة الأميركية بعد التفاوض الرسمي لمعالجة أزمة نظام الصرف فيه.

 

تتكون المرحلة الثانية من دولرة القاعدة النقدية عبر مراحل عدة، حيث يتمّ تجميع احتياطيات النقد الأجنبي. ليست هناك حاجة للانتظار حتى تتساوى أصول المصرف المركزي بالعملات الأجنبية مع حصة القاعدة النقدية التي سيتمّ تحويلها إلى الدولار. تشرح الخطوة 6 هذه الملاحظة بمزيد من التفصيل.

 

3- في حالة وجود رقابة على سعر الصرف، يجب إلغاؤها والسماح بتحرير سعر صرف العملة لفترة معلنة مسبقًا لا تتجاوز 30 يومًا. لأنّه خلال فترة نظام ربط سعر الصرف السابق لم يكن سعر الصرف يعكس واقع السوق. من هنا تأتي الحاجة إلى السماح بتعويم العملة الوطنية بحرية لمدة لا تتجاوز 30 يومًا دون تدخّلات من البنك المركزي.

 

4- إعلان سعر صرف ثابت أمام الدولار، والإعلان عنه فوراً. يجب أن يكون سعر الصرف هذا أقرب ما يمكن من سعر الصرف الملاحظ خلال فترة التعويم المشار إليها في المرحلة 3، وعلى وجه الخصوص، أقرب ما يمكن من سعر الصرف المحقق في نهاية هذه الفترة. وتظهر التجارب أنّ الاقتصاد سيوفر بسرعة تعديلًا لسعر الصرف يكون صحيحًا تقريبًا. سيُطلب من البنك المركزي استبدال الدولار بالعملة الوطنية أو العكس بالسعر الثابت. سيتمّ الإعلان عن الدولار كعملة وطنية، مع جميع حقوقها. وجميع المدفوعات التي ينبغي أن تتمّ بالعملة الوطنية يمكن أن تتمّ بالدولار الأميركي بسعر الصرف المحدّد أخيرًا.

 

5- الإعلان فورًا عن أنّ جميع الأصول والخصوم بالعملة الوطنية (الودائع المصرفية والقروض المصرفية وما إلى ذلك) تصبح أصولًا والتزامات بالدولار الأميركي بسعر الصرف الجديد. الإعلان عن فترة انتقالية لا تتجاوز 90 يومًا لاستبدال عروض الأسعار بالدولار الأميركي.

 

6- تجميد القاعدة النقدية الوطنية واستبدالها بالدولار وفق توفر الاحتياطيات بالدولار. إذا كانت احتياطيات البنك المركزي كافية، فإنّ دولرة القاعدة النقدية ستكون فورية، وإلاّ فإنّ الدولرة ستتمّ على مراحل. يجوز للبنك المركزي أن يشرع في بيع جزء من أصوله أو كلها، ويجوز له بيع أصوله بالعملة الوطنية التي يتلقاها شهريًا. كما يمكن للدولة الاستدانة بالدولارلتحقيق عملية الانتقال. وتجدر الإشارة إلى أنّ تحويل الودائع والائتمانات في القطاع المصرفي من العملة الوطنية إلى الدولار لا ينبغي أن يفرض أي عمولة على العملاء. حتى بعد أن يجمع البنك المركزي احتياطيات كافية بالدولار لسحب العملة الوطنية المتداولة، يجب على النظام المصرفي الاستمرار في قبول العملة وفقًا لسعر الصرف الثابت لمدة عام على الأقل، لإعطاء الوقت لتكيّف الاقتصاد، وليقوم الوكلاء باستبدال جميع أرصدتهم النقدية التي بحوزتهم بالدولار الأميركي.

 

7- استخدام الأوراق النقدية المحلية: بعد إتاحة الوقت الكافي للاعتماد اللازم، يجب اتخاذ الترتيبات لاستبدال الأوراق النقدية بالعملة الوطنية بأوراق نقدية من الدولارات. إذا بدأت الدولرة على عجل، وقد يكون المعروض من الأوراق النقدية بالدولار غير كافٍ، ويبدو أنّ سعر الصرف ليس هو سعر الصرف الذي تكون فيه الأوراق النقدية مرتبطة بالدولار، فقد يتمّ تخفيض قيمة الأوراق النقدية وحدها إلى مبلغ معادل يسهّل التقسيمات العشرية للدولار.

 

8- إنهاء الأنشطة المالية للمصرف المركزي، وإعادة تكليف باقي مهامه حسب احتياجاته. لم يعد البنك المركزي مؤسسة مالية، إذا استمرت بعض الأنشطة، فمن المحتمل أن تكون إحصائية أو تنظيمية بحتة.

 

يبقى القول، إنّ الاقرار بالدولرة الشاملة لم يكن يومًا خيارًا مرغوبًا لأي بلد، بل يأتي على طريقة “مكره أخاك لا بطل” كأمر واقع يفرض نفسه، بعد افتقاد الثقة والشفافية والاصلاحات الحقيقية وتعثّر بقية الخيارات… في حال ثمة خيارات أخرى لا تزال متاحة، لا بدّ من فتح النقاش العلمي حولها.. إما الفوضى وإما الحوار العلمي المسؤول للآليات الرسمية…

د. سهام رزق الله

الودائع مضمونة… والخـــطة الاقتصادية خيرُ شاهد

 

من خلال الاجواء السياسية السائدة، لا يبدو انّ حكومة تصريف الاعمال قادرة على استكمال مشروع الانقاذ قبل إجراء انتخابات رئاسية تعيد الانتظام الى المؤسسة السياسية في البلد. وهذا يعني انه اذا طال أمد الفراغ، فإنّ البلد سيستمر في مساره الانحداري، ولن ينقذه لا الترسيم ولا الاجراءات المؤقتة التي تُتخذ على عجل، وتتسم بالعشوائية أحياناً، فتساهم في تعميق مأساة اللبنانيين بدلاً من تخفيف معاناتهم.

يسعى المجلس النيابي اليوم من خلال مناقشة مشروع قانون الكابيتال كونترول أن يقوم بواجباته ويستكمل ما هو مطلوب للوصول الى اتفاق تمويل ورعاية مع صندوق النقد الدولي. لكن الحقائق الدامغة تشير الى أنه سيكون صعباً على المجلس، ومن ثم على حكومة تصريف الاعمال، أن تُنجز المهمة المطلوبة. واذا كانت موازنة 2022 قد سُمح بإقرارها بالتي هي أحسن، وقانون السرية المصرفية قد مرّ بتعديلات مقبولة من قبل الصندوق، فإنّ الاشكالية التي تواجه السلطة التشريعية، ومعها السلطة التنفيذية العرجاء، في مشروع خطة التعافي، معطوفة على قانون الكابيتال كونترول، تبدو شبه مستحيلة بالمعطيات المتوفرة حتى الآن على الأقل.

ما هو مُستهجن وغريب وغير منطقي، ان تتحدث الحكومة، أو بعضها، عن اعتماد مبدأ الحفاظ على الودائع، ومن ثم يتبيّن ان ما هو مرسوم نظرياً سيؤدّي الى ضياع الودائع. وهذا ما يتبيّن في الكابيتال كونترول، الذي يريده بعض النواب منبراً صوتياً للادعاء انهم يرفضون المسّ بالودائع. من حيث المبدأ، وظيفة الكابيتال كونترول لا علاقة لها بالمصير النهائي للودائع، بل هي وسيلة للضبط المؤقت بانتظار الحل. واذا كانت الجهود النيابية جادة في هذا الاتجاه، ينبغي التركيز على ما هو مرسوم في الخطة الاقتصادية للحكومة. صحيح ان الحكومة عدّلت في «فلسفة» الخطة، وعادت الى اعتماد مبدأ التوزيع العادل للخسائر، لكنها عملياً تسير في الاتجاه المعاكس، حيث يبدو واضحاً انها تريد التهام الودائع. ويبرّر نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي هذا الاتجاه بالقول ان الهدف هو سد الفجوة في مصرف لبنان، والتي قُدرت بحوالى 73 مليار دولار!

 

طبعاً، موضوع سدّ الفجوة أمر مطلوب، لكن النقاش هو كيف، وليس لماذا. ما هو مُقترح حتى الآن، يسدّ الفجوة في المركزي ويفتح فجوة اكبر وأخطر في القطاع المالي، سيدفع ثمنها المودع الذي يَعِدهُ الشامي بالحفاظ على وديعته. والغريب في هذا النقاش، ان الحكومة التي تقدّم هذا الاقتراح، تعترف في مقدمة خطتها حول «استراتيجية النهوض بالقطاع المالي» (FSRS) بمسؤولية «الدولة» منفردة تقريباً في التسبّب بهذه الفجوة. وقد جاء في توصيف الحكومة لما جرى ما حرفيته «ان الخسائر الضخمة التي تكبّدها مصرف لبنان هي نتيجة قيامه بعمليات مالية هدفت الى جذب تدفقات رأس المال للحفاظ على سعر الصرف الثابت المبالغ في قيمته، ولتمويل العجز في الموازنة».

 

في تفنيد السببين اللذين ذكرتهما الحكومة، أي سعر الصرف وتمويل عجز الموازنة، تتحمّل «الدولة» بالتكافل والتضامن مع مصرفها المركزي المسؤولية. اذ أن تثبيت سعر الصرف كان قراراً سياسياً اتخذته السلطة، وأفصحَت عنه مراراً وتكراراً في بياناتها الوزارية، التي كانت تتباهى فيها امام الرأي العام، وتؤكد قرارها الحفاظ على سعر صرف الليرة لحماية القدرات الشرائية للمواطنين. أما تمويل العجز في الموازنة فلا يحتاج الى تفسير اضافي. وصار معروفاً كيف كانت السلطة السياسية تضغط لتحصيل هذا التمويل من المركزي. وسبق لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن اعلن في تصريح موثّق ان الدولة «سحبت» حوالى 63 مليار دولار من اموال المودعين بموجب مراسيم وقوانين، ومنها على سبيل المثال، لا الحصر، السلفات الدورية لمؤسسة كهرباء لبنان. وقد أصبح البلد اليوم بلا كهرباء.

 

قد يكون مفهوماً أن يضرب المودع رِجله في الأرض ويقول للمصارف انه يريد امواله، وانه غير مسؤول كيف وأين أودعت المصارف هذه الاموال. لكن ما ليس مفهوماً ولا مقبولاً ان تقرر «الدولة» ان تحمّل الخسائر للمودع وللمصرف، وكأنها تقول للقطاع المالي لماذا وَثقتم بدولتكم، أو لماذا قررتم منع انهيار دولتكم، أو لماذا اعتبرتم انكم مسؤولون عن ضمان استمرارية المرفق العام، ولم تسمحوا بالافلاس المبكر، أو حتى لماذا خضعتم لمصرف الدولة المركزي ونفّذتم تعاميمه وقراراته التي أدّت الى سحب السيولة الى صناديقه، لكي يتسنّى للدولة سحبها مجدداً وسرقة قسمٍ لا بأس منها. لهذه الاسباب سوف أحاسبكم واستولي على أموالكم، التي هي في النتيجة أموال المودعين. انها الحَكَمْ والحاكِم بأمر الله، وهي في الوظيفتين فاشلة وظالمة وتستحقّ وحدها المحاسبة.

أنطوان فرح

دولار سلامة بعد 31 تشـرين

ثبُت بما لا يقبل الشك انّ سعر صرف الليرة في السوق الحرة اصطناعي، وانّ مصرف لبنان هو اللاعب الرئيسي القادر على تحريكه. فهل ينوي حاكم المركزي خفض الدولار اكثر بعد 31 تشرين الاول، موعد نهاية ولاية الرئيس ميشال عون؟ وما هي التوقعات بالنسبة الى المسار الذي سيسلكه سعر الدولار في المرحلة المقبلة؟

 

لا تزال أصداء البيان الذي أعلنه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مساء الاحد في 23 تشرين الاول الجاري، وتعهّد فيه بأنه سيوقِف شراء الدولار وسيكتفي ببيعه عبر منصة صيرفة، تتردّد في الاسواق وفي الاوساط الشعبية. والتساؤلات تشمل الخلفيات، الاهداف، المدى، النتائج والتوقعات.

 

في الواقع، تبدو لائحة الاهداف المُتماهية مع الاسباب، طويلة ويصعب فرزها وتصفيتها وصولاً الى استنتاج وحيد يقود الى معرفة المسار الذي سيسلكه سعر صرف الدولار في الايام المقبلة، وهو الامر الذي يشغل بال اللبنانيين اكثر من سواه في هذه المرحلة. هذه اللائحة، تشمل الاحتمالات التالية:

 

اولاً – مع تخطّي سعر صرف الدولار الاربعين الف ليرة، واتجاهه صعوداً، قرر سلامة التدخّل للجمه واعادة المنحنى (curve) الى مسار شبه مستقر على سعر يتراوح بين 36 و37 الف ليرة.

 

ثانياً – مع اتّساع الفارق بين سعر منصة صيرفة وسعر السوق الحرة الى مستويات غير مسبوقة، تجاوزت الـ10 آلاف ليرة للدولار الواحد، كان سلامة امام خيارين. إما التدخل لخفض دولار السوق الحرة، وإما رفع سعر منصة صيرفة. خصوصا ان الفارق الكبير بين السعرين تسبّب بمشاكل كثيرة من ضمنها زيادة الطلب على الشراء عبر صيرفة بما تجاوز الكوتا التي يخصّصها المركزي للمصارف يومياً. وهذا ما يفسّر لجوء المصارف الى اجراءات خاصة لتلبية الطلب، مثل خفض سقف المبلغ الذي يستطيع الزبون حجزه عبر «صيرفة»…

 

ثالثاً – تسبّب تخطّي الدولار الاربعين الف ليرة بإشكالية في تطبيق التعميمين 151 و158 اللذين يتيحان السحب بالليرة على سعري 8 آلاف و12 الف ليرة. وكان هناك نقاش في شأن رفع سعر السحب الى 15 الف ليرة، لكي تبقى نسبة الاقتطاع (haircut) من الودائع الدولارية مقبولة وقريبة من النسبة التي اعتمدت لدى إصدار التعميمين. ولكن، ومع اعتراض جهات سياسية على خطوة تغيير سعر السحب، لجأ سلامة الى خيار خفض دولار السوق الحرة.

 

رابعاً – مع اقتراب نهاية ولاية رئيس الجمهورية، ومع بروز مؤشرات اضافية تؤكد الاتجاه نحو الفراغ، اعتبر سلامة انه لا بد من التدخّل المسبق، لمنع ارتفاع دراماتيكي بعد 31 تشرين الاول.

 

خامساً – على نقيض البند الرابع، كانت هناك اجواء اشاعات منتشرة في البلد مفادها ان سلامة سيعمد الى اتخاذ اجراءات لخفض الدولار بعد رحيل عون عن قصر بعبدا للايحاء بأن اجواء ارتياح سادت في البلد بسبب انتهاء الولاية الرئاسية.

 

وبالنسبة الى هذا البند بالذات، لا تزال التفسيرات متناقضة. اذ هناك من يعتبر ان الاشاعة لم تكن صحيحة، لكن سلامة استغل الجو السائد، بحيث ان المواطنين الذين يخزّنون الدولار، كانوا متوجّسين وقلقين من مباغتتهم بانخفاضٍ سريعٍ للدولار، وبالتالي، كانوا جاهزين للاسراع في بيع الدولار فَور بروز اي اشارة في هذا الاتجاه. وهذا ما استغلّه سلامة، واصدر بيان 23 تشرين، ونجح في خفض الدولار من حوالى 41 الف ليرة الى 36 الف ليرة في ساعة واحدة، ومن دون ان يضطر الى بيع دولار واحد في السوق.

 

النظرية النقيضة تقول ان سلامة كان ينوي فعلاً اتخاذ اجراءات لخفض الدولار لها علاقة برحيل عون، لكنه وَقّتها بذكاء. اذ أنه أصدر بيانه قبل نهاية الولاية بحيث أثبت ان اتهامه بهذا «المخطط» في غير محله. وفي الوقت نفسه تدخّل لمنع تراجع الدولار بسرعة وبنسبة مرتفعة من خلال عدم ضخ الدولارات في السوق. لكنه سيُقدم على هذه الخطوة بعد 31 تشرين، وسيرفع منسوب ضخ الدولارات لخفضه الى مستويات جديدة تقترب اكثر من سعر منصة «صيرفة».

 

ويسأل اصحاب هذه النظرية، من يستطيع ان يراقب ماذا يفعل سلامة؟ فهو قال انه سيتوقف عن شراء الدولار، لكن كيف نعرف انه لم يبادر الى شراء الدولار سراً في الايام التي تلت بيانه. ألم يكن مستغرباً ان يهبط الدولار في فترة العطلة وفي فترة السماح، اكثر ممّا هبط لاحقاً طوال الاسبوع بعد بدء تنفيذ القرار يوم الثلاثاء؟ ألا يعني ذلك ان سلامة قد يكون تدخّل في الاتجاه المعاكس لرفع سعر الدولار قليلاً، لأنه لم يكن يرغب بهذا الخفض السريع قبل نهاية الولاية الرئاسية؟

 

بالاضافة الى كل هذه القراءات، تبرز مسألة انتهاء ولاية سلامة نفسه في تموز المقبل. وهناك كلام كثير على انّ اجراءات التهدئة، ومنع الدولار من الارتفاع ولو على حساب ما تبقّى من اموالٍ للمودعين مُحتجزة في المركزي، يهدف الى تأمين نوع من الاستقرار النسبي لحين انتهاء ولاية سلامة وخروجه من مصرف لبنان، وبعد ذلك لكل حادث حديث.

مصرف لبنان ومراحل من الاحتياطي السلبي بالـــدولار… إقتصاد لبنان لم يبدأ عام 1993!

من المستغرب أن تشهد معظم النقاشات الاقتصادية الاعلامية وكثير من الكتابات، تركيزاً حصرياً على فترة ما بعد عام 1993، وربما يعود ذلك إلى سهولة إيجاد المعلومات والأرقام لهذه الفترة، بعد تسلّم الرئيس الشهيد رفيق الحريري السلطة التنفيذية وإعادة انتظام عمل المالية العامة ونشر الإحصاءات في وزارة المال ومصرف لبنان المركزي. إلّا أنّ اقتصاد لبنان لم يبدأ عام 1993، والاختلالات في موازين المالية العامة وبيانات المصرف المركزي ومنها الاحتياطي من العملات الأجنبية، لم تطلق صفارات الإنذار فقط بدءاً بالعام 2005، ولو أنّ كارثية ميزان المدفوعات منذ العام 2011 لا مثيل لها حتى خلال سنوات الحرب. لكن معظم ما نعانيه حتى اليوم من نقص في الأرقام وشح في التقارير يعود تحديداً إلى المراحل السابقة… أحد أبرز المؤشرات التي تشكّل مصدر قلق نقدي اليوم، يكمن في مستوى الاحتياط الصافي من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وهو الذي عرف مستويات سلبية (أي تحت الصفر) في مراحل سابقة، لا بدّ من التوقّف عندها وتسليط الضوء على الخيارات التي اتُخِذت حينها وتبيان الدروس المستخلصة للوضع الحالي…

خلافاً لكل مفاعيل الصدمة التي يعبّر عنها البعض اليوم حيال وضع احتياطي المصرف المركزي من العملات الأجنبية خصوصاً بعد اضطراره إلى خفض معدل الاحتياطي الالزامي على الودائع بالعملات الأجنبية من 15 % الى 14 %، ومع ذلك إعلانه فقط عن الاحتياطات الاجمالية بالدولار المتبقية لديه، من دون التطرّق الى الاحتياطات الصافية كونه لم يعد لديه سوى ما تبقّى من احتياط إلزامي على الودائع (من دون أي إضافات صافية)، من الجدير ذكره أننا شهدنا سابقاً مراحل بهذه الصعوبة من دون الإعلان والترويج الكارثي لمعانيها نظراً لاستفادة لبنان في المراحل السابقة من كونه «مُحتضنا» بمظلة عربية ودولية داعمة…

 

أكد صندوق النقد الدولي، في تقريره الخاص بلبنان عام 2002، تدهور الاحتياطات الأجنبية الصافية لمصرف لبنان وخصوصا صافي الاحتياطيات الأجنبية التي أصبحت سلبية لأول مرة في تاريخ لبنان. فماذا تعني الاحتياطات الصافية؟ إنها الاحتياطات بالعملات الأجنبية من دون احتساب الاحتياطي الالزامي والحر الذي يعود للمصارف التجارية لدى المصرف المركزي (وهو طبعاً جزء من الودائع).

 

وأوضح تقرير صندوق النقد الدولي أنه «في أيلول 2001، وفي محاولة لدعم احتياطاته الإجمالية، أدخل مصرف لبنان معدلات احتياطي إلزامي على الودائع بالعملات الأجنبية، تم تحديده بنسبة 10 % خلال الربع الأخير من عام 2001، وبنسبة 15 % اعتبارًا من 1 كانون الثاني 2002. ومع ذلك، في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2002، تعرضت احتياطات النقد الأجنبي لمصرف لبنان لضغط مكثف لأنّ M3 كان في حالة تراجع…

 

وبقيت المصارف التجارية معرّضة بشدة للديون الحكومية واستمرت القروض المتعثرة في الزيادة. القطاع المصرفي اللبناني عبارة عن ودائع مصرفية كبيرة جدا (بما في ذلك الودائع لغير المقيمين) كانت تساوي نحو 240 % من الناتج المحلي الإجمالي – ومُعتمدة على الدولار بمقدار كبير، مع دولرة 72 % من إجمالي الودائع و83 % من الائتمان المقدّم للقطاع الخاص. وأصبحت المصارف التجارية في لبنان تحمل 56 % من إجمالي الدين الحكومي بتوجيهات مباشرة فرضت ذلك عليها بمرحلة اولى، وهو ما يمثّل نحو ثلث إجمالي أصول المصارف وكان يشكل دخل الفوائد المصاحب نحو 40 % من إجمالي دخل المصارف التجارية. بين عامي 1993 و2001، اعتمدت الحكومة اللبنانية في البداية على الاقتراض الكبير من السوق المحلية، وشكّلت الديون بالليرة اللبنانية نحو 81.3 % من إجمالي الدين. وقد تمّ إجبار المصارف على الاكتتاب بسندات الخزينة حتى 60 % من التزاماتها بالليرة اللبنانية، وخُفّض المعدل إلى 40 % في عام 1994 ثم أُلغي في عام 1997.

 

من عام 2002 إلى عام 2008، تصاعدت حصّة الديون بالعملات الأجنبية مع بدء مؤتمر باريس الذي عُقد في شباط 2001، فشكّل متوسّط الديون بالعملات الأجنبية 49.1 % من إجمالي الدين من 2002 إلى 2008. وعاوَد الدين بالليرة اللبنانية النمو ليشكّل من 2010 إلى 2018 متوسّط 60.25 % من مجموع الدين.

 

وبلغت عائدات الدين بالعملة المحلية، خصوصاً على سندات الخزينة عن عام وعامين، مستويات عالية تخطّت 30 % في التسعينات. واشترك اللاعبون المحليون بشكل رئيسي في الديون بالعملة المحلية على أساس عائد مرتفع لتعويض المخاطر العالية. على هذا النحو، تأثرت عائدات سندات الخزينة اللبنانية لعامين، التي احتفظت المصارف المحلية بمعظمها بعائد 33.6 % في آب وأيلول 1992، قبل أن ينخفض تدريجاً الى حدود 7.1 % مطلع العام 2019.

 

علماً أنّه بدءاً من العام 2016 أصبح الاتجاه الى خفض خدمة الدين العام باعتماد سياسات نقدية غير تقليدية عُرفت بـ»الهندسات المالية» بالتوافق بين وزارة المال والمصرف المركزي والمصارف اللبنانية، بغية استبدال تدريجي لجزء من الدين بالليرة بدين بالدولار (يوروبوند)، كون الفوائد على اليوروبوند أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية نظراً لفارق عامل المخاطرة بين العملتين.

 

وكانت مختلف التوترات السياسية تضغط على مناخ الثقة للاستثمار وتدهور تصنيف لبنان السيادي لدى مؤسسات التصنيف «فيتش»، «موديز» و»ستاندرد أند بورز»، مما يؤدي الى رفع الفوائد لتعويض المخاطر.. اليوم قارَب مجموع الدين العام الـ100 مليار دولار وفق الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة المال، إنما فعلياً فقط أقل من ثلثه بالدولار الأميركي والمتبقّي هو بالليرة، وقد تدنت قيمته كثيراً إذا تمّ تقويمه على أساس سعر الدولار في السوق.

 

أما تحميل المصرف المركزي عبء العجوزات المالية فإنه أيضاً لم يبدأ لا حالياً ولا عام 1993 بل كذلك الأمر منذ سنوات الحرب وعن طريق الفرض لا المشورة وضَربَ بعرض الحائط إستقلالية المصرف المركزي وكل بنود قانون النقد والتسليف التي تحول دون استسهال تمويل مصرف لبنان للعجز المالي..

 

بين عام 1962 وحتى عام 1975، عندما بدأت الحرب في لبنان، كانت كل الموازنات تعاني من عجز، باستثناء موازنات الأعوام 1971 و 1972 و 1974 عشية اندلاع حرب 1975. أول غياب لقطع حسابات الموازنات العامة وحسابات المهمّة (حسابات الخزينة) كان بين عام 1979 وعام 1993. وحديثاً تكرّر الأمر بوقف قطع الحسابات المستمر منذ عام 2004 وحتى عام 2020.

 

وتميّزت حقبة 1983- 1984 بتنامي عجزين: عجز المالية العامة وعجز ميزان المدفوعات. أما الاقتراض من المصرف المركزي، فقد أجازته اتفاقية عُقدت بين وزارة المال والمصرف المركزي عام 1977، سمحت للحكومة بأن تحصل على قروض استثنائية، بغية تمويل تسيير أجهزة الدولة، وإعادة الإعمار. وقد رُفع سقف هذه القروض اكثر من مرّة بعد ذلك التاريخ. وكان ذلك يتمّ بموجب مادة في قانون الموازنة تُجيز للحكومة تعديل الاتفاقية المذكورة بمرسوم.

 

بعد عام 1985، لم تعد الحكومة ترسل مشروع الموازنة إلى مجلس النواب على النحو المنصوص عليه في الدستور. وأقرّ البرلمان إمكانية التصويت على قوانين تسليفات إضافية لموازنة عام 1985، أو اللجوء إلى طلب سلفات خزينة.

 

وقد فرضت الدولة على المصارف إلزامية الاكتتاب بسندات الخزينة على مواردها من الليرة اللبنانية. وأدّت خاتمة فترة الحرب في عامي 1989 و1990 إلى تفاقم وضع المالية العامة وأدّى انخفاض الإيرادات الضريبية إلى اعتماد الخزينة العامة، بالإضافة إلى الديون، على أرباح مصرف لبنان التي يتمّ تحويلها إليه بموجب قانون النقد والتسليف. وبلغت حصة أرباح مصرف لبنان في تمويل الخزينة نحو 62 % من إيرادات الموازنة عام 1989 و38.5 % من إيرادات الموازنة عام 1990.

 

وبعد غياب الموازنة لمدة 5 سنوات، اتّسَمت نهاية عام 1990 بإصدار الموازنة العامة. تحسّن وضع المالية العامة نسبياً، لكن استمرار العجز أدّى إلى نمو قوي في الدين العام الداخلي الذي زاد بنسبة 66 % عام 1991 و92 % عام 1992. في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت المتوجّب على الخزينة اللبنانية يُعادل نحو 3 مليارات دولار أميركي، منه 327.5 مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية.

 

وابتداءً من العام 1993 وحتى العام 2005 انتظَم من جديد العمل المؤسساتي في المالية العامة وعُرفت موازنة العام 2005 بـ»الموازنة الإصلاحية»، وترافقت مع آخر قطع حساب عن العام 2004، قبل أن يتوقّف صدور قطوعات الحسابات مجدداً ويستمر غيابه الى اليوم! لا بل توقّف أيضاً إقرار الموازنات المالية من العام 2005 حتى العام 2016، قبل أن يُعاود صدور الموازنات عام 2017 ولكن من دون قطع حسابات.

 

عام 2011 كان عام انقلاب كل المؤشرات الاقتصادية في لبنان، تزامن مع انقلاب مناخ الاستقرار السياسي، تبدّل مسار مؤشر الدين العام/الناتج المحلي ليعاود الارتفاع بعد سنوات من الانخفاض المتتالي، وكان قطاع الكهرباء يُراكم سلفات بالدولار الأميركي وفوائد عليها تخطّت 18 مليار دولار حتى العام 2011 مما رفع الدين بالدولار الى أكثر من 21 مليار دولار. واستمرت الكهرباء في تسجيل عجز مالي سنوي بنحو ملياري دولار وتتراكَم عليها الفوائد حتى باتت تفوق الـ43 مليار دولار ولو كان معظم هذه السلفات بالليرة اللبنانية إلا أنه كان يتم تحويلها تلقائياً من المصرف المركزي الى الدولار الأميركي لتسديد قيمتها بالدولار الأميركي (لا سيما منها مثلاً لاستيراد الفيول وتغطية مدفوعات ومستوردات بالعملات الأجنبية).

 

من عام 2002 إلى عام 2008، تصاعدت حصّة الديون بالعملات الأجنبية مع بدء مؤتمر باريس الذي عُقد في شباط 2001، فشَكّل متوسّط الديون بالعملات الأجنبية 49.1 % من إجمالي الدين من 2002 إلى 2008. وعاوَد الدين بالليرة اللبنانية النمو ليشكّل من 2010 إلى 2018 متوسّط 60.25 % من مجموع الدين، علماً أنّه بدءاً من العام 2016 أصبح الاتجاه الى خفض خدمة الدين العام باعتماد سياسات نقدية غير تقليدية عُرفت بـ»الهندسات المالية» بالتوافق بين وزارة المال والمصرف المركزي والمصارف اللبنانية، بغية استبدال تدريجي لجزء من الدين بالليرة بدين بالدولار (يوروبوند)، كَون الفوائد على اليوروبوند أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية نظراً لفارق عامل المخاطرة بين العملتين.

 

اليوم لم يعد الاحتياطي بالعملات الأجنبية الاجمالي (وليس الصافي) لدى مصرف لبنان يتخطى منتصف تشرين الأول لعام 2022 حدود الـ10 مليارات دولار، طبعاً عند تنقيص محفظة اليوروبوند اللبنانيّة التي يحملها مصرف لبنان، والبالغة قيمتها 5.03 مليارات دولار والتي أعلنت الدولة الللبنانية العجز عن سدادها منذ آذار 2020. مسار الاحتياطي بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان لا يحدده المصرف المركزي وحده بل مجمل متطلبات الاقتصاد التي يَتشارك بتحمّل مسؤولياتها مجمل السلطات الى حين، وعلى أمل استعادة إستقلالية السياسة النقدية خصوصاً إزاء السياسة المالية للدولة اللبنانية…