أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

إجراءات ترقيعية للدولار المتفلّت مقابل الليرة…والقرار غامض

إجتمعت عوامل عدة، بالإضافة الى العامل الاساسي المرتبط بالوضع المالي والاقتصادي الكارثي، لتساهم في تسريع انطلاقة سعر صرف الدولار وصولاً الى 28 الف ليرة، قبل ان يعاود الانخفاض قليلاً. هل ما جرى بريء، ام انّه، في جانب منه على الأقل، مفتعل؟

بعد اعلان مصرف لبنان عن قرار رفع سعر صرف السحوبات النقدية المصرفية من 3900 الى 8000 ليرة، واصل الدولار الارتفاع الذي كان بدأه قبل ايام من اعلان تعديل التعميم 151، متخطياً الـ28 الف ليرة، ومرتفعاً في غضون 4 ايام من 24 الفاً الى 28 الف ليرة، مما جعل الامور تخرج عن السيطرة، وأجّج احتجاجات شعبية، ولو بسيطة، وحفّز عمليات السرقة والنهب في وضح النهار. مع التأكيد انّ انهيار الليرة بشكل أكبر كان منتظراً ومتوقعاً مع ومن دون رفع سعر صرف السحوبات النقدية المصرفية، نتيجة عوامل عديدة، منها التأزّم السياسي وعمل الحكومة المعطّل بسبب تعذّر انعقاد جلسات مجلس الوزراء، بالإضافة الى عدم بروز أي بصيص أمل جدّي في ما يتعلق بتسوية العلاقات مع دول الخليج، وتحرير استيراد البنزين تدريجياً على غرار المازوت، مع زيادة نسبة الدولارات التي يتوجب على مستوردي البنزين تأمينها من السوق السوداء، من 10 الى 15 في المئة حالياً، مما زاد الطلب على العملة الصعبة في السوق في مقابل تراجع العرض.

وبما انّ لجم انهيار الليرة أمر غير وارد من دون البدء في تطبيق الاصلاحات واعلان خطة الحكومة للنهوض من الأزمة والشروع في تنفيذ برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي، إلّا انّ سياسة القرارات العشوائية والترقيعية والمجتزأة ما زالت متّبعة من قِبل المسؤولين، حيث خلص اجتماع رئيس مجلس الوزراء مع وزير المالية وحاكم مصرف لبنان امس الاول، الى اتخاذ تدبيرين للجم تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية، وهما:

– سيقوم مصرف لبنان بتزويد المصارف العاملة بحصتها النقدية لما تبقّى من هذا الشهر بالدولار الأميركي النقدي بدلاً من الليرة اللبنانية، وذلك على سعر صرف منصة صيرفة. وسوف يطلب مصرف لبنان من المصارف بيع الدولارات المشتراة على سعر صيرفة كاملة الى مختلف عملائها عوضاً عن الليرات اللبنانية التي كانت مرصودة لدفعها بالليرة اللبنانية.

– سوف يقوم مصرف لبنان بتنظيم سداد القروض التجارية بالعملات الاجنبية نقداً بالليرة اللبنانية على السعر المحدّد في التعميم 151 أي 8000 ل.ل. حالياً، ما يساعد في خفض الطلب على الدولار ويزيد الطلب على الليرة اللبنانية في الأسواق.

في التفاصيل، اشارت مصادر مصرفية لـ«الجمهورية»، انّه لا يمكن فهم كيفية تطبيق التدبيرين قبل إصدار مصرف لبنان تعميماً حول آلية تنفيذهما، وانّ المصارف بدورها لا تملك تفسيراً واضحاً لهما لغاية الآن، معتبرة انّ التدبيرين متضاربان، وانّ واحداً يمكن ان يساهم في لجم انهيار الليرة، إلّا انّ الثاني انعكاساته مختلفة. واوضحت، انّ التدبير الاول متعلّق بالتعميم 158 الذي تسدّد بموجبه المصارف 400 دولار نقداً و400 بالليرة على سعر صرف صيرفة، حيث انّه يمكن ان يعطي المصارف الأموال المخصصة للجزء الذي يتمّ تسديده بالليرة الى العملاء المستفيدين من التعميم، بالدولار بدلاً من الليرة، على ان تقوم المصارف ببيع تلك الدولارات لمن يرغب من عملائها، إلّا انّ مدّة تطبيق هذا الإجراء تمتد لغاية أواخر العام الحالي اي لفترة 15 يوماً فقط.

اما في ما يتعلّق بالتدبير الثاني، أوضحت المصادر، انّه يستهدف قروض الشركات فقط، وليس القروض الاخرى، لا السكنية ولا الشخصية… مشيرة الى انّ المصارف تشترط تسديد القروض التجارية بعملة القرض نفسه. وبما انّ معظمها بالدولار، فإنّ تسديدها يتمّ، منذ بدء انهيار سعر الليرة، من خلال الشيكات المصرفية بالدولار، والتي باتت تباع اليوم (سعر الصرف بين 26 و27 الف ليرة) بسعر يبلغ حوالى 20 في المئة من قيمة الشيك في حال يتمّ شراؤها بالدولار الـfresh، او على سعر صرف الـ5500 ليرة تقريباً، في حال يتمّ شراؤها بالليرة. أي انّ القرض الذي تبلغ قيمته على سبيل المثال 100الف دولار، يمكن تسديده بكلفة 20 الف دولار fresh أو 550 مليون ليرة نقداً (شيكات مصرفية بالدولار). وشرحت انّ قرار مصرف لبنان سداد القروض التجارية بالعملات الاجنبية بالليرة نقداً، سيرفع كلفة تسديدها حوالى 30 في المئة تقريباً، حيث انّ الـ100 الف دولار التي كانت تُسدّد بكلفة 550 مليون ليرة (شراء شيك مصرفي بالدولار) ستُسدّد اليوم بكلفة 800 مليون ليرة نقداً (على سعر صرف الـ8000 ليرة). علماً انّ الـ800 مليون ليرة تعادل حوالي 30 الف دولار fresh على سعر صرف الـ26 الف ليرة، في حين انّ الشيك المصرفي يمكن شراؤه بـ20 الف دولار fresh. ولفتت المصادر الى انّه لا يمكن فرض تسديد القروض التجارية بالليرة نقداً فقط ورفض تسديدها من خلال الشيكات المصرفية بالدولار، لانّ هذا الامر مخالف للقانون لأنّ العقود تنص على تسديد القرض بالعملة نفسه ولا تمنع تسديدها من خلال الشيكات. مستغربة كيف سيقوم مصرف لبنان بتنظيم تلك العملية وحث المقترضين على سدادها بالليرة نقداً رغم انّ الكلفة ستكون أكبر من كلفة شراء الشيكات.

وشدّدت المصادر على انّ التدابير والتعاميم والإجراءات يمكن ان تساهم في امتصاص السيولة النقدية بالليرة من السوق لمنع المضاربة، إلّا انّ أحداً لا يتدارك انّ الدولارات التي يتمّ شراؤها محلياً، مصيرها التحويل الى الخارج، حيث انّها تُستعمل إما للتخزين او الإيداع في الخارج او للاستيراد. في المقابل، فإنّ الليرة لا يمكن استخدامها سوى محلياً، وبالتالي مهما حاول البنك المركزي امتصاصها من السوق، ستعود اليه وسيعيد ضخها من جديد لاحقاً عبر الرواتب والاجور وغيرها.

رنى سعرتي

بين ميزان المدفوعات ومالية الدولة: كيف أصبح سعر الصرف «إصطناعياً»؟

بات معلوماً أنّ العام 2011 شكّل نقطة مفصلية باتجاه الانقلاب السلبي في جميع المؤشرات الاقتصادية، لاسيما منها وضع ميزان المدفوعات الذي تحوّل من فائض يفوق الـ 7 مليارات دولار، الى تراكم عجوزات بمليارات الدولارات، باستثاء العام 2016، الذي تمّ فيه تسجيل «فائض اصطناعي» في ميزان المدفوعات جراء استقطاب دولارات من الخارج لتوظيفها في الداخل تحديداً في الأوروبوند، وشهادات إيداع المصرف المركزي بالعملات الأجنبية عبر «الهندسات المالية»، بمحاولة شراء الوقت في غياب الإصلاحات المالية والادارية الفعلية، ومع بداية تضييق «مصادر الدولار» الى لبنان بعد اندلاع الأزمة في سوريا من جهة وإسقاط حكومة لبنان عام 2011 وتبدّل مناخ الاستقرار السياسي… إلّا أنّ الملفت أيضاً، أنّه في صلب مرحلة انقلاب الموازين السياسية المؤثرة مباشرة على المناخ الاستثماري، وتضاعف عوامل المخاطرة في البلاد (المؤثرة على الفوائد وعلى التصنيف السيادي، كما ذكرت حينها جميع تقارير مؤسسات موديز، فيتش، ستاندرد بورز…)، وزيادة انغماس الجهاز المصرفي في تمويل العجز المتمادي للدولة ولسدّ حاجات المصرف المركزي من احتياطات الدولار… تمّ الإبقاء على تثبيت سعر صرف الدولار الى الليرة اللبنانية على أساس 1507.5 كسعر وسطي وكأنّ أي شيء في المشهد الاقتصادي لم يتبدّل. ومهما كان ثمن هذا التثبيت، كيف انتقل سعر الصرف من أن يكون انعكاساً حقيقياً لوضع الاقتصاد ليصبح مؤشراً «وهمياً» لا علاقة له بمتانة الاقتصاد وديناميكيته؟ وأكثر من ذلك، كيف استمر التمسّك بهذا الخيار من جميع الأفرقاء والمسؤولين حتى اليوم، على الرغم من انكشاف الواقع الاقتصادي وانفلاش السوق الموازي وتعدّد أسعار الصرف؟

بعد طي صفحة الحرب الداخلية مطلع التسعينات، شهد لبنان حالة من المديونية المفرطة، ومنها جزء متزايد بالدولار الأميركي وسياسة جذب رؤوس الأموال بالعملة الأجنبية لتزويد الإحتياطي الأجنبي لمصرف لبنان بقدرته على الحفاظ على ربط سعر صرف الليرة بالدولار، لاسيما منذ العام 1997 على أساس 1507.5 ليرة لبنانية/ الدولار الأميركي. وقد ظلّ الوضع مقبولاً حتى عام 2011 عندما اندلع الصراع في سوريا وتدفق مئات الآلاف من اللاجئين على لبنان مع تدهور النمو الاقتصادي، وبدأ منحى تراكم عجز ميزان المدفوعات. منذ عام 2011، ارتفعت نسبة الدين العام/الناتج المحلي الإجمالي بشكل مستمر، لتتجاوز 176% في نهاية عام 2019 مع تدهور وضع المالية العامة وزيادة الدين العام مع تراجع معدل النمو الاقتصادي من حوالى 8.5% في 2011 إلى أقل من 1% في نهاية 2019. في الواقع، يظهر التفاوت الكبير في أوضاع الدين العام عبر العالم، صعوبة تحديد عتبة إفلاس أو عدم استدامة الدين العام، ويتعلق ذلك بإثنين من “معايير ماستريتش” للمالية العامة: سقف 3% من العجز المالي الى الناتج المحلي، وسقف 60% نسبة الدين العام الى الناتج المحلي.

ومع التبدّل الجذري في مناخ الاستقرار السياسي منذ العام 2011 وانقلاب فائض ميزان المدفوعات، الى تراكم عجز متزايد، يعني سنوياً خروجاً صافياً للدولار الأميركي من لبنان، جاء الفراغ الرئاسي لحوالى سنتين ونصف والتشنج السياسي والأمني المتنقّل بين المناطق والتجاذب السياسي على كل الملفات، ليدهور مناخ الاستقرار الأساسي للاستثمار وجو الثقة والصدقية تجاه البلدان المانحة التي شهدت عدم الالتزام بأي من الإصلاحات الاقتصادية التي كان سبق واقترحها لبنان في أوراقه السابقة من باريس 1، 2، 3 وصولاً الى “سيدر”، خصوصاً في ما يخص قطاع الكهرباء، الذي تسبّب بعجوزات مالية بين 1.5 و2 مليار دولار سنوياً، حتى جمعت مع تراكم الفوائد عليها أكثر من 43 مليار دولار، قاربت نصف قيمة الدين العام، وكانت تتغطّى على شكل سلفات خزينة بالدولار الأميركي من المصرف المركزي دون إمكانية تسديدها ولا حتى معالجة ملف الكهرباء، فيما كانت تستنزف إحتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. ويتراجع تصنيف لبنان السيادي من قِبل جميع مؤسسات التصنيف الدولية “فيتش” “موديز” “ستاندر بورز”… ما يعني قرع جرس العجز عن سداد الديون بالدولار تحديداً…

علماً أنّ ميزان المدفوعات يتشكّل من مجموع الميزان التجاري وميزان الرساميل. ومن المعروف تاريخياً أنّ كل فائض في ميزان المدفوعات كان ينتج من فائض كبير في ميزان الرساميل (الفرق بين حركة دخول وخروج الرساميل)، يتمكّن من التعويض بفائض أكبر عن عجز الميزان التجاري (الفارق بين الاستيراد والتصدير)، الذي لطالما عرف تاريخياً تراكم عجوزات في لبنان حيث يفوق الاستيراد أضعاف التصدير، نظراً لأسباب بنيوية استراتيجية وليس لعوائق ظرفية قابلة للتبدّل بسهولة.

ومن أبرز العوامل التي أدّت الى هذا العجز المتزايد في الميزان التجاري، هو أنّ لبنان بلد مستهلك من الدرجة الاولى، وحاجة استهلاكه الى السلع المستوردة في تزايد مستمر، بفعل ارتفاع القوة الشرائية لدى السكان، وخصوصاً في الفترة التي كانت فيها عملته “مدعومة” عبر ربطها بالدولار (1507.5) منذ العام 1997، ولكون لبنان بلد سياحة وخدمات، يزوره الإجانب بأعداد كبيرة ويزيدون من استهلاك مختلف الماركات العالمية، ليمثّل الاستيراد أكثر من 80 % من الاستهلاك في لبنان.

كذلك يبرز ضعف قدرة لبنان على التصدير. إذ على الرغم من التوسع الكبير الذي حصل في السنوات الاخيرة في ميدان الانتاج الصناعي والزراعي، وبالرغم من الزيادة الملحوظة في حجم الصادرات اللبنانية الى الخارج، فإنّ العناصر والإمكانات الإنتاجية المتوفرة في لبنان لا تزال ضعيفة لأسباب عدة، نظراً للحاجة الى استيراد المواد الأولية للمنتوجات الصناعية ومختلف التجهيزات وصولاً الى التغليف، كما لارتفاع كلفة عناصر الإنتاج من كلفة الرأسمال، أي معدّل الفائدة على كلفة الأجور، كذلك بسبب ضيق السوق اللبناني وصعوبة تحقيق ما يُعرَف في عالم الاقتصاد بـ”إقتصاد الكم” الذي يقلّص كلفة الوحدة المنتجة كلما زاد عدد الوحدات المنتجة. كما هناك مشكلة تأمين المياه الكافية لجميع المناطق وضعف شبكات الري، وطبعاً بشكل أساسي أزمة قطاع الكهرباء، وكل ما ينتج منها من عراقيل انتاجية تقلّص القدرة التنافسية للمنتج اللبناني.

ومع ذلك، طالما كان ميزان المدفوعات في مسار تصاعدي، ظلت فجوة النمو بين ودائع العملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي مضبوطة، وبالتالي انخفضت نسبة الودائع إلى الأصول الخارجية من 1.7 عام 1997 إلى 2.0 في نهاية 2011.

أما أخيراً، وبحسب إحصاءات الجمارك اللبنانية، انخفض العجز التجاري بنسبة 37% ليبلغ 9780 مليون دولار مقارنة مع 15508 ملايين دولار في 2019. وقد أدّى ذلك الى تراجع في الاستيراد بنسبة 25.9%، وارتفاع في التصدير بنسبة 19.4%، لكن اللافت أنّ حصّة السلع المدعومة من مجمل الواردات كانت تبلغ 46.9%، وبالتالي فإنّ باقي السلع لم تنخفض بأكثر من 27.8% في عزّ الانهيار المصرفي والنقدي والاقتصادي.

وتشير الإحصاءات، إلى أنّ واردات لبنان بلغت 14240 مليون دولار في نهاية 2020 مقارنة مع 19239 مليوناً في 2019، في مقابل صادرات بقيمة 4458 مليون دولار في 2020 وبقيمة 3731 مليوناً في 2019.

التراجع الذي طرأ على الاستيراد بدأ يظهر اعتباراً من الشهر الثالث من السنة الماضية، واستمر بوتيرة متراجعة إلى أكثر من النصف حتى شهر تشرين الثاني الذي كاد أن يبلغ مستوى الاستيراد المسجّل في الأشهر نفسها من 2019. وهذا الأمر مرتبط إلى حدّ ما بالانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في 4 آب.

يمثّل عجز الميزان التجاري الجزء الأهم من عجز ميزان المدفوعات. لذا، فإنّ تراجع عجز الميزان التجاري ضروري ومهم، باعتباره يفسّر جانباً أساسياً في ميزان المدفوعات يتعلق بخروج العملات الأجنبية من لبنان. التراجع في العجز التجاري بنسبة 37% لا يمكن التعويل عليه كثيراً. صحيح أنّ العجز تقلّص بقيمة 5728 مليون دولار، إلّا أنّ حجم العجز ما زال كبيراً ويبلغ 9780 مليون دولار. العجز يمثّل حاجة لبنان إلى حجم كبير من الدولارات يوازي أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي المقدّر من صندوق النقد الدولي بنحو 18.6 مليار دولار.

اللافت أنّ كمية السلع المدعومة المستوردة إلى لبنان في 2020 تبلغ 6680 مليون دولار (مدعومة بنسبة 90% للبنزين والدواء والقمح والمستلزمات الطبية والغاز والمازوت والفيول، أي باستثناء 960 مليون دولار مواد غذائية مدعومة بنسبة 100% على أساس 3900 ليرة لكل دولار، وتُموّل من احتياطات مصرف لبنان بما قيمته 5148 مليون دولار)، أي ما يوازي 68.3% من العجز التجاري، ونحو 46.9% من مجمل الواردات.

وبالتالي، فإنّه بعد استثناء الكميات المدعومة من فاتورة الاستيراد، يتبيّن أنّ الاستيراد تراجع في عام 2020 بنسبة لا تزيد عن 28.7%. فبحسب أرقام الجمارك، إنّ لبنان استورد بقيمة 7.7 مليارات دولار من السلع غير المشمولة بدعم الاحتياطات بالعملات الأجنبية، وفي عام 2019 استورد من هذه السلع بقيمة 10.7 مليارات دولار، ما يعني أنّ التراجع قيمته 3 مليارات دولار فقط.
تراجع بهذا المستوى مستغرب جداً في ظل تطورات سعر صرف الليرة. سعر الليرة انخفض بنسبة 85%، بينما تضاعف سعر الدولار مقابل الليرة بنحو 8.6 مرات. كل هذه الخسائر لم تحتّم تراجعاً كبيراً في الاستيراد والاستهلاك. فمن مفاعيل الأزمات أنّها تضرب القدرة الشرائية ما ينعكس سلباً على الاستهلاك، وبما أنّ الجزء الأكبر من استهلاكنا مستورد، فإنّه ينعكس سلباً على الاستيراد.

من أبرز المتغيرات التي أثّرت في الميزان التجاري وبالتالي ميزان المدفوعات منذ اندلاع الأزمة، أنّ هناك بعض السلع التي تراجع استيرادها، من أبرزها استيراد السيارات الجديدة والمستعملة، وبعض السلع المعمّرة الأخرى، بينما لا يزال استيراد اللبنانيين من باقي السلع شبه مستقرّ. وتشكّل تحاويل الدولار الواردة الى لبنان، سواء من تحويلات المغتربين أو باقي التحويلات الرأسمالية بما فيها الأموال التي تدخل إلى لبنان نقداً، تأمين استمرارية تمويل الاستيراد، كونها تصل الى أيدي الجهات التي تستعملها من أجل تمويل الحركة الاستهلاكية. لم يستفِد لبنان من هذه الأموال سوى في تحريك الاستهلاك وإسباغ نوع من الاستقرار على الاستيراد.

علماً أنّه بعد زلزال بيروت حصل ضخّ كبير للأموال إلى المقيمين في بيروت، لا سيما عبر المنظمات غير الحكومية، بغض النظر عمّا وصل منها فعلياً بالعملات الأجنبية الى المتضررين مباشرة أو الذين تضرّروا جزئياً. مصدر هذه الأموال كان من الدول والمنظمات الدولية مباشرة أو عبر مؤسسات المجتمع المدني، وبعضها لا يزال قائماً إلى اليوم. هذه الأموال حفّزت حركة الاستهلاك والاستيراد قليلاً، من أجل تغطية بعض الأضرار أو لمساعدة السكان على الصمود.

ولكن مع اختتام العام 2021، وتحقّق معظم شروط صندوق النقد الدولي حتى قبل المحادثات معه (مع توقّف دعم المنتجات ولو بنتيجة نفاد احتياطي العملات الأجنبية وليس بفعل قرار اقتصادي استراتيجي هادف، وتقلّص عجز ميزان المدفوعات، ولو بفعل العجز عن تأمين الدولارات للمزيد من الاستيراد، وضبط عجز الكهرباء نظراً لتوقّف الإضاءة والانتقال الى المولّدات بشكل شبه كامل والاضطرار الى تصحيح التعرفة قريباً، والاعتراف التدريجي بضرورة أن يعكس سعر الصرف حقيقة السوق)، هل يكون عام 2022 عام تصحيح الخيارات الاقتصادية تلقائياً، ولو على طريقة “مكره أخاك لا بطل”؟!

د. سهام رزق الله

توزيع الخسائر… تحويل كل الودائع الى الليرة

لا يبدو انّ الحلول التي يتمّ تداولها ستُقنع المودعين، لا سيما الكبار منهم. إذ توحي المؤشرات والمعلومات المتوفرة، انّ الدولة ترفض تحمّل أي جزء من الخسائر، رغم اعترافها بمسؤوليتها غير المنقوصة عن الافلاس، وان الهيركات سيعتمد مبدأ تحويل الودائع الدولارية الى الليرة، وعلى سعرٍ منخفض.

اقتربت المحادثات الفنية بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي من نقطتين حسّاستين، الاولى تتعلق بالاتفاق على رقم موحّد ومقبول للخسائر، والثانية تقضي بتوزيع هذه الخسائر على الاطراف المعنية، وهي اربعة: الدولة، مصرف لبنان، المصارف التجارية والمودعون الكبار.

في موضوع حجم الخسائر، كشف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أنه تمّ التوصّل الى اتفاق على رقم موحّد، وهو رقم أصغر من رقم الخسائر الذي جرى تحديده في الخطة السابقة التي وضعتها حكومة حسان دياب. هذا التطور يعتبر ايجابياً، اذا افترضنا، وهذا الأمر مُرجّح، ان الرقم وافق عليه مندوبو الصندوق الذين يتواصلون مع الجانب اللبناني. وخلاف ذلك، يصبح الانجاز منقوصاً، وقد يفقد قيمته التفاوضية، لأن المطلوب ان يكون الرقم واقعياً ويتماهى مع الخطة الانقاذية التي سيتمّ التوافق عليها مع الصندوق لتبنّيها وتمويلها. لكن، وبما أن رئيس الوفد اللبناني في المحادثات سعادة الشامي، صاحب خبرة في التعاطي مع الصندوق، بالاضافة الى حرفية (professionalism) كل من وزير المال يوسف الخليل وحاكم المركزي رياض سلامة، من البديهي الاستنتاج ان الرقم الموحّد المتعلق بالخسائر في القطاع المالي قد حظي بموافقة مبدئية من الصندوق.

الملاحظة الاساسية ان الجانب اللبناني خفّض رقم الخسائر، رغم مرور حوالى 20 شهرا على صياغة الخطة السابقة، بما يعطي فكرة عن مقدار المبالغة الذي اعتمدته حكومة دياب في هذا الاتجاه.

وعلى عكس ما يُنظّر به البعض، للادعاء ان الخسائر تراجعت في هذه الفترة بسبب ما يعتبره الاعيب تسديد القروض، وخفض حجم الودائع المصرفية، فإنّ الخسائرالحقيقية ارتفعت، لأن الفجوة اتسعت، وقد أنفقنا خلال العشرين شهراً اكثر من 16 مليار دولار حقيقية كانت موجودة في المصرف المركزي وفي المصارف.

وفي موازاة الانتهاء من اشكالية تحديد الخسائر، جرى تسجيل خرق جديد على مستوى توزيع هذه الخسائر، لكي تصبح أي خطة انقاذية، واقعية وقابلة للتنفيذ. وتمّ تبني مبدأ التراتبية في تحمّل المسؤولية وفقاً للترتيب التالي: الدولة، مصرف لبنان، المصارف والمودع. لكن الاقرار اخيراً بهذه التراتبية لم يترافق حتى الآن مع موافقة على توزيع الخسائر وفق هذه التراتبية، وهنا بيت القصيد. اذ من دون انشاء صندوق لادارة اصول الدولة، والافادة من عائداته لسد جزء من فجوة الخسائر، فهذا يعني ببساطة ان الخسائر سيتحمّلها المودع بنسبة كبيرة جدا. وفي المعلومات ان الحكومة، وربما بضغط من اطراف سياسية مؤثّرة، ترفض هذا الاقتراح. مع الاشارة الى ان رئيس الحكومة قد يكون من المقتنعين بضرورة توزيع الخسائر وفق توزيع المسؤوليات، لكنه عاجز، مع المؤيدين لهذه الفكرة داخل الحكومة، عن فرض هذا المسار بسبب المعارضة السياسية.

اذا استمر هذا النهج سائداً، وهذا مُرجّح، فإنه سيؤدّي الى تحميل المودعين القسم الاكبر من الخسائر، أي ان نسبة الهيركات التي لا بدّ منها ستكون موجعة جدا. اذ لا مجال لخلق اموال جديدة بالدولار لتصغير حجم الفجوة، وبالتالي، سيكون المخرج، وهذا ما هو مُقترح حالياً، في تحويل كل الودائع الى الليرة، وقد يُعتمد منطق المساواة بين كل المودعين الكبار، سواء كانت اموالهم بالدولار ام لا تزال مودعة بالليرة.

وهنا تجدر الاشارة الى ان هذا الحل قد يُعتمد في الحالتين، أي سواء وافقت الدولة على تحمّل جزء من الخسائر ام لا. لكن الفرق بين الحالتين، يتعلق بنقطتين: سعر الصرف الذي سيُعتمد لتحويل الودائع الدولارية الى الليرة. والمدة التي سيتم تحديدها للسماح للمودع بسحب وديعته بالكامل. وهذا ما يفسّر ربما، اصرار المركزي على الابقاء على سعر الصرف الرسمي كما هو (1507)، وعلى ابقاء سعر السحب كما هو ايضاً. اذا اعتمد سعر السحب الحالي (3900)، لتحويل الودائع، ستكون نسبة الهيركات وفق سعر الدولار الحالي في السوق الحرة، حوالى 85%، في حين اذا اعتمد سعر الصرف الرسمي، سترتفع نسبة الهيركات الى حوالى 95%. اما اذا اعتمد سعر السحب الوارد في التعميم 158 (12 الف ليرة) ستنخفض نسبة الهيركات الى حوالى 48%.

ومن غير المستبعد ان يتم اعتماد اكثر من سعر صرف لتحويل الودائع، بحسب حجمها، وبعد تقسيمها الى 3 أو 4 فئات.

الأكيد في هذا المشهد أن الأضرار كبيرة، لكن لا بدّ من الانتقال الى مرحلة جديدة، لأن الضرر سيصبح اكبر على الجميع كلما مرّ الوقت بلا حل، لأنّ سد الفجوة وتعويض الخسائر لن يتمّ من خلال اعجوبة الانتظار.

أنطوان فرح

 

إرتفاع سعر الصَّرف.. كلامٌ في الأسباب والحُلول

يَتدحرج لبنان بخطى متسارعة نحو الهاوية تحت أنظار حُكَّامه المتخاصمين، المُقتَرعين على مستقبل شَعبِهِ والعابثين بقَدَرِه. باتَ مُعظم الشعب اللبناني يَعيشُ تحت خطِّ الحياة، في بلدٍ يأكلون ويشربون ويموتون فيه أذلّاءَ، متوجِّسين وَمَتروكين.

يُمَرِّر اللبنانيون الوقت على وَقعِ ما تشهده السوق الموازية من إرتفاعٍ غيرِ مسبوقٍ لسعر صرف الدولار الذي لامَسَ مستوياتٍ قياسيَّةً بحجم المأساة. يُنذِر هذا التدهور الخطير بتداعيات إضافية للأزمة المستفحلة على حياة اللبنانيين وقدرتهم على الصمود. يَعكِسُ هذا الارتفاع فقدان الثقة بالاقتصاد اللبناني وبالليرة من قِبل اللبنانيين، كنتيجة للواقع الاقتصادي والسياسي الآخذ بالتأزم. فبالإضافة إلى شحِّ عرض الدولار وانخفاض حجم التحويلات، تَشهَد الأسواق طلباً متزايداً على الدولار، بعد وضع رفع الدعم حيِّزَ التنفيذ بطريقةٍ أشبه بصدمةٍ قاتلة ودون تأمين شبكة أمان اجتماعيَّة تُبعد الكارثة. فَرَفعُ الدعم عن المحروقات كفيل وحده بتهديد اللبنانيين في معيشتهم ومأكلهم وطبابتهم وأمَلهِم. في هذا الوقت المصيري، تتلهَّى الدولة بابتداع العلاجات الموضعيَّة المؤقتة، وسط غيابٍ كاملٍ للخطط الإصلاحية الشاملة وتراجعٌ حادٌّ في الإيرادات. في سياقٍ متَّصل، ساهمت الأزمة الأخيرة مع المَملكة العربيَّة السعودية ودول الخليج وما نَتَجَ منها من تأزّم حكومي تطور إلى انسدادٍ كلّي للأفق بتعميق الجرح. فقد أحدث عدم انتظام العمل الحكومي وتعليق الجلسات، تأخيرًا في إقرار خطَّة الإصلاح التي سترتكز عليها المفاوضات مع صندوق النَّقد الدَولي، على الرغم من الجهود المبذولة من قِبل اللجنة المُفاوِضَة.

على صَعيد آخر، إنّ عَدَم حيازة المصرف المركزي احتياطات كافية من العملة الصعبة تُمَكِّنه من التدخّل في سوق القطع مدافعاً عن الليرة، يؤدِّي الى فتح المجال واسعًا أمام المضاربة الشرسة التي تساهم من دون أدنى شك في ارتفاع سعر الصَّرف. قد تكون هذه المضاربة ناتجة من تدخّلات مشبوهة لأطراف محليين ولبعض المؤسسات الماليَّة ولعدد من المصارف، كما أنَّها قد تكون ناتجة من تلاعب متعمَّد بسعر الصرف عبر التطبيقات الإلكترونية التي لم تَعُد خَفيَّة على أحد. إلّا أنَّ عامل التحكّم بسعر الصرف عن بُعد، وإن كان مؤثراً، فهو لا يَختَصِر أسباب هذا الارتفاع كما يَزعَم مَصرِفُ لبنان. في الواقع، تتسبَّب الإدارة الارتجالية والسيِّئة للأزمة السياسيَّة والاقتصاديَّة في لبنان إلى زيادة كبيرة، مستمرَّة ومتزامنة في نسبة التضخُّم وفي معدَّل البطالة أو ما يُعرَف بـ Stagflation. في الوقت نفسه، يَشهَدُ الاقتصاد اللبناني نُموَّاً سالبًا خطيرًا Economic Depression مما يجعله أقرب الى الاقتصاد الافتراضي. وسط هذا الكَمّ من المشكلات وفي غياب حلول جدِّية قد تأخذ الأمور في لبنان منحىً اكثر خطورة مع ارتفاع الاسعار والفَقر والقَهر والذُّل.

أمَّا مِفتاح الحَلّ، فَيَكمُنُ في فكِّ الحَلقة المُفرَغَة التي يدور فيها البلد، عبر تأمين استقرار سياسيّ يدفع نحو استعادة الثِّقة المفقودة. فإن كان فقدان الثقة أحد أبرز أسباب الأزمة، فاستعادتها ستشكّل من دون أيِّ شَكّ أحد أبرز الحلول. المطلوب ليس فقط الوصول إلى اتِّفاقٍ مع صندوق النَّقد الدولي يؤمِّنُ فَرضَ إصلاحاتٍ يرفضها المُتفلِّتون، بل الالتزام بما سَيَتِمُّ الاتفاق عليه. فكيف لدولةٍ عاجزة عن إصدار بطاقة تمويليَّة وعَدَت بها شعبها قبل أي رفع للدعم، أن تلتزم بما ستتعهد به أمام صندوق النقد؟ لا بل، كيف لشعب يقتله حكَّامه أن يثق بقاتله مخلِّصًا؟ عمليًا، لا بُدَّ للحلّ أن يبدأ بإيجاد صيغةٍ تُمَهِّدُ لإعادة ترتيب العلاقات مع الدول العربيَّة، لتعود بعدها اجتماعات الحكومة الى الانتظام وإقرار خطَّة شامِلة من أجل التفاوض مع صندوق النَّقد على أساسِها. فالدور العربي في إعادة النهوض محوريّ، أساسيّ واستراتيجيّ، وهو دور لا تَجذُبهُ خُصوبَة الأرض الآنية، بل هويَّتها المُستَدامة! في الوقت الذي يُهَدِّدُ الموت والمرض حياة اللبنانيين، لا مكان للخلافات والمواقف والتَّعطيل. في لبنان اليوم أطفالٌ يدرسون وهم جائعون وشيبٌ يتمنونٌ موتاً بات قريباً، وشبابٌ يُغلِبُهُ اليأس … وحُكَّامٌ من أشباه البَشَر ولا بَشَر.

إنّ لبنان يسير بخطىً متسارعة نحو نقطة «اللاعودة»، حيث لا تنفع الحلول ولا ينفع الندم … فاستيقظوا يا من تحرقون الأمل في عيوننا لتشعلوا أنانياتكم القذرة! نعيش في زمنٍ يَبتَعِدُ فيه النَظَرُ عن لبنان وعن أوجاع شعبه…

فالعين في هذه الأيام ليست على بيروت بل على فيينا!

 

لا داعي للهلع… الليرة ممسوكة بخيوطٍ عنكبوتية

اذا أخذنا السنة كوحدة زمنية لقياس تطور ارتفاع الدولار (انهيار الليرة)، سيتبيّن لنا ان الدولار ارتفع حوالى 300% في العام 2020. واذا اعتبرنا انّ الليرة ستواصل مسارها الانحداري نفسه، من دون زيادة أو نقصان في العام 2021 الذي ينتهي بعد شهر من اليوم، فهذا يعني ان معدل سعر الدولار ينبغي ان يكون في نهاية العام الحالي 32 ألف ليرة.

في كانون الثاني 2020، وصل سعر الدولار الى 2100 ليرة، ارتفاعاً من سعره الرسمي (1507)، وفي نهاية العام نفسه بلغ الدولار عتبة الـ 8400 ليرة، بما يعني ان سعره في السوق السوداء تضاعف 4 مرات خلال سنة. لكن الدولار قد يعجز عن تحقيق الرقم الارتفاعي نفسه في العام 2021، وقد يكتفي بزيادة قدرها 3 أضعاف.

واقعياً، هذا الوضع بالنسبة الى سوق الصرف يعتبر ايجابياً، بمعنى ان البلد لم يدخل بعد مرحلة الانفلاش الكلي على مستوى سعر العملة الوطنية، ولم نصل الى مرحلة شطب ثلاثة أو اربعة أصفار لإعادة سعر العملة الوطنية نظرياً ونفسياً الى ما كانت عليه قبل الأزمة. وقد يكون من المفيد ان نتذكّر ان ايران، ومنذ وقتٍ ليس ببعيد، شطبت اربعة اصفار من عملتها بعد مرحلة من التضخّم المفرط (Hyperinflation) حتّمت عليها اتخاذ مثل هذا الاجراء. وبالتالي، لا يُفترض ان يكون مفاجئاً ان الدولار في لبنان وصل الى 25 الف ليرة، بل ان المفاجئ، على المستوى المالي والاقتصادي، ان يكون الدولار قد اكتفى في الـ11 شهرا الاولى من 2021، بالارتفاع فقط حوالى 200%، في حين انه ارتفع حوالى 380% في الفترة نفسها من العام 2020.

في المفهوم الاقتصادي، وحتى السياسي، لم يحصل اي تطور يمكن البناء عليه للقول ان مسار انهيار الليرة يمكن ان يصبح أبطأ، بل العكس صحيح. اذ ان الاوضاع المالية والاقتصادية والسياسية اصبحت اسوأ، والعام 2021 كان أشد سواداً على المستويات الثلاث من العام 2020.

ما ينبغي التنبّه له انه لا يمكن التعاطي مع ملف سعر الصرف بشكل ظرفي، واحتساب الارتفاع او الهبوط في فترات زمنية معينة كمقياس زمني لبناء الاستنتاجات. على سبيل المثال لا الحصر، اذا اعتمد الباحث النصف الثاني من العام 2020، وهو عام اعلان افلاس الدولة اللبنانية، (آذار 2020)، يتبيّن له ان سعر صرف الدولار بين تموز وكانون الاول من العام المذكور (6 أشهر)، تراجع حوالى 10%، من 9200 ليرة للدولار، الى 8400 في نهاية العام. فهل كان مسموحاً الاستنتاج ان مسار الدولار هبوطي، طالما انه انخفض خلال الاشهر الستة الاخيرة من هذه السنة بهذه النسبة؟ وهل من المنطقي البناء على هذا الوضع للاستنتاج ان الدولار في العام 2021 كان يُفترض أن يواصل الهبوط؟

مثال آخر لم يمض عليه سوى شهرين ونصف الشهر. في منتصف ايلول الماضي وصل سعر صرف الدولار الى 13900 وربما أقل. وفي منتصف تموز من العام نفسه، اي قبل شهرين من هذا التاريخ، كان سعر الدولار حوالى 23 الف ليرة. بما يعني ان اعتماد الفترة الزمنية بين تموز وايلول كوحدة قياس، يُظهر ان الدولار تراجع بنسبة 65%. فهل كان يمكن البناء على هذه النسبة للقول ان الدولار سيواصل مساره الانحداري؟

كل هذه الحسابات وفق وحدة قياس زمنية مُختارة لا تعكس الواقع، ولا تساعد في قراءة صحيحة لمسار الليرة. ما هو موضوعي وعلمي في هذا الاطار ان المسار العام لليرة هو الهبوط، بصرف النظر عن الطلعات والنزلات الظرفية، واحيانا من دون اسباب مُقنعة. اذ ان السبب الرئيسي لهذا الوضع هو الثابت في هذه العملية، اي افلاس الدولة، منذ آذار 2020، بما يعني ان المسار المالي والاقتصادي، وفي غياب معالجة هذا الوضع سيستمر في المضي من سيئ الى اسوأ، وبصرف النظر عن النسب المتوقعة لسرعة الانهيار، ومتى يمكن ان يشتد، ومتى يمكن ان يتباطأ. وبالمناسبة، اذا اعتمدنا وحدة قياس الدولار في النصف الثاني من العام الحالي، يتبين ان العملة الخضراء، وفي حال بقي السعر في حدود الـ25 الف ليرة حتى نهاية السنة، ارتفعت فقط بنسبة 8 %. وهي نسبة ضئيلة تكاد توازي نسبة انخفاض اليورو عالمياً مقابل الدولار في العام 2021.

خُلاصة هذا العرض، ان سعر الصرف لا يزال مقبولاً من الوجهة المالية، وليس المعيشية طبعاً، لكنّ لجمه يتمّ على حساب المواطن، لأنّ الانفاق، ومن ضمنه الاجور والخدمات لم ترتفع بنسب تهدف الى دعم المواطن بالحد الأدنى لمساعدته على الصمود. لكن كل الخيارات، بما فيها تصحيح الاجور، تتطلب دفع ثمنٍ ما في مكان آخر. انها حكاية ليرة لا تزال ممسوكة جزئياً بخيوط رفيعة أشبه بخيوط العنكبوت القابلة للتقطّع في اية لحظة نتيجة أية دعسة ناقصة. وكل الاجراءات خارج اطار معالجة السبب الرئيسي هي بمثابة إعادة توزيعٍ للأضرار، لا أكثر ولا أقل.

انطوان فرح

إعادة هيكلة المصارف…كارثة إضافية على الكوع

هل صحيح انّ لا دور للمصارف اليوم، وانّ من الافضل البدء في اعادة هيكلة القطاع، ما دام المصرف تحوّل الى مجرد صندوق لسحب الاموال، في حين لا يتمّ إيداع أموال طازجة تُذكر، ولا يقوم القطاع بدوره الطبيعي في تمويل الاقتصاد؟

قد تكون مطالبة النائب ياسين جابر وزارة المالية بتقديم معلومات دقيقة في شأن النتائج التي تمخّض عنها تطبيق التعميم 154 الذي أصدره مصرف لبنان في محلها، لجهة حق الرأي العام في معرفة عمّا أسفر التعميم الذي قيل فيه انّه بداية إعادة هيكلة المصارف. لكن الذهاب بعيداً في الضغط منذ اليوم، لتنفيذ مندرجات التعميم لجهة اتخاذ الإجراءات المناسبة في حق المصارف التي عجزت عن التطبيق الكامل، ينطوي على مغامرة غير محسوبة النتائج.

في الواقع، ينبغي الاعتراف، ومن دون الإطلاع على النتائج، انّ التعميم فشل جزئياً، لأنّه لم يحقق الهدف المُعلن منه، وهو تمكين المصارف من البدء في استعادة دورها الطبيعي الذي كانت تضطلع به ما قبل تشرين 2019. هذا الامر لم يتحقّق حتى الآن، ولو انّ رئيس جمعية المصارف سليم صفير قال أخيراً من السرايا، انّ البنوك جاهزة لاستئناف دورها في إقراض القطاع الخاص، في حال تأمّنت تشريعات تضمن ردّ الأموال بالعملة نفسها للقرض.

لكن فشل التعميم جزئياً، لا يجيز الذهاب بعيداً والمغالاة في المطالبة بتطبيق مندرجاته كافة، للأسباب التالية:

اولاً- انّ قسماً من الدولارات الطازجة، التي تأمّنت بناءً على هذا التعميم، يتمّ استخدامه اليوم لتطبيق التعميم 158، أي إعادة قسم من الودائع الى المواطنين. وتطبيق هذا التعميم لمدة سنة فقط، سيتيح اعادة كامل الودائع لمودعين صغار يقدّر عددهم بحوالى 800 الف مودع، مع نسبة هيركات تبلغ حالياً حوالى 25%. في حين انّ سحب الودائع وفق التعميم 151 (3900 ليرة للدولار) يؤدّي الى هيركات نسبته حوالى 84%.

ثانياً- انّ المصارف التي عجزت عن تطبيق التعميم 154 بشكل كامل، تطبّق حالياً التعميم 158، بما يعني انّ المودع يستفيد من هذه الوضعية التي قد تتغيّر اذا تمّت تصفية المصرف بسبب عجزه عن الالتزام المُنجز بالتعميم 154.

ثالثاً- انّ إعادة هيكلة المصارف او تعويمها او تنقيتها، (كلها ألفاظ تقود الى مكانٍ واحد) لا ينبغي ان تتمّ من خارج سياق برنامج التعافي الذي سيتمّ توقيعه مع صندوق النقد الدولي. وأي خطوة من هذا القبيل قبل بدء تنفيذ الخطة، ستكون بمثابة كارثة على البلد وناسه.

وهنا، لا بدّ من الاستفاضة في شرح الدور الذي تقوم به المصارف حالياً. يسمع المواطن يومياً، اصحاب مؤسسات وارباب عمل يقولون انّ مؤسساتهم تخسر، وانّهم يرفضون إقفالها حفاظاً على الموظفين ولقمة عيشهم، وحفاظاً على المؤسسة التي تستطيع ان تعوّض خسائرها وتعود الى الربحية، في حال خرج البلد من الأزمة الراهنة.

هل هذا الكلام دقيق، وهل فعلاً توجد نسبة مرتفعة من المؤسسات التي تخسر حالياً، لكنها مستمرة ولم تغلق ابوابها؟

الجواب، حتماً صحيح، ولو انّ التبريرات التي تُقدّم مسموح التشكيك في تراتبيتها. بمعنى، انّ قرار الاستمرار قد يرتبط اولاً بالمصلحة المالية لصاحب المؤسسة الذي لا يأتي على ذكر هذا السبب، وثانياً بالمحافظة على الاسم التجاري لمؤسسته، وثالثاً بمصلحة الموظف لضمان استمرارية عمله وعدم تحوله الى عاطل من العمل.

كيف يؤمّن صاحب مؤسسة مصلحته المالية اذا كانت مؤسسته تخسر؟

الجواب بسيط. كل صاحب مؤسسة يملك حساباً مصرفياً لمؤسسته، او حساباً شخصياً، ولا يستطيع ان يسحب هذه الاموال اذا كانت مؤسسته متوقفة عن العمل. وينطبق عليه ما ينطبق على كل المودعين المحرومين من حق سحب ودائعهم حالياً، بانتظار الحل النهائي للأزمة. في المقابل، ومن خلال استمرار عمل المؤسسة، يستطيع ربّ العمل دفع الاموال لموظفيه، ودفع الاكلاف التشغيلية لمؤسسته، وبالتالي يستطيع ان يسحب كميات ضخمة من اموال المؤسسة او امواله الشخصية من البنك، عبر تحويلها الى حساب المؤسسة. وبالتالي، يستطيع ان يحتفظ لاحقاً بجزء او بكل إيرادات المؤسسة لنفسه، وخارج القطاع المصرفي. وهو بالتالي، يمارس سياسة سحب ودائعه تدريجياً من المصرف، بواسطة تشغيل مؤسسته، ويتعرّض لهيركات محدّد ومقبول، من ضمنه الهيركات المحسوب من رصيد الخسائر التي تتعرّض لها المؤسسة، وطالما انّ الخسائر لا تتجاوز نسبة الـ84% من المال المٌنفق للتشغيل، فهو رابح لا محالة.

كل هذا الكلام لا يشكّل إدانة لصاحب أي مؤسسة، بل يؤكّد وجود تقاطُع مصالح بين ربّ العمل والموظف، يساهم في الإبقاء على الدورة الاقتصادية مستمرة بالحدّ الأدنى على الأقل. وحرمان ارباب العمل من هذه الميزة، يعني ضرب الدورة الاقتصادية، وتكبير حجم الكارثة القائمة بطريقة لا يتصورها العقل.

هذه باختصار أهمية استمرار المصارف، كل المصارف، بالعمل في هذه الحقبة، ومن دون التشاطُّر في محاولة الضغط على القطاع اليوم، لأنّ الثمن سيدفعه اللبنانيون، ممّا تبقّى من مقدرات عيش لديهم، ولو انّها ضئيلة وكارثية في حدّ ذاتها، لكنها تبقى أفضل وأرحم من المشهد الذي ستخلفه اي خطوة ناقصة في اتجاه القطاع المصرفي قبل اقرار برنامجٍ للإنقاذ.

انطوان فرح

إرتفاع الدولار مقابل الليرة… لا نزال في البداية

واصلت الليرة اللبنانية انهيارها امس مقابل الدولار الذي اقترب سعره في السوق الموازي من عتبة الـ 25 الفا مسجلا ارتفاعات متتالية، ففي مطلع الشهر الحالي سجل سعر الدولار نحو 22 الفا، في 12 الحالي تخطى سعره عتبة الـ24  ألف ليرة للمرة الاولى منذ شهر تموز إبّان اعتذار الحريري عن تشكيل الحكومة ثم عاد ليتأرجح سعر الصرف ما بين 22 الفا و23 الفا ليتسارع التدهور اعتبارا من مطلع الاسبوع مسجلا امس الاول 24 الفا ومقترباً بالامس من عتبة الـ25 الف ليرة.

صحيح ان تدهور سعر صرف الليرة متوقع في ظل غياب اي خطط اقتصادية ورفع الدعم تدريجا عن البنزين والدواء بما زاد الطلب على الدولار في السوق السوداء، لكن يبدو ان الوضع رغم تدهوره لا يزال ممسوكا من قبل المصرف المركزي الذي لا يزال ضابط ايقاع السوق ومتدخلاً فيه في الوقت عينه. فهو يحاول شراء الدولارات من السوق بالسبل المتاحة لاستكمال تأمين الدعم لبعض السلع الحياتية للمواطن وفي الوقت نفسه يضخّه عبر منصة «صيرفة» مؤمّنا الدولار للتجار حتى لو كان بخسارة لأنه يباع بأقل من سعر الشراء. والسؤال، هل تحول المركزي لاعبا اساسيا يساهم في ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازي؟ وهل اقترب لبنان من انهيار عملته وصولاً الى 6 أصفار؟

في هذا السياق، يؤكد الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود لـ»الجمهورية» ان لا شيء مستغربا اليوم في تحرّك الدولار في السوق السوداء، لافتا الى ان السعر بات يتأثر بالعرض وليس بالطلب بمعنى آخر ان توفر الدولار وعرضه هو العامل المؤثّر في سعره، وليس الطلب لأنه اصلا كبير جدا، فإذا كان العرض مقبولا يحافظ سعر الدولار مقابل الليرة على استقرار معين.

وأشار الى ان اكبر جهة عارضة للدولار اليوم هي مصرف لبنان، إذ من الملاحظ انه بعد تشكيل الحكومة ارتفع عرض الدولار على المنصة الى الضعف في محاولة من مصرف لبنان لتهدئة الأمور عسى ان يكون هناك امل في هذه الحكومة باستقرار الاوضاع. وقال حمود: نحن في وقت ضائع وتحرك الدولار طبيعي جدا وبرأيي لا يزال في البداية، للأسف.

وعمّا اذا كان تدخل مصرف لبنان في السوق كشارٍ للدولار هو ما يساهم في رفع اسعاره، أوضح حمود ان مصرف لبنان لا يتدخل مباشرة في السوق لشراء الدولارات انما لديه مصدران اساسيان لجلب الدولارات هما: مراكز تحويل الاموال مثل omt او شراء بعض تحاويل الـfresh money من المصارف. ورأى انه من الطبيعي ان يلعب مصرف لبنان هذا الدور والا من اين سيأتي بالاموال لشراء المحروقات والادوية وغيرها؟ كما ليس مهما السعر الذي يبيع فيه الدولار على المنصة بقدر اهمية تأمينه للدولار لتخفيف الضغط عن السوق، لأنه اذا لم يتأمن من مصرف لبنان سيضطر الى تأمينه من احتياطي الـ 14 مليار دولار والتي في هذه الحالة ستستهلك بسرعة.

مشكلة ايجاد الدولار

ورأى حمود ان ارتفاع سعر الدولار اليوم ليس بأهمية ايجاد دولار في السوق لتأمينه لشراء الادوية والمحروقات، وذلك تجنباً للمس بالاحتياطي الالزامي، مع التشديد على انه اذا لم يتصرف مصرف لبنان بهذه الطريقة سيعود الدولار ليكون تحت ضغط العرض والطلب.

وبناء عليه، يرى حمود ان الدور الذي يلعبه المصرف المركزي اليوم صحيح وواجب انما غير مجدٍ لأن حجم التحويلات المالية الى لبنان دون احتياجات لبنان للأمور الحياتية والمعيشية، فلبنان منذ نشأته يرتكز الى جانب الموارد الاقتصادية على عامل اساسي يتمثل خصوصاً بالتحويلات المالية والتي تستعمل لهدفين: جزء منها للصرف داخل لبنان من المغتربين للاهل والعائلة والجزء الثاني على الادخار. وفي غياب هذا العنصر سنبقى في هذه الدوامة لأن حجم الدولارات التي تصل الى البلد تبقى اقل من احتياجاتنا الحياتية، خصوصاً ان لا سياحة اليوم في البلد، ولا انتاج وعلاقاتنا سيئة مع كل دول العالم، وبالنهاية مع كل هذه الوقائع كيف يعقل الا يكون كل ما يحصل في السوق غير متوقع وغير عادي ومستغرب؟

تفلّت ام لجم للدولار؟

وردا على سؤال، اعتبر حمود انه لا يمكن القول اليوم اننا امام تفلت في اسعار الدولار في السوق الموازي انما الاصح ان الدولار ملجوم

وهناك عاملان يساهمان بالحد من ارتفاعه االى مستويات كارثية أكثر:

اولا: عدم قدرة الناس على الاستحصال على ودائعها كاملة حتى بالليرة اللبنانية بما أدّى الى تراجع الطلب على الدولار.

ثانيا: قبول اللبنانيين بتدني مستوى المعيشة وانقطاع اكثرية السلع من السوق لا سيما تلك التي كانت تصنّف درجة اولى، وقبولهم العيش وفق نمط حياة مختلف ومتدنٍ. لذا، ورغم ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازي مقابل الليرة، فهو لا يزال ملجوماً من الارتفاع أكثر مما هو عليه اليوم.

اىفا ابو حيدر

توحيد سعر صرف الدولار على 20 الف ليرة؟

الى أين يتجه الدولار في المرحلة المقبلة وصولاً الى نهاية العام؟ والى أي مدى ساهمت التطورات المستجدة في الارتفاع الذي سجّلته العملة الخضراء في الايام الاخيرة؟ وهل من علاقة بين ما يجري في سوق الصرف، وبين ما تشهده المشاورات الفنية مع صندوق النقد الدولي؟

جرى التركيز في الايام القليلة الماضية على ثلاثة عوامل، اعتبرها البعض مسؤولة كلياً او جزئياً عن تحرّك سعر الدولار، ارتفاعاً من حوالى 20 الف ليرة الى عتبة الـ23 الف ليرة، وهي:

 

اولاً- الإجراء الجديد الذي اتخذه البنك المركزي بالطلب من الشركات المستوردة للنفط تسديد 10% من فاتورة فتح الاعتماد بالدولار الـ«فريش».

 

ثانياً- الإجراءات التصعيدية التي اتخذتها دول الخليج العربي حيال لبنان.

 

ثالثاً- الشلل الحكومي، والأجواء التي توحي بأنّ عودة الحكومة الى العمل الطبيعي، لا تزال من الامور المُستبعدة.

 

هذه العوامل مختلفة في طبيعتها. العامل الاول تقني، ويتعلق باحتمال زيادة الطلب على الدولار من قِبل الشركات المستوردة للنفط. هذا العامل يمكن ان يؤثر مباشرة على سعر الصرف، لكن من غير المؤكّد اذا ما كان مصرف لبنان سيواصل شراء الدولار من السوق الحرّة بالحجم نفسه، بهدف فتح اعتمادات استيراد المحروقات، ام انّه سوف يقلّص كمية الدولارات التي يشتريها بالنسبة نفسها (10%). كذلك، ينبغي الأخذ في الاعتبار انّ الاستهلاك تراجع بنسبة كبيرة، بما يعني انّ حجم فتح الاعتمادات للاستيراد انخفض الى النصف بما يخفّف الضغط على الليرة.

 

في العامل الثاني المرتبط بالأزمة مع دول الخليج، لم تبدأ مفاعيل هذه المشكلة في الظهور في سوق الصرف حتى الآن. تبعات هذه الأزمة اكثر خطورة من مجرد التأثير على سعر صرف الليرة ظرفياً، وتمتد الى مرحلة مستقبلية، وستظهر اضرارها لاحقاً في الوضع الاقتصادي بشكل عام. لكن، لا يمكن إغفال التأثير النفسي السلبي، والذي يمكن ان يساهم في خفض او رفع سعر الليرة بنسبة محدّدة قد لا تتجاوز الـ10%.

 

في العامل الثالث المتعلق بالشلل الحكومي، هو اقرب الى عامل سياسي منه الى عامل اقتصادي ومالي، وبالتالي، لا يتجاوز تأثيره الوضع الظرفي، وتماماً كما شهدنا انخفاض سعر الدولار الى ما دون الـ14 الف ليرة بعد تشكيل الحكومة، ومن ثم ارتفع بدافع التصحيح، كذلك فإنّ الارتفاع الذي قد يشهده حالياً نتيجة هذا العامل السياسي، لن يتجاوز بتأثيراته السلبية العامل الإيجابي السابق، وسيعود الى تصحيح نفسه وفق المعايير المالية والاقتصادية.

 

في النتيجة، العوامل الثلاثة التي يخشاها البعض لن يكون تأثيرها كبيراً على سعر الصرف. لكن الآتي قد يكون الأخطر بالنسبة الى سعر الصرف. وهنا، نتحدث عن الاستحقاقات الاجتماعية وتوزيع الأضرار على شرائح المجتمع كافة، بما فيها تصحيح الرواتب في القطاعين العام والخاص، زيادة بدل النقل، دعم النقل العام من خلال دعم المحروقات للسيارات العمومية، زيادة واردات الدولة لضمان دفع الرواتب واستمرارية تشغيل القطاع العام والخدمات مثل الكهرباء والاتصالات…

 

هذه الاستحقاقات من المستبعد ان تُنجز قبل نهاية العام الحالي، بما يعني انّ الكتلة النقدية بالليرة الموضوعة في التداول، ستبقى على حالها، حتى ذلك الحين. لكن تكبير الكتلة بالليرة، وضخ المزيد من البنكنوط الورقي المكدّس في البنك المركزي، والذي وصل منه حوالى 9 أطنان ورقية في الشهر الاخير من كانون الاول 2019، سيبدأ مطلع العام 2022، لتلبية مبدأ توزيع الأضرار ومساعدة الشرائح الضعيفة على الاستمرار. وليس واضحاً بعد حجم الكتلة النقدية المطلوبة لإنجاز هذا الامر.

 

هذه التقديرات معقّدة، لأنّه ليس واضحاً بعد اذا ما كانت الحكومة، ومن خلال مشاوراتها مع صندوق النقد الدولي، سوف تعمد الى توحيد سعر الصرف، ام ستواصل سياسة تعدّد الاسعار. وهنا تنبغي الاشارة الى انّ توحيد سعر الصرف لن يكون منخفضاً كما يأمل البعض، ومن المستبعد ان يكون بعيداً من سعر السوق السوداء. والإشارة التي أطلقها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مُعبّرة، عندما ألمح الى سعر منصّة صيرفة، وهو السعر الذي يلاحق سعر السوق السوداء بفارق ضئيل لا يتجاوز نسبة الـ10%. وإذا اعتبرنا انّ الدولار في نهاية 2021 قد يكون قريباً من 25 الف ليرة، فهذا يعني انّ توحيد سعر الصرف اذا تمّ في مطلع 2022، لن يكون اقل من 20 الف ليرة، وربما أكثر بقليل، وعلى هذا الأساس ينبغي إجراء الحسابات.

انطوان فرح

20 عاماً قبل ان تعود الودائع كاملة؟

 

ستتضمّن خطة التعافي الاقتصادي التي تعدّها «لازارد»، سلسلة خيارات للمودعين لاسترجاع ودائعهم. صحيح انّ لا نسب او ارقام او عدد سنوات نهائية لعودتها بعد، لأنّها لا تزال في طور الدراسة، الّا انّ الأكيد انّ الهيركات هو أحد المعالجات الواردة في الخطة، ومطروح ايضاً احتمال استرجاع الودائع الكبيرة كاملة، انما بعد 20 عاماً.

شدّد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي خلال لقائه في المجلس الاقتصادي الاجتماعي على انّ توزيع الخسائر يجب ان يطال الجميع، وأقل خسائر يجب أن يتحمّلها المودع، كاشفاً عن انّ هناك دراسات قيد الإعداد بشأن سبل تحديد خيارات للمودع، على ان يختار منها ما يناسبه اذا كان يريد ان يسحب وديعته راهناً، او ان يفضّل الانتظار 20 عاماً لتعود كاملة. فما هي هذه الخيارات وهل تناسب المودع الذي تحمّل وحيداً حتى الآن الخسائر الاقتصادية منذ اندلاع الأزمة؟

في هذا الإطار، اعتبرت مصادر متابعة لـ«الجمهورية»، انّ كل ما يُطرح اليوم في اطار خطة التعافي لا يزال في إطار جسّ النبض والافكار، وان لا شيء نهائياً حتى الآن. وكشفت، انّ من الحلول المطروحة تقسيم الودائع الى شطور. فالودائع الصغيرة قد تُعاد الى اصحابها «فريش» على مراحل، ربما خلال 5 سنوات بطريقة مشابهة للتعميم 158، أما الودائع المتوسطة فسيُطرح امام المودع خيارات، إما أن يأخذ وديعته كاملة مع إخضاعها لهيركات معيّن لم تُحدّد نسبته بعد، انما كلما كانت رغبة المودع بالحصول على وديعته في فترة قصيرة كلما كان الهيركات أكبر. على سبيل المثال، وديعة بـ100 الف دولار يمكن إعادتها راهناً بهيركات 80% اي إعادتها 20 الف دولار نقداً، بعد 10 سنوات بهيركات 30 في المئة، اي تُعاد 70 الف دولار نقداً، او بعد 20 عاماً تُعاد كاملة اي 100 الف دولار. كذلك من أحد الخيارات المطروحة على المودع، منحه استثمارات او حصة في شركات مملوكة للدولة على شكل اكتتابات بأسهم، انما بشكل ريعي، اي لا يتملكّها المواطن انما تبقى للدولة ويحصل بنتيجها على ارباح. كذلك هناك افكار مطروحة بتحويل الودائع الضخمة على شكل bail in في المصارف، وذلك بعد احتساب قيمة رساميل المصارف ونسبة تقلّصها.

وفي هذا السياق، أكّدت المصادر انّ عدداً من اصحاب المصارف في لبنان بدأوا منذ فترة بمحادثات مع مصارف اجنبية وعربية ليدخلوا كشركاء لهم، من خلال بيعهم حصة في مصارفهم، مقابل ان يضخّوا فيها اموالاً جديدة، على ان تبقى حصة اصحاب المصارف موجودة انما بنسبة معينة.

ورأت المصادر، انّه صحيح انّ هناك اقتراحات عدة مطروحة اليوم، انما جميعها تشكّل خطراً على ودائع الناس التي لا يمكن لأحد إرجاعها كما كانت. فعلى سبيل المثال، قول الرئيس ميقاتي انّ من احد الخيارات المطروحة إعادة الودائع كاملة بعد 20 عاماً غير منطقي، لأنّ بعد هذه الفترة تكون قيمة الاموال تبخّرت حتى لو كانت الوديعة بالدولار. فمن المعلوم انّ الاقتصاد يسجّل تضخماً سنوياً في كل دول العالم، وانّ اسعار السلع تزيد سنوياً ما بين 2 الى 5%، وحالياً اكبر اقتصادات العالم تعاني من التضخم ابّان جائحة كورونا بنتيجة ضخ سيولة من دون انتاج، فكيف الحال بعد 20 عاماً، بحيث من اراد ان يسحب وديعته حينها تكون فقدت تلقائياً من قيمتها ما بين 50 الى 60%، عدا عن انّ لا ضمانات بأنّها ستعود بعد تلك الفترة؟

كذلك تساءلت المصادر، عمّا اذا كانت المصارف اليوم قادرة على اعطاء المودعين كل اموالهم اذا ذهبوا باتجاه خيار الحصول عليها راهناً، انما مع هيركات. بالأرقام، يبلغ حجم ودائعنا اليوم 108 مليارات دولار، موجودات مصرف لبنان تبلغ 13.5 مليار دولار، ولدى المصارف بحدود 30 مليار دولار في السوق تجبيها من المودعين، اما وفق دولار 1500 ليرة او 3990 ليرة. فلنفرض انّ المصارف تجبي ما قيمته 5 مليارات دولار منها، يُضاف اليها بحدود المليارين او الثلاثة مليارات دولار في المصارف الخارجية، وبمجموع هذه الاموال يتبين بأحسن الاحوال انّ لدينا 23 مليار دولار فعلياً، بينما المطلوب 108 مليارات دولار، وتُظهر هذه الارقام حجم الفجوة التي تبلغ بحدود 80 مليار دولار، وهذا ما يفسّر كلام حاكم مصرف لبنان في إحدى مقابلاته التلفزيونية، حيث اشار الى انّه يجري العمل حالياً على إعادة تكوين الودائع، ما يعني انّ هذه الودائع ما عادت موجودة.

ورأت المصادر انّه «حتى الآن يبدو انّه لا يُعوّل على خطة التعافي الاقتصادي التي تعّدها «لازارد»، إذ كيف يمكن ان يعتبر رئيس الحكومة انّ بعض النقاط الواردة في الخطة غير منطقية وغير قابلة للتطبيق، لذا طلب من «لازارد» تغيير اسلوب عملها، ما يعني انّ الخطة لن تكون شفافة؟ كذلك، كيف يمكن التعويل على مستشار غبّ الطلب؟ إذ في حكومة حسان دياب قدّم حجم خسائر معينة، واليوم مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي سيغيّر طريقة احتسابه للخسائر، ما يطرح شكوكاً في تقاريره وخططه، متسائلاً اين موقفه التقني والفني من الموضوع؟».

ايفا ابي حيدر

170 دولاراً حداً أدنى لرواتب القطاع الخاص

لم تحسم لجنة المؤشر في اجتماعها أمس، مسألة رفع الاجور وبدل النقل، لكن تمّ التوافق على مبادئ عامة. وتبين من النقاشات، انّ الارقام الأولية متفق عليها مسبقاً مع رئيس الحكومة، وبالتالي إذا تمّ تنفيذها فهذا يعني انّ الحدّ الأدنى للاجور قد يرتفع الى مليوني ليرة، ويُضاف اليه بدل النقل الذي قد يصل الى مليون و400 الف ليرة في الشهر.

ترأس وزير العمل مصطفى بيرم امس الاجتماع الاول للجنة المؤشر، للنظر في معالجة رواتب وأجور العاملين في القطاع الخاص.

 

حضر الاجتماع رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الاسمر ونائبه حسن فقيه، رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس، نائب رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش، نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة في بيروت نبيل فهد، ممثل وزارة المال شربل شدراوي، ممثل الجامعة اللبنانية أنيس ابو دياب وحسن ايوب، ممثل هيئة التنسيق النقابية نزيه الجباوي، والباحث في الشركة الدولية للمعلومات محمد شمس الدين.

 

واكّد وزير العمل، انّ لا بدّ من تصحيح الاجور ورفع الحدّ الأدنى للاجور وفقاً لنسب التضخم وارتفاع الاسعار ومستوى غلاء المعيشة، وهو الأمر الذي يحتاج الى دراسات دقيقة ومفصلّة والى وقت لإقراره، مع وجوب توحيد أسعار الصرف. وبالتالي فإنّ رفع الحدّ الأدنى للاجور غيرُ وارد حالياً، وسيتمّ في المقابل ابتكار حلول مؤقتة استجابة لحالة الطوارئ الاقتصادية، مع الاخذ في الاعتبار دقة المرحلة، مالية الدولة، أصحاب العمل، الشركات والمؤسسات، والحالة المزرية للعمال على المستوى الاجتماعي.

 

وقد تمّ التوصل الى توافق بين اصحاب العمل والعمال على رفع بدل النقل اليومي في القطاع الخاص من 24 الف ليرة الى 65 الف ليرة، لكنّ وزير العمل شدّد على اعتماد بدل النقل اليومي في القطاع الخاص بشكل موحّد مع القطاع العام بحسب ما ستقرّره الحكومة اللبنانية.

 

كما تمّ الاتفاق بين طرفي الإنتاج على رفع المِنح المدرسية في ما يتعلق بالمدرسة الرسمية عن كل ولد من 400.000 ليرة الى مليون ليرة. وفي المدارس الخاصة، سيتمّ رفع قيمة المنحة عن كل ولد من 750.000 ليرة الى مليوني ليرة .

 

أما بالنسبة للمساعدة الطارئة الشهرية التي تقرّر منحها لموظفي القطاع الخاص، فقد حصل خلاف بين الاتحاد العمالي العام والهيئات الاقتصادية حول قيمة هذه المساعدة، حيث اصرّ «العمالي» على ان تكون مليوني ليرة بالإضافة الى الراتب الشهري، فقال اصحاب العمل انّه ليس الاتفاق الذي حصل مع رئيس الحكومة، وأنّهم يريدون منح من يتقاضى فقط الحدّ الأدنى للاجور، مبلغاً اضافياً يبلغ مليون و300 الف ليرة. فاعترض وزير العمل مقترحاً اعطاء كافة موظفي القطاع الخاص الذين لا تتعدىّ رواتبهم 4 ملايين ليرة، مليون و300 ألف ليرة اضافية شهرياً بمعزل عن الشطور. وبما انّ الاطراف المعنيّة لم تحسم النقاش حول قيمة المساعدة الشهرية، تمّ إرجاء الاتفاق عليها الى الجلسة المقبلة للجنة المؤشر، والتي تحدّدت يوم الاربعاء المقبل.

 

وفي حال التوصل الى توافق خلال جلسة الاسبوع المقبل على إعطاء 1,3 مليون ليرة اضافية شهرياً لموظفي القطاع الخاص ورفع بدل النقل اليومي، فإنّ الحدّ الأدنى للرواتب سيصبح مليوني ليرة بالإضافة الى حوالى مليون و400 الف ليرة شهرياً كبدل نقل، اي انّ الحدّ الأدنى للاجور في القطاع الخاص سيصبح 3 ملايين و400 ألف ليرة شهرياً، أي ما يعادل 170 دولاراً حالياً. كما سيصار الى إصدار مرسوم بتلك القرارات، ويجب ان يُحال الى مجلس الوزراء لإقراره. وإذا استمرّت جلسات مجلس الوزراء معلّقة، فإنّ دعم موظفي القطاع الخاص سيكون أيضا معلّقاً حتى إشعار آخر.

 

بيرم

وخلال الجلسة، إعتبر بيرم انّ انعقاد لجنة المؤشر للمرة الاولى منذ 5 سنوات «أمر في حدّ ذاته يُعتبر انجازاً في حضور ممثلي اصحاب العمل والعمال وبعض الخبراء الاقتصاديين الاختصاصيين». معلناً انّه تمّ الاتفاق على تقسيم مسار النقاش الى قسمين: القسم الاول مرتبط بما يوجبه القانون علينا في اجتماعات لجنة المؤشر التي يجب ان تستجيب دورياً وتلقائياً لأي تغيّر يحصل في المستوى الاقتصادي ومستوى غلاء المعيشة وتأثير ذلك على الاسعار والاجور.

 

وقال بيرم: «اتفقنا على انّ هذا مسار يأخذ وقتاً لأنّه يجب علينا ان نأتي بالارقام الدقيقة والدراسات الموضوعية والعلمية. وكان النقاش علمياً وموضوعياً، وتمّ الاتفاق انّ هذا المسار يجب ان يكون مستداماً ويأخذ وقته، من أجل تحصيل الحق المشروع للعامل في لبنان، وايضاً حماية اصحاب العمل لاستمرارية الدورة الاقتصادية في هذا البلد العزيز علينا جميعاً».

 

واكّد «انّ هناك اموراً لا تحتمل التأجيل، وهي الوضع الاقتصادي الداهم، وبالتالي حاولنا ان نصل الى نوع من المخرجات لكي تستجيب للطوارئ الاقتصادية وهي كما يلي:

اولاً: اتفقنا على استمرار النقاش العلمي على مستوى الطوارئ الاقتصادية للوصول الى ارقام دقيقة بحدّ أدنى مناسب، بالتوازي مع وجوب توحيد أسعار الصرف.

 

ثانياً: اما على مستوى الطوارئ الاقتصادية فقد توصلنا الى ما يلي:

1 – الاتفاق على اعتماد بدل النقل اليومي في القطاع الخاص بشكل موحّد مع القطاع العام، بحسب ما ستقرّره الحكومة اللبنانية في ما يتعلق ببدل النقل اليومي الحضوري سيتمّ اعتماده في القطاع الخاص.

 

2 – في ما يتعلق بالمنح التعليمية في القطاع الخاص: تمّ الاتفاق على رفع المنح المدرسية في ما يتعلق بالمدرسة الرسمية عن كل ولد، التي كانت 400.000 أصبحت 1000.000 ليرة، بما لا يتجاوز النسب المحدّدة في المراسيم المرعية الإجراء. اما في المدارس الخاصة فتمّ رفع قيمة المنحة عن كل ولد من750.000 ليرة الى مليوني ليرة، بما لا يتجاوز حدود المراسيم المرعية الاجراء.

 

3- اما في ما يتعلق بالمبلغ المرتبط بمواجهة الطوارئ الاقتصادية، فإنّه تمّ إرجاء الاتفاق عليه الى الجلسة المقبلة للجنة المؤشر التي تحدّدت الاربعاء المقبل عند العاشرة والنصف في وزارة العمل، علماً انّ الجلسات ستكون دورية وبشكل متواصل لمواكبة التطورات الاقتصادية والمعيشية».

رنى سعرتي

الغرق المالي-النقدي-المصرفي في لبنان: هكذا انغمس الاقتصاد في تمويل الدولة!

من المعروف أن العام 2011 شكّل تاريخ الانقلاب السلبي في كل المؤشرات الاقتصادية وصولا الى انفجار الأزمة عام 2019 (من النمو الاقتصادي الذي تدهور من أكثر من 8.25% الى أقل من 1%، وصولا الى ميزان المدفوعات الذي تحوّل من فائض يفوق الـ 7 مليارات دولار الى تراكم عجوزات بمليارات الدولارات…) بعد اندلاع الأزمة في سوريا من جهة وسقوط الحكومة وتبدّل مناخ الاستقرار السياسي والعمل المؤسساتي في لبنان عام 2011… إلا أن الملفت أيضا أنه شكّل مرحلة الانقلاب على مبدأ إستقلالية مصرف لبنان المركزي عبر مزيد من انغماسه في تمويل القطاع العام وانجرار مجمل الجهاز المصرفي نحو هذا الخيار بعد أن عاوَد معدل الدين العام والناتج المحلي الارتفاع من نحو 130% عام 2006 الى نحو 180% عام 2019 قبل انفجار الأزمة… فكيف ارتسمت هذه المشهدية الجديدة التي أغرقت الوضع النقدي والمصرفي في أزمة المالية العامة المزمنة؟ وكيف تمادى توجيه التمويل المصرفي من مدخرات الناس بنحو غير مسبوق صوب الاكتتاب بسندات الخزينة والأوروبوند والتوظيف في شهادات إيداع المصرف المركزي؟ عوامل عدة جعلت كل الاقتصاد اللبناني منغمساً في تمويل الدولة بدلاً من أن تكون الدولة ناشطة لتفعيل الاقتصاد…

إشكالية العجز المالي في لبنان والسعي للتمويل عبر اللجوء إلى المصرف المركزي بدأا مع بداية سنوات الحرب عبر السعي الى التمويل النقدي لعجز الميزانية العامة بسبب تدهور إيرادات الموازنة في الثمانينات وكان بشكل أساسي بالليرة اللبنانية، قبل أن تبدأ الاستدانة بالدولار الأميركي وتتزايد لتصبح اليوم في حدود ثلث الدين العام. أما أكثر ما هو ملفت فهو تحميل معظم الدين العام، إن كان بالليرة أو بالدولار، للجهاز المصرفي اللبناني (مصرف مركزي ومصارف تجارية) فضلاً عن انغماس المصارف في توظيف معظم الودائع بالدولار لديها على شكل شهادات إيداع لدى المصرف المركزي… (رسم رقم 1)

ومن المعروف إقتصادياً أن مفهوم استقلالية المصرف المركزي يقتضي تأمين ثلاث ركائز أساسية:

الاستقلالية القانونية في النصوص، الاستقلالية الفعلية في الممارسة، والاستقلالية المالية في حسابات المصرف المركزي تجاه الدولة.

ولطالما شددت الأدبيات الاقتصادية، وخصوصاً مع الموجة الكلاسيكية، على تأمين الفصل التام للسياسة النقدية للمصرف المركزي عن السياسة المالية للحكومة ووزارة المال خصوصاً لتفادي لجوء الحكومة متمثّلة بوزارة المال لطلب تغطية عجوزاتها المالية من خلال تدخل المصرف المركزي، إن كان عبر ضخ السيولة وتحمّل انعكاساتها التضخمية الفورية أو من خلال الضغط على المصرف المركزي للمساهمة في الدين العام عبر الإكتتاب بسندات الخزينة والتفاوض حول شروطها بالكمية والآجال ومستوى الفوائد… أو طباعة النقد وزيادة في السيولة واصطناع نهضة عابرة في الأسواق في فترات محددة، مثل الفترات التي تسبق الإنتخابات، لإحداث صدمة إيجابية وهمية لا تلبث أن تتحوّل كابوساً تضخمياً يصعب ضبطه من دون أي مساهمة في نمو إقتصادي حقيقي وخلق فرص العمل المطلوبة. (رسم رقم 2)

عملياً، تم انغماس السلطة النقدية والقطاع المصرفي في لبنان بتمويل عجز المالية العامة وتوافق الأفرقاء الثلاثة (المالية العامة والمصرف المركزي والمصارف) على الهندسات المالية عام 2016 لتأخير انفجار الأزمة واجتذاب أكبر مقدار من الدولارات «بأي ثمن» (أي بأعلى معدّلات فوائد) لمزيد من الوقت للإصلاح والتمكن من الاستفادة من اموال مؤتمر «سيدر» مع الاستمرار في سعر الصرف نفسه أياً يكن تدهور المؤشرات الاقتصادية، لا سيما منها تدهور ميزان المدفوعات، فتم إغراق الجهاز المصرفي بـ»فشل القطاع العام» وخياراته من المالية الى النقدية، ولكن من دون الالتزام بتنفيذ أي من الاصلاحات، لا بل تم إقرار سلسلة رتب ورواتب بحسابات خاطئة باعتراف السلطة المالية نفسها قبيل الانتخابات النيابية 2018 لا بل توظيف 5300 موظّف إضافي بعد إقرار قانون وقف التوظيف (وفق تقرير التفتيش المركزي) حتى باتت أجور ورواتب القطاع العام تمتص أكثر من ثلث الموازنة قبل انفجار الأزمة فيما لا يتجاوز معدّلها عالميا 15 % .

وقبل الانتخابات النيابية كان الدين العام في آذار 2018 نحو 81.9 مليار دولار، وقد وصلت نسبته إلى 152.8 % للناتج المحلي، وكان ثالث أعلى معدّل في العالم. وبقيت موجودات مصرف لبنان السائلة بالعملات الاجنبية، التي تشكّل دعامة الاستقرار النقدي، عند مستوى مرتفع، إذ بلغت 34.3 مليار دولار في نهاية آذار 2018.

وبلغت قيمة الدين العام المحرر بالليرة اللبنانية 77300 مليار ليرة، مشكّلة نحو 62.6 % من اجمالي الدين العام، في مقابل ما يعادل 46126 مليار ليرة للدين المحرر بالعملات الاجنبية، أي ما نسبته 37.4 % من الدين العام الاجمالي، مع ملاحظة أنه يعتبر دينا حكوميا فقط (لأن الدين العام يفترض أن يشمل أيضا ديون المؤسسات العامة ومستحقاتها مثل المقاولين والمستشفيات ذات فواتير غير مدفوعة من الدولة، الضمان الاجتماعي…).

وقد عادت وزارة المال إلى إصدار سندات الخزينة اللبنانيّة بالليرة، إنما بعد رفع الفوائد المدفوعة عليها من 7.46 % إلى 10.5 %، عملاً بالإتفاق بين الوزارة ومصرف لبنان، الذي أنهى شهرين من توقّف الإكتتاب في سندات الخزينة.

ومع تنامي الأزمة، عمد مصرف لبنان إلى إطلاق هندسات وإجراءات إستثنائيّة، عرض من خلالها فوائد سخيّة مقابل توظيف سيولة القطاع المصرفي بالدولار عنده، لرفع إحتياطه بالعملات الأجنبيّة، وبعدها عمد إلى إمتصاص السيولة بالليرة، بالطريقة نفسها، لتفادي تحوّلها ضغطا في اتجاه شراء الدولار.

وهنا، لم يعد من مصلحة المصارف توظيف سيولتها مباشرة في سندات الخزينة، نظرا إلى الأرباح السخيّة التي تحققها من توظيفاتها مع المصرف المركزي. وهكذا، إرتفعت ودائع المصارف لدى المصرف المركزي من 65.3 مليار دولار في بداية 2015 إلى 113 مليار دولار حتى تشرين الأوّل 2018.

ولتعويض هذا النقص في تمويل الدين العام وشراء سندات الخزينة، لعب مصرف لبنان دور الوسيط، عبر توظيف أمواله بشراء السندات بنفسه… فتناقصت حصة المصارف من سندات الخزينة إلى 36 % حتّى حزيران 2018، مقابل إرتفاع حصّة مصرف لبنان الى 48 %. وفي إكتتابات الفصل الثاني من عام 2018، اشترى مصرف لبنان وحده 58 % من هذه السندات.

وبين الفوائد المرتفعة التي كان يتم دفعها لتوظيفات المصارف في مصرف لبنان، والفوائد الأقل التي كان ينالها المصرف المركزي مقابل توظيف جزء من هذه الأموال في عمليات شراء سندات الخزينة، كان مصرف لبنان يتحمّل فارق الفوائد كخسائر في الموازنة طوال السنوات الماضية.

وكانت مختلف الازمات الحكومية والتوتر السياسي وتداعي مناخ الثقة للاستثمار تضغط سلبا على سندات الدين اللبنانية كما على السندات بالعملات الأجنبية «اليوروبوند» التي كانت تحمل نصفها المصارف ونحو 5 مليارات من الدولارات لدى المصرف المركزي والبقية لغير المقيمين… وكانت تخسر قيمتها مع تراجع تصنيف لبنان السيادي لدى مؤسسات التصنيف «فيتش»، «موديز» و«ستاندرد أند بورز»، مما دفع بعض حامليها الى طرحها في السوق للبيع تجنبّاً لخسائر اضافية محتملة في اسعارها.

كذلك مطلع العام 2019 قرر المصرف المركزي الخروج من هذا الدور، الذي كان يكلّف موازنته فارق الفائدة، فتوقّف الإكتتاب في سندات الخزينة، الى حين التوصّل إلى إتفاق بديل مع وزارة المال. أمّا المصارف فلم يكن لها مصلحة في الإكتتاب بفوائد السندات المخفوضة، مقارنة بفوائد توظيفاتها مع مصرف لبنان.

وهكذا لم يكن هناك من حل سوى تحميل الماليّة العامّة فارق الفائدة والكلفة، عبر رفع فوائد سندات الخزينة، لدفع المصارف إلى الإكتتاب بهذه السندات، وتم الإتفاق على هذا النحو بين وزارة المال ومصرف لبنان.

هذا المسار، يعني في إختصار، أنّ رفع الفوائد والأرباح في الفترة الماضية على التوظيفات مع المصرف المركزي للتحكّم بالسيولة، وإمتصاصها، والتعامل مع الأزمة، طاولت حتى الاكتتابات بسندات الدين العام وكلفتها.

اليوم بلغ حجم الدين العام 97.75 مليار دولار حتى نهاية حزيران 2021، وفق الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة المال. إنما في الواقع هذا الرقم هو عن الدين العام الذي يشمل دين الدولة الداخلي والخارجي، وقد تم احتساب الجزء الذي بالدولار الأميركي على أساس سعر الصرف الرسمي أي على 1515 ليرة مقابل الدولار وهو يصبح أقل بكثير اذا تم تحويل الدين بالدولار إلى الليرة اللبنانية على أساس سعر صرف السوق الموازية.

ووفق الارقام الرسمية، فإن الدين العام بالليرة اللبنانية بلغ 91 ألفا و169 مليار ليرة أو ما يعادل 60.5 مليار دولار في نهاية حزيران 2021. أما الدين بالعملات الاجنبية، والذي يشمل الاستحقاقات والكوبونات غير المدفوعة منذ توقّف الدولة عن السداد في آذار 2020، فيبلغ 37.3 مليار دولار مرتفعاً 3.4 % منذ نهاية العام 2020 و7 % منذ حزيران 2020. ووفق هذه الارقام، فإن نحو 8.1 مليارات دولار من رصيد الدين بالعملات الاجنبية كانت عبارة عن متأخرات حتى حزيران 2021.

ويشكل الدين المحلي ما نسبته 62 % من الدين الاجمالي، فيما الدين الخارجي يمثل 38 %. ويحمل مصرف لبنان ما نسبته 38 % من الدين العام (61.6 % دين بالليرة اللبنانية مقارنة بـ50.2 % قبل عام)، ثم المصارف بنسبة 15.5 % (25 % دين محلي مقارنة بـ27.8 % قبل عام) والمؤسسات المالية غير المصرفية 8.2 %. أما الدين العام الصافي، أي الذي يستثني ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان والمصارف، فبلغ 86.4 مليار دولار في نهاية حزيران.

أما الدين بالدولار الأميركي «الأوروبوند»، فيتبيّن أنه حتى آخر تمّوز 2021، كانت المصارف التجاريّة لا تزال تحمل 8 مليارات و100 مليون دولار منه، ومصرف لبنان يحمل 5 مليارات دولار، أمّا المؤسّسات الماليّة والاستثماريّة الخارجيّة فهي تحمل معظم بقية سندات الاوروبوند، علماً أن معالجة مسألة الدين العام وإعادة هيكليته بعد التوقف الفجائي عن السداد في حكومة الرئيس دياب عام 2020 بات من أولويات المحادثات مع صندوق النقد الدولي، مع أن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي كانت قد وعدت بالتفاوض مع الدائنين الأجانب لإعادة هيكلة الدين الخارجي المرتبط بسندات الأوروبوندز.

وتشمل إعادة هيكلة الديون السيادية عادةً خفض القيمة الاسمية للدين وتمديد آجال الاستحقاق، على أمل أن يتعافى الاقتصاد وأن تكون الحكومة قادرة على الدفع أو إعادة التمويل. وهذا الأمر مرتبط بوضع الحكومة خطة إصلاح تكسب صدقية المجتمع الدولي. فيما كانت «غولدمان ساكس» توقعت في تقريرها الأخير أن يفقد حاملو سندات الأوروبوندز 75 % من قيمة مستحقاتهم.

يبقى أنّ «إطفاء» الدين العام بطباعة العملة الوطنية ينعكس تضخّماً، والتخلّف عن سداد الدين بالعملات الأجنبية في انتظار إعادة هيكلته، ينعكس تراكماً في الخسائر في النظام المصرفي المنغمس بنحو هائل في تمويله… صحيح أنّ عدم استدامة الدين العام كانت تنذر بالانهيار إلا أن الغرق المالي-النقدي-المصرفي الشامل ما هو إلا ثمرة التشابك بينها في توجيه معظم الادخار من المصارف نحو القطاع العام (مالية عامة مصرف مركزي) بدل الاستثمار الخاص والمشاريع المنتجة.

د. سهام رزق الله

الإصلاح ومصير الودائع: خطة إنقاذ ذاتية

من أهم مخلّفات الأزمة الحالية هي الخسارات التي سجّلها القطاع العام وانعكست في استهلاك الجهاز المصرفي لمعظم ودائع المواطنين. لقد استثمرت المصارف معظم ودائع الزبائن في القطاع العام، وأغلبها من خلال مصرف لبنان، والذي بدوره استخدمها لتغطية نفقات الدولة ومؤسساتها. فالسلطة أساءت الأمانة ولم تستطع إدارة الاقتصاد بفعالية وشفافية. واستمر المواطن بتحمّل التكلفة الباهظة من مُخلّفات الأزمة وتمثلت بالأخص بارتفاع البطالة، وانتشار الفقر، والتضخم وقضم ودائعه. ومن الواضح انّ سياسات خفض هذه الأعباء من خلال الدعم جاءت مغايرة لتطلعات المواطن ورغبة السلطة. يجب إعطاء الاولوية في الحل لتعويض الودائع بالدولار في مصرف لبنان، كونها تمثل ما يفوق الـ60% من مجمل الودائع وتفتقد لأية ضمانات.

يعتبر المواطن انّ تحرير ودائعه من أهم همومه، وقد استجاب البيان الوزاري بالإشارة الى انّ خطة الإصلاح للقطاع المصرفي التزمت ان تلحظ “إعطاء الاولوية لضمان حقوق وأموال المودعين”. فهدر اموال المواطن نفّذها القطاع العام ويجب ان يتحمّله. لقد تكبّد القطاع الخاص بما فيه الكفاية، والتفكير بتطبيق “هيركات” على الودائع او توزيع الخسائر، هو من ابسط الحلول، ولكنه الأسوأ، وقد يواجه دستورياً وقضائياً. كما انّ “الهيركات” تُمارس حالياً على السحوبات وكلّفت المواطن خسارات توازي 5 مليارات دولار. انّ الإجراءات التي مُورست منذ بدء الأزمة أدّت الى تسارع تدهور الوضع الاقتصادي والمالي، بدلاً من إصلاحه، ولم تبد السلطة اهتماماً لمعالجته. فهل تستطيع الدولة الالتزام بإعادة مدخّرات المواطن وثقته؟

اولاً: الإصلاح

انّ الخطوة الاولى لإعادة الثقة تتمثل باتخاذ إصلاحات نقدية ومالية وهيكلية، ومن أهمها تحرير وتوحيد سعر الصرف حالاً لجميع المعاملات، لما لتعدد اسعار سعر الصرف من مضار جسيمة على الاقتصاد. وإذا كان الاعتقاد بأنّ الضرر من السيولة يشكّل عبئاً على الاقتصاد، فلا بدّ من الإدراك انّ ضرر تعدّد الاسعار وحجز الودائع هو أعمق من أثر السيولة. انّ تحرير سعر الصرف والسحب من الودائع على السعر الحرّ بحدّ ذاته، يوفّر حلاً هاماً لمعضلة الودائع والوصول اليها، وسيكون المودع راضياً بأن يعُوّض عن ودائعه بالدولار بالليرة على أساس سعر السوق الحر. وحينها سيتخلّى عن المعاملات النقدية التي أغرقت الاقتصاد بالسيولة وسارعت في انهيار الليرة. انّ تحرير سعر الصرف آتٍ ولا مفرّ منه، فالأجدى اعتماده حالاً لتفادي تكلفة التأجيل التي ستكون أكثر خسارة.

ثانياً: تطبيق خطة إنقاذ ذاتية لمصرف لبنان للتعويض عن خسارة 65 مليار دولار “self- bailout”

في المرحلة الثانية او تزامناً، يتوجب معالجة الودائع لدى مصرف لبنان بالدولار التي لا تقابلها أية ضمانات وتشكّل نحو 65 مليار دولار من مجمل الودائع البالغة 106 مليارات دولار في نهاية حزيران. اما الودائع الاخرى فهي مستثمرة في القطاع الخاص والسندات وتقابلها ضمانات.

واستُخدمت الـ 106 مليارات من الودائع بالدولار كالآتي:

* ودائع لدى مصرف لبنان من المصارف بلغت نحو 65 مليار دولار (مقدّرة، كون مصرف لبنان لا يصرّح عن هذا الرقم).

* استثمارات المصارف في اليوروبوند للدولة اللبنانية (8 مليار دولار).

* قروض للقطاع الخاص المقيم وغير المقيم بالدولار (23 مليار دولار).

* أصول اخرى للمصارف بعملات اجنبية ومن ضمنها حيازات في الفروع بالخارج (10 مليار دولار).

لا بدّ من اللجوء الى موجودات القطاع العام النقدية والحقيقية، للتعويض عن الودائع في مصرف لبنان التي استُهلكت والتي يُفترض غير متوفرة ومعظمها خسارات (في الكهرباء وغيرها)، ولا تقابلها أية ضمانات. فالقطاع العام ككل هو من أهدر هذه الودائع، وساهم في ذلك عدم الإكتراث او القدرة للجهاز الرقابي والسلطتين التنفيذية والتشريعية الإشراف الفعّال على أداء القطاع على الرغم من التحذير من مخاطر تخطّي الملاءة اللازمة خلال عقود.

انّ الاسلوب الأبسط والأكثر فعالية يتمثل باستخدام، اولاً، ما تبقّى من اصول مصرف لبنان النقدية بالعملات الاجنبية لإعادة اموال المستثمرين (المودعين)، كما يحدث حين يتعثر القطاع الخاص عن التزاماته. فمن الممكن إعادة نقداً 14 مليار دولار الى المصارف من الاحتياطي الإلزامي المتبقي. وقد تعيد السلطة النظر، إضافة، في تسييل جزء من الذهب وإيداعه في المصارف للتعويض عن الودائع. انّ الاعتقاد بأنّ الذهب هو سند للثقة هو اعتقاد خاطئ، ويعطي ثقة زائفة لأداء الاقتصاد. وكما هو معلوم، فانّه يُعتبر في كل دول العالم، كجزء من الاحتياطي النقدي ويُستعمل على هذا الأساس. بعد تحرير سعر الصرف وتوقف مصرف لبنان عن تزويد النقد الأجنبي للسوق، تصبح إدارته اكثر فعالية وتركّز على إدارة السيولة للعملة الوطنية.

ثانياً، استخدام أصول حقيقية للدولة من خلال الخصخصة، للتعويض عن المبلغ المتبقي البالغ 51 مليار دولار. ويُقدّر مجموع قيمة مؤسسات الدولة القابلة للخصخصة في المرحلة الاولى (الهاتف -اوجيرو، الطيران – الميدل ايست، الكهرباء، عقود استئجار المرفأ وشركات عقارية والمطار وبلوكات المياه البحرية- الغاز والنفط، الخ….) بما لا يقل عن 50 مليار دولار، بالإستناد الى تقييمها على أساس الأرباح المتوقعة بإدارة خاصة. والسؤال هو كيف ستأتي الـ51 مليار دولار؟ من خلال التالي:

– إنشاء شركات مساهمة منفردة لكل مؤسسة أساسية من مؤسسات القطاع العام بإدارات خاصة في أسرع وقت، وتصدر مقابلها أسهماً سوقية مقيمة بالدولار على غرار أسهم الشركات المدرجة حالياً في بورصة بيروت

(كسوليدير وغيرها). ويُستعان بالخبرات المحلية والدولية المتخصصة لتشكيل لجنة خاصة مهمتها تنفيذ هذا الهدف ولإصدار اكتتابات جديدة. وتُعرض هذه الأسهم تدريجياً من خلال بورصة بيروت، وتتاح لمن يرغب، بمن فيهم المودعون المقيمون وغير المقيمين. ومن الطبيعي ان يتمّ شراء جزء هام من هذه الأسهم من قِبل شريحة واسعة من المودعين من حساباتهم المصرفية، فتكون الحصيلة استبدال الودائع بأصول حقيقية وتنخفض بالنتيجة ميزانيات المصارف بالمبلغ المقابل. وللتذكير، انّ خطة الحكومة الإصلاحية للكهرباء في 2003 استندت الى خصخصة مؤسسة كهرباء لبنان.

– أما الاسهم التي يتم شراؤها من حسابات جديدة وتحويلات من الخارج، ستوفر دخلاً بالدولار لتغذية المقابل للودائع المتبقية بالدولار في المصارف. انّ من لا يرغب بشراء الأسهم الجديدة فتبقى ودائعه في المصارف، ولكن سيكون مقابلها الآن أصول نقدية بالعملة الصعبة، إنما على اساس نسبي بقدر ما يتمّ المشاركة من المستثمرين المقيمين وغير المقيمين بهذه الأسهم الجديدة.

هذا يعني انّ الدولة لا تفرط بموارد القطاع العام، وانما تنتقل ملكيته الى المواطن، مع الحفاظ على توزيع عادل لهذه الموارد، من خلال الحدّ من الملكية الفردية لكي تستفيد منها شريحة واسعة من المواطنين. أي انّ الودائع غير السائلة المتبقية ستُستبدل بأسهم حقيقية مصدرها اصول للدولة.

النتيجة، هي إعادة القيمة الحقيقية والنقدية للودائع التي كانت هالكة في مصرف لبنان، فتُصبح مُكوّنة من النقد الاجنبي الجاري، ولأجل وما تبقّى، سيتكون من الاصول الحقيقية. أما من ليس له ودائع فسيستفيد من الإصلاح وتحسين ادارة الاقتصاد واستعادة نموه وفرص العمل. ومن يعارض الخصخصة كالشركات الاستشارية الأجنبية، تستهدف الاستمرار في الاعتماد على التمويل الخارجي وحذف الودائع على الرغم من مخاطرهما.

وتُقدّم الحجة ضدّ الخصخصة انّ القطاع العام هو ملك للجميع وليس لأصحاب الودائع فقط. لكن الردّ انّ إدارة القطاع العام أدّت الى إفلاس الجميع الغني والفقير ومن يملك ودائع او يفتقدها. انّ الحلول البديلة المقترحة هي ان تستمر الدولة بالإدارة الفاشلة لمؤسسات القطاع العام او سلب ودائع المواطن. انّ الخصخصة وتعويض الودائع هما الأمثل. كما انّ الخصخصة تؤدي الى تحسين أداء الاقتصاد ورفع مستوى معيشة جميع فئات الشعب اللبناني. ومن يعتقد انّ بيع مؤسسات الدولة في الوضع الحالي سينتج منها دخل زهيد، فهذا تحليل خاطئ، لأنّ الاصول الحقيقية تُقيّم على أساس امكانية الأداء المستقبلية.

انّ حسابات المصارف ومصرف لبنان سوف تتعدل لتعكس هذه المعاملات: فستنخفض الودائع في المصارف وما تقابلها من أصول المصارف في مصرف لبنان، بقدر ما يتم شراء الشركات الحديثة من الودائع المجمّدة. اما ميزانية مصرف لبنان فستنخفض بمقدار 14 مليار دولار الموازية، إضافة الى مدى التعويض عن الودائع بالدولار المتبقية في المصارف من خلال الخصخصة. ولكي لا تتعرض المصارف لضغوط السحب النقدي من الودائع المتبقية لديها، تقوم في البداية بجدولة الودائع على أساس روزنامة متعددة الآجال.

اما الاقتراحات السابقة التي دعت الى إنشاء صندوق سيادي ليحوي مؤسسات الدولة لكي يعوّض من أرباحه عن الودائع، فهو اقتراح عقيم، لأنّ ادارته تبقى بيد الدولة غير المؤهلة، والتعويض سيستغرق اجيالاً.

وختاماً، وفي ما يخصّ الودائع بالليرة وتقابلها ضمانات من خلال القروض المضمونة وسندات الدولة، ولا بدّ من إخضاعها لجدولة واضحة. انّ حل مشكلة الودائع وتوفر السيولة (اضافة الى الإصلاحات الاخرى) أصبحا ضروريين لإعادة الثقة ودعم النمو الاقتصادي. ومن المتوقع انّ حل أزمة مجمل الودائع ستكون العمود الفقري للإصلاح وإعادة الثقة.

الدكتور منير راشد