أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

قريباً في لبنان… خبز “أبيض” وخبز “أسود”

يوماً بعد يوم، يتظهّر عُمق التداعيات التي ستخلّفها الحرب في أوكرانيا، على كل اقتصاديات الدول، وعلى الأمن الغذائي، وعلى مستويات النمو والمعيشة. ويبدو انّ التداعيات على الوضع اللبناني ستكون أقسى، بسبب نقاط ضعف غير موجودة لدى دول أخرى.

قبل ان تبدأ الحرب ببضعة ايام، وكان معروفاً انّ احتمال اندلاعها صار مُرجّحاً، طالعتنا وزارة الاقتصاد بأن لا داعي للهلع، لأنّ الوزارة أعدّت خطة (A) وخطة (B) وخطة (C). والحديث هنا عن القمح حصراً. ليتبيّن بعد اندلاع الحرب، أن لا وجود لخطط حقيقية، وكل ما قيل عراضات اعلامية للادّعاء انّ الوزراة تعمل وتستعد وتعرف ماذا يجري حولها. أما وزارة الطاقة، وهي المعنية بالشق الأساسي المتعلق بالمحروقات، فكانت أصدق مع نفسها ومع الناس: لا خطة ولا من يخطّطون، وعندما نصل اليها نصلّي عليها. وهكذا صار وصلنا اليها، ومشهد الطوابير عاد بقوة رغم كل التطمينات.

 

في كل الأحوال، التحضير لمواجهة تداعيات حرب، بحجم الحرب في أوروبا، ليست مسؤولة عنه وزارة بعينها، بل الحكومة مجتمعة، ومعها مجلس النواب الذي يملك حق وواجب الحثّ والرقابة والمتابعة والمساءلة.

بصرف النظر عن مشهد اللادولة، لماذا قد تكون التداعيات عندنا اكثر خطورة من دول أخرى، وما هي مكامن هذه المخاطر؟

من سوء حظ اللبناني انّ الحرب اندلعت في توقيت أكثر من حساس بالنسبة الى الوضع المالي في الداخل، وضمن المعطيات التالية:

 

اولاً- دولة مفلسة توقفت عن دفع ديونها، وهي تنفق من اموال الناس بالكامل منذ نهاية العام 2019. وقد أهدرت حتى الآن حوالى 20 مليار دولار، من دون ان تتمكّن من تثبيت ولو خطوة واحدة في مسار المعالجة للخروج من هذا الوضع.

 

ثانياً- مع اقتراب الانتخابات النيابية، وبعدما وصل سعر صرف الدولار الى 33 الف ليرة، وكان مقدّراً له أن يواصل الارتفاع، ومع اهتزاز الأمن الاجتماعي وتحرّك الشارع، لجأت الحكومة، وبقرار منفرد من رئيسها، الى العودة الى دعم الليرة. وهذا يعني كسر قرار التوقّف عن الإنفاق من الاحتياطي المتبقي، وهو القرار الذي كان بدأ ينفّذه مصرف لبنان من خلال وقف القسم الأكبر من دعم السلع والخدمات، والاكتفاء بالدعم القادر على تأمينه من دولارات السوق فقط.

 

ثالثاً- لم يعد واضحاً اليوم ما هو حجم الاحتياطي المتبقّي في مصرف لبنان، خصوصاً انّه يتمّ اعتماد اسلوب تأجيل دفع الفواتير، بما يعني انّ المبلغ الحقيقي المتبقّي، إذا ما تمّ تسديد الفواتير، أقل بكثير من المبلغ المُصرّح عنه رسمياً من قِبل المصرف.

 

رابعاً- ليس معروفاً حجم الخسائر التي يتكبّدها المركزي جراء دعم الليرة، لكن ما هو مؤكّد انّ هذه الخسائر سترتفع بسبب تداعيات الحرب، بحيث انّ الكلفة ستصبح أكبر لاستيراد كل السلع، وفي مقدّمها المحروقات للقطاع العام وللقطاع الخاص، لأنّ الليرة باتت مدعومة، ويتمّ شراء الدولار بسعر اصطناعي.

 

هذه الحقائق تقود الى استنتاج انّ البلد امام مشهد جديد اشدّ سوداوية من المشهد المأساوي القائم منذ اعلان الإفلاس في آذار 2020. وسيكون الضغط كبيراً على ما تبقّى من دولارات في المركزي. والانتخابات تحول دون اتخاذ قرارات عقلانية في مواجهة هذه الكارثة، وبالتالي، من المرجّح ان يتمّ اعتماد الإجراءات الأسهل، ولكن الأكثر كلفة في المرحلة المقبلة. وليس مستبعداً ان نكون اقتربنا من مشاهد الفقر المزمن. إذ انّ المشكلة، على سبيل المثال لا الحصر، ليست في فقدان القمح، بل في مصدر الدولارات لشرائه بسعر مرتفع. وكذلك المحروقات، وكل السلع الغذائية الأخرى.

 

وبالتالي، قد نكون اقتربنا من مشهد رغيف الجمعية ورغيف الميسورين. بمعنى، انّ الدعم الذي ستعجز الدولة عن تأمينه، قد يضطرها الى استيراد نوعية قمح سيئة ورخيصة. وبالمقابل، سيستورد القطاع الخاص كميات صغيرة من القمح الجيد غير المدعوم، بحيث يصبح رغيف الجمعية ذو النوعية السيئة، وغير الموضّب في أكياس من نصيب المواطنين الفقراء، وهم اكثرية ساحقة، والرغيف الجيد من نصيب الميسورين. وقد ينسحب ذلك على مواد غذائية أخرى. وهذا الامر قائم في دول كثيرة كانت تعاني الفقر، بحيث يوجد خبز «اسود» مدعوم للفقراء، وخبز «ابيض» للميسورين.

 

انّه لبنان الجديد الذي نتجّه نحوه بخطى ثابتة، بفضل التخطيط المميز الذي تتّبعه السلطة. ومن البديهي، انّ السؤال بعد ذلك عن خطة الإنقاذ، ومصير الودائع، ومصير الناس، يصبح في غير محله.

انطوان فرح

إستقرار سعر الصرف «تزَعزَع»… هل يمكن ضبطه من جديد؟

كما كان متوقعاً، شهدت سوق الصرف أمس زيادة في الطلب على الدولار، إن كان لدى المصارف تماشياً مع التعميم 161 الذي يجيز شراء الدولارات منها على سعر صرف منصة صيرفة (20200 ليرة مقابل الدولار)، أو لدى الصيارفة، وذلك نتيجة الحاجة الملحّة للاستيراد على مختلف الاصعدة ولدى كافة القطاعات التي تسعى لتأمين مخزون كاف في سباق مع ارتفاع اسعار المواد الاساسية والغذائية والصناعية عالمياً، بشكل صاروخي.

أدّى الواقع المستجدّ الذي فرضته تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا الى «زعزعة» الاستقرار السائد في سعر صرف الليرة والذي نجح مصرف لبنان أخيرا في توفيره منذ حوالى الشهرين، بفضل التعميم 161 الذي أمّن الدولارات من دون سقوف محددة للمصارف من اجل بيعها لكلّ من ينجح في «لمّ» السيولة النقدية بالليرة من السوق. وقد انفردت منصة صيرفة في النتيجة، في تحديد سعر الصرف في الفترة الاخيرة في السوق عند مستويات مستقرّة نوعاً ما عند حوالى 20 الف ليرة مقابل الدولار.

لكنّ هذا الاستقرار تزعزع أمس، مع ارتفاع سعر الصرف في السوق السوداء الى مستوى تخطّى سعر «صيرفة»، عند أكثر من 22 الف ليرة مقابل الدولار، مما أثار بلبلة في السوق، بدأت معها التكهنات بأن مصرف لبنان توقف عن بيع الدولارات للمصارف وأوقف عمل منصة صيرفة، ليُسارع بعدها البنك المركزي في اصدار بيان توضيحي يؤكد فيه ان «خبر توقف منصة Sayrafa عن العمل عار عن الصحة جملة و تفصيلا، كما يؤكد حاكم المركزي ان مصرف لبنان ملتزم بمتابعة مفاعيل التعميم ١٦١ وانه مستمر بتأمين الدولار الأميركي من دون سقف مقابل الليرة اللبنانية على سعر منصة Sayrafa».

في تفاصيل ما أدّى الى تداول وإشاعة هذا الخبر الذي إن لم يكن اليوم صحيحا، قد يصبح بعد شهر واقعاً، ان بعض المصارف لم يستطع تلبية الطلب الكبير على الدولار امس، بسبب نفاد الكوتا المحددة له يوميا، أي الدولارات التي يؤمّنها له مصرف لبنان وفقاً لحجم السيولة النقدية التي يسلّمه ايّاها المصرف المعني في اليوم السابق. وبالتالي، قصد بعض التجار المصارف لشراء الدولارات على سعر منصة صيرفة كالعادة، ليتفاجأوا بأن الدولارات لم تعد متوفرة. ولكن هذا الامر لا يعني ان مصرف لبنان أوقف العمل بالتعميم 161، بل يؤشر، حالياً، الى ارتفاع في الطلب على الدولار، فاق قدرة المصارف على تلبيته امس، ما اضطرّ التجار الى التحوّل نحو السوق السوداء لشرائه، مما ساهم في ارتفاع سعر الصرف ليتخطّى 22 الف ليرة مقابل الدولار.

واوضحت مصادر في مصرف لبنان لـ«الجمهورية» ان البنك المركزي سيواصل بيع الدولارات وفقا للتعميم 161 وان ما حصل امس لا يعدو كونه نفاد كوتا احد المصارف اليومية من الدولارات، واستغلال هذا الموضوع لاثارة البلبلة. وردّا على سؤال حول قدرة مصرف لبنان على مواصلة دعم الليرة وتطبيق وتمديد مفاعيل التعميم 161 بالاضافة الى استمراره في دعم استيراد المحروقات والقمح رغم ارتفاع اسعارها المتواصل، اكدت المصادر انه يتم العمل على آلية للحفاظ على الاستقرار الذي كان سائدا.

في المقابل، أكدت مصادر مصرفية ان بعض البنوك بدأ في «غربلة» التجار، أي في اعطاء الاولوية لتجار المواد الاساسية والحيوية المعنيّة بالأمن الغذائي، حيث تتم تلبية حاجاتهم من الدولارات قبل الزبائن الآخرين او قبل تجار ومستوردي المواد المصنّفة من الكماليات. وتوقعت المصادر ان تؤدي البلبلة التي أثيرت امس الى تهافت على شراء الدولارات من مختلف المصادر، ولو بأسعار تفوق سعر «صيرفة»، نتيجة التكهنات، ولو المغلوطة، في امكانية توقف مصرف لبنان عاجلا أم آجلا عن توفير الدولارات، وبالتالي معاودة سعر صرف الدولار التحليق مجددا الى مستويات قياسية جديدة، سيلحقه حتماً سعر منصة صيرفة.

شظايا الحرب الأوكرانية

ما إن اندلعت نيران الحرب الأوكرانية، وظهرت طلائع العقوبات الإقتصادية على مختلف القطاعات الإنتاجية وأركان السلطة في روسيا، حتى اشتعلت الأسواق العالمية. برميل النفط قفز فوق عتبة الـ105 دولارات للبرميل، وارتفعت بشكل موازٍ أسعار المواد الأولية والإستهلاكية، وسط تقلبات حادة في الأسواق المالية نتيجة احتدام الصراع الأكبر في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. المؤشرات كلّها تدلّ على أن الإقتصاد العالمي متّجه إلى مزيد من التضخم، لا سيّما أن ارتفاع الأسعار كان العنوان الأبرز عشية اندلاع الحرب وطيلة فترة ما بعد كورونا، كونه النتيجة الحتمية لسياسات الضخ الكمّي. أما السؤال اليوم، فهو ما أثر هذه الأزمة على اقتصاد لبنان المأزوم وهل من إمكانية لتلافي بعض التداعيات وتخفيف آثارها على المستويين الإقتصادي والإجتماعي؟

أخطر آثار هذه الحرب الأوكرانية على لبنان هو ارتفاع فاتورة الإستيراد بشكل عام نتيجة ارتفاع الأسعار عالمياً، وارتفاع سعر النفط بشكل خاص، بعدما تبيّن أنه ارتفاع مستدام. فالمؤشرات المتوفرة تفيد أننا لسنا في صدد حرب خاطفة أو غيمة صيف عابرة، إنما أمام صراع طويل الأمد، يرخي بظلاله على سوق الطاقة العالمية. وليس صدفة أن يُلقى على هذه الحرب منذ لحظة احتدامها اسم “حرب الغاز”. المراقبون يشبّهون المرحلة بمرحلة عام 2008 حيث ارتفعت أسعار النفط نتيجة سياسات الضخ الكمّي لاستيعاب الأزمة المالية العالمية عام 2008. ويتوقعون أن يقفز سعر برميل النفط إلى حدود الـ120$.

إن صحت هذه التوقعات، فهذا يعني أن فاتورة استيراد المحروقات والتي تشكل العبء الأكبر على الخزينة كما وعلى ميزان المدفوعات، سترتفع بنسبة تقارب الـ100%، وقد تتجاوز الـ7 مليارات دولار، أي ما يقارب 33% من الناتج المحلي. والخطير في الموضوع أن ارتفاع أسعار النفط عالمياً سوف يفاقم عجز ميزان المدفوعات بنسبة موازية. هذا يعني طبعاً مزيداً من الضغط على الليرة، لن تقدر على امتصاصه تعاميم مصرف لبنان “الإستثنائية” ولا سياساته القصيرة الأمد، التي تقضي بضخّ ما تبقّى من احتياطي بمصرف لبنان من دون أي مقابل على مستوى رفع الإنتاجية أو تخفيف الهدر.

وليس من المبالغة القول، إنما من الحكمة الإعتراف، أننا أمام احتمال كبير لتفاقم النزيف في ميزان المدفوعات وأثره القاتل على اقتصاد يحتضر. نزيف لن توقفه سوى عملية جراحية إصلاحية، على مستويين: أولاً، على مستوى ترشيد استعمال الطاقة، وهذا يعني الشروع بالإصلاحات التي تحدّ من الهدر التقني وغير التقني، وثانياً، التحول الفوري إلى إنتاج الطاقة الشمسية واستعمال ما تبقّى من احتياطي أو أي مساعدات مقبلة، لبناء ليس فقط محطات إنتاج الغاز التي أتت على ذكرها كل خطط إصلاح قطاع الكهرباء التي توالت منذ عقدين، إنما أيضاً وأولاً لتطوير إنتاج الطاقة الشمسية. إنه التحدي الأول لمن يريد لجم الإعصار الآتي، ويحرص فعلاً على السيادة اللبنانية.

سامي نادر

مقاربة جديدة تُعيد الودائع كاملة الى أصحابها

من يعتقد انّ إعادة الودائع الى أصحابها بالكامل من الامور المستحيلة واهم. ومن يعتقد انّ في الإمكان إنجاز هذه المهمّة بخطط التعافي على أنواعها واهمٌ اكثر. المعالجة في مكان آخر، وما ينقص، قرار بمقاربة مختلفة عمّا طُرح حتى الآن.

لم تُثبت مسودة توزيع الخسائر وإعادة الودائع التي أنجزها الفريق الذي كلّفته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بالمهمة، فشلها فحسب، بل الأهم انّه تأكّد بما لا يقبل الشك، انّ محاولة إعادة الودائع بالطريقة الكلاسيكية المعروفة ستؤدّي الى واحد من أمرين:

اولاً- ظلم غير مسبوق في حق بعض أصحاب الودائع، بحيث انّ الهيركات الفعلي، وبعد احتساب حسم نسبة كبيرة من الفوائد وتصنيف الودائع الدولارية المحوّلة بعد تشرين 2019 والـBail-in، يتجاوز ما هو مُعلن في الخطة.

ثانياً- ظلم كبير موازٍ سيتعرّض له كل اللبنانيين، نتيجة إرهاق ورهن التعافي الاقتصادي في الـ15 عاماً المقبلة. ومع هذه الأثقال التي تقترحها الخطة، من البديهي انّ الفقر على مستوى الطبقة الوسطى سيستمر طوال هذه الأعوام، وربما أكثر، لأنّ التعافي لاحقاً يحتاج الى فترة إضافية خالية من الأثقال. وبالتالي، تكون الخطة كمن يرهن مستقبل البلد وناسه لـ20 أو 25 سنة مقبلة.

هذا الواقع يؤكّد المعادلة التالية: إما شطب القسم الأكبر من الودائع والتغاضي عن الظلم الذي سيلحق بالمودعين، من أجل إنقاذ الاقتصاد، وبالتالي مساعدة اللبنانيين على الخروج من الأزمة في غضون 6 أو 7 سنوات. وإما إعادة الودائع، والتغاضي عن الظلم الجماعي الذي سيلحق بالناس لسنوات طويلة تتجاوز العقدين.

في النتيجة، الأموال التي نحتاجها لرفع الظلم عن المودعين وتنفيذ خطة للتعافي غير موجودة. وبالتالي، إذا قرّرنا إنصاف هؤلاء، علينا ان نعتبر انّ اللبنانيين مديونون بما يوازي حجم الودائع، وعليهم ان يعملوا طوال الـ15 سنة المقبلة لإعادة هذه الأموال الى أصحابها. وهذا «الحل» ينطوي على ظلامة في حق الناس؟

ضمن هذه الأحجية، لا بدّ من تغيير اسلوب مقاربة الأزمة، والانتقال من مبدأ إعادة الودائع عشوائياً الى خطة الفصل بين المودعين. وبدلاً من تصنيفهم على أساس «كبير» و«صغير» و«محوّل من الليرة الى الدولار» و«مستفيد من فوائد سخية»، ينبغي تصنيفهم ضمن فئتين فقط: شرعي وغير شرعي. المودع الشرعي ينبغي ان يحصل، من حيث المبدأ، على وديعته بالكامل، وربما مع الفوائد بالكامل ايضاً. وغير الشرعي ينبغي أن تُصادر وديعته، ويشكر ربه لأنّه لن يُحاسب.

في الواقع، لم تعد المواجهة في مسألة الودائع بين المودع والبنك المركزي أو المصارف، بل أصبحت بين المودع والمواطن. وبالتالي، لا بدّ من تحويل الوضع الى مواجهة بين المودع الشرعي ومعه المواطن، مع المودع غير الشرعي. هذا التحوّل غير مُتاح سوى من خلال طريق وحيد: رفع السرية المصرفية عن كل الحسابات المصرفية، وسنّ قانون يعتبر انّ كل الحسابات المصرفية موضع شبهة، وبالتالي، مطلوب من صاحب كل وديعة يريد تحريرها، ان يقدّم المستندات الضرورية التي تُثبت شرعية وديعته، وانّها ليست نتيجة المال الحرام المنهوب من أموال المكلّفين.

هذا الحل ليس صعباً، كما يتوهّم البعض، طبعاً إذا توفرت الإرادة السياسية. اذ انّ المستند الأولي الوحيد المطلوب من المودع تقديمه لتبرئة وديعته من تهمة الفساد والسرقة، هو ان يُثبت انّه ليس من الـPEPs أولاً، وليس موظفاً في القطاع العام، وليس صاحب عمل مكشوف او يتعاطى مع القطاع العام. وبالتالي، هناك قسم من الودائع، يعتبر البعض انّه ليس كبيراً، وفي أضعف الإيمان أقل مما سيتبقّى، سيصبح فوق الشبهات. ولاحقاً، كل من ينتمي الى الفئة المُصنّفة مشبوهة، عليه أن يقدّم ما يُثبت انّه يمتلك المال من وراثة او عبر طريق عمل شرعي واضح، لا علاقة له بموقعه في الوظيفة العامة. وما تبقّى من ودائع سيصبح بمثابة أموال «وسخة». وبالتالي، تتم مصادرة هذه الأموال لمصلحة الخزينة.

هذه الطريقة في مقاربة معالجة ملف إعادة الودائع الى أصحابها، لا تحلّ مسألة حقوق المودعين فحسب، بل تسمح باستعادة الاموال المهرّبة غير الشرعية، في حين يتمّ استثناء الاموال الشرعية التي خرجت من البلد. بالإضافة الى ذلك، هذا الاسلوب يعيد الثقة والسمعة الجيدة الى الدولة اللبنانية، وهذا أهم مكسب في موضوع من هذا النوع. ومن المؤكّد انّ الاموال التي لا تزال متوفرة في المركزي، والاموال التي قد تُستعاد لأنّها غير شرعية، ستكون كافية لإعادة الودائع كاملة الى أصحابها. وهكذا يكون المودع «النظيف» استعاد حقوقه، والمودع الفاسد أعاد الأموال الى اصحابها (الخزينة)، والدولة استعادت هيبتها وكرامتها، وصار سهلاً عليها الانطلاق بخطة تعافٍ لن تأخذ وقتاً طويلاً قبل أن تأتي ثمارها، ويستعيد البلد وضعه الطبيعي. فهل من يجرؤ على مقاربة من هذا العيار والنوع؟

أنطوان فرح

عام 2011 نقطة تحوّل الاقتصاد اللبناني: 5 مؤشرات قرعت جرس الإنذار…

من المؤكّد أنّ العام 2011 شكّل نقطة مفصلية باتجاه الانقلاب السلبي في جميع المؤشرات الاقتصادية، لا بل إنّه شكّل للاقتصاديين المطّلعين، علامات ارتسام صورة جديدة عن المرحلة اللاحقة وقرع أجراس إنذار على مختلف المستويات. 5 مؤشرات رئيسية كانت مراقبتها كفيلة بتحديد حجم وأطر وأبعاد المخاطر المتنامية والمتسارعة، حتى بلوغ لحظة الصفر خريف العام 2019. لماذا تدهور ميزان المدفوعات؟ كيف ازدادت الهوة بين تزايد دولرة الودائع وهبوط موجودات الجهاز المصرفي بالعملات الأجنبية؟ كيف انزلق النمو الاقتصادي؟ علامَ ارتكز تزايد العجز المالي؟ كيف عاد ارتفاع الدين العام/الناتج المحلي بعد سنوات من الانخفاض التدريجي؟

صحيح أنّ عناصر كل انهيار إقتصادي تبدأ عادة بالتلاقي وتغذية بعضها من بعض، لتؤسس لتحوّل تدريجي في المشهد العام، يُفقِد الثقة بالمناخ الاستثماري ويجعل الآثار السلبية تتمدّد بين مختلف المؤشرات وتتفاعل بين مجمل القطاعات، إلّا أنّ انقلاب الصورة الاقتصادية في لبنان منذ عام 2011 بالشكل الصارخ الذي أظهرته 5 مؤشرات رئيسية، يجعل من الضروري التمعّن بها عن كثب.

ميزان المدفوعات: تاريخياً، لطالما كان الرصيد الإيجابي لميزان المدفوعات يستند الى فائض ميزان الرساميل الذي يغطي عجز الميزان التجاري، كون لبنان بلد مستورد بشكل كبير، بل أنّه حتى لصادراته يضطر إلى استيراد معظم موادها الأولية، فضلاً عن التجهيزات والطاقة وغيرها.

هذا يعني أنّ استقطاب الرساميل بالعملات الأجنبية هو العمود الفقري لتغطية حاجات البلاد من العملات الأجنبية وصمود الإقتصاد. عملياً، تمكّن لبنان من المحافظة على توازن ميزان المدفوعات بالاستناد الى مصادر أساسية للدولار، هي اجتذاب الودائع من الخارج والتوظيفات المالية والاستثمارات الأجنبية، لاسيما للاستثمار في القطاع العقاري، الذي شهد فترة ذهبية، فضلاً عن الإقبال السياحي، وخصوصاً الإنفاق الكبير بالعملات الأجنبية من السياح القادمين من بلدان الخليج. (رسم 1)

الهوة بين تطور الودائع والموجودات بالعملات الأجنبية:
هذه العناصر مجتمعة أوصلت لبنان الى ارتفاع فائض ميزان المدفوعات الى أكثر من 7 مليارات دولار عام 2009، قبل الهبوط الحاد والتحولّ الى عجز بحدود الملياري دولار عام 2011، ثم تراكم عجوزات بمليارات الدولارات، باستثناء العام 2016، الذي تمّ فيه تسجيل «فائض اصطناعي» في ميزان المدفوعات جراء استقطاب دولارات من الخارج لتوظيفها في الداخل تحديداً في الأوروبوند، وشهادات إيداع المصرف المركزي بالعملات الأجنبية عبر «الهندسات المالية»، في محاولة شراء الوقت في غياب الإصلاحات المالية والإدارية الفعلية… وتجديد احتياطاته بالعملات الأجنبية لاستمرار تثبيت سعر الصرف في ظل استمرار ارتفاع الدولرة حتى طيلة الـ22 عاماً من تثبيت سعر الصرف. (رسم 2)

هبوط النمو الاقتصادي
ومع بداية تضييق «مصادر الدولار» الى لبنان بعد اندلاع الأزمة في سوريا من جهة وإسقاط حكومة لبنان عام 2011 وتبدّل مناخ الاستقرار السياسي، تترجمت زيادة المخاطر على المناخ الاستثماري، وتضاعفت عوامل المخاطرة في البلاد (المؤثرة على الفوائد وعلى التصنيف السيادي، كما ذكرت حينها جميع تقارير مؤسسات موديز، فيتش، ستاندرد بورز…)، وزيادة انغماس الجهاز المصرفي في تمويل العجز المتمادي للدولة ولسدّ حاجات المصرف المركزي من احتياطات الدولار، مما انعكس انكماشاً بمستوى الحركة الاقتصادية، وبالتالي معدل النمو الاقتصادي للناتج المحلي.. فنمو الناتج المحلي الذي سجّل معدّلا يفوق الـ8.25% خلال السنوات الأربع التي سبقت العام 2011، هبط بشكل حاد لحدود الـ1%، وبات منذ حينها لا يلامس الـ2% بل ينزلق تباعاً مع تراجع النشاط الاستثماري والحركة في مختلف القطاعات… (رسم 3)

تنامي عجز المالية العامة:
صحيح أنّ حال المالية العامة في لبنان لم يكن على ما يرام منذ سنوات الحرب، واستمر كذلك في الفترة التي تلتها، لاسيما مع تزايد الإنفاق وعدم إمكانية تغطية الإيرادات أمام الإنفاق، إلّا انّ نمو الاقتصاد كان أقلّه يحسّن الوعاء الضريبي ويقلّل من العجز المالي، وكانت تنصبّ الجهود نحو تحقيق فائض أولي (أي دون احتساب خدمة الدين السنوية)، بغية إعادة ضبط تنامي كرة ثلج الدين العام وتعزيز إمكانية كسر الحلقة المفرغة، من تراكم العجز المالي السنوي والاضطرار الى الاستدانة ضمناً لتسديد فوائد الدين العام. إلّا انّ عام 2011 أعاد «خنق» الاقتصاد وازدياد العجز المالي وتنامي الدين الى الناتج المحلي. (رسم 4)

 

تنامي الدين العام/الناتج المحلي:
منذ عام 2011، ارتفعت نسبة الدين العام/الناتج المحلي الإجمالي بشكل مستمر، لتتجاوز 180% في نهاية عام 2019 مع تدهور وضع المالية العامة وزيادة الدين العام، مع تراجع معدل النمو الاقتصادي، بعد أن كان انخفض هذا المؤشر تدريجياً منذ عام 2006، حيث كان بحدود 180%، الى حوالى 131% عام 2010. ومن أبرز مكوّناته، الإنفاق الجاري لخدمة الدين العام (الفوائد على الدين)، أجور القطاع العام وسلفات تغطية عجز مؤسسة كهرباء لبنان. علماً أنّه يصعب تحديد عتبة إفلاس أو عدم استدامة الدين العام بشكل مطلق لجميع البلدان، ولكن تحدّد «معايير ماستريتش» للمالية العامة: سقف 3% من العجز المالي الى الناتج المحلي، وسقف 60% نسبة الدين العام الى الناتج المحلي. (رسم 5-6)

 

من منكم يعــرف قصة نجيب مع الـ (MDB1)؟

رغم انّ أخبار الموازنة، طغت على ما عداها من تطورات في الأيام القليلة الماضية، نظراً الى تداعياتها المتوقعة على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، إلّا أنّ ما تسرّب من خطة توزيع الخسائر، ورفض صندوق النقد الدولي للخطة، لا يزال يحظى بالاهتمام، انطلاقاً من انّه يكشف الواقع المعقّد للأزمة، ويضع حداً للآمال وحالات الإنكار التي كانت سائدة، وبعضها لا يزال قائماً.

لم تكشف خطة توزيع الخسائر وطريقة «إعادة» الودائع عمق الأزمة المالية فحسب، بل سلّطت الضوء بوضوح على عقم محاولات تجميل الواقع عبر الإيحاء بأنّ اصلاح الوضع بالتي هي أحسن، لا يزال مُتاحاً. صحيح انّ الافكار التي طُرحت توحي بأنّ توزيع الخسائر شمل الأطراف الاربعة المعنية، الدولة، مصرف لبنان، المصارف والمودعين، لكن الصحيح أيضاً انّ التوزيع لم يكن عادلاً اولاً، ولم يكن واقعياً ثانياً. والأهم، انّ الخطط طويلة الأمد (15 سنة)، والتي تتضمّن تعقيدات تنفيذية تحتاج شفافية ونزاهة وقدرة على التحكّم وثقة، لا يمكن أن «تقطع» في بلد فيه هذا القدر من الفساد واللاثقة بمن يعِد بتنفيذ الخطط.

وهنا، لا بدّ من تسليط الضوء على الشطر المتعلق بطريقة «إعادة» الودائع الكبيرة، ما فوق الـ150 الف دولار. وإذا استثنينا الشق المتعلق بالـBail in (55% من الودائع التي تفوق قيمتها الـ 500 الف دولار)، يتبيّن انّ مشروع الصندوق السيادي المنوي تأسيسه ليكون أداة استثمارية تحقق إيرادات سنوية تستخدم في دفع الودائع، ينطلق من واقع سلبي، إذ ستكون المطلوبات (Liabilities) لديه حوالى 40 مليار دولار. فيما موجوداته التي ستضمن قدرته على العمل غير واضحة المصادر. ويبدو التمويل الإفتراضي المطروح وكأنّه مشروع وهمي يقضي بتنشيف مصرف لبنان من كل الدولارات الاحتياطية الموجودة لديه، وتحميل الخزينة استحقاقات دين سنوية على مدة 15 سنة، وإضافة الذهب الى هذه الدولارات، ومحاولة «الإقلاع». وحتى مع احتساب الذهب، لا يكفي المبلغ لتحقيق توازن أولي في انطلاقة الصندوق. فهل يمكن الوثوق بأنّ مشروعاً من هذا النوع، يمكن ان يحقق الهدف منه في تمويل إعادة الودائع؟

في العادة، تستند الصناديق السيادية للثروة (SWF)، على مخزون مالي ناتج من إيرادات الدولة. وتستند الصناديق السيادية لجذب الاستثمارات الى شفافية مطلقة في الإدارة وإلى اقتصاد ينمو بمعدلات جيدة، وإلى عوامل جذب قائمة على الثقة بمستقبل الدولة وقوانينها. فهل تتوفر أي من هذه المعطيات، لكي يقتنع صندوق النقد بأنّ مشروعاً من هذا النوع يمكن أن ينجح؟

هناك تجارب عديدة في العالم تتعلق بالصناديق السيادية، منها الناجح ومنها الفاشل. لكن الأكيد، أن لا إمكانية لنجاح هذا النوع من الصناديق في دولة فاسدة، مهما توفّر من إمكانات وقدرات. فكم بالحري اذا كانت الدولة فاسدة، وتريد ان تُنجح تجربة صندوق سيادي عليه «دين» مسبق يقدّر بـ40 مليار دولار، في اقتصاد أصبح حجمه اقل من 20 مليار دولار، وموازنته هبطت من 17 مليار دولار الى اقل من 3 مليارات دولار؟

في ماليزيا، تجربة تستحق ان تُذكر، تتعلق بالصندوق السيادي الذي أنشأه رئيس الحكومة السابق نجيب رزاق (Najib Razak) تحت مسمّى (MDB1)، في العام 2009. ورغم انّ ضخ الأموال في هذا الصندوق كان سخياً، ولم ينطلق المشروع من تحت الصفر، كما هي حال الصندوق المقترح في لبنان، انتهى الأمر بفشل ذريع، بحيث انّ ديون الصندوق اقتربت من 6 مليارات دولار في العام 2015، حين اندلعت الفضيحة. ولم يكن الفشل نتيجة سوء اختيار طرق الاستثمار، بل بسبب الفساد، وقد تبين انّ حوالى 4,5 مليارات دولار سُرقت الى جيوب المستنفعين، وعلى رأسهم نجيب رزاق.

اليوم، لا تزال محاكمة نجيب في ماليزيا قائمة، وبعد حكم صدر في حقه بالسجن لمدة 12 سنة، لا تزال القضية عالقة في محاكم الاستئناف، ولو من الواضح انّها لن تنتهي سوى بإدانة نجيب ومن عاونه في سرقة المال العام. والمفارقة التي ينبغي ذكرها، انّ ماليزيا دولة تتمتع بقدر وافر من الشفافية والحوكمة، وهو الامر الذي أتاح إسقاط نجيب في الانتخابات، ومن ثم تقديمه الى المحاكمة. والمفارقة الثانية، انّ صندوق الـMDB1 كان يعمل بتغطية محاسبية من شركات عريقة، ومنها شركة KPMG التي تتولّى التدقيق حالياً بحسابات مصرف لبنان. وقد وافقت الشركة على دفع عطل وضرر للحكومة الماليزية قدره 80 مليون دولار بعد اعترافها بمسؤوليتها في عملية التمويه المحاسبي في الفضيحة.

المخاطر الحقيقية في الصناديق السيادية تكمن في الحوكمة والفساد. وإذا كانت الصناديق المليئة تنتهي على شاكلة الصندوق الماليزي، فكيف يمكن ان يكون مصير صندوق مُثقل بالديون قبل الإقلاع، في بلد مثل لبنان؟

أنطوان فرح

حساب الدين العام في غياب قطع الحسابات: تفصيل المكونات ومعدلات الفوائد

شكّلت إشكالية الدين العام في لبنان مادة سجال دسمة، تبارز فيها اجتزاء المراحل والمكوّنات مع اختلاط قراءة الأرقام بين التوقعات الاستباقية والأرقام الفعلية، في ظلّ محطات من غياب استدامة إقرار الموازنات وقطع الحسابات في محطات عديدة. بعد الانهيار المالي الشامل، لا بدّ من قراءة مفصّلة وفق القواعد الإقتصادية والصدقية العلمية، تسمح بتفنيد دقيق للمعلومات المتوفّرة حول الدين العام وأبرز عناصر تطوّره، قبل أن يفقد إستدامته. متى وكيف بدأ خلل المالية العامة؟ في أي محطات غابت فيها الموازنات وقطع الحسابات؟ وكيف تطوّر الدين وأي تواريخ بارزة في هذا المسار؟

منذ نيل لبنان إستقلاله وحتى العام 1962 كانت موازناته العامة تقليدياً تسجّل فوائض، ولم يكن يعرف إشكالية البحث عن تمويل العجز ولا القلق من سبل تمويله. وقد اعتُبر عام 1962 عام التحوّل من فائض الى عجز المالية العامة في لبنان للمرة الاولى بمعدّل 13.2% من النفقات. بين عام 1962 حتى عام 1975، عندما بدأت الحرب في لبنان، كانت جميع الميزانيات تعاني من عجز، باستثناء موازنات الأعوام 1971 و 1972 و 1974 عشية اندلاع حرب 1975. منذ عام 1975 وحتى اليوم، أصبحت الموازنات اللبنانية المتتالية تعاني من عجز مالي. علماً أنّ الموازنة تقدّم كل سنة الأرقام «المتوقعة» للسنة التالية، في حين يعطي «قطع الحساب» الأرقام «الفعلية» للسنة المنصرمة. أول غياب لقطع حسابات الموازنات العامة وحسابات المهمّة (حسابات الخزينة) كان بين عام 1979 وعام 1993. وحديثاً تكرّر الأمر بوقف قطع الحسابات المستمر منذ عام 2004 وحتى عام 2020.

 

وتميّزت حقبة 1983- 1984 بتنامي عجزين: عجز المالية العامة وعجز ميزان المدفوعات. أما الاقتراض من المصرف المركزي، فقد أجازته إتفاقية عُقدت بين وزارة المالية وبين المصرف المركزي في العام 1977، سمحت للحكومة بأن تحصل على قروض استثنائية، بغية تمويل تسيير أجهزة الدولة، وإعادة الإعمار. وقد رُفع سقف هذه القروض اكثر من مرّة بعد ذلك التاريخ. وكان ذلك يتمّ بموجب مادة في قانون الموازنة تجيز للحكومة تعديل الاتفاقية المذكورة بمرسوم. وقد بقي ارتفاع سقف هذه القروض محدوداً حتى العام 1982، إلّا انّ حقبة 1982- 1984، شهدت رفعاً لسقف التسليفات من المصرف المركزي للحكومة، بما يتجاوز ستة اضعاف. ففي حين كان سقف هذه التسليفات يساوي 2500 مليون ل.ل. بتاريخ 18 ايلول 1982، اصبح يساوي 16000 مليون ل.ل. في آخر العام 1984. وقد ارتفع حجم الدين العام نتيجة ذلك من أقل من 7 مليارات ل.ل. في آخر العام 1981، إلى أكثر من 14 مليار ل.ل. في آخر العام 1982.

 

واضطرت الدولة إلى اللجوء إلى الديون الخارجية والداخلية لتمويل تطوير المشاريع التي توقف تنفيذها. ومن أجل تمويل عجز الميزانية المتزايد في مناخ من التوترات وعدم الاستقرار السياسي والأمني، أصبح العرض النقدي وطباعة العملة منذ عام 1982 يتجاوز بشكل واضح الاحتياجات الاقتصادية للبلاد، وتترجم ذلك بانطلاق مسار التضخّم حتى بلوغ التضخّم المفرط بمجمل 487% عام 1987 و»هروب» الناس الاختياري باتجاه «الدولرة» وفرضها كأمر واقع..

 

بعد عام 1985، لم تعد الحكومة ترسل مشروع الموازنة إلى مجلس النواب على النحو المنصوص عليه في الدستور. وأقرّ البرلمان إمكانية التصويت على قوانين تسليفات إضافية لموازنة عام 1985، أو اللجوء إلى طلب سلفات خزينة.

 

وقد فرضت الدولة على المصارف إلزامية الاكتتاب بسندات الخزينة على مواردها من الليرة اللبنانية. وأدّت خاتمة فترة الحرب في عامي 1989 و 1990 إلى تفاقم وضع المالية العامة وأدّى انخفاض الإيرادات الضريبية إلى اعتماد الخزينة العامة، بالإضافة إلى الديون، على أرباح مصرف لبنان التي يتمّ تحويلها إليه بموجب قانون النقد والتسليف. وبلغت حصة أرباح مصرف لبنان في تمويل الخزينة حوالى 62% من إيرادات الموازنة في عام 1989 و 38.5% من إيرادات الموازنة في عام 1990.

وبعد غياب الموازنة لمدة 5 سنوات، اتسمت نهاية عام 1990 بإصدار الموازنة العامة. تحسن وضع المالية العامة نسبياً، لكن استمرار العجز أدّى إلى نمو قوي في الدين العام الداخلي الذي زاد بنسبة 66% عام 1991 و 92% عام 1992. في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت المتوجب على الخزينة اللبنانية يعادل نحو 3 مليارات دولار أميركي، منه 327.5 مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية.

 

وابتداءً من العام 1993 وحتى العام 2005 انتظم من جديد العمل المؤسساتي في المالية العامة وعُرفت موازنة العام 2005 بـ»الموازنة الإصلاحية»، وترافقت مع آخر قطاع حساب عن العام 2004، قبل أن يتوقّف صدور قطوعات الحسابات من جديد ويستمر غيابه الى اليوم! لا بل توقّف أيضاً إقرار الموازنات المالية من العام 2005 حتى العام 2016، قبل أن يُعاود صدور الموازنات عام 2017 ولكن دون قطع حسابات.

 

مجموع الإنفاق ما بين العام 1993 والعام 1998 كان يتوزع بين: الدعم لمؤسسة كهرباء لبنان؛ المبالغ المخصّصة لصندوق المهجرين ولمجلس الجنوب؛ رواتب وأجور لموظفي القطاع العام ومعاشات التقاعد؛ خدمة الدين العام…

 

عام 2011 كان عام انقلاب كل المؤشرات الاقتصادية في لبنان، تزامن مع انقلاب مناخ الاستقرار السياسي، تبدّل مسار مؤشر الدين العام/الناتج المحلي ليعاود ارتفاع بعد سنوات من الانخفاض المتتالي، وكان قطاع الكهرباء يراكم سلفات بالدولار الأميركي وفوائد عليها تخطّت 18 مليار دولار حتى العام 2011 مما رفع الدين بالدولار لأكثر من 21 مليار دولار. واستمرت الكهرباء بتسجيل عجز مالي سنوي بحوالى 2 مليار دولار وتتراكم عليها الفوائد حتى باتت تفوق الـ43 مليار دولار. مع الإشارة الى الفرق بين حسابات الموازنة وحسابات الخزينة، حيث أنّ وزارة المال لا تكتفي بعمليات الموازنة بل تتولّى أيضاً عمليات الخزينة التي تشمل بين سواها دفع سلفات خزينة لمؤسسة كهرباء لبنان ولسائر المؤسسات والبلديات وفروقات الدين العام.

 

نسبة إجمالي الدين العام المستحق إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان أصبحت من بين أعلى المعدلات في العالم. في عام 2006، بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ذروة بلغت 183%. وتراجعت النسبة تدريجياً لتصل إلى 131% في عام 2012 وتعاود المسار التصاعدي المتواصل.

 

بين عامي 1993 و 2001، اعتمدت الحكومة اللبنانية في البداية على الاقتراض الكبير من السوق المحلية، وشكّلت الديون بالليرة اللبنانية حوالى 81.3% من إجمالي الدين.

 

وقد تمّ إجبار المصارف على الاكتتاب بسندات الخزينة حتى 60% من إلتزاماتها بالليرة اللبنانية، وخُفّض المعدل إلى 40% في عام 1994 ثم أُلغي في عام 1997.

 

من عام 2002 إلى عام 2008، تصاعدت حصّة الديون بالعملات الأجنبية مع بدء مؤتمر باريس الذي عُقد في شباط 2001، فشكّل متوسّط الديون بالعملات الأجنبية 49.1% من إجمالي الدين من 2002 إلى 2008. وعاود الدين بالليرة اللبنانية النمو ليشكّل من 2010 إلى 2018 متوسّط 60.25% من مجموع الدين.

 

وبلغت عائدات الدين بالعملة المحلية، خصوصاً على سندات الخزينة عن عام وعامين، مستويات عالية تخطّت 30% في التسعينيات. واشترك اللاعبون المحليون بشكل رئيسي في الديون بالعملة المحلية على أساس عائد مرتفع لتعويض المخاطر العالية. على هذا النحو، تأثرت عائدات سندات الخزينة اللبنانية لعامين، التي احتفظت المصارف المحلية بمعظمها بعائد 33.6% في آب وأيلول 1992، قبل أن ينخفض تدريجباً الى حدود 7.1% مطلع العام 2019.

 

علماً أنّه بدءاً من العام 2016 أصبح الاتجاه الى خفض خدمة الدين العام باعتماد سياسات نقدية غير تقليدية عُرفت بـ»الهندسات المالية» بالتوافق بين وزارة المال والمصرف المركزي والمصارف اللبنانية، بغية استبدال تدريجي لجزء من الدين بالليرة بدين بالدولار (يوروبوند)، كون الفوائد على اليوروبوند أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية نظراً لفارق عامل المخاطرة بين العملتين.

وبين الفوائد المرتفعة التي كان يتمّ دفعها لتوظيفات المصارف في مصرف لبنان، والفوائد الأقل التي كان ينالها المصرف المركزي مقابل توظيف جزء من هذه الأموال في عمليات شراء سندات الخزينة، كان مصرف لبنان يتحمّل فارق الفوائد كخسائر في الموازنة طوال السنوات الماضية. وكانت مختلف التوترات السياسية تضغط على مناخ الثقة للاستثمار وتدهور تصنيف لبنان السيادي لدى مؤسسات التصنيف «فيتش»، «موديز» و«ستاندرد أند بورز»، مما يؤدي الى رفع الفوائد لتعويض المخاطر..

 

اليوم قارب مجموع الدين العام الـ100 مليار دولار وفق الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة المال، إنما فعلياً فقط أقل من ثلثه بالدولار الأميركي والباقي هو بالليرة، وقد تدنت قيمته كثيراً إذا تمّ تقويمه على أساس سعر الدولار في السوق.

 

يبقى أنّ الدين العام كما مجمل الإشكاليات الإقتصادية، لا يمكن قراءته بمعزل عن الإشكاليات السياسية التي أحاطت به ورافقته، من منطلق تأثيرها المباشر على المناخ الاستثماري وثقة المموّلين وعامل المخاطرة الذي يُترجم بمعدلات فوائد الدين لإقناع المكتتبين.. وإذا كان حساب الدين مسألة علمية مستندة الى حسابات تقنية، إلّا أنّ المحاسبة عليه تتطلّب بإلحاح تسلسلاً متكاملاً في قطع الحسابات، لأنّ المالية العامة لا تكتفي بموازنات متوقعة بل تحتاج أرقاماً فعلية مثبتة.​

د. سهام رزق الله

الانتخابات تطيح خطة الانقاذ.. وتخبزوا بالأفراح

 

قيل الكثير في اليومين الماضيين في موقف صندوق النقد الدولي من خطة الانقاذ التي عرضَ الوفد اللبناني خطوطها العريضة في جولة المفاوضات الاولى. وقيل أكثر في الظلم الذي سيلحق بالمودعين جرّاء هذه الخطة. ماذا يعني ذلك؟ وهل لا يزال التفاؤل في إمكان إنجاز اتفاق مع الصندوق في غضون شهرين قائماً؟

بين كل التعليقات والتسريبات التي طَفت الى السطح، ومنها الدقيق وغير الدقيق، ساد انطباع عام مفاده ان الامور لا تزال تدور في حلقة مفرغة، بل انها قد تعود الى المربع الاول، من خلال مجموعة حقائق ومؤشرات، أهمها ما يلي:

اولاً – دخول رئيس الجمهورية على الخط وانتقاده العلني لمضمون الخطة ووصفه المقترحات الواردة فيها بـ»الوقاحة»، على اعتبار انها تلقي «على المودعين الجزء الاكبر من الاعباء، فيما مَن أهدر أموال الناس يتحمّل الجزء الأصغر. كيف سنطلب من الناس القبول بمزيد من التذويب لودائعهم وحقوقهم بينما لا يوجد بعد في السجن ولو شخص واحد من اولئك الذين سطوا عليها وتسبّبوا في إفقار أصحابها؟ وليكن معلوماً انني لن أقبل بأن يدفع المودعون الثمن الأكبر للحل كما دفعوا الثمن الأقسى للأزمة».

ثانياً – ملاقاة رئيس مجلس النواب رئيس الجمهورية في مسألة حقوق المودعين، واعلانه ان «لا كابيتال كونترول لمصلحة المصارف ما لم يكن هناك قانون يحفظ اموال المودعين حتى آخر قرش، ولا يمكن ان أقبل بتحميل اي خسائر للمودعين فلبنان ليس بلدا مفلسا على الاطلاق وهناك مؤسسات يمكن ان تنجح مثل الميدل ايست والريجي».

ثالثاً – هناك أحزاب وقوى سياسية بدأت تتحدث اكثر فأكثر عن ضرورة الحفاظ على حقوق المودعين بالكامل، وانها لن توافق على اي خطة لا تراعي هذه النقطة بالذات.

رابعاً – جرى الترويج لأجواء منقولة عن صندوق النقد مفادها ان الصندوق رفض مقترحات الوفد اللبناني انطلاقاً من مسألة رفضه المَس بحقوق المودعين، وان رئيس الحكومة اضطر الى العودة الى «لازارد» للمساعدة في إعادة صوغ مقترحات يمكن ان تتماهى ومتطلبات صندوق النقد.

من خلال المواقف السياسية المعلنة، يمكن الاستنتاج ان الحسابات الانتخابية هي الطاغية في هذه المرحلة، وكما انه يصعب إقرار موازنة اصلاحية للعام 2022 لهذا السبب بالذات، كذلك يستحيل اعلان خطة انقاذ موجعة. وبالتالي، أصبح من المؤكد ان لا خطة انقاذ ولا من ينقذون في هذه الحقبة، بانتظار انتهاء الاستحقاق الانتخابي.

أما في مسألة موقف صندوق النقد، فهناك مغالطات قد تكون مقصودة وقد تكون عفوية ونابعة من قلة المعرفة بطريقة عمل هذه المؤسسة الدولية. إذ ليس صحيحاً ان الصندوق يمكن ان يرفض خطة للتعافي استنادا الى حقوق المودعين، بل ان أي رفض لأي خطة قد ينبع من قناعة الخبراء في الصندوق بأنها لن تنجح بسبب الأثقال التي ستُلقى على عاتق الاقتصاد. وبالتالي، من وجهة نظر خبراء الصندوق، ان الخيار هو بين معادلتين: إما وضع خطة عادلة ومنصفة حيال المودعين (عددهم حالياً حوالى المليون)، وإما وضع خطة منصفة مع الاقتصاد المستقبلي تسمح بالتعافي في فترة زمنية منطقية، وتكون بالتالي عادلة مع بقية المواطنين (عددهم حوالى الـ4 ملايين).

ومن خلال التجارب العديدة مع دول أخرى، يمكن الاستنتاج أن الصندوق يوافق على واحد من أمرين: إمّا اقتطاع ما يلزم من الديون، لضمان التعافي الاقتصادي المستقبلي وفق جدول زمني محدّد بالخطة، وإما تحويل الديون والودائع والخسائر الى عُملة البلد، (الارجنتين أحد النماذج)، وتحمّل تبعات التضخّم، وهي تبعات سيعانيها كل سكان البلد المعني. أما أنصاف الحلول، والتي في الاجمال لا ترضي المُقرض، ولا تُنصف الاقتصاد وتساعده على التعافي، فغالباً ما يرفضها الصندوق ويرفض تمويل هذا النوع من الخطط.

الواقع اليوم ان حجم إيداعات (توظيفات) المصارف في مصرف لبنان تبلغ حوالى 87 مليار دولار، لا يوجد منها فعليا سوى 12 مليار دولار. واذا اقتطعنا رساميل المصارف المقدّرة بحوالى 21 مليار دولار على سعر 1500 ليرة، وهي عملياً اصبحت اليوم لا تزيد عن مليار ونصف المليار دولار، مضافاً اليها الاموال المتوفرة في حسابات المصارف الخارجية، فإنّ المجموع العام لما هو متوفّر لا يتجاوز في أحسن الحالات الـ17 مليار دولار، بما يعني ان الفجوة تصل الى 70 مليار دولار. فمن اين سيتم تأمين هذه الدولارات لإعادة حقوق المودعين بالكامل؟

أنطوان فرح

الاقتصاد اللبنانيّ بين مهبّ العواصف وانتظار الطوفان الأخير

يعيش لبنان على إيقاع العواصف، فعاصفة “هِبَه” تأخذه يمينًا، وعاصفة “ياسمين” تأتي به يسارًا، ولكنّ اللبنانيّ لا تؤرقه كثيرًا هذه الأنواع من العواصف الموسميّة، إذ تبقى “طبيعيّة” وهو اعتاد التأقلم معها والتغلّب عليها بحنكته، وصموده، وإن كان وقعها المفاجئ يُربك مخطّطاته القصيرة المدى نوعًا ما. لكن ما يهابه هذا المواطن العتيد فعلًا، ما يقع عليه وقع الصاعقة، أي المراتب، والإحصائيّات، وتشعّب أسعار الصرف، وضياعه في تيّار من الأرقام. وعلى رغم من كثرتها، نجده قد سلّم أمره لها، وأخذ يُراقبها من بعيد، لا بل يتحاشى حتّى النظر والتمعّن فيها، لعلّ التجاهل يخفّف جزءًا من قساوتها.

آخر تلك “الأعاصير” الرقميّة الّتي ضربت لبنان، ولم تتسابق وسائل الإعلام على تغطيتها، أو تتفنّن وسائط التواصل الاجتماعيّ في نسج النكات عنها، هي الأرقام الصادرة عن آخر تقارير البنك الدوليّ عن الاقتصاد اللبنانيّ. فقد سجّل لبنان نسبًا قياسيّة عالميّة في تراجع اقتصاده وانكماشه. لكنّ التقرير لم يبدّل من نمط الشارع المائل إلى الاستسلام، ولو إلى حين، وكذلك لم يستطِع أن يرفّ حتّى رمشٍ عند اللاعبين الحكوميّين. فما نسمعه اليوم من شائعات حول رفع رسوم الدولار الجمركيّ، والسياسات الّتي تقلّل من حجم الانفاق المحلّيّ، وغيرها من الصواعق القاتلة، تؤكّد أنّ الحكومة ماضية في تقديمها إلى المواطن اللبنانيّ جميع ما يدفعه إلى تمنّي طوفان كطوفان نوح، لينتهي هذا المشهد إلى غير رجعة.

اليوم، تُصنّف الأزمة الاقتصاديّة الماليّة في لبنان في المراكز الثلاثة الأولى (الأخيرة) من بين أشدّ الأزمات حدّةً على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. ففي الواقع، انخفض الناتج المحليّ الإجماليّ اللبنانيّ من حوالى ٥٥ مليار دولار أميركيّ في العام ٢٠١٨ إلى ٣٣ مليارًا في العام ٢٠٢٠، وتابع انحداره ليقدّر بنحو ٢٠,٥ مليار دولار أميركيّ في العام ٢٠٢١، مع تراجع دخل الفرد بنسبة ٤٠٪. علمًا أنّ معدّل نموّ الناتج المحليّ الإجماليّ، وخصوصًا في الحالة اللبنانيّة يصحّ القول “انكماشه”، يُقارن معدّله بالتغيير السنويّ الحاصل في الناتج الاقتصاديّ للبلد، من أجل قياس مدى سرعة نموّ اقتصاده.

هكذا، وبحسب التقرير الذي نشره البنك الدوليّ في كانون الثاني العام ٢٠٢١، أصبح لبنان صاحب الرقم القياسيّ العالميّ الجديد بالوصول إلى أعلى معدّل انكماش للناتج المحليّ الإجماليّ للعام نفسه، وقد بلغ معدّل ٥٨٪. وللتذكير، فإنّ الانكماش الاقتصاديّ هو بالتعريف انخفاض في الناتج القوميّ مقاسًا بإجمالي الناتج المحلّيّ. يتضمّن ذلك انخفاضًا في الدخل الشخصيّ الحقيقيّ، والإنتاج الصناعيّ، ومبيعات التجزئة. وبالطبع، يرافقه انخفاض في الدخل، وارتفاع في معدّلات البطالة.

عادةً ما يرتبط هذا الانكماش القاسي بالنزاعات أو الحروب. إذ يستمرّ الاضطراب النقديّ والماليّ في تعزيز ظروف الأزمة. وفي المسرح اللبنانيّ، الذي يشهد “حربًا باردة”، عرف سعر الصرف تدهورًا أشدّ تسارعًا في الأشهر الماضية مع انخفاض سعر العملة المحلّيّة بمقارنتها بالدولار الأميركيّ بنسبة ٧٦٪، أي ٢٢,٠٠٠ ليرة لبنانيّة مقابل الدولار الأميركيّ الواحد. في هذه الأثناء، وصل معدّل التضخّم إلى أعلى مستوياته، فوضع لبنان في المرتبة الثالثة عالميًّا بمعدّل تضخّم بلغ ١٤٥٪ في العام ٢٠٢١.

إنّ نتيجة هذا التضخّم هي زيادة الفقر الذي يتصاعد مع ازدياد عدد السكان في لبنان الّذين يرزحون تحت خطّ الفقر بحسب المعايير الدوليّة، والذي يبلغ ٥,٥٠ دولار أميركيّ للفرد في اليوم الواحد. كما أنّ نسبة الأُسر التي تواجه تحدّيات في الحصول على الغذاء، والرعاية الصحيّة، والوقود كمصدر للتدفئة في هذه الأيّام الشتويّة العاصفة، وغيرها من الخدمات الأساسيّة، آخذة في الارتفاع.

كذلك، نجد أنّ التبعات التضخميّة هي من العوامل الارتداديّة القويّة، إذ تؤثّر بوجه غير متناسب على الفقراء والطبقة الوسطى الّتي تواجه خطر الإنقراض، مع وجود مجموعة صغيرة تستطيع الاستفادة من متغيّرات سوق الصرف وغيرها. وقد شهد لبنان انهيارًا كبيرًا في الخدمات الأساسيّة، بسبب شحّ احتياطيات النقد الأجنبيّ، وارتفاع تكلفة دعم استيراد العملات الأجنبيّة على المواد الغذائيّة، والوقود والأدوية.

لكن، السؤال الذي يُطرَح هنا: ما أسباب ارتفاع معدّل الانكماش، وهل ثمّة طرق لإيقافه؟ يحدث الإنكماش بسبب فقدان الثقة عمومًا، الذي يؤدّي إلى إبطاء الطلب، وغالبًا ما ينجم عن حدث ما. قد يكون الدافع وراءه زيادة في أسعار الفائدة، ممّا يقلّل الإنفاق في رؤوس الأموال. لكن في الواقع، يكمن السبب الحقيقيّ بحدثٍ مقنَّع وراء الحدث الذي تضجّ فيه وسائل الإعلام. ففي لبنان، جاءت فكرة زيادة الرسوم على تطبيق “الواتساب”، وكأنّها الزناد الّذي أطلق ثورة 17 تشرين، وتلاه انتشار وباء كوفيد-١٩، وانفجار مرفأ بيروت، إلخ… فأدّى ذلك إلى خفض الشركات من معدّلات إنفاقها، ثم تسريح عمّالها وموظّفيها. وهذا بدوره يؤدّي إلى تجفيف الإنفاق الاستهلاكيّ، ويقود السوق إلى مزيد من الخسائر في الأعمال والاستغناء عن كثير من الوظائف. وعادةً ما ينتهي الإنكماش عندما تنخفض الأسعار بدرجة كافية لجذب الطلب المتجدّد، وهذا بالطبع ما لا يعمل المسؤولون عليه، إذا لم نَقُل إنّهم يقومون بالعكس.

فمن ناحية أُخرى، يمكن للسياسة النقديّة لمصرف لبنان المركزيّ، والسياسة الماليّة الحكوميّة إنهاء الانكماش بسرعة أكبر، عندما تميل إلى إتخاذ خطوات عدة يمكننا تعدادها باختصار هنا:

1- خفض معدّلات الفائدة، كما طُبّقت على المدّخرات “المحتجزة” في المصارف اللبنانيّة، وإن لم يكن الدافع المباشر تحريك السوق، بل حماية أرباح المصارف، إذ تمّ خفض الفائدة على الودائع المذكورة وحسب.

2 – خفض الضرائب، وهذه ليست إحدى الإجراءات الّتي تقوم بها الحكومة اللبنانيّة اليوم، بل إنّها تتحدّث عن رفع باقة متنوّعة من الضرائب، من بينها قيمة الدولار الجمركيّ بحسب أسعار صرف مرتفعة، أي أنّها تقوم بالعكس تمامًا، فترفع الضرائب الّتي ستؤثّر على إنفاق المستهلك في نهاية المطاف.

3- زيادة في العرض النقديّ، وهذا ما تمّ القيام به لأشهر عدّة، أمّا اليوم يُطبّق التعميم الرقم 161 الصادر عن مصرف لبنان أخّيرًا، ممّا يدفع اللبنانيّين إلى التخلّص من الليرة اللبنانيّة المكدّسة مقابل بعض “الدولارات الطازجة”.

4 – زيادة الإنفاق، بالطبع ليست هذه هي الحالة في السوق اللبنانيّة اليوم، إذ أنّ كمّيّات البضائع الّتي يتمّ شراؤها أقلّ، على الرغم ما تُظهره الأرقام الأخيرة من زيادة في مبالغ الإنفاق، لكن هذه الزيادة تعود لارتفاع الأسعار الهائل بالليرة اللبنانيّة، وليس الإقبال على كمّيّاتٍ أكبر مستهلكة.

لذلك، يجب أن تكون هذه السياسات السابقة جزءًا لا يتجزّأ من استراتيجيّات الحكومة لتوفير أفضل الحلول للبطالة، ووقف نزيف هجرة اليد العاملة، والعقول المفكّرة، والمواهب المبدعة في لبنان.

كي يزيد الواقع اللبنانيّ في مأسويّته، ولتشتدّ العواصف الّتي تضربه حدّةً، احتلّ لبنان كذلك المرتبة الأولى بين أدنى نسبة إيرادات إلى الناتج المحلّيّ الإجماليّ في العام ٢٠٢١، حيث بلغت ٦,٦٪، ممّا يعني أنّ لبنان غير قادر على الإنفاق من أجل تحسين البنية التحتيّة، والصحّة، والتعليم، وهي عادةً عوامل أساسيّة طويلة المدى لازدهار اقتصاد أيّ بلد وكذلك شعبه.

إذ يمكننا أن نلاحظ بوضوح تدهور هذه البنى التحتيّة في البلد يومًا بعد يوم، حيث لا تزال الكهرباء مشكلة مستمرّة، وأصبحت أشبه بالمرض العضال الذي لا يمكن التعافي منه، والقمامة لا تزال منتشرة على الطرق، وهذه الطرق نفسها تحتاج إلى إعادة تأهيل، ولكن للأسف، لم يتبقّ أيّ أموال في صناديق البلديّات، أو المؤسّسات الأخرى للقيام بهذه المهمات التنمويّة، وتشتدّ هذه المصيبة في مواسم الطوفانات. وينسحب تطبيق هذه المعايير نفسها على الجامعات، والمدارس، والمستشفيات، وما إلى ذلك من صواعق تأتي على أُسس الدولة اللبنانيّة الواحدة تلو الأُخرى.

أمّا من ناحية الخطط الماليّة الحكوميّة، فهي تؤسَّس على علاقة بين النشاط الاقتصاديّ وعائدات الضرائب. لذلك عندما يرتفع النشاط الاقتصاديّ بسرعة أكبر، ترتفع الإيرادات الضريبيّة أيضًا بنحو مضطّرِد. فضرائب الشركات تقلّل الاستثمار، وتقلّص نموّ الإنتاجيّة. وعادةً في البلدان النامية مثل لبنان، تعتمد بمقدار أكبر على ضرائب الاستهلاك، وضرائب الدخل الفرديّ من اعتمادها على ضرائب دخل الشركات وضرائب الممتلكات، مما يمكّن المستثمرين، والشركات من أن تزيد إنتاجيّتها، فتدفعها الى توظيف مزيد من اليد العاملة الوطنيّة والأجنبيّة، الّتي بدورها تسدّد الضرائب المباشرة، وغير المباشرة، وتساهم في تحريك الدورة الاقتصاديّة-الماليّة للبلد.

ولأنّ كثيرين من المسؤولين يعيشون على التغنّي بالماضي، فرؤيتهم الاقتصاديّة هي أيضًا قائمة على الحنين الى أمجاد “أيّام العزّ”. إذ كان لبنان يُعتبر ملاذًا ضريبيًّا، وكان بيئة مستقرّة سياسيًّا واقتصاديًّا، توفّر للأفراد والشركات التزامات ضريبيّة مخفوضة أو معدومة. لكن، لا يمكننا التظاهر بأنّ هذه الشروط لا تزال قائمة في الوقت الحاضر أو حتّى على المدى القريب والمتوسّط.

لذلك، تُعتبر الجمارك، ورسوم الاستيراد، محرّكًا كبيرًا للإيرادات الحكوميّة، حيث تُفرض رسوم على البضائع المستوردة بمعدّلات عالية، كما قد يؤول إليه تفكير الحكومة اللبنانية في زيادة الدولار الجمركيّ على البضائع المستوردة. لكن يبقى السؤال: هل لدى المواطن اللبنانيّ بدائل لهذه المنتجات ليتمّ إنتاجها محلّيًّا؟ فإن أخذنا حليب الأطفال على سبيل المثال لا الحصر، هل سيستطيع ربّ الأُسرة اللبنانيّة من التضحية بمدخوله الشهريّ لشراء علبة حليب مستورد واحدة؟ بالطبع لا، فكيف يمكن للفقراء دفع ثمن هذه السلع الضروريّة وسدّ فجوات موازنة مصاريفهم الشهريّة؟؟؟

في الختام، سجّل لبنان رقمًا تاريخيًّا آخر للعام ٢٠٢١، حيث احتل المرتبة الرابعة في الدين الحكوميّ بالنسبة إلى الناتج المحلّيّ الإجماليّ، بنسبة قُدِّرت بِـ ١٨٣٪. لذلك، لن يكون لدى المستثمرين الدافع للاستثمار في بلد محفوف بالمخاطر غير قادر على سداد ديونه في المستقبل، ولا يوفِّر بنية تحتيّة استثماريّة مناسبة، علاوة على ذلك، سيؤثّر هذا الرقم على تكاليف الدين على الحكومة، التي ستكون أعلى في حال تمّ الاقتراض من صندوق النقد الدوليّ، أو من مفوّضيّة الاتّحاد الأوروبّيّ.

إنّ البلد الّذي كان يتغنّى بكونه منارة الشرق، التي تهتدي إلى مرافئه السفن من البلاد قاطبة، يعرف اليوم تسونامي من الأرقام الاقتصاديّة-الماليّة السلبيّة، قد تمحي سويسرا الشرق من الوجود، وهذا ما يرسمه السيناريو الأسود للبنك الدوليّ في تقريره الأخير، فانهيار السلَّم الاجتماعيّ وتحميل الطبقة الفقيرة والمتوسّطة العبء الأكبر لإغلاق الفجوة الاقتصاديّة، قد يرتدّ بهزّات داخليّة تقود البلاد إلى ضياع الأمل في التغيير، أقلّه في المستقبل القريب. فهل نقول هنيئًا لمن أعدّ هذه العاصفة الّتي تظهر وكأنّها طبيعيّة؟ أم أنّ الشعب سينقلب بطوفان أكبر يأتي على هذه الطبقة الحاكمة ويقلعها من جذورها إلى غير رجعة، وتظهر حمامة حاملة غصن زيتون مبشّرة بعهدٍ جديد…

البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ
بروفيسور في جامعة القديس يوسف

مليارا دولار لدعم الليرة لـ”تقطيع” الانتخابات

في أكثر من مناسبة، حرص مسؤولون في صندوق النقد الدولي، ومن خلال توصيف الأزمة اللبنانية، على استخدام عبارات «عميقة، معقّدة، تحتاج الى وقت». وفي هذا النوع من التوصيف، إشارات واضحة الى انّ الخروج من الأزمة لن يكون سهلاً أو سريعاً، وبما يعني ايضاً، انّ الاتفاق على برنامج تمويل مع الصندوق، يحتاج الى وقت وإجراءات توازي هذا التوصيف.

لا شيء يعلو على صوت معركة الانتخابات النيابية المقبلة، ولا اهتمامات حقيقية للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية قبل ان يندثر غبار هذه المواجهة في ايار، وتتظهّر الخريطة الجديدة لتوزّع القوى السياسية في البرلمان. ومن اللافت في هذا السياق، انّ صندوق النقد نفسه، وفي اطار التعليق الاولي على بدء جولة المفاوضات الرسمية تحدّث باختصار، وعلى شكل عناوين، عن الملفات التي ينبغي التوافق عليها مع السلطات اللبنانية للوصول الى اتفاق لتمويل برنامجٍ للتعافي الاقتصادي.

 

من الملفت في هذه العناوين، ما يتعلق بضرورة التأكّد من انّ أي اتفاق سيتمّ التوصّل اليه مع صندوق النقد الدولي، سيحظى لاحقاً بموافقة الحكومة المقبلة، للاستمرار في تنفيذه. وينبغي أن نذكّر هنا، انّ الاتفاقات التي يعقدها الصندوق مع الدول تتفاوت مدة تنفيذها، وهي كناية عن برامج محدّدة، عندما ينتهي تنفيذ برنامج، يجري التفاوض مجدداً على برنامج آخر. وفي الحالة اللبنانية، وانطلاقاً من توصيفات الصندوق المُسبقة، يمكن التأكيد أنّ البرنامج الاول لن يكون قصير المدى، وسيتراوح بين 3 و5 سنوات. وبالتالي، وعندما يقول المسؤولون انّهم يريدون التأكّد من توجّهات الحكومة المقبلة، فهذا يعني بوضوح انّهم يريدون انتظار نتائج الانتخابات النيابية لكي ينجزوا أي اتفاق تمويل مع السلطات اللبنانية. وبالتالي، كل الكلام المتفائل الذي نسمعه من مسؤولين رسميين لا يعدو كونه، تمنيات أو أوهاماً أو تضليلاً، لإشاعة أجواء ايجابية، علّها تساعد في تلطيف المناخ السلبي الضاغط على الوضع النقدي.

 

في كل الأحوال، واذا استندنا الى لائحة الملفات التي ذكرها رئيس الوفد اللبناني المفاوض، سعادة الشامي، والتي قال انّها ضمن برنامج المفاوضات في جولتها الاولى التي بدأت الاثنين الماضي، (24 كانون الثاني الجاري) سنلاحظ عمق التعقيدات القائمة، والتي لا توحي بأنّ الاتفاق على الابواب.

 

انطلاقاً من هذا الواقع، والذي يدرك حقيقته بلا شك رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، قرّر الرجل تغيير نهج الانتظار على الساخن، واعتماد نهج المماطلة على البارد، وقرّر دعم الليرة مجدداً، وهو دعم سيستمر مبدئياً حتى انتهاء الانتخابات النيابية. وليس واضحاً بعد، الكلفة الإجمالية لهذا الدعم الذي توحي أرقام منصّة «صيرفة» بأنّ معدّله اليومي قد يتراوح بين 15 و20 مليون دولار يومياً، مع احتساب الفرق بين حركة المنصّة قبل القرار وبعده. وبالتالي، ليس مستبعداً ان يصل إجمالي دعم الليرة في الاشهر الاربعة المقبلة الى اكثر من ملياري دولار. وهذه كلفة كبيرة تعني عملياً، وفي حال استمرارها فإنّ رئيس الحكومة يراهن على أمرين:

 

اولاً- شراء الوقت على طريقة ما كان يجري سابقاً، على امل ان يكون المشهد ما بعد الانتخابات مختلفاً، ويسمح بالانتقال الى الإنقاذ بدلاً من إجراءات تقطيع المرحلة بما تيسّر.

 

ثانياً- التخلّي عن فكرة حقوق المودعين في المستقبل، والتعاطي مع ما تبقّى من ودائع على أساس انّها ثروة مُصادرة لمصلحة الدولة، يمكن التصرّف بها وفق ما تقتضيه المصلحة العامة، والتي يحدّدها من يتولّى القيادة السياسية في البلاد.

 

وهناك من يقول، ولِمَ لا، ما دام المواطن وصل الى مرحلة الجوع، والتصرّف بالأموال المودعة في المركزي هو بمثابة «عدالة» اجتماعية، واسترداد حقوقٍ للناس الذين لطالما عانوا من سوء توزيع الثروة، بسبب عقم النظام الضرائبي، وتلاشي الجباية العادلة للضرائب، وتجميع الثروات التي استفاد أصحابها من مناخ الفساد القائم منذ سنوات طويلة في البلد. وعندما تسأل عن حقوق الشرفاء، الذين جمعوا أموالهم بعرق الجبين، والعمل الدؤوب، والاغتراب وبيع الممتلكات وتسييلها لإيداعها في المصارف، وبعض هؤلاء صار بائساً، وكان يعتقد انّه يعمل لتأمين المستقبل والآخرة، فجاءه من يسطو على امواله واحلامه، يأتيك الجواب، بأنّها الحرب، وفي الحروب هناك دائماً ضحايا بريئة تدفع الثمن، وهناك دائماً خسائر جانبية، (collateral damages)، لا بدّ من تحمّلها لكسب الحرب، أو على الأقل، للفوز في صراع البقاء.

انطوان فرح

آخر الصيحات .. إستبدال الودائع براتب تقاعدي

 

بدأ يتّضِح أكثر فأكثر انّ الدولة لن تكون شريكاً في تعويض الخسائر التي مُني بها القطاع المالي، وبالتالي ستقع الخسائر في نهاية المطاف على المودع. ومن خلال اللوائح والتقسيمات التي بدأت تتظهّر، يمكن الاستنتاج ان عملية اعادة الودائع الى أصحابها أصبحت معقدة جداً.

 

هناك مجموعة عوامل وإجراءات ومؤشرات وتسريبات تدفع الى الاستنتاج ان عملية اعادة الودائع ستكون ظالمة، من أهمها:

 

اولاً – الاتجاه نحو مفاوضة الدائنين من حملة اليوروبوندز (حوالى 31 مليار دولار)، على اقتطاع ما بين 80 و90% من أصل السندات. هذا الكلام سمعه من التقى رئيس اللجنة اللبنانية المكلفة إعداد خطة التعافي، سعادة الشامي. وهذا يعني ان المصارف اللبنانية التي تحمل 50% من هذه السندات تقريباً، سوف تخسر كمعدل وسطي حوالى 13 مليار دولار دفعة واحدة. واذا أضفنا الخسائر التي مُني بها القطاع في السنتين الماضيتين، يمكن ان نستنتج ان رساميل المصارف (حوالى 20 مليار دولار) تكون قد استنفدت بالكامل.

 

ثانيا – ان الودائع بالليرة والتي كان يبلغ مجموعها حوالى 30 مليار دولار على اساس سعر الصرف الرسمي، فقدت من قيمتها اكثر من 90%. من كان يمتلك وديعة تساوي مليون دولار، أصبحت تساوي اليوم حوالى 65 الف ليرة، هذا اذا افترضنا ان سعر الدولار سيبقى على 23 الف ليرة، في حين ان هذا السعر قد يتغير نحو الاعلى، عندما سيضطر مصرف لبنان الى وقف دعم الليرة الذي بدأ بقرار سياسي اتخذه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. في كل الاحوال، ووفق السعر الحالي، سيكون المودع بالليرة قد خسر حوالى 93% من وديعته.

 

ثالثا – ان الحسابات المصرفية بالدولار، والتي جرى تحويلها من الليرة بعد 17 تشرين 2019، والودائع الدولارية التي تكوّنت بعد هذا التاريخ ايضا، والتي يبلغ مجموعها ما يقارب الـ30 مليار دولار سيتم التعاطي معها على اساس انها أقرب الى الليرة منها الى الدولار. وهي ستفقد في هذه الحالة، وفق التقديرات، ما لا يقل عن 80% من قيمتها، اذا أُعيدت دفعة واحدة. أما اذا تم تحديد موعد بعيد المدى، (10 سنوات) فهذا سيفقدها اكثر من 90% من قيمتها الحقيقية.

 

رابعا – سيتمّ تصنيف الودائع ما دون الـ200 الف دولار (المودعة قبل 17 تشرين) على اساس انه سيتم ارجاعها الى أصحابها وفق الآلية المعتمدة في التعميم 158. للوهلة الاولى، يعتقد البعض ان ذلك يعني هيركات بنسبة لا تتجاوز الـ30%، وهي نسبة مقبولة. لكن هذا الاعتقاد غير دقيق عندما يتم احتساب القيمة على المدى الطويل. هذه النسبة تنطبق على السنة الاولى فقط، لكنها تتراجع تدريجا مع مرور السنوات. وفي المشروع الحكومي ستُعاد هذه الودائع على مدى 20 سنة. وهنا بيت القصيد. اذ ان وديعة قيمتها 200 الف دولار تتم اعادتها بهذه الطريقة، ولا تُحتسب على المبلغ اية فوائد، تعني عملياً اعادة الفوائد فقط من أصل المبلغ. اذ انّ مستوى الفوائد على الدولار وفق تسعيرة سندات الخزانة الاميركية على 20 سنة، اكثر من 2% سنوياً. اذا احتسبنا هذه الفائدة على اساس المبلغ يتبين ان قيمة الفوائد السنوية هي حوالى 4000 دولار. في حين ان المودع سيحصل سنويا على 4800 دولار، زائد ما يوازي المبلغ بالليرة. واذا احتسبنا كم كان سيصبح المبلغ في حال تمّ تجميده لـ20 سنة، يتبيّن انه سيرتفع بحوالي 100 الف دولار، على اساس الفوائد المركّبة. في حين ان المودع سيحصل على 96 الف دولار على مدى 20 سنة، زائد المبالغ بالليرة. وبذلك، تكون عملية اعادة الوديعة هي أشبه بتحويلها الى راتب تقاعدي لمدة عشرين سنة. وعملياً، الهيركات هنا لن يقلّ عن 80%.

 

خامسا – تبقى شريحة الودائع الدولارية الكبيرة التي كانت موجودة قبل 17 تشرين 2019. هذه الودائع سيتم الاتفاق على طريقة اعادتها بوسائل لا يمكن أن تكون «أرحم» من اعادة الودائع الاخرى، لا سيما الصغيرة منها. وبالتالي، اذا كانت كل الشرائح، باستثناء الصغيرة جدا، والتي تتم اعادتها في غضون سنة او سنتين، قد تعرضت لهيركات يتجاوز الـ50 %، وصولاً الى 80 أو 90%، كلما طالت فترة الاسترداد، فما هي نسبة الهيركات التي ستكون مقبولة لهذه الشريحة من الودائع؟ والسؤال الأهم، ما هي المدة التي سيتمّ تحديدها لاستعادة ما تيسّر من الوديعة؟ وهل ستكون هناك آلية اختيارية (optional) لاستعادة الودائع ضمن هذه الشريحة؟

 

انها «مجزرة» بكل ما للكلمة من معنى، ولا يمكن تخفيف وطأتها، اذا لم تتبدّل فلسفة توزيع الخسائر، وإشراك الدولة ككيان (entity) في تحمّل قسم وازن من هذه الخسائر.

 

أنطوان فرح

كبير اقتصاديي معهد التمويل الدولي: الانــهيار الاقتصادي الشامل بات وشيكاً

حذّر كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «معهد التمويل الدولي» غربيس إيراديان من مخاطر الانهيار الاقتصادي الكامل، متوقعاً ان الانهيار المالي للبنان بات وشيكاً، اذا لم يضع القادة السياسيون في لبنان خلافاتهم جانباً في المدى القريب. وقال في حديث شامل لـ«الجمهورية» انه كما توقّع في السيناريو المتشائم الذي قدمه في تقريره الصادر في أيلول 2021 ، تواصل النخبة السياسية الفاسدة للغاية عرقلة تنفيذ الإصلاحات الحاسمة، بما في ذلك التدقيق الكامل لحسابات البنك المركزي، وتأخير الموافقة على قانون مراقبة رأس المال capital control لأسباب واضحة ومعروفة.

• ما هي تقديراتك المعدّلة للاقتصاد اللبناني في العام 2021؟

– تقلص الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنحو 10٪ في عام 2021 ما أدى إلى انكماش تراكمي بنسبة 45٪ في الفترة الممتدة من 2018 إلى 2021.

وقد ارتفع معدل التضخم إلى 206٪ في كانون الاول 2021 على أساس سنوي، نتيجة انهيار الليرة وتأثير ذلك على الاسعار، ونتيجة رفع الدعم عن الوقود مؤخرا.

تُظهر تقديراتي أن عجز الحساب الجاري ارتفع من حوالى 3 مليارات دولار في العام 2020 إلى 6.2 مليارات دولار في العام 2021 ويرجع ذلك أساساً إلى انخفاض الصادرات من حيث الحجم والقيمة، وزيادة قيمة الواردات على خلفية ارتفاع أسعار السلع العالمية، خصوصاً النفط، والتعافي الجزئي في حجم الواردات (تستند هذه التقديرات إلى أرقام الشركاء التجاريين المتاحة للأشهر التسعة الأولى من عام 2021). وفي غياب تدفقات رأس المال، أدى العجز الكبير في الحساب الجاري إلى انخفاض الاحتياطيات الرسمية، باستثناء حيازات السندات الدولية، من 18 مليار دولار في كانون الاول 2020 إلى 13 مليار دولار في نهاية عام 2021، منها حوالى 12 مليار دولار في شكل احتياطيات إلزامية.

وتم إحراز تقدم كبير في عملية التصحيح المالي على خلفية الانخفاض الحاد في الإنفاق الحكومي بالقيمة الحقيقية. وواصَل الإنفاق الحكومي الأساسي الذي يستثني خدمة الدين انخفاضه من 21٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى 18٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 2020 والى نحو 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 2021 وفقاً للتقديرات. وقد قابل ذلك جزئياً انخفاض الإيرادات الحكومية بالأرقام الحقيقية وكنسبة مئوية من إجمالي الناتج المحلي، حيث انخفضت من حوالى 16٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام 2020 إلى 10٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام 2021. ويعزى انهيار الإيرادات الحكومية إلى حد كبير إلى استخدام السعر الرسمي في معظم حسابات الإيرادات الضريبية من الواردات (ضريبة القيمة المضافة والجمارك وغيرها)، والى واردات الوقود والمنتجات الأساسية الأخرى التي تم تهريبها جزئيا إلى سوريا. ومع ذلك، قد يكون الرصيد الأولي تحوّل من عجز قدره 1.9٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020 إلى فائض صغير قدره 0.2٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021. وتتفق هذه النتيجة مع الأرقام الفعلية للنصف الأول من عام 2021.

توقعات للمستقبل القريب

• ما هي توقعاتك للاقتصاد في ظل الشلل السياسي والتأخير في الاتفاق مع صندوق النقد الدولي؟

– إن لم يضع القادة السياسيون في لبنان خلافاتهم جانباً في المدى القريب، فإنّ مخاطر الانهيار الاقتصادي الكامل والانهيار المالي للبنان باتت وشيكة. من المؤسف أنّ الحكومة الحالية معطّلة، وأن المجلس النيابي يواصل عرقلة الإصلاحات الأساسية كالعادة. كما توقعت في السيناريو المتشائم الذي قدمته في تقريري الصادر في أيلول 2021، تواصل النخبة السياسية الفاسدة للغاية والممثلة في البرلمان، عرقلة تنفيذ الإصلاحات الحاسمة، بما في ذلك التدقيق الكامل لحسابات البنك المركزي، وتأخير الموافقة على قانون مراقبة رأس المال capital control لأسباب واضحة معروفة لوسائل الإعلام والجمهور في لبنان.

تستمرّ الاجتماعات الفنية مع صندوق النقد الدولي، وهناك أخيراً اتفاق على قيمة الخسائر المالية بقيمة 69 مليار دولار. كما انّ التعديل المالي الذي حصل في العامين الماضيين أمر مشجع، علماً انه كان مدفوعاً بالانخفاض الحاد في الإنفاق الحكومي الأولي بالقيمة الحقيقية وكنسبة مئوية من إجمالي الناتج المحلي. على الصعيد المالي، أتوقع أن يركّز برنامج صندوق النقد الدولي المحتمل بشكل أكبر على حشد إيرادات إضافية من خلال مكافحة التهرب الضريبي واستخدام سعر الصرف المناسب لحساب الإيرادات المقومة بالعملات الأجنبية، مثل الجمارك وضريبة القيمة المضافة المحددة. على عكس الحجج الخاطئة التي أدلى بها العديد من «الاقتصاديين» المحليين ووسائل الإعلام، فإنّ برنامج صندوق النقد الدولي المحتمل مع لبنان، سيشمل زيادة كبيرة في الإنفاق الحكومي على القطاعات الاجتماعية والصحة والتعليم والبنية التحتية، والتي يمكن تمويلها من خلال زيادة الإيرادات الإضافية والقروض الميسّرة من البنك الدولي ومؤتمر «سيدر».

وقد يكون نائب رئيس الوزراء وفريقه، قد أعدّوا بالفعل برنامجا اقتصاديا جديدا تمهيديا، باستخدام جزئي لخطة الإصلاح المالي (FRP) التي صاغتها الحكومة السابقة والتي تعتبر شاملة، والتي تلقفها صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي بشكل جيّد. تتضمّن الخطة معظم التدابير المالية والاجتماعية والهيكلية اللازمة في إطار السياسة المالية (بما في ذلك معالجة التهرّب الضريبي واعادة هيكلة مؤسسة كهرباء لبنان والمؤسسات الأخرى المملوكة للدولة، وتطبيق قانون الشراء العام، وإصلاح شبكة الحماية الاجتماعية، وبرنامج مكافحة الفساد، وتوحيد سعر الصرف المتعدد والسماح بتحديده من خلال قوى السوق).

لسوء الحظ، عارضَ البرلمان وجماعات المصالح الشخصية الأخرى هذه الخطة الاصلاحية، وفوّتوا فرصة ذهبية لوقف التدهور الإضافي في الاقتصاد في وقت كان سعر الصرف في السوق السوداء حوالى 4000 ليرة لبنانية مقابل الدولار الأميركي (أيار 2020). ستكون هناك حاجة إلى بعض العمل لتحديث إطار الاقتصاد الكلي والتوقعات للسنوات الأربع القادمة، بالتشاور مع فريق صندوق النقد الدولي، بناءً على متغيرات كلية مختلفة، مثل الناتج المحلي الإجمالي، ومعدل التضخم، وسعر الصرف.

من المتوقع أن يزور فريق صندوق النقد الدولي بيروت في 17 كانون الثاني لبضعة أسابيع لمواصلة المفاوضات مع السلطات. لكن بدون إصلاحات جادة، من غير المرجّح أن تنتهي المحادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة إنقاذ. علاوة على ذلك، ستعتمد الآفاق الاقتصادية في عام 2022 وما بعده، على نتائج الانتخابات النيابية في أيار. إذا نجح معظم اللبنانيين في انتخاب عدد كافٍ من المشرّعين الجدد (لنفترض 40٪ من إجمالي المقاعد)، وهم أقل فسادا ويضعون مصلحة البلد قبل مصالحهم، فإنّ احتمال تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية المطلوبة هو أعلى من ذلك بكثير ومن المرجّح أن يتم الاتفاق على برنامج يدعمه صندوق النقد الدولي.

في هذا الصدد، أعددت مرة أخرى سيناريوهين معدلين لعام 2022:

– السيناريو (أ) يفترض أن يسود الشلل السياسي وأن تفشل الانتخابات النيابية المقبلة في إحداث تغيير كبير في المشهد السياسي للبلاد وفي تحسين العلاقات مع دول الخليج. في مثل هذه الحالة، لن يتم تنفيذ أي إصلاحات رئيسية، ولن يتم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. نتيجة لذلك، سيستمر الاقتصاد في الانكماش، وسوف تنخفض قيمة سعر الصرف في السوق السوداء أكثر، ربما إلى أكثر من 40.000 ليرة لبنانية مقابل الدولار بحلول نهاية عام 2022، وستستمر أسعار الصرف المتعددة حتى لو رفع مصرف لبنان السعر الرسمي إلى حوالى 9000 ليرة مقابل الدولار. سيظل التضخم في مستوى ثلاثي الأرقام، وسيظل عجز الحساب الجاري كبيرا، وستستمر الاحتياطيات الرسمية، باستثناء حيازة سندات اليوروبوند، في الانخفاض إلى أقل من 10 مليارات دولار بحلول نهاية العام 2022، وسيتجاوز الدين العام 300٪ من الناتج المحلي الإجمالي في غياب haircut على سندات اليوروبوند.

– يفترض السيناريو «ب» أن تستأنف حكومة ميقاتي جلساتها وتتفق على تنفيذ الإصلاحات الحاسمة التي ينبغي أن يصادق عليها البرلمان، ما يؤدّي إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي قبل نهاية آذار. مثل هذا السيناريو من شأنه أن يسهل الوصول إلى المساعدات الإضافية التي تمسّ الحاجة إليها من مصادر أخرى متعددة الأطراف ومن «سيدر». ونأمل أن يوافق مجلس الوزراء أيضا على تحسين العلاقات مع دول الخليج لرفع الواردات المحظورة من لبنان وتشجيع المزيد من الاستثمار من قبل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت. في هذه الحالة، يمكن أن يبدأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الانتعاش إلى 4.5٪ في عام 2022. وسيؤدي الدعم المالي الكافي من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي و»سيدر» جنبا إلى جنب مع تنفيذ إصلاحات شاملة، إلى ارتفاع كبير في سعر صرف الليرة في السوق السوداء، والى توحيد أسعار الصرف المتعددة عند حوالى 15000 ليرة لبنانية بحلول منتصف العام 2022. في هذه الحالة، يمكن أن يبدأ معدل التضخم في الانخفاض تدريجاً من أكثر من 200٪ في نهاية عام 2021 إلى 35٪ بحلول نهاية عام 2022.

سيتقلّص عجز الحساب الجاري بشكل كبير، مدعوما بتحسن الصادرات إلى دول الخليج. وسيؤدي هذا إلى جانب الانتعاش في تدفقات رأس المال، ومعظمها من المصادر الرسمية، إلى زيادة الاحتياطيات الرسمية، باستثناء سندات اليوروبوند، إلى حوالى 16 مليار دولار بحلول نهاية عام 2022. كما سيتحسن الرصيد الأولي للمالية العامة، مع وجود فائض متوقع بنحو 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي مدفوعاً بزيادة كبيرة في الإيرادات الحكومية جراء مكافحة التهرب الضريبي واستخدام سعر الصرف الموحد. تظهر التجارب من العديد من البلدان الناشئة والنامية أنّ أنظمة سعر الصرف الموحدة تقضي على التشوهات وتقلل من السعي وراء الريع وتعزز الإيرادات المالية.

كما يمكن لبرنامج صندوق النقد الدولي المحتمل أن يضع الدين العام المرتفع في لبنان على مسار هبوطي ثابت في حال إعادة الجدولة او إعادة الهيكلة او الاثنين معاً. قد يتفق صندوق النقد الدولي والسلطات على haircut بنسبة 60٪ على الديون الاجنبية (يوروبوند)، ما قد يقلّص نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من حوالى 300٪ من الناتج المحلي الإجمالي (اعتمادا على سعر الصرف المستخدم لتقييم الدين بالعملة الأجنبية) في عام 2021 إلى حوالى 80٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية عام 2022.

تغيير سعر الصرف

• هل انّ تعديل سعر الصرف الرسمي سيكون فعّالاً في غياب برنامج إصلاحات اقتصادية يدعمه صندوق النقد الدولي؟

– في غياب إصلاح اقتصادي شامل يدعمه برنامج صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي، لن يكون أي تغيير في سعر الصرف الرسمي فعالاً وستسود أسعار الصرف المتعددة مع استمرار انخفاض سعر صرف الليرة في السوق السوداء. يتوقف التوحيد الناجح على الائتمان الأساسي المُتّسِق والسياسات المالية والإصلاحات الشاملة وتدفقات رؤوس المال الخارجية الكافية. وبدون دعم من سياسات الاقتصاد الكلي، لن يؤدّي خفض قيمة السعر الرسمي إلى تقليص الفارق بين الأسعار الرسمية والموازية، في المدى المتوسط في غياب تعديل مالي قوي وسياسة نقدية أكثر صرامة، وتحرير نظام سوق الصرف. أعتقد أنّ مصرف لبنان قد نسّق أو سينسق مع صندوق النقد الدولي قبل رفع سعر الصرف الرسمي

رنى سعرتي

أربعة «مضاربين» خفّضوا سعر الدولار

السؤال شبه الوحيد على كل شفة ولسان اليوم، الى أين يتجّه الدولار؟ ما هو القعر الذي سيبلغه الهبوط؟ ما هو السعر الذي قد يستقر عليه جزئياً لاحقاً؟ كم سيصمد بعد أن يستقر؟ ما حدود هذه اللعبة، ومن سيستفيد منها؟ هذه الاسئلة، وغيرها تكاد تكون الشغل الشاغل للمواطن، وقد غطّت على الحدث الأبرز المتمثّل بعودة الحكومة الى عقد الاجتماعات.

قبل أن يصدر قرار دعم الليرة من السرايا في ذلك الاجتماع الثلاثي الذي ترأسه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحضره وزير المال يوسف الخليل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، كان التوجّه الرسمي يركّز على دور التطبيقات الالكترونية في ارتفاع الدولار. وتمّ تسريب أخبار ومعلومات تفيد بأنّ مصرف لبنان وبالتعاون مع وزارة الاتصالات وأجيرو وبدعم من رئيس الحكومة، يسعى الى إغلاق هذه المنصّات المسؤولة عن انهيار الليرة! طبعاً، البعض صدّق الرواية، والبعض الآخر لم يقنعه هذا الكلام، لأنّ لا التطبيقات ولا الصرّافين هم مسؤولون عن انهيار العملة الوطنية. في النتيجة، وبعد قرار دعم الليرة الذي اتُخذ في 11 كانون الثاني الجاري، تبدّل المشهد دراماتيكياً، خصوصاً بعد عملية جسّ النبض التي قام بها المركزي في اليومين الاولين بعد القرار، اذ تمهّل في ضخ الدولارات، ومن ثم فتح المزراب في اليوم الثالث، حين عوّم السوق بالدولارات، ودفع بالعملة الخضراء الى الهبوط بسرعة.

 

لكن اللافت في هذا المشهد، انّ «الانهيار» الأسرع للدولار حصل في عطلة الاسبوع، في خلال إغلاق المصارف، وتوقّف البيع عبر منصّة صيرفة، بما يعني انّ حركة بيع كثيفة للدولار حصلت في «الويك أند» من خلال تجار العملة الكبار. ماذا يعني ذلك، وما هي دلائل هذا الأمر؟

 

في الواقع، تزامن تراجع الدولار مع مُعطيين إثنين: المُعطى الاول يتعلق بمعلومات انتشرت مثل النار في الهشيم، تفيد بأنّ المركزي سيواصل ضخ الدولارات بوتيرة مرتفعة لخفض سعر العملة الخضراء الى ما دون العشرين الف ليرة. والمُعطى الثاني، يتعلق بالقرار المفاجئ الذي أعلنه الثنائي الشيعي بالعودة الى طاولة مجلس الوزراء.

 

صحيح انّ المعلومات المتعلقة بقرار المركزي ضخ دولارات اضافية لخفض السعر لم تكن مؤكّدة، لكن انتشار مثل هذه الأجواء تساهم، في حال صدّقها المتداولون في تسريع الانخفاض، وتخفّف كلفة العملية على المركزي، وبالتالي، لا يستبعد البعض ان يكون المركزي نفسه من يبثّ هذه الأجواء. لكن السؤال، هل صدّق من يعنيهم الامر هذه المعلومات، وتصرّفوا على أساسها وبدأوا بالتخلّص من دولاراتهم، قبل ان يهبط السعر اكثر؟

 

في الواقع، هناك أربع شرائح من المضاربين، وهم:

 

المواطن العادي الذي يملك حفنة من الدولارات، ويخشى ان تخسر من قيمتها الشرائية، ويسارع الى البيع في كل مرة يعتبر فيها انّ العملة الخضراء تتجّه الى الهبوط.

 

المواطن غير المحترف، لكنه يملك مبلغاً من المال، ويعتبر انّ السوق المضطرب يشكّل له فرصة للبيع والشراء وتحقيق ارباح.

 

المضارب المحترف، والذي ينضوي في العادة ضمن «كارتيل» مع مضاربين كبار ومحترفين. هؤلاء ينسّقون قراراتهم، في البيع والشراء، ويساهمون احياناً في زيادة اندفاعة الدولار هبوطاً أو صعوداً، ولكن ظرفياً ولوقتٍ مُحدّد.

 

المضارب السياسي، وهو مستثمر سياسي يدفع الاموال في العادة لتحقيق مكاسب سياسية، بهدف خلق مناخات تساعده في تحقيق طموحاته السياسية.

 

هذه الشرائح الاربع ساهمت في خفض الدولار بسرعة غير متوقعة في خلال 3 أيام. المضارب السياسي ضخ الدولارات، والمضارب هذه المرة هو ميقاتي الذي استخدم اموال المركزي وضخّ اكثر من 41 مليون دولار في يوم واحد (الجمعة في 14 الجاري). كذلك فعل المواطن جزئياً، بهدف حماية امواله او تحقيق ارباح. مع الإشارة الى انّ المواطن غالباً ما يخرج خاسراً في النتيجة، بسبب عدم قدرته على قراءة قرارات المضاربين الكبار. اما شريحة المضاربين المحترفين، فلم تتوان عن الدخول في «اللعبة»، ورمت بعض الدولارات في السوق. طبعاً، هؤلاء لم يستندوا في قرارهم الى المعطيات الظاهرية، بل استغلوا هذه المعطيات، وقرأوا السلوك العام، وقرّروا الإفادة من الظرف كما حصل تماماً ابّان تشكيل الحكومة الميقاتية، حين هبط الدولار الى 14 الف ليرة، بدعم من المضاربين، الذين حققوا لاحقاً أرباحاً خيالية.

 

هل يعني ذلك انّ السيناريو نفسه سيتكرّر اليوم؟ وما هو القعر الذي سيبلغه الدولار؟

 

ما هو أكيد انّ الدولار لم يبلغ القعر بعد، والمركزي سيستفيد بدوره من المناخ لتخفيف كلفة خفض العملة الخضراء. لكن من رابع المستحيلات ان يستقر الدولار في القعر الذي سيبلغه في الايام القليلة المقبلة، وسيعاود الارتفاع، وسيكون الرهان الأساسي على الرقم الذي سيقف عنده، والذي قد يكون قريباً من 25 الف ليرة، وفق التقديرات الحالية، ولو انّها غير دقيقة، لكنها منطقية من حيث الكلفة والمناخ والحاجة. لكن السؤال الآخر المطروح، ماذا سيكون موقف صندوق النقد في المفاوضات، حيال عودة مشروع دعم الليرة، في الوقت الذي تفاوض فيه الحكومة على خطة إنقاذ ينبغي ان يموّلها الصندوق؟

 

 

أنطوان فرح