أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

170 دولاراً حداً أدنى لرواتب القطاع الخاص

لم تحسم لجنة المؤشر في اجتماعها أمس، مسألة رفع الاجور وبدل النقل، لكن تمّ التوافق على مبادئ عامة. وتبين من النقاشات، انّ الارقام الأولية متفق عليها مسبقاً مع رئيس الحكومة، وبالتالي إذا تمّ تنفيذها فهذا يعني انّ الحدّ الأدنى للاجور قد يرتفع الى مليوني ليرة، ويُضاف اليه بدل النقل الذي قد يصل الى مليون و400 الف ليرة في الشهر.

ترأس وزير العمل مصطفى بيرم امس الاجتماع الاول للجنة المؤشر، للنظر في معالجة رواتب وأجور العاملين في القطاع الخاص.

 

حضر الاجتماع رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الاسمر ونائبه حسن فقيه، رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس، نائب رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش، نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة في بيروت نبيل فهد، ممثل وزارة المال شربل شدراوي، ممثل الجامعة اللبنانية أنيس ابو دياب وحسن ايوب، ممثل هيئة التنسيق النقابية نزيه الجباوي، والباحث في الشركة الدولية للمعلومات محمد شمس الدين.

 

واكّد وزير العمل، انّ لا بدّ من تصحيح الاجور ورفع الحدّ الأدنى للاجور وفقاً لنسب التضخم وارتفاع الاسعار ومستوى غلاء المعيشة، وهو الأمر الذي يحتاج الى دراسات دقيقة ومفصلّة والى وقت لإقراره، مع وجوب توحيد أسعار الصرف. وبالتالي فإنّ رفع الحدّ الأدنى للاجور غيرُ وارد حالياً، وسيتمّ في المقابل ابتكار حلول مؤقتة استجابة لحالة الطوارئ الاقتصادية، مع الاخذ في الاعتبار دقة المرحلة، مالية الدولة، أصحاب العمل، الشركات والمؤسسات، والحالة المزرية للعمال على المستوى الاجتماعي.

 

وقد تمّ التوصل الى توافق بين اصحاب العمل والعمال على رفع بدل النقل اليومي في القطاع الخاص من 24 الف ليرة الى 65 الف ليرة، لكنّ وزير العمل شدّد على اعتماد بدل النقل اليومي في القطاع الخاص بشكل موحّد مع القطاع العام بحسب ما ستقرّره الحكومة اللبنانية.

 

كما تمّ الاتفاق بين طرفي الإنتاج على رفع المِنح المدرسية في ما يتعلق بالمدرسة الرسمية عن كل ولد من 400.000 ليرة الى مليون ليرة. وفي المدارس الخاصة، سيتمّ رفع قيمة المنحة عن كل ولد من 750.000 ليرة الى مليوني ليرة .

 

أما بالنسبة للمساعدة الطارئة الشهرية التي تقرّر منحها لموظفي القطاع الخاص، فقد حصل خلاف بين الاتحاد العمالي العام والهيئات الاقتصادية حول قيمة هذه المساعدة، حيث اصرّ «العمالي» على ان تكون مليوني ليرة بالإضافة الى الراتب الشهري، فقال اصحاب العمل انّه ليس الاتفاق الذي حصل مع رئيس الحكومة، وأنّهم يريدون منح من يتقاضى فقط الحدّ الأدنى للاجور، مبلغاً اضافياً يبلغ مليون و300 الف ليرة. فاعترض وزير العمل مقترحاً اعطاء كافة موظفي القطاع الخاص الذين لا تتعدىّ رواتبهم 4 ملايين ليرة، مليون و300 ألف ليرة اضافية شهرياً بمعزل عن الشطور. وبما انّ الاطراف المعنيّة لم تحسم النقاش حول قيمة المساعدة الشهرية، تمّ إرجاء الاتفاق عليها الى الجلسة المقبلة للجنة المؤشر، والتي تحدّدت يوم الاربعاء المقبل.

 

وفي حال التوصل الى توافق خلال جلسة الاسبوع المقبل على إعطاء 1,3 مليون ليرة اضافية شهرياً لموظفي القطاع الخاص ورفع بدل النقل اليومي، فإنّ الحدّ الأدنى للرواتب سيصبح مليوني ليرة بالإضافة الى حوالى مليون و400 الف ليرة شهرياً كبدل نقل، اي انّ الحدّ الأدنى للاجور في القطاع الخاص سيصبح 3 ملايين و400 ألف ليرة شهرياً، أي ما يعادل 170 دولاراً حالياً. كما سيصار الى إصدار مرسوم بتلك القرارات، ويجب ان يُحال الى مجلس الوزراء لإقراره. وإذا استمرّت جلسات مجلس الوزراء معلّقة، فإنّ دعم موظفي القطاع الخاص سيكون أيضا معلّقاً حتى إشعار آخر.

 

بيرم

وخلال الجلسة، إعتبر بيرم انّ انعقاد لجنة المؤشر للمرة الاولى منذ 5 سنوات «أمر في حدّ ذاته يُعتبر انجازاً في حضور ممثلي اصحاب العمل والعمال وبعض الخبراء الاقتصاديين الاختصاصيين». معلناً انّه تمّ الاتفاق على تقسيم مسار النقاش الى قسمين: القسم الاول مرتبط بما يوجبه القانون علينا في اجتماعات لجنة المؤشر التي يجب ان تستجيب دورياً وتلقائياً لأي تغيّر يحصل في المستوى الاقتصادي ومستوى غلاء المعيشة وتأثير ذلك على الاسعار والاجور.

 

وقال بيرم: «اتفقنا على انّ هذا مسار يأخذ وقتاً لأنّه يجب علينا ان نأتي بالارقام الدقيقة والدراسات الموضوعية والعلمية. وكان النقاش علمياً وموضوعياً، وتمّ الاتفاق انّ هذا المسار يجب ان يكون مستداماً ويأخذ وقته، من أجل تحصيل الحق المشروع للعامل في لبنان، وايضاً حماية اصحاب العمل لاستمرارية الدورة الاقتصادية في هذا البلد العزيز علينا جميعاً».

 

واكّد «انّ هناك اموراً لا تحتمل التأجيل، وهي الوضع الاقتصادي الداهم، وبالتالي حاولنا ان نصل الى نوع من المخرجات لكي تستجيب للطوارئ الاقتصادية وهي كما يلي:

اولاً: اتفقنا على استمرار النقاش العلمي على مستوى الطوارئ الاقتصادية للوصول الى ارقام دقيقة بحدّ أدنى مناسب، بالتوازي مع وجوب توحيد أسعار الصرف.

 

ثانياً: اما على مستوى الطوارئ الاقتصادية فقد توصلنا الى ما يلي:

1 – الاتفاق على اعتماد بدل النقل اليومي في القطاع الخاص بشكل موحّد مع القطاع العام، بحسب ما ستقرّره الحكومة اللبنانية في ما يتعلق ببدل النقل اليومي الحضوري سيتمّ اعتماده في القطاع الخاص.

 

2 – في ما يتعلق بالمنح التعليمية في القطاع الخاص: تمّ الاتفاق على رفع المنح المدرسية في ما يتعلق بالمدرسة الرسمية عن كل ولد، التي كانت 400.000 أصبحت 1000.000 ليرة، بما لا يتجاوز النسب المحدّدة في المراسيم المرعية الإجراء. اما في المدارس الخاصة فتمّ رفع قيمة المنحة عن كل ولد من750.000 ليرة الى مليوني ليرة، بما لا يتجاوز حدود المراسيم المرعية الاجراء.

 

3- اما في ما يتعلق بالمبلغ المرتبط بمواجهة الطوارئ الاقتصادية، فإنّه تمّ إرجاء الاتفاق عليه الى الجلسة المقبلة للجنة المؤشر التي تحدّدت الاربعاء المقبل عند العاشرة والنصف في وزارة العمل، علماً انّ الجلسات ستكون دورية وبشكل متواصل لمواكبة التطورات الاقتصادية والمعيشية».

رنى سعرتي

الغرق المالي-النقدي-المصرفي في لبنان: هكذا انغمس الاقتصاد في تمويل الدولة!

من المعروف أن العام 2011 شكّل تاريخ الانقلاب السلبي في كل المؤشرات الاقتصادية وصولا الى انفجار الأزمة عام 2019 (من النمو الاقتصادي الذي تدهور من أكثر من 8.25% الى أقل من 1%، وصولا الى ميزان المدفوعات الذي تحوّل من فائض يفوق الـ 7 مليارات دولار الى تراكم عجوزات بمليارات الدولارات…) بعد اندلاع الأزمة في سوريا من جهة وسقوط الحكومة وتبدّل مناخ الاستقرار السياسي والعمل المؤسساتي في لبنان عام 2011… إلا أن الملفت أيضا أنه شكّل مرحلة الانقلاب على مبدأ إستقلالية مصرف لبنان المركزي عبر مزيد من انغماسه في تمويل القطاع العام وانجرار مجمل الجهاز المصرفي نحو هذا الخيار بعد أن عاوَد معدل الدين العام والناتج المحلي الارتفاع من نحو 130% عام 2006 الى نحو 180% عام 2019 قبل انفجار الأزمة… فكيف ارتسمت هذه المشهدية الجديدة التي أغرقت الوضع النقدي والمصرفي في أزمة المالية العامة المزمنة؟ وكيف تمادى توجيه التمويل المصرفي من مدخرات الناس بنحو غير مسبوق صوب الاكتتاب بسندات الخزينة والأوروبوند والتوظيف في شهادات إيداع المصرف المركزي؟ عوامل عدة جعلت كل الاقتصاد اللبناني منغمساً في تمويل الدولة بدلاً من أن تكون الدولة ناشطة لتفعيل الاقتصاد…

إشكالية العجز المالي في لبنان والسعي للتمويل عبر اللجوء إلى المصرف المركزي بدأا مع بداية سنوات الحرب عبر السعي الى التمويل النقدي لعجز الميزانية العامة بسبب تدهور إيرادات الموازنة في الثمانينات وكان بشكل أساسي بالليرة اللبنانية، قبل أن تبدأ الاستدانة بالدولار الأميركي وتتزايد لتصبح اليوم في حدود ثلث الدين العام. أما أكثر ما هو ملفت فهو تحميل معظم الدين العام، إن كان بالليرة أو بالدولار، للجهاز المصرفي اللبناني (مصرف مركزي ومصارف تجارية) فضلاً عن انغماس المصارف في توظيف معظم الودائع بالدولار لديها على شكل شهادات إيداع لدى المصرف المركزي… (رسم رقم 1)

ومن المعروف إقتصادياً أن مفهوم استقلالية المصرف المركزي يقتضي تأمين ثلاث ركائز أساسية:

الاستقلالية القانونية في النصوص، الاستقلالية الفعلية في الممارسة، والاستقلالية المالية في حسابات المصرف المركزي تجاه الدولة.

ولطالما شددت الأدبيات الاقتصادية، وخصوصاً مع الموجة الكلاسيكية، على تأمين الفصل التام للسياسة النقدية للمصرف المركزي عن السياسة المالية للحكومة ووزارة المال خصوصاً لتفادي لجوء الحكومة متمثّلة بوزارة المال لطلب تغطية عجوزاتها المالية من خلال تدخل المصرف المركزي، إن كان عبر ضخ السيولة وتحمّل انعكاساتها التضخمية الفورية أو من خلال الضغط على المصرف المركزي للمساهمة في الدين العام عبر الإكتتاب بسندات الخزينة والتفاوض حول شروطها بالكمية والآجال ومستوى الفوائد… أو طباعة النقد وزيادة في السيولة واصطناع نهضة عابرة في الأسواق في فترات محددة، مثل الفترات التي تسبق الإنتخابات، لإحداث صدمة إيجابية وهمية لا تلبث أن تتحوّل كابوساً تضخمياً يصعب ضبطه من دون أي مساهمة في نمو إقتصادي حقيقي وخلق فرص العمل المطلوبة. (رسم رقم 2)

عملياً، تم انغماس السلطة النقدية والقطاع المصرفي في لبنان بتمويل عجز المالية العامة وتوافق الأفرقاء الثلاثة (المالية العامة والمصرف المركزي والمصارف) على الهندسات المالية عام 2016 لتأخير انفجار الأزمة واجتذاب أكبر مقدار من الدولارات «بأي ثمن» (أي بأعلى معدّلات فوائد) لمزيد من الوقت للإصلاح والتمكن من الاستفادة من اموال مؤتمر «سيدر» مع الاستمرار في سعر الصرف نفسه أياً يكن تدهور المؤشرات الاقتصادية، لا سيما منها تدهور ميزان المدفوعات، فتم إغراق الجهاز المصرفي بـ»فشل القطاع العام» وخياراته من المالية الى النقدية، ولكن من دون الالتزام بتنفيذ أي من الاصلاحات، لا بل تم إقرار سلسلة رتب ورواتب بحسابات خاطئة باعتراف السلطة المالية نفسها قبيل الانتخابات النيابية 2018 لا بل توظيف 5300 موظّف إضافي بعد إقرار قانون وقف التوظيف (وفق تقرير التفتيش المركزي) حتى باتت أجور ورواتب القطاع العام تمتص أكثر من ثلث الموازنة قبل انفجار الأزمة فيما لا يتجاوز معدّلها عالميا 15 % .

وقبل الانتخابات النيابية كان الدين العام في آذار 2018 نحو 81.9 مليار دولار، وقد وصلت نسبته إلى 152.8 % للناتج المحلي، وكان ثالث أعلى معدّل في العالم. وبقيت موجودات مصرف لبنان السائلة بالعملات الاجنبية، التي تشكّل دعامة الاستقرار النقدي، عند مستوى مرتفع، إذ بلغت 34.3 مليار دولار في نهاية آذار 2018.

وبلغت قيمة الدين العام المحرر بالليرة اللبنانية 77300 مليار ليرة، مشكّلة نحو 62.6 % من اجمالي الدين العام، في مقابل ما يعادل 46126 مليار ليرة للدين المحرر بالعملات الاجنبية، أي ما نسبته 37.4 % من الدين العام الاجمالي، مع ملاحظة أنه يعتبر دينا حكوميا فقط (لأن الدين العام يفترض أن يشمل أيضا ديون المؤسسات العامة ومستحقاتها مثل المقاولين والمستشفيات ذات فواتير غير مدفوعة من الدولة، الضمان الاجتماعي…).

وقد عادت وزارة المال إلى إصدار سندات الخزينة اللبنانيّة بالليرة، إنما بعد رفع الفوائد المدفوعة عليها من 7.46 % إلى 10.5 %، عملاً بالإتفاق بين الوزارة ومصرف لبنان، الذي أنهى شهرين من توقّف الإكتتاب في سندات الخزينة.

ومع تنامي الأزمة، عمد مصرف لبنان إلى إطلاق هندسات وإجراءات إستثنائيّة، عرض من خلالها فوائد سخيّة مقابل توظيف سيولة القطاع المصرفي بالدولار عنده، لرفع إحتياطه بالعملات الأجنبيّة، وبعدها عمد إلى إمتصاص السيولة بالليرة، بالطريقة نفسها، لتفادي تحوّلها ضغطا في اتجاه شراء الدولار.

وهنا، لم يعد من مصلحة المصارف توظيف سيولتها مباشرة في سندات الخزينة، نظرا إلى الأرباح السخيّة التي تحققها من توظيفاتها مع المصرف المركزي. وهكذا، إرتفعت ودائع المصارف لدى المصرف المركزي من 65.3 مليار دولار في بداية 2015 إلى 113 مليار دولار حتى تشرين الأوّل 2018.

ولتعويض هذا النقص في تمويل الدين العام وشراء سندات الخزينة، لعب مصرف لبنان دور الوسيط، عبر توظيف أمواله بشراء السندات بنفسه… فتناقصت حصة المصارف من سندات الخزينة إلى 36 % حتّى حزيران 2018، مقابل إرتفاع حصّة مصرف لبنان الى 48 %. وفي إكتتابات الفصل الثاني من عام 2018، اشترى مصرف لبنان وحده 58 % من هذه السندات.

وبين الفوائد المرتفعة التي كان يتم دفعها لتوظيفات المصارف في مصرف لبنان، والفوائد الأقل التي كان ينالها المصرف المركزي مقابل توظيف جزء من هذه الأموال في عمليات شراء سندات الخزينة، كان مصرف لبنان يتحمّل فارق الفوائد كخسائر في الموازنة طوال السنوات الماضية.

وكانت مختلف الازمات الحكومية والتوتر السياسي وتداعي مناخ الثقة للاستثمار تضغط سلبا على سندات الدين اللبنانية كما على السندات بالعملات الأجنبية «اليوروبوند» التي كانت تحمل نصفها المصارف ونحو 5 مليارات من الدولارات لدى المصرف المركزي والبقية لغير المقيمين… وكانت تخسر قيمتها مع تراجع تصنيف لبنان السيادي لدى مؤسسات التصنيف «فيتش»، «موديز» و«ستاندرد أند بورز»، مما دفع بعض حامليها الى طرحها في السوق للبيع تجنبّاً لخسائر اضافية محتملة في اسعارها.

كذلك مطلع العام 2019 قرر المصرف المركزي الخروج من هذا الدور، الذي كان يكلّف موازنته فارق الفائدة، فتوقّف الإكتتاب في سندات الخزينة، الى حين التوصّل إلى إتفاق بديل مع وزارة المال. أمّا المصارف فلم يكن لها مصلحة في الإكتتاب بفوائد السندات المخفوضة، مقارنة بفوائد توظيفاتها مع مصرف لبنان.

وهكذا لم يكن هناك من حل سوى تحميل الماليّة العامّة فارق الفائدة والكلفة، عبر رفع فوائد سندات الخزينة، لدفع المصارف إلى الإكتتاب بهذه السندات، وتم الإتفاق على هذا النحو بين وزارة المال ومصرف لبنان.

هذا المسار، يعني في إختصار، أنّ رفع الفوائد والأرباح في الفترة الماضية على التوظيفات مع المصرف المركزي للتحكّم بالسيولة، وإمتصاصها، والتعامل مع الأزمة، طاولت حتى الاكتتابات بسندات الدين العام وكلفتها.

اليوم بلغ حجم الدين العام 97.75 مليار دولار حتى نهاية حزيران 2021، وفق الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة المال. إنما في الواقع هذا الرقم هو عن الدين العام الذي يشمل دين الدولة الداخلي والخارجي، وقد تم احتساب الجزء الذي بالدولار الأميركي على أساس سعر الصرف الرسمي أي على 1515 ليرة مقابل الدولار وهو يصبح أقل بكثير اذا تم تحويل الدين بالدولار إلى الليرة اللبنانية على أساس سعر صرف السوق الموازية.

ووفق الارقام الرسمية، فإن الدين العام بالليرة اللبنانية بلغ 91 ألفا و169 مليار ليرة أو ما يعادل 60.5 مليار دولار في نهاية حزيران 2021. أما الدين بالعملات الاجنبية، والذي يشمل الاستحقاقات والكوبونات غير المدفوعة منذ توقّف الدولة عن السداد في آذار 2020، فيبلغ 37.3 مليار دولار مرتفعاً 3.4 % منذ نهاية العام 2020 و7 % منذ حزيران 2020. ووفق هذه الارقام، فإن نحو 8.1 مليارات دولار من رصيد الدين بالعملات الاجنبية كانت عبارة عن متأخرات حتى حزيران 2021.

ويشكل الدين المحلي ما نسبته 62 % من الدين الاجمالي، فيما الدين الخارجي يمثل 38 %. ويحمل مصرف لبنان ما نسبته 38 % من الدين العام (61.6 % دين بالليرة اللبنانية مقارنة بـ50.2 % قبل عام)، ثم المصارف بنسبة 15.5 % (25 % دين محلي مقارنة بـ27.8 % قبل عام) والمؤسسات المالية غير المصرفية 8.2 %. أما الدين العام الصافي، أي الذي يستثني ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان والمصارف، فبلغ 86.4 مليار دولار في نهاية حزيران.

أما الدين بالدولار الأميركي «الأوروبوند»، فيتبيّن أنه حتى آخر تمّوز 2021، كانت المصارف التجاريّة لا تزال تحمل 8 مليارات و100 مليون دولار منه، ومصرف لبنان يحمل 5 مليارات دولار، أمّا المؤسّسات الماليّة والاستثماريّة الخارجيّة فهي تحمل معظم بقية سندات الاوروبوند، علماً أن معالجة مسألة الدين العام وإعادة هيكليته بعد التوقف الفجائي عن السداد في حكومة الرئيس دياب عام 2020 بات من أولويات المحادثات مع صندوق النقد الدولي، مع أن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي كانت قد وعدت بالتفاوض مع الدائنين الأجانب لإعادة هيكلة الدين الخارجي المرتبط بسندات الأوروبوندز.

وتشمل إعادة هيكلة الديون السيادية عادةً خفض القيمة الاسمية للدين وتمديد آجال الاستحقاق، على أمل أن يتعافى الاقتصاد وأن تكون الحكومة قادرة على الدفع أو إعادة التمويل. وهذا الأمر مرتبط بوضع الحكومة خطة إصلاح تكسب صدقية المجتمع الدولي. فيما كانت «غولدمان ساكس» توقعت في تقريرها الأخير أن يفقد حاملو سندات الأوروبوندز 75 % من قيمة مستحقاتهم.

يبقى أنّ «إطفاء» الدين العام بطباعة العملة الوطنية ينعكس تضخّماً، والتخلّف عن سداد الدين بالعملات الأجنبية في انتظار إعادة هيكلته، ينعكس تراكماً في الخسائر في النظام المصرفي المنغمس بنحو هائل في تمويله… صحيح أنّ عدم استدامة الدين العام كانت تنذر بالانهيار إلا أن الغرق المالي-النقدي-المصرفي الشامل ما هو إلا ثمرة التشابك بينها في توجيه معظم الادخار من المصارف نحو القطاع العام (مالية عامة مصرف مركزي) بدل الاستثمار الخاص والمشاريع المنتجة.

د. سهام رزق الله

الإصلاح ومصير الودائع: خطة إنقاذ ذاتية

من أهم مخلّفات الأزمة الحالية هي الخسارات التي سجّلها القطاع العام وانعكست في استهلاك الجهاز المصرفي لمعظم ودائع المواطنين. لقد استثمرت المصارف معظم ودائع الزبائن في القطاع العام، وأغلبها من خلال مصرف لبنان، والذي بدوره استخدمها لتغطية نفقات الدولة ومؤسساتها. فالسلطة أساءت الأمانة ولم تستطع إدارة الاقتصاد بفعالية وشفافية. واستمر المواطن بتحمّل التكلفة الباهظة من مُخلّفات الأزمة وتمثلت بالأخص بارتفاع البطالة، وانتشار الفقر، والتضخم وقضم ودائعه. ومن الواضح انّ سياسات خفض هذه الأعباء من خلال الدعم جاءت مغايرة لتطلعات المواطن ورغبة السلطة. يجب إعطاء الاولوية في الحل لتعويض الودائع بالدولار في مصرف لبنان، كونها تمثل ما يفوق الـ60% من مجمل الودائع وتفتقد لأية ضمانات.

يعتبر المواطن انّ تحرير ودائعه من أهم همومه، وقد استجاب البيان الوزاري بالإشارة الى انّ خطة الإصلاح للقطاع المصرفي التزمت ان تلحظ “إعطاء الاولوية لضمان حقوق وأموال المودعين”. فهدر اموال المواطن نفّذها القطاع العام ويجب ان يتحمّله. لقد تكبّد القطاع الخاص بما فيه الكفاية، والتفكير بتطبيق “هيركات” على الودائع او توزيع الخسائر، هو من ابسط الحلول، ولكنه الأسوأ، وقد يواجه دستورياً وقضائياً. كما انّ “الهيركات” تُمارس حالياً على السحوبات وكلّفت المواطن خسارات توازي 5 مليارات دولار. انّ الإجراءات التي مُورست منذ بدء الأزمة أدّت الى تسارع تدهور الوضع الاقتصادي والمالي، بدلاً من إصلاحه، ولم تبد السلطة اهتماماً لمعالجته. فهل تستطيع الدولة الالتزام بإعادة مدخّرات المواطن وثقته؟

اولاً: الإصلاح

انّ الخطوة الاولى لإعادة الثقة تتمثل باتخاذ إصلاحات نقدية ومالية وهيكلية، ومن أهمها تحرير وتوحيد سعر الصرف حالاً لجميع المعاملات، لما لتعدد اسعار سعر الصرف من مضار جسيمة على الاقتصاد. وإذا كان الاعتقاد بأنّ الضرر من السيولة يشكّل عبئاً على الاقتصاد، فلا بدّ من الإدراك انّ ضرر تعدّد الاسعار وحجز الودائع هو أعمق من أثر السيولة. انّ تحرير سعر الصرف والسحب من الودائع على السعر الحرّ بحدّ ذاته، يوفّر حلاً هاماً لمعضلة الودائع والوصول اليها، وسيكون المودع راضياً بأن يعُوّض عن ودائعه بالدولار بالليرة على أساس سعر السوق الحر. وحينها سيتخلّى عن المعاملات النقدية التي أغرقت الاقتصاد بالسيولة وسارعت في انهيار الليرة. انّ تحرير سعر الصرف آتٍ ولا مفرّ منه، فالأجدى اعتماده حالاً لتفادي تكلفة التأجيل التي ستكون أكثر خسارة.

ثانياً: تطبيق خطة إنقاذ ذاتية لمصرف لبنان للتعويض عن خسارة 65 مليار دولار “self- bailout”

في المرحلة الثانية او تزامناً، يتوجب معالجة الودائع لدى مصرف لبنان بالدولار التي لا تقابلها أية ضمانات وتشكّل نحو 65 مليار دولار من مجمل الودائع البالغة 106 مليارات دولار في نهاية حزيران. اما الودائع الاخرى فهي مستثمرة في القطاع الخاص والسندات وتقابلها ضمانات.

واستُخدمت الـ 106 مليارات من الودائع بالدولار كالآتي:

* ودائع لدى مصرف لبنان من المصارف بلغت نحو 65 مليار دولار (مقدّرة، كون مصرف لبنان لا يصرّح عن هذا الرقم).

* استثمارات المصارف في اليوروبوند للدولة اللبنانية (8 مليار دولار).

* قروض للقطاع الخاص المقيم وغير المقيم بالدولار (23 مليار دولار).

* أصول اخرى للمصارف بعملات اجنبية ومن ضمنها حيازات في الفروع بالخارج (10 مليار دولار).

لا بدّ من اللجوء الى موجودات القطاع العام النقدية والحقيقية، للتعويض عن الودائع في مصرف لبنان التي استُهلكت والتي يُفترض غير متوفرة ومعظمها خسارات (في الكهرباء وغيرها)، ولا تقابلها أية ضمانات. فالقطاع العام ككل هو من أهدر هذه الودائع، وساهم في ذلك عدم الإكتراث او القدرة للجهاز الرقابي والسلطتين التنفيذية والتشريعية الإشراف الفعّال على أداء القطاع على الرغم من التحذير من مخاطر تخطّي الملاءة اللازمة خلال عقود.

انّ الاسلوب الأبسط والأكثر فعالية يتمثل باستخدام، اولاً، ما تبقّى من اصول مصرف لبنان النقدية بالعملات الاجنبية لإعادة اموال المستثمرين (المودعين)، كما يحدث حين يتعثر القطاع الخاص عن التزاماته. فمن الممكن إعادة نقداً 14 مليار دولار الى المصارف من الاحتياطي الإلزامي المتبقي. وقد تعيد السلطة النظر، إضافة، في تسييل جزء من الذهب وإيداعه في المصارف للتعويض عن الودائع. انّ الاعتقاد بأنّ الذهب هو سند للثقة هو اعتقاد خاطئ، ويعطي ثقة زائفة لأداء الاقتصاد. وكما هو معلوم، فانّه يُعتبر في كل دول العالم، كجزء من الاحتياطي النقدي ويُستعمل على هذا الأساس. بعد تحرير سعر الصرف وتوقف مصرف لبنان عن تزويد النقد الأجنبي للسوق، تصبح إدارته اكثر فعالية وتركّز على إدارة السيولة للعملة الوطنية.

ثانياً، استخدام أصول حقيقية للدولة من خلال الخصخصة، للتعويض عن المبلغ المتبقي البالغ 51 مليار دولار. ويُقدّر مجموع قيمة مؤسسات الدولة القابلة للخصخصة في المرحلة الاولى (الهاتف -اوجيرو، الطيران – الميدل ايست، الكهرباء، عقود استئجار المرفأ وشركات عقارية والمطار وبلوكات المياه البحرية- الغاز والنفط، الخ….) بما لا يقل عن 50 مليار دولار، بالإستناد الى تقييمها على أساس الأرباح المتوقعة بإدارة خاصة. والسؤال هو كيف ستأتي الـ51 مليار دولار؟ من خلال التالي:

– إنشاء شركات مساهمة منفردة لكل مؤسسة أساسية من مؤسسات القطاع العام بإدارات خاصة في أسرع وقت، وتصدر مقابلها أسهماً سوقية مقيمة بالدولار على غرار أسهم الشركات المدرجة حالياً في بورصة بيروت

(كسوليدير وغيرها). ويُستعان بالخبرات المحلية والدولية المتخصصة لتشكيل لجنة خاصة مهمتها تنفيذ هذا الهدف ولإصدار اكتتابات جديدة. وتُعرض هذه الأسهم تدريجياً من خلال بورصة بيروت، وتتاح لمن يرغب، بمن فيهم المودعون المقيمون وغير المقيمين. ومن الطبيعي ان يتمّ شراء جزء هام من هذه الأسهم من قِبل شريحة واسعة من المودعين من حساباتهم المصرفية، فتكون الحصيلة استبدال الودائع بأصول حقيقية وتنخفض بالنتيجة ميزانيات المصارف بالمبلغ المقابل. وللتذكير، انّ خطة الحكومة الإصلاحية للكهرباء في 2003 استندت الى خصخصة مؤسسة كهرباء لبنان.

– أما الاسهم التي يتم شراؤها من حسابات جديدة وتحويلات من الخارج، ستوفر دخلاً بالدولار لتغذية المقابل للودائع المتبقية بالدولار في المصارف. انّ من لا يرغب بشراء الأسهم الجديدة فتبقى ودائعه في المصارف، ولكن سيكون مقابلها الآن أصول نقدية بالعملة الصعبة، إنما على اساس نسبي بقدر ما يتمّ المشاركة من المستثمرين المقيمين وغير المقيمين بهذه الأسهم الجديدة.

هذا يعني انّ الدولة لا تفرط بموارد القطاع العام، وانما تنتقل ملكيته الى المواطن، مع الحفاظ على توزيع عادل لهذه الموارد، من خلال الحدّ من الملكية الفردية لكي تستفيد منها شريحة واسعة من المواطنين. أي انّ الودائع غير السائلة المتبقية ستُستبدل بأسهم حقيقية مصدرها اصول للدولة.

النتيجة، هي إعادة القيمة الحقيقية والنقدية للودائع التي كانت هالكة في مصرف لبنان، فتُصبح مُكوّنة من النقد الاجنبي الجاري، ولأجل وما تبقّى، سيتكون من الاصول الحقيقية. أما من ليس له ودائع فسيستفيد من الإصلاح وتحسين ادارة الاقتصاد واستعادة نموه وفرص العمل. ومن يعارض الخصخصة كالشركات الاستشارية الأجنبية، تستهدف الاستمرار في الاعتماد على التمويل الخارجي وحذف الودائع على الرغم من مخاطرهما.

وتُقدّم الحجة ضدّ الخصخصة انّ القطاع العام هو ملك للجميع وليس لأصحاب الودائع فقط. لكن الردّ انّ إدارة القطاع العام أدّت الى إفلاس الجميع الغني والفقير ومن يملك ودائع او يفتقدها. انّ الحلول البديلة المقترحة هي ان تستمر الدولة بالإدارة الفاشلة لمؤسسات القطاع العام او سلب ودائع المواطن. انّ الخصخصة وتعويض الودائع هما الأمثل. كما انّ الخصخصة تؤدي الى تحسين أداء الاقتصاد ورفع مستوى معيشة جميع فئات الشعب اللبناني. ومن يعتقد انّ بيع مؤسسات الدولة في الوضع الحالي سينتج منها دخل زهيد، فهذا تحليل خاطئ، لأنّ الاصول الحقيقية تُقيّم على أساس امكانية الأداء المستقبلية.

انّ حسابات المصارف ومصرف لبنان سوف تتعدل لتعكس هذه المعاملات: فستنخفض الودائع في المصارف وما تقابلها من أصول المصارف في مصرف لبنان، بقدر ما يتم شراء الشركات الحديثة من الودائع المجمّدة. اما ميزانية مصرف لبنان فستنخفض بمقدار 14 مليار دولار الموازية، إضافة الى مدى التعويض عن الودائع بالدولار المتبقية في المصارف من خلال الخصخصة. ولكي لا تتعرض المصارف لضغوط السحب النقدي من الودائع المتبقية لديها، تقوم في البداية بجدولة الودائع على أساس روزنامة متعددة الآجال.

اما الاقتراحات السابقة التي دعت الى إنشاء صندوق سيادي ليحوي مؤسسات الدولة لكي يعوّض من أرباحه عن الودائع، فهو اقتراح عقيم، لأنّ ادارته تبقى بيد الدولة غير المؤهلة، والتعويض سيستغرق اجيالاً.

وختاماً، وفي ما يخصّ الودائع بالليرة وتقابلها ضمانات من خلال القروض المضمونة وسندات الدولة، ولا بدّ من إخضاعها لجدولة واضحة. انّ حل مشكلة الودائع وتوفر السيولة (اضافة الى الإصلاحات الاخرى) أصبحا ضروريين لإعادة الثقة ودعم النمو الاقتصادي. ومن المتوقع انّ حل أزمة مجمل الودائع ستكون العمود الفقري للإصلاح وإعادة الثقة.

الدكتور منير راشد

لبنان على عتبة الـStagflation بسبب إضاعة الوقت

 

اكّد وزير الاقتصاد أمين سلام، المؤكّد، بأنّ لبنان لن يحصل على الدعم المالي من صندوق النقد الدولي قبل الانتخابات النيابية المقبلة، لافتاً الى انّ حجم الدعم مقدّر في المرحلة الاولى بحوالى ملياري دولار.

يقتصر دور الحكومة الحالية خلال ولايتها حتى آذار أو أيار 2022، على تحضير الأرضية لبدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وتوحيد آراء الجهات المعنيّة من الدولة ومصرف لبنان والمصارف، حول خطة التعافي التي سيقترحها ويقدّمها لبنان الى صندوق النقد. ولا يسع الحكومة، الى حين التوصل الى اتفاق مع الصندوق حول برنامج إنقاذ معيّن وحصول لبنان على الدعم المالي، وهو الأمر المرجّح حصوله في النصف الثاني من العام 2022، في حال لم تؤد الاضطرابات السياسية والقضائية الحالية الى شلل حكومي، سوى ابتكار حلول مؤقتة وغير مستدامة لإدارة الأزمة وليس للخروج منها، من خلال توفير ما يشبه شبكة الأمان الاجتماعي، من خلال محاولة التعويض قدر المستطاع «وبالموجود» عن تراجع القدرة الشرائية للمواطنين بأكثر من 90 في المئة، عبر تقديم مساعدات اجتماعية ومِنح وسلفات شهرية للإجراء، للصمود في هذه المرحلة وتحمّل ارتفاع كلفة المعيشة.

في هذا الإطار، اعتبر مسؤول سابق في صندوق النقد الدولي، انّ ما يحدث حالياً في لبنان هو تعديل اقتصادي ومالي عشوائي، سيستمر في إحداث المزيد من البؤس والمصاعب للمواطنين، موضحاً لـ«الجمهورية»، انّ صانعي السياسات في لبنان يجب ان يضعوا حداً لما وصفه بـ«الجنون»، والإسراع الى التفاوض على برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ونصحهم بعدم هدر المزيد من الوقت، في محاولة لتطوير خطة تعافٍ او برنامج إنقاذ خاص بهم «وعلى مقاسهم» من اجل التفاوض عليه مع صندوق النقد الدولي. واكّد انّ في كافة الدول التي توصلت مع صندوق النقد الدولي الى برنامج إنقاذ، قام خبراء الصندوق بإعداد البرنامج، عبر المفاوضات مع السلطات، وليس العكس. اضاف: «من الواضح أنّ السلطات اللبنانية ستحتاج الى تزويد صندوق النقد الدولي بمعلومات اقتصادية ومالية مفصّلة، وبالتدابير والسياسات التي تعتزم تنفيذها في كل قطاع».

وتابع: «والأهم من ذلك، إذا استمر مصرف لبنان والمصارف في اتخاذ نفس الموقف الذي اتخذاه بشأن خسائرهما أيام حكومة حسان دياب، فلن يتمكن لبنان من التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي».

وشدّد المسؤول السابق في صندوق النقد الدولي على ضرورة أن يعي القادة السياسيون في لبنان، أنّ الحيَل المحاسبية التي يستخدمها مصرف لبنان والبنوك لتغطية خسائرهم لن تنجح في إطار برنامج صندوق النقد الدولي، «لأنّ هناك حقائق معينة لا يمكن إنكارها. مصرف لبنان مفلس ويحتاج إلى إعادة هيكلة كبرى. كذلك الامر بالنسبة الى النظام المصرفي بأكمله الذي يحتاج إلى إعادة هيكلة»، مؤكّداً انّه سيكون هناك لا محال اقتطاع haircut جدّي على الودائع. لافتاً الى نسبة الاقتطاع على الودائع لا يمكن تقديرها إلّا بعد إجراء تحليلات مفصّلة لميزانيات البنوك وإعادة جدولة الديون الحكومية.

وختم: «إذا لم يتوصل لبنان إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي قريباً، فسوف يدخل لبنان فترة من التضخم المصحوب بركود اقتصادي خطير stagflation، اي ارتفاع معدلات التضخم والبطالة مقابل انعدام النمو الاقتصادي. ومن المعلوم انّ كافة الحكومات تخشى من حصول هذا المزيج غير المؤاتي، والذي يشكّل معضلة لها، لأنّ معظم الإجراءات المصمّمة لخفض نسبة التضخم قد ترفع مستويات البطالة، والسياسات المصممة لخفض البطالة قد تؤدي إلى تفاقم التضخّم.

رنى سعرتي

5 عوامل تمنع الدولار من التحليق مقابل الليرة

 

بعد العطب البنيوي الذي أصاب الحكومة الميقاتية، تتجه الأنظار نحو الوضع المالي والاقتصادي، في محاولة لاستشراف المرحلة المقبلة. فكيف سيكون شكل الوضع المعيشي؟ وماذا عن خطة الانقاذ والمفاوضات مع صندوق النقد؟ والأهم، ما هو المسار الذي سيتخذه سعر صرف الدولار في فترة الشلل الحكومي؟

من حيث المبدأ، كان يُفترض بالحكومة التي ولدت بعد فراغ في السلطة التنفيذية دام أكثر من عام، ان تنفّذ 3 أهداف رئيسية:

اولاً – إجراءات سريعة لمواجهة الأزمات الحياتية اليومية الناتجة عن الأزمة الكبرى (الانهيار المالي والاقتصادي).

ثانياً – الاتفاق على خطة انقاذ مع صندوق النقد الدولي.

ثالثاً – اجراء الانتخابات النيابية في موعدها الدستوري.

ومن خلال قراءة ما قامت به الحكومة في الشهر الاول على انطلاقتها، يمكن القول انها لم تحقق نجاحاً في ملف خطة الطوارئ السريعة، اذ بقيت التداعيات الحياتية على حالها، بل تفاقمت وفق مسار تصاعدي لا علاقة للحكومة بتسريعه، لكنها لم تنجح في إبطائه، او التخفيف من قساوته على الناس من خلال توزيع الاضرار. في المقابل، لا يمكن الحكم على مسار خطة الانقاذ التي بدأ العمل عليها، لأنّ عناوينها العريضة لم تظهر الى العلن، وليس معروفاً اذا ما كان التوافق عليها بين مكونات الحكومة، ومع مصرف لبنان والقطاع المصرفي ممكناً ام لا. اما في موضوع الانتخابات النيابية، فمن المبكر الجزم، ولو ان النية الظاهرة تفيد بأن الحكومة ترغب في إنجاز الانتخابات، اذا لم يطرأ ما يحول دون تنفيذ هذه الرغبة.

اليوم، وبعدما تعرضت الحكومة الى ضربة قاسية، أصابتها بعطب دائم، في أقل تقدير، واذا استبعدنا سقوطها وتحولها الى حكومة تصريف اعمال، وفي حال استمرت على طريقة «لا معلّق ولا مطلّق»، ماذا ينبغي ان نتوقع على المستوى المالي والاقتصادي؟

في الواقع، وعلى عكس ما يعتقد البعض، قد لا تظهر التداعيات كارثية على المستوى الحياتي، لكنّ الضرر الاكبر يكمن في احتمالات الانقاذ في المستقبل. بمعنى انّ المواطن الموجوع اليوم بدرجات كبيرة، قد لا تزيد مأساته سوى بمقدار محدود، كان سيصل اليه، حتى لو لم تتعرض الحكومة للعطب الذي أصابها على خلفية قضية التحقيق في انفجار مرفأ بيروت. وبالتالي، لا مبرّر للخوف من انهيار دراماتيكي لليرة، وصعود الدولار الى مستويات خيالية، ولو انّ الدولار سيستمر في الارتفاع التدريجي، لكن هذا المسار التصاعدي كان متوقعاً قبل الأزمة الحكومية.

بل اكثر من ذلك، وعلى رغم التأثير النفسي السلبي على سعر الصرف، بسبب الأزمة الحكومية، الا ان الشلل الحكومي قد يساهم في إبطاء انهيار الليرة، خصوصا ان البلد اقترب من توازن مالي سلبي تؤمّنه المعطيات التالية:

اولاً – التراجع الذي شهده الاستيراد من 22 مليار دولار في العام الحالي الى حوالى 11 مليارا (50 %) قد يشهد تراجعا اضافيا سريعا بحيث قد يصل في غضون عام الى حوالى 7 مليارات دولار. مع الاشارة الى ان فاتورة المحروقات، واذا استثنينا التهريب، وبعد رفع الدعم كلياً، قد تتراجع بنسبة تتجاوز الـ 60 %.

ثانيا – مع استمرار تدفّق الدولارات من اللبنانيين في الخارج، بمعدل 6 أو 7 مليارات دولار سنويا، وهذا الرقم لن يتراجع بفضل ارتفاع اسعار النفط والغاز، وانتعاش اقتصادات دول الخليج العربي، سيتمكن مصرف لبنان من تأمين قسم من الدولارات التي يحتاجها لتمويل الاستيراد وتسيير شؤون الدولة بالحد الأدنى، من السوق الحرة.

ثالثا – إنّ تحرير اسعار المحروقات والغاز وارتفاع كلفة المعيشة سيؤديان الى فقر اضافي، لكنهما سيؤدّيان ايضا الى خروج اسرع للدولارات المخبّّأة في المنازل، والى إٍنفاق اضافي من الدولارات التي يتلقاها المواطن من لبنانيي الخارج. وهذا يعني توفير دولارات اضافية في السوق الحرة.

رابعا – إنّ البدء بتنفيذ التعميم 158 قد يساهم بدوره في ضخ بعض الدولارات في السوق، خصوصا ان انخفاض سعر الليرة سيؤدي الى تقليص قيمة الاموال التي سيحصل عليها المودع بالليرة، ما قد يضطره الى استخدام قسم من الدولارات للانفاق. والجدير بالذكر ان وتيرة سحب الدولارات وفق التعميم 158 تبلغ حوالى 50 مليون دولار شهرياً.

خامسا – الشلل الحكومي قد يؤدي الى تجميد اجراءات رفع الاجور لموظفي القطاع العام والخاص. هذا الامر سيخفّف من الاضطرار الى تكبير الكتلة النقدية بالليرة، الأمر الذي يخفّف بدوره الضغط في سوق الصرف.

خلاصة الأمر، انّ المشهد اسود، وما ينتظر الناس في قادم الايام صعب وقاسٍ، ولكن ذلك لا يعني ان الدولار اصبح بلا سقف، وان سوق الصرف ستشهد ارقاما قياسية تعكس التضخّم المفرط. إنّ الدولار سيستمر بالارتفاع وفق وتيرته العادية التي سلكها منذ سنتين حتى اليوم، وبالتالي، لا داعي للهلع جراء الأزمة الحكومية، لأن الصعوبات قائمة بحكومة ومن دون حكومة، ولن يتغير الوضع قبل تغيّر المشهد السياسي، ولو جزئياً، على أمل ان تكون بداية التغيير المتواضع، من خلال الانتخابات النيابية، إذا لم يتم نسفها.

انطوان فرح

أي «إقتصاد سلام» في «منطقة غليان»؟ خيارات لبنان قبل المفاوضات مع صندوق النقد

صحيح أنّ لزعزعة الاستقرار أثراً مباشراً على ما يُعرف بعلم الاقتصاد بـ«عامل المخاطرة» الذي له ثقله في التصنيف السيادي للبلدان، وفي معدّلات الفائدة الرئيسية لديها، وفي المناخ الاستثماري وثقة العملاء الاقتصاديين.. إلّا أنّ ثمة بلداناً يتعايش إقتصادها حتى مع الحروب ويشهد نمواً، أو أقلّه يتفادى الانهيارات الكبرى… أما أبرز اشكاليات الاقتصاد اللبناني بالذات، فتكمن في تخلّيه عن التوازن في نمو قطاعاته ومصادر مداخيله، كما كانت الحال قبل حرب 1975- 1990، وحصر خياراته بما يُعرف بـ»إقتصاد السلام» (سياحة، خدمات…)، في حين يعيش في أفضل الحالات «هدنة متقطعة»، وسط «منطقة غليان» مستمر…

اليوم، وقبل البدء بالمفاوضات الرسمية مع صندوق النقد الدولي، أي خيارات اتخذها لبنان وأوصلته الى انفجار الأزمة؟ أي دروس اتخذها منها؟ وكيف أصبحت اليوم عناوين الإصلاح المطلوب في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي؟

بداية، من المفيد معرفة أنّ لبنان منذ استقلاله عام 1943 عرف نموذجاً اقتصادياً رائداً، ولم تعرف المالية العامة عجزاً مالياً ولا حاجة الى الاستدانة، حتى بعد السنوات الأولى من بدء حرب 1975-1990، وكان قبلها إنتاج الكهرباء يكفي حاجات لبنان ويسمح بتصدير الفائض إلى سوريا.

وبفضل الخيارات الاقتصادية الرؤيوية للبنان في الستينيات، يملك اليوم لبنان، وفق بيانات «مجلس الذهب العالمي»، احتياطياً من الذهب يبلغ نحو 287 طناً، أي نحو 10 ملايين أونصة، ما يضع البلاد ضمن قائمة أكبر 20 بلداً في العالم، تحوز على احتياطيات الذهب.

ويعود الفضل في تكوين هذا الاحتياطي إلى رئيس الجمهورية الراحل الياس سركيس، الذي بادر الى شراء 5 ملايين أونصة حين كان حاكماً لمصرف لبنان في الستينيات. لاحقاً عمدت الحكومات المتعاقبة إلى شراء المزيد لزيادة احتياطي الذهب لدى مصرف لبنان المركزي، ليتوقف هذا المسار في أوائل السبعينيات مع قرار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون فك ارتباط الذهب بالدولار، نتيجة ضغط الدول المتزايد على شرائه.

علماً أنّ الليرة اللبنانية اعتُمدت عام 1948 بعد الانفصال النقدي بين سوريا ولبنان. وقتها كان القانون اللبناني يفرض تغطية 50% من النقد المُصدَر عن بنك الإصدار: «بنك سوريا ولبنان»، بالذهب والعملات الأجنبية. كما فرض «قانون النقد والتسليف» الذي صدر عام 1963 نسباً للتغطية. إلّا أنّ هذه النصوص لم تعد مطبّقة، إذ إنّ الليرة اللبنانية باتت عائمة كلّياً ككل العملات في النظم الاقتصادية الحرّة…

أرخت حرب 1975-1990 بظلالها على الاقتصاد اللبناني، وشهدنا تضخماً صاروخياً بلغ 487% عام 1987، وارتفع سعر الدولار من 2,25 ليرة قبل حرب 1975 الى 2500 ليرة عام 1992. وتوجّه القطاع الخاص اختيارياً نحو الدولرة، وبدأت الاستدانة في منتصف الثمانينات قبل تضاعفها مع إعادة الإعمار بدءاً من عام 1992، بالتزامن مع اعتماد سياسة ربط سعر صرف الليرة إزاء الدولار وتثبيته على 1507,5 منذ 1997…

وبقي لبنان متمسكاً بسياسة ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي بنحو صارم، على أساس 1507.5 ليرة للدولار الواحد، أياً يكن وضع ميزان المدفوعات… فبقي الوضع مضبوطاً، طالما كان ميزان المدفوعات يسجّل فائضاً حتى العام 2010، إلى أن انقلب الوضع منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، وافتقاد الاستقرار السياسي والحكومي في لبنان، وتراجع في الاستثمارات العقارية والتوظيفات المالية الخارجية والإنفاق السياحي، لا سيما من بلدان الخليج، فسجّل ميزان المدفوعات عجزاً في نهاية 2019 بقيمة 4351 مليون دولار، ليصبح العجز التراكمي منذ 2011 إلى اليوم ما قيمته 14515.9 مليون دولار (باستثناء عام 2016، الذي لم يسجّل عجزاً بسبب هندسات مصرف لبنان المالية التي استقطبت من خلالها المصارف اللبنانية المشاركة، رساميل من الخارج بالعملات الأجنبية لشراء اليوروبوند…)… الى أن انفجرت الأزمة مغرقة المالية العامة ومصرف لبنان والمصارف اللبنانية معها.. فظهرت السوق الموازية وأسعار الدعم متعددة في معدلات الصرف، وبات اليوم توحيدها وإعادة هيكلة الجهاز المصرفي أيضاً أولوية تجاه صندوق النقد الدولي…

أما الدور الاقتصادي للبنان فتغيّر، والقطاعات الإنتاجية الصناعية، كما الزراعية، تدهورت ولم تعد تساهم إلّا في شكل طفيف في الناتج المحلي، وتمّ تشريع أبواب الاستيراد مع اتفاقات تحرير التجارة والمنافسة غير المتكافئة وتعريض أسواقنا للإغراق، وبقي التعويل محصوراً بالمغتربين ونفقات السياح والاقتصاد الريعي والاستثمار العقاري على أهميته، فلم يتمّ السعي حتى الى تأمين الحدّ الأدنى من «الأمن الغذائي» وكان الرهان على «اقتصاد سلام» في منطقة تعيش غلياناً..

وفيما استمر إهمال الاستثمارات المنتجة الثابتة والابتكار التكنولوجي ومحاكاة لغة العصر وحاجات توفير فرص العمل للشباب، وقع لبنان في تجاذبات سياسية ونزاعات داخلية وخارجية، أدّت بعد أحداث أيار 2007 إلى اتفاق الدوحة الذي تبعه بعض الاستقرار، وارتفع النمو ليتخطّى 8% عام 2010، ما لبث أن انخفض الى أقل من 1% منذ العام 2011، وبات البحث عن إعادة التوازن بين القطاعات واستعادة الثقة والمناخ الاستثماري للنمو المستدام، أولوية خيارات لبنان الاقتصادية، للتفاوض على أساسها مع صندوق النقد الدولي…

ومع سلسلة المؤتمرات الدولية الداعمة للبنان، تزايدت دولرة الدين العام حتى بلغت ثلث الدين العام، إذ أنّ الفائدة على سند الدين بالعملة الأجنبية أقل من الفائدة على السند بالليرة، كما أنّه يسهّل تسويق اليوروبوند عالمياً، لكن بقيت الحصة الكبرى منه لدى المصرف المركزي والمصارف التجارية.

وما خفتت مفاعيل المؤتمرات الداعمة وتوقّفت البلدان المشاركة عن المساهمة، في غياب التزام لبنان بالورقة الإصلاحية التي كان أعلن فيها عن مشاريع خصخصة وتسنيد ومشاركة القطاع الخاص، لا سيما في الخدمات الأساسية مثل الاتصالات والكهرباء، التي تسببت وحدها بثلث الدين العام، وسُحبت لها تسهيلات خزينة بالدولار الأميركي لسدّ عجزها السنوي الذي قارب الملياري دولار أميركي سنوياً، فتخطّى مجموعه وفوائده الـ43 مليار دولار دون إمكانية إعادة الدولارات ولا تأمين التيار الكهربائي بنحو مستدام…واليوم يتغطّى مجدداً هذا الملف ضمن أولويات الاصلاحات المطلوبة في التفاوض مع صندوق النقد الدولي…

وبعدما انخفض الدين العام الى الناتج المحلي الى أقل من 130% عام 2010 عاود الارتفاع تباعاً منذ العام 2011 ليتخطّى 180% قبل انفجار الأزمة عام 2019، وتراجع التصنيف السيادي للبنان لدى الوكالات الدولية «فيتش»، «موديز» و «ستاندرد بورز»، الى أن أعلن لبنان التوقّف عن سداد ديونه في آذار 2020 من دون أي مفاوضات مع الدائنين حاملي السندات، لا سيما بالدولار الأميركي على الدولة اللبنانية.. وهذا الملف هو في رأس الأولويات اليوم لإعادة هيكلة الدين العام في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي…

وقد أظهرت تقارير البنك الدولي الانعكاسات المباشرة وغير المباشرة للأزمة في سوريا على اقتصاد لبنان، وصولاً إلى الجمود الكلّي للمؤسسات السياسية اللبنانية في ظلّ الفراغ الرئاسي بين أيّار 2014 وتشرين الأول 2016، وغياب إقرار الموازنات من عام 2005 حتى عام 2017، مع إعادة انطلاق العمل المؤسساتي بعد التسوية الرئاسية عام 2016، وإذا بلبنان يشهد الاهتزاز الحكومي الكبير في تشرين الثاني 2017 ليعيد الى الواجهة مجدداً شدّ الحبال على المشهد السياسي.

وطغت مجدداً التحضيرات لانتخابات نيابية عام 2018 على كلّ المواضيع، وإذ بعد إقرار قانون وقف التوظيف في القطاع العام قبل الانتخابات، يسقط أمام توظيف أكثر من 5300 موظف جديد في الفترة عينها وفق تقرير التفتيش المركزي، كما تمّ إقرار سلسلة الرتب والرواتب من دون أي إصلاح وترشيد التوظيف وإعادة النظر في القطاع العام، الذي بات يستحوذ على أكثر من ثلث الموازنة (في حين لا يتخطّى حجمه في بلدان العالم أكثر من 10 الى 15% كحدّ أقصى من الموازنة).. على أمل انطلاق العمل التنموي بعدها… فيما اليوم تعود إعادة النظر في حجم القطاع العام الى الواجهة، في أولويات الاصلاحات المرجوة من صندوق النقد الدولي…

ولكن تضافرت عوامل الضغط قبل وخلال وبعد تشكيل الحكومة، التي ما أن تسلّمت مهماتها مطلع عام 2019، تأخّر مؤتمر «سيدر» لدعم لبنان، وتفاعلت الضغوط وتظهّرت تراكمات الاختلالات الاقتصادية وانفجرت أزمة تطايرت شظاياها، وأصبحت لملمتها مرهونة بحسن تشخيصها والفصل بين أسسها ومختلف أنواع اشتراكاتها…

أما اليوم، وبعد القراءة المتأنية لتسلسل الأحداث، يتبيّن مدى ارتباط وحساسية المؤشرات الاقتصادية إزاء الاستقرار السياسي من جهة والتكاليف الباهظة للثبات في بعض الخيارات الاقتصادية، دون التنبّه الى المتغيّرات حولها من جهة أخرى… فالخيارات الاقتصادية التي تبدو مثالية في لحظة زمنية ما، قد تصبح غير فعاّلة،لا بل مكلفة ومرهقة للاقتصاد في فترات أخرى. من هنا أهمية المرونة والديناميكية في التعامل مع المتغيّرات، وتحديد أي لينان نريد لأي دور إقتصادي، وفق أي خيارات مالية ونقدية وقطاعية ككل، حتى نحسن تقديم وتبنّي أوراق إصلاحية للتعامل مع صندوق النقد الدولي، يكون لبنان متمكناً من تنفيذها وفق رؤيا اقتصادية وليس مجرد «ضربات تكتيكية»..

د. سهام نصرالله

شهر صعب..

احتفلت الحكومة الميقاتية ببلوغها الشهر. وهذه فترة ليست كافية للحكم على الأداء والنتائج المتوقعة. لكن، ويوماً بعد يوم، تبرز مؤشرات وحقائق تؤكّد انّ مهمّة الحكومة الإنقاذية، هي من أصعب المهمّات التي واجهها البلد في العقود الثلاثة الأخيرة، ليس بسبب طبيعتها المعقّدة فحسب، بل بسبب التوقيت غير المناسب.

منذ انطلاقتها، أعلنت الحكومة على لسان رئيسها، انّ اولويتها ستكون معالجة القضايا المعيشية الساخنة التي يعاني منها الناس. وكان شعارها، «مبارح قبل اليوم»، في إشارة الى صفة الاستعجال القصوى التي ستتحرّك بها للتصدّي للأزمات التي تحاصر المواطن. لكن، الأيام الثلاثين الاولى مضت، ولا تبدو صفة الاستعجال هي السمة التي تتحرّك بموجبها الحكومة الميقاتية، استناداً الى الامور التالية:

اولاً- ملف رفع الدعم عن البنزين الذي كان يُفترض ان يُستكمل في نهاية ايلول، لا يزال عالقاً على سعر منصّة «صيرفة». ومع ارتفاع اسعار النفط عالمياً، وارتفاع سعر صرف الدولار في السوق المحلية الى عتبة الـ20 الف ليرة، اصبحت الخطوة الأخيرة المنتظرة صعبة، لأنّ البنزين سيرتفع بنسبة كبيرة، وسيصبح سعر الصفيحة اكثرمن 300 الف ليرة.

ثانياً- البطاقة التمويلية التي كان يُفترض ان تكون أقلعت منذ فترة، لا تزال عالقة، ولو انّها نظرياً تحرّكت في اتجاه التنفيذ. والمشكلة هنا، إلى جانب كل الملاحظات التقنية، انّ الحكومة لا تريد ان تتصرّف بوضوح في إنفاق الاموال التي تأمّنت من حقوق السحب الخاصة (SDRs) من صندوق النقد الدولي. (1,139 مليون دولار).

ثالثاً- المعالجات المؤقتة التي تهدف الى تخفيف معاناة المواطن، متعثرة، ذلك انّ النظرة التي قد يحكم بها الناس على الامور، هي انّ فاتورة المولّد كانت 200 الف ليرة في الشهر، اصبحت اليوم حوالى 800 الف ليرة، مع تقنين إضافي في التغذية. ثمن صفيحة البنزين كان 70 الف ليرة، اصبح اليوم حوالى 241 الف ليرة، بوليصة التأمين كانت باللولار، اصبحت بالدولار، بما يعني عجز الغالبية المضمونة عن الاستمرار، تحت مظلة الضمان الخاص. المستشفيات لم تعد تقبل سوى قسم من الفاتورة بالدولار، بما يعني انّ المؤمّن في الضمان الاجتماعي لم يعد مؤمّناً فعلياً. سعر الدجاج والبيض الذي كان لا يزال يشكّل البديل للحمة الحمراء بالنسبة الى المواطن بسبب الفارق في الاسعار، ارتفع بسرعة قياسية وتضاعف سعره وصار شبيهاً بسعر اللحمة الحمراء. سعر سحب الدولار العالق في المصارف والذي كان يُفترض ان يرتفع قليلاً لمساعدة الناس في تحسين قدراتهم الشرائية، بقي كما هو، وتمّ التمديد للتعميم 151 حتى آخر السنة، وأخيراً سعر الصرف الذي حيكت حوله الأساطير وتنافس الكثيرون في تقدير السعر الذي سيستقر عليه الدولار بعد الانخفاض، عاد الى طبيعته، وارتفع أكثر مما كان سعره قبل تشكيل الحكومة. ولا تزال هناك تطورات من هذا النوع، سيشهدها اللبناني في الايام القليلة المقبلة.

كل هذه المصائب قد لا تكون الحكومة مسؤولة عنها، لكنها حقائق حصلت في خلال الايام الثلاثين الاولى من عمر الحكومة، وكل ما يهمّ المواطن هي النتائج.

في موازاة هذه الملفات المعيشية التي انفجرت في خلال شهر، لا تبدو مهمة الحكومة اسهل في عملية الإنقاذ الشامل، من خلال التوصّل الى خطة يرعاها ويموّلها صندوق النقد الدولي. العائق الأساس في هذا الموضوع، يرتبط بالتوقيت. اذ كيف يستطيع رئيس الحكومة التوفيق بين متطلبات صندوق النقد، ومصلحته السياسية في صندوق الاقتراع؟ اذ يبدو الرجل عالقاً بين صندوقين، في لعبة تضارب مصالح (conflict of interest) يصعب الخروج منها بلا خدوش وأضرار قد تكون جسيمة. وهذا الامر ينطبق على تيار رئيس الجمهورية، الشريك الاساسي في الحكومة. وكذلك، على بقية القوى السياسية المشاركة في الحكومة، ولو بنسب أقل. انّها حكومة القوى السياسية التي تعتبر انّ الانتخابات المقبلة ستحدّد مصيرها ومستقبلها، فكيف ستجازف بمستقبلها، لتلبية متطلبات الإنقاذ، والتي تبدأ عادة بإجراءات تمهيدية يطلبها صندوق النقد، منها على سبيل المثال:

اولاً- توحيد سعر الصرف، بما يعني اختفاء دولار الـ1507 ليرات. هذا الاختفاء يؤدّي الى رفع فاتورة الخدمات، وفي مقدّمها الاتصالات والانترنت الى مستويات قياسية. ورفع الدولار الجمركي، بحيث سترتفع اسعار السلع بنسب ضخمة.

ثانياً- وقف الضغط على المالية العامة، وبالتالي عدم القيام بأي خطوة قد تزيد العجز، ومنها على سبيل المثال رفع الاجور…

ثالثاً- رفع كل انواع الدعم، وفي مقدّمها الكهرباء بما سيرفع الفاتورة بنسب كبيرة ايضاً.

هذه نماذج من متطلبات تسبق الاتفاق على أي خطة إنقاذية، فهل يمكن ان نصدّق انّ المرشحين الى الانتخابات النيابية، وعلى رأسهم ميقاتي، يستطيعون اتخاذ هذه الإجراءات قبيل التوجّه الى صناديق الاقتراع؟

الشهر الاول من عمر الحكومة كان صعباً، والشهر الثاني قد يكون أصعب. انّها مشكلة توقيت خاطئ، والتوقيت أهم عنصر للنجاح او الفشل في أي مشروع.

اليوم بدأت الأزمة… ومقبلون على كارثة

رغم كل التغييرات التي طرأت على حياة اللبناني في السنتين الماضيتين، والتي دفعته الى تبديل نمط عيشه والحد من استهلاكه قدر المستطاع، لا يمكن القول ان صورة المجتمع اللبناني الجديد اتخذت شكلها النهائي بعد، إذ على رغم رفع الدعم عن غالبية السلع والخدمات لا يزال البعض منها متوفراً والبعض الآخر مدعوماً، الا انّ الاكيد هو انّ صورة المجتمع والوطن تميل لتشبه أكثر البلدان الفقيرة ومحدودة الاستهلاك.

شَكّل رفع الدعم عن المحروقات وما تَبعه من ارتفاع كلفة النقل منعطفاً مفصلياً في حياة اللبناني، ولا شك انّ الدعم الذي ساد خلال العام 2020 ومنتصف 2021 ساعدَ اللبناني المصدوم من التغييرات المتسارعة في نمط حياته، لاستيعاب تدريجي للأزمة المتجهة اليها البلاد، والاكيد انّ هذا التدهور المخيف والصورة القاتمة للوضع في لبنان دفع بالآلاف الى الهجرة تجنّباً للأسوأ، إذ تشير احصاءات الدولية للمعلومات الى أنّه «منذ بداية عام 2021 وحتى شهر أيار منه، غادر لبنان 100 ألف و201 شخص، وخلال الأشهر الأخيرة، أي حزيران وتموز وآب وأيلول، غادر 47 ألف شخص لبنان»، مع توقّع ارتفاع أعداد الأشخاص المغادرين خلال الأشهر المتبقية من هذا العام».

ومع ارتفاع اسعار المحروقات، مِن رفع الدعم كلياً عن المازوت، تلاه الغاز المنزلي الذي رفع سعر القارورة الى 260 الفاً، الى صفيحة البنزين التي قاربت الـ250 الفاً وتتجه الى مزيد من الارتفاع، تقيّدت حركة المواطن الذي بات يخرج من منزله للضرورات القصوى فقط ويستهلك حاجته وأقلّ. هذا التدهور المَعيشي قابَله عودة الى الطهي على الحطب، وإقبال على استخدام الالواح الشمسية لتأمين الكهرباء والاستغناء عن كهرباء الدولة واصحاب المولدات والمازوت على السواء، وإقبال على شراء السيارات الصديقة للبيئة او السيارات الصغيرة بمصروف بنزين اقل والتخلي عن السيارات الكبيرة… كل هذه الأكلاف باتت تُثقل كاهل المواطن، فبعدما كانت فاتورة المحروقات لا تتعدى الـ20% من حاجة المواطن الشهرية على ان يستعمل الـ 80% الباقية للاستهلاك، إنعكس الوضع اليوم بحيث باتت فواتير المحروقات والمولّد تشكل نحو 80% من إنفاق الأسَر ليبقى 20% فقط للاستهلاك، خصوصاً المواد الغذائية.

أمّا مَن كان مدخوله بالدولار وكان لا يزال يصرف على اعتبار ان لبنان بلد «كل شيء فيه رخيص» ولديه فائض من الاموال اذا ما احتسبت الاسعار وفق دولار السوق، فقد تأثر مصروفه ايضاً بعدما رُفِع الدعم عن العدد الاكبر من السلع والخدمات، والتي تأثّرت أسعارها خصوصا برفع الدعم عن المحروقات، بحيث يمكن القول انّ السوق بدأت تشهد تصحيحاً في الاسعار ليعود التسعير شبيهاً بالذي كان سائداً في العام 2019 اذا ما احتسبت الأسعار وفق دولار السوق الموازي.

كل هذا التدهور في القدرة الشرائية يحصل، رغم انّ بعض السلع لا تزال مدعومة، مثل الطحين وبعض الادوية والمستلزمات الطبية وجزء من سعر البنزين يُضاف اليها الدولار الجمركي، والاتصالات خدمات الدولة والكهرباء. ولا يزال الاستيراد مُتاحاً للتجار، ولو بكميات أقل، فكيف سيصبح الحال بعد رفع الدعم عن كل شيء وهو احد شروط صندوق النقد الدولي؟ لا شك انّ الانتقال الى تلك المرحلة وحده سيكمل صورة المشهد اللبناني الجديد.

الآن بدأت الأزمة

في هذا الاطار، يقول الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين لـ«الجمهورية»: ان توزيع إنفاق المواطن يختلف من فرد الى آخر، الّا انّ المحروقات باتت تستحوذ على ما بين 55 الى 60% من دخل الأسَر تُضاف اليها فاتورة المولد المرتفعة. وعليه، ما عاد هناك اي قدرة للانفاق عند اللبناني بحيث بات راتبه يوزَّع ما بين بنزين وغاز وتلفون ومازوت ومولد ولا يكفيه ما يضطره الى الاستدانه. واعطى على سبيل المثال مواطن من طرابلس يعمل في بيروت ويقصدها يومياً يحتاج الى مليون و600 الف ليرة شهرياً بدل مواصلات، وإذا كان راتبه مليونين ليرة فهذا يعني انّ 80% مِن دَخلِه يذهب لتسديد فاتورة النقل.

واعتبر شمس الدين ان الضائقة بدأت منذ سنتين، الا ان المواطن كان يصرف من مدّخراته ليعيش، وكُثُر أقدموا على بيع الذهب مع العلم انّ ارتفاع الاسعار كان لا يزال مقبولاً في تلك المرحلة، انما اليوم تبدلت الاحوال حتى يمكن القول ان الأزمة الفعلية بدأت اعتباراً من شهر حزيران مع انتهاء مدّخرات اللبنانيين من جهة، وبدء رفع الدعم عن المحروقات من جهة اخرى ما أدّى الى ارتفاع اضافي في اسعار السلع متأثرة بارتفاع كلفة النقل. والسلة الغذائية التي كانت تكلّف 450 الفاً ارتفعت الى 3 ملايين ونصف المليون ليرة. وبالتالي، بات المستهلك مُجبراً على تحديد اولوياته لدى الشراء. الآن بدأت الأزمة.

ورداً على سؤال، قال شمس الدين: ما من شيء مدعوم سوى الكهرباء والاتصالات والخدمات التي تقدمها الدولة ومتى رفع الدعم عنها ستزيد المشكلة تعقيداً، لافتاً الى ان عاملاً وحيداً لا يزال يهدئ الامور وهو التحويلات المالية التي تصل الى اللبنانيين من ذويهم المغتربين، فاستلامهم 200 دولار شهرياً الى جانب مدخولهم بالليرة اللبنانية يكفيهم للصمود.

تابع: حتى الذين يقبضون رواتبهم بالدولار او يستلمون مساعدات من الخارج تأثروا بالأزمة، إنما أقل من الذين يقبضون رواتبهم بالليرة اللبنانية.

ويرى شمس الدين اننا مقبلون على كارثة اذا لم يتم لجم ارتفاع الدولار مقابل الليرة، فالتسعيرة الاخيرة لصفيحة البنزين أتت وفق دولار 16 الفاً، لكن متى سُعّرت وفق دولار 20 الفاً فنحن نتحدث عن سعر صفيحة قد يتخطى الـ 300 الف ليرة، ناهيك عن ارتفاع سعر برميل النفط عالمياً. وعزا حركة السيارات الناشطة في الطرقات رغم ارتفاع اسعار المحروقات الى لجوء آلاف المواطنين في المرحلة السابقة وقبَيل الحديث عن رفع الدعم الى تخزين البنزين في منازلهم عندما كان لا يزال سعر الصفيحة بـ77 الفاً، وهؤلاء لا يزالون حتى الان يصرفون من مخزونهم ولم يشتروا بعد وفق التسعيرة الجديدة. وتوقّع ان تتقلص حركة السير على الطرقات بعد أسبوعين، مع مُشارَفة هذا المخزون على الانتهاء.

ايفا ابي حيدر

نظرة على دراسة جمعية المصارف للإنقاذ

 

بداية لا بد من المصارحة بأن #القطاع المصرفي اللبناني صُوِّر كأنه عنوان النجاح في حقل ذي اهمية دولية، والواقع هو غير ذلك.

أفضل رقم لموجودات #المصارف اللبنانية كان حوالي 180 مليار دولار – ومعظم الودائع هي بالدولار وبعملات اجنبية اخرى – فالمصارف اللبنانية حققت انتشارًا دوليًا في سويسرا، وفرنسا، وبريطانيا والخليج العربي، والعراق، والوجود في الخارج كان يمثل 40% من الموجودات ويساهم بـ45% من الارباح.

في المقابل، بدأت البنوك الاجنبية التي كان لها فروع في لبنان تتخلى عن نشاطها منذ الثمانينات والتسعينات، فشاهدنا انسحاب الهولنديين، والايطاليين، والبريطانيين، والكنديين والاميركيين من لبنان، ولم يتبقَّ سوى البنوك العربية الخاصة والمملوكة من الدول المعنية، واهم البنوك الخاصة البنك العربي، والبنوك المملوكة من دول كبنك قطر الوطني وسابقًا بنك الرافدين العراقي، وبنك ابو ظبي، والشركة العامة المصرفية – البنك الفرنسي الذي استمر في تملّك 51% من الشركة العامة حتى أواخر عقد التسعينات حينما انخفضت نسبة المساهمة الاجنبية إلى 19% وارتفعت حصة اللبنانيين.

إن الواقع المتنوع للبنوك في لبنان وللبنوك اللبنانية في الخارج اعطى صورة عن كفاءة اللبنانيين في هذه المهنة تفوق الواقع الذي ظهر مع مصاعب السنوات الثلاث المنصرمة والتي شهدت تقليصًا لميزانيات البنوك في لبنان، والبنوك اللبنانية في الخارج، والواقع ان مجمل الودائع لدى البنوك اللبنانية حاليًا لا يتجاوز الـ 95 مليار دولار، وهذا رقم يوازي 24% من ميزانية بنك قطر الوطني.

المصرفيون اللبنانيون اعتمدوا وسائل عمل ترتكز على حرمان المودعين ودائعهم، وخسارة نسبة كبيرة من الودائع، تجعل من غير الممكن توقع حصول المواطنين على اموالهم، ولا بد من التأكيد ان اي قيامة للاقتصاد اللبناني لن تتحقق ما لم تقر خطة لحفظ نسبة مقبولة من الودائع، واستعادة نشاط عمل المصارف في تمويل نشاطات الشركات والافراد والمؤسسات الصحية، والتعليمية، وشركات النقل البحري والجوي، وتبدو هذه الامكانية في الوقت الحاضر بعيدة عن التحقيق، والدراسة التي انجزتها جمعية المصارف لا تقدم حلولاً عملية وواقعية لتنشيط الاقتصاد والمحافظة على أموال المودعين التي كانت توازي 160 مليار دولار قبل ثلاث سنوات وأصبحت اليوم على مستوى 95 مليارًا، ولو طُبقت القوانين الصارمة حول استحقاقات الودائع لكانت بنوك عديدة أعلنت افلاسها.

الدراسة الطويلة ما فوق الـ 80 صفحة تخصص بضع صفحات لتلخيص مؤشرات الانكماش والتضخم خلال السنوات المنقضية منذ نهاية عام 2019، والارقام المدرجة تستند إلى دراسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك التسويات الدولية، الذي هو بنك البنوك المركزية ومركزه بالطبع سويسرا.

بقية الدراسة – التقرير سردٌ مختصر يتناول الاصلاحات المطلوبة في مختلف الحقول، سواء ضبط الميزانيات وتشجيع الزراعة، والسياحة، واصلاح الكهرباء والمياه، والطرقات، والنظام القضائي الخ. بكلام آخر، معظم التقرير – ما عدا 3 صفحات تُخصص لقضايا المصارف بخفة غير معقولة – هو جردة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها لبنان، ومع ذلك ليس هنالك من توجهات قابلة للتحقيق في المدى القريب، والامر المستغرب ان التوصيات بالنسبة إلى عمل المصارف واستعادتها لنشاطاتها التقليدية ليست متوافرة سوى بسرد عموميات على الصفحات 70-73.

على صعيد الخطوات الإصلاحية لا جديد في التقرير، وبعض توصياته توجد حولها دراسات موسعة لخبراء لبنانيين وشركات مشورة اجنبية جرى التعاقد معها، ومع ان وعود دعم حاجات لبنان المالية والتجهيزية كبيرة، يكتفي التقرير بالإشارة إلى ضرورة البدء بمحادثات جدية مع صندوق النقد خلال 100 يوم، ولا يذكر ان هذه المحادثات لا يمكن ان تبدأ بشكل جدي ومنتظم الا بعد تسوية نتائج تمنع لبنان من تسديد اقساط دَين اليوروبوند. ومن اسوأ توصيات التقرير ان تنشأ شركة تتملك منشآت الدولة، وتدار من قِبل موظفي الدولة، ومن بعد تخصص ارباحها لتعويض اصحاب الودائع المتبخرة أو المفقودة.

ينسى التقرير أو يتناسى ضرورة تجميد أموال واملاك رؤساء مجالس ادارة البنوك الكبيرة التي اصبحت عاجزة عن دفع مدخرات أصحاب الودائع، ويفترض ضمنًا ان الذنب هو على المودعين ويتغافل عن الممارسات السيئة لمديري وأعضاء مجالس ادارة بنوك كبرى هي في الواقع وجه الوصفة.

مروان اسكندر

استقلاليَّة المركزي الحلّ وليس مجلس النَّقد

في كلِّ مرَّةٍ يتقدَّم فيها الشأن الاقتصادي والنَّقدي خطوةً نحو حلٍّ مفقودٍ بات موعوداً، تَعود الأصوات المطالِبة بإنشاء “مجلس نقد” Currency Board فتحاول أن تعلو فوق صوت الكارثة. بالنِّسبة لأكثرية مؤيِّديه، يتعدَّى مجلس النَّقد كونَه تجربةٌ قابلة للنقاش العلمي. فهو غالبًا ما يَرتَقي بنظرهم إلى مرتبة العقائد التي يُهاجَمُ معارضوها عبر التشكيك بمهنيَّتهم حتَّى الانحِدارِ بهم إلى مَصَافِ الجَهَلَة.

لا شكَّ في أنَّ لمجلس النَّقد نجاحات موثَّقة في العديد من البلدان التي اعتُمِدَ فيها. إلا أنَّ هذه النجاحات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باقتصادات هذه البلدان وحيثياتها الجيوسياسيَّة وهي لا تتطابق مع واقع لبنان واقتصاده وخصوصيَّتِهِ. في مقاربته لموضوع مجلس النَّقد، يُحَدِّد صندوق النَّقد الدَولي شروطاً ثلاثاً لضمان فاعلية عمله. يُشَدِّد الشَرط الأوّل على ضرورة تأمين احتياطات كافية في حين يَنُصُّ الشرط الثاني على إقرار وتطبيق سياسات ماليَّة تقييديَّة Restrictive Fiscal Policies تحظى بدعمٍ سياسيٍّ واسع. أمَّا الشرط الثالث فيركِّز على أهميَّة وجود نظامٍ ماليٍّ سليم. إنطلاقاً من هذه الشروط الثلاثة نسأل: من أين للبنان الاحتياطات الكافية وهو لم يبقَ لديه إلا بضعة مليارات من الاحتياطي الإلزامي؟ أيُّ قيمة “لانهائية”Infinite Value ستُعتَمَد لسعر الصَّرف إذا ما وُضِعَت حُفنة المليارات هذه أمام الكتلة النقديَّة الهائلة والمتزايدة من العملة المحليَّة التي تُطَبع تباعًا؟ من سيطبِّق سياسات ماليَّة تقييديَّة تُخَفِّض الإنفاق الحكومي أو ترفع الضرائب؟ أوليس من الأجدى الحدُّ من التَهَرُّب الضريبي وضبط الحدود ووقف الهدر قبل ذلك؟ عن سلامة أيِّ نظام ماليٍّ ومصرفيٍّ نسأل في زمن التعثُّر والهَيمَنَة وغياب الاستقرار السياسي؟ إن كان لبنان لا يستوفي أيًّا من الشروط التي حدَّدها صُندوق النَّقد وهو آخر الفرص باعتراف الاغلبيَّة، فكيف يُشَكِّل مجلس النقد حلاً يقبله الصُندوق نفسه؟ هل يَحتَمِل لبنان المزيد من التناقضات والجدل؟

مِن المُمكن أن يَكونَ مجلِس النَّقد قَد نَجَحَ في تأمين استقرار سعر الصَّرف في بلدانٍ شَهِدَت تحوُّلات اقتصاديَّة بنيويَّة. في بلدان اخرى، قام مجلس النَّقد على أنقاض المصارف المركزيةّ فلم يشكل بديلاً، بل أصيلاً في غياب الأصيل. أما في لبنان، فلن يكون مجلس النَّقد إلا صيغةٌ مُفَخَّخَة تهدف أو تساهم في إلغاء دور المصرف المركزي الناظم للسياسات النقديَّة والدَّاعم للسِّياسات الحكوميَّة وللمصارف المتعثِّرة. ليس عدم استقرار سعر الصرف أحد اسباب أزمة لبنان بل إحدى نتائجها، فكَيف يكون مَجلِس النَّقد حلاً إن كان يعالج النتائج ويَغفَل عن الاسباب؟ إنَّ قيمة النَّقد مرتبطة بالإنتاج واستقرارها مَنوطٌ بالنموّ. في سياق أخر مُتَّصل نسأل عن الَتبِعات الاجتماعيّة والهيكليَّة لِكَفِّ يَد المصرف المركزي كما عن هويَّة وانتماء من سيشكلون مجلساً للنقد في بلد يُهَدَّدُ فيه قاضٍ في قصر العدل ويَعيثُ فيه الفسادُ في الأرض فُصولا. يُشكِّل التناغم، لا بل التواطؤ، بين السياسات النقديَّة والتوجُّهات السياسيَّة السبب الأساسي الذي أدَّى إلى تفاقم الأزمة اللبنانيَّة وإلى تَوَرُّط المصرف المركزي والمصارف في تمويل الفساد والعشوائية. الموضوع يبدو مرتبطاً باستقلاليَّة المصرف المركزي، التي تُمَكِّنُهُ من القيام بدوره، وليس بإلغاء السياسة النقديَّة عبر تثبيت مُحكَم لسعر الصَّرف يَفرِضُهُ مجلس النَّقد. إنَّ استقلاليَّة المصرف المركزي عن السلطة السياسيَّة ضرورة لكبح جماح الحكومات المتعاقبة نحو المصالح والاهداف الضيِّقة دون ابتعادها عن الإطار المؤسسيّ وعن السياسات الاقتصاديَّة العامَّة للدَّولة.

تَسمَحُ الاستقلاليَّة للمصرف المركزي أن يَتَّبع قاعدة نقديَّة تُمكِّنُهُ من تمويل النُموّ بعد أن يَعتَمِدَ معدَّل تضخُّم مُستهدَفTarget Inflation Rate يَلتزمُ به. تُساعِد هذه السياسة النقديَّة المُتَّبَعة على استقرار الأسعار عَبر تحويل التوقُّعات العقلانيَّةRational Anticipations إلى توقُّعات جيِّدة. يُمكن تَقويم استقلاليَّة المصرف المركزي على مستويات ثلاثة:

١- الاستقلاليَّة العُضويَّة Organic Autonomy وهي تُعنى بشروط ومدَّة تعيين الحاكم، المجلس والهيئات. تُشَكِّلُ وتيرة التناوب الوظيفي البُعد الأكثر إثارة للجدل بين هذه المعايير. يَلحَظ بعض النظريات وجود علاقة إيجابيَّة بين مدَّة بقاء الحاكم في منصبه واستقلاليَّة المصرف المركزي لناحية تحديده السياسات النقديَّة. تَعتَبر نظريات اخرى أنَّ امتداد فترة الحكم قد تَعكُسُ تواطؤاً ضارَّاً بين السياسات النقديَّة والسلطة السياسيَّة.

٢- الاستقلاليَّة الوظيفيَّة Functional Autonomy تَرتَكِزُ على استقلاليَّة الهدف (سعر الصرف أو أهداف السياسة النقديَّة)، وعلى استقلاليَّة الوسائل (استخدام أدوات السياسة النقديَّة وفقًا للأهداف المحدَّدَة). تَجدُرُ الإشارة إلى وجود علاقة عكسيّة بين الاستقلالية الوظيفية والتضخُّم بحيث ساهم انتهاك هذه الاستقلاليَّة في ما وصلنا إليه في لبنان من خسائر ماليَّة واقتصاديَّة.

٣- الاستقلاليَّة الماليَّة Financial Autonomy وهي تختًّصُّ بتحديد الوسائل الماليَّة لتحقيق الهَدَف المنشود.

تبدأ رِحلة تحقيق استقلاليَّة مصرف لبنان بإطلاق ورشة تشريعيَّة تَعمَل على الفصل بين السياستَين النقديَّة والماليَّة بهدف جعلهما وسيلتَين متكاملتَين تحقِّقان الاستقرار. تزامنًا، يقوم المجلس النيابي بمراجعة شاملة لأحكام مواد قانون النَّقد والتسليف المتعلقة بإقراض الدولة ولا سيَّما المواد ٨٨ و٨٩ و٩٠ و٩١. لا شكَّ في أنَّ العمل على ضبط ومراقبة (أو حتى إلغاء) المادة ٩١ من قانون النَّقد والتَسليف يُشكِّل مَطلباً ذا بُعدٍ وطني. فهذه المادَّة مكَّنَت الحكومات المُتعاقِبة من تَمويل الدَّعم والفساد عَبر اعتبارها جميع الظروف استثنائية الخطورة خلافاً لروحيَّة النَصّ القانوني وتفسيراته. نَلفُت إلى أنَّ استقلاليَّة المصرف المركزي لا بُدَّ من أن تُقابِلُها آليات رقابية تضمن الشفَفيَّة والمحاسبة. أشارت إحدى دراسات صندوق النَّقد الدَولي نُشرت في العام ٢٠١٩ تحت عنوان “الشففيَّة والمحاسبة والاستقلاليَّة في المصارف المركزيَّة” إلى أنَّ الاستقلاليَّة والمحاسبةُ وَجهانِ لعملةٍ واحدة. من ناحيةٍ ثانية اعتبرت الدراسة أنَّ الشفَفيَّة هي بمثابة صلة وَصل بين الاستقلاليَّة والمحاسبة الديمقراطيَّة.

لا بدّ للسياسية النَّقديّة أن تترافق مع سياسة ماليَّة تتَّبع نهج القاعدة الذهبيَّة للإنفاقGolden Rule of Government .Spending تَربط هذه القاعدة الإنفاق بالإيرادات وتَحُصُرُ الاستدانة بالاستثمار أو تُحَدِّد العَجز بنسبة محدَّدة من الناتج المحلِّي بما يشبه، على سبيل المثال لا الحصر، ميثاق الاستقرار والنموّ في البلدان الاوروبيةEuropean Stability and Growth Pact.

في النهاية لنا الحقُّ أن نسأل:

إذا كان صُندوق النَّقد الدَولي، وهو الملاذ التمويليّ والاصلاحيّ الأخير للبنان واللبنانيين، يشدِّدُ على أهمّية استقلاليَّة المصارف المركزيَّة، إذا كان الصندوق يَعتَبِر الاستقلاليَّة عاملاً مهمَّاً لاستقرار البلدان التي تسعى للفصل بين سياساتها النقديَّة والتدخُّلات السياسيَّة، إذا كان بَلَدُنا لا يستوفي أيًّا من شروط صندوق النَّقد نفسه بالنسبة لتشكيل مجلس نَقد،

فما الحريُّ بنا أن نفعل؟

أنستغني عن السِّياسة النقديَّة، وهي أحَد جناحَي السِّياسة الإقتصادية، بَدَلَ تفعيلها؟

أنتحوَّل من سعر الصرف الثابت، الذي يعتبره الجميع أحد أسباب المُشكلة، الى ما هو أثبت منه فصولاً؟

أنُنشئ مجلسَ نقدٍ أم نُدخِل استقلاليَّة المصرف المركزي في صُلبِ دستورنا؟

‎ ‎البروفسور نيكول بَلّوز بايكر والبروفسور مارون خاطر

ماذا سيكشف التدقيق الجنائي في كانون الأول؟

 

بعد 12 أسبوعاً، يصدر التقرير الأولي للتدقيق الجنائي الذي تجريه شركة (ِAlvarez&Marsal) في مصرف لبنان. فهل يمكن ان يتضمّن معلومات يُبنى عليها لتحديد السرقة في حال وجودها، ام انه مجرد مدخل الى لبّ الملف، يحتاج الى وقت طويل قبل الوصول الى حقائق ثابتة يمكن استخدامها للتبرئة أو الادانة؟

إبتسم الحظ لوزير المالية يوسف الخليل، وأتاح له فرصة افتتاح «عهده» في الوزارة بتوقيع اتفاقية التدقيق الجنائي مع شركة ِAlvarez&Marsal لبدء عملها التدقيقي في حسابات مصرف لبنان، وملاحقة خط سير الاموال في المصرف، وفي الأمكنة التي خرجت اليها تلك الاموال. وكان يُفترض ان يوقّع العقد وزير المالية السابق غازي وزني، والذي عمل منذ البداية على الاتفاقية بنسختها الاولى مع الشركة، ومن ثم أنجز النسخة الثانية بعدما انسحبت «ألفاريز» من الاتفاقية بسبب عدم توفير المعلومات الضرورية لعملها، وحَصّلت من الدولة اللبنانية مبلغ 150 الف دولار كعطل وضرر. لكنّ سوء طالع وزني حرمه التوقيع، اذ انّ موافقة ديوان المحاسبة التي كانت متوقعة قبل تأليف الحكومة الميقاتية، تأجّلت بسبب طلب الديوان ترجمة نص العقد الى العربية. وبين إنجاز الترجمة واعادة النص الى الديوان، تألفت حكومة ميقاتي، وكسبَ الخليل «شَرف» توقيع العقد الذي عمل عليه سلفه لفترة طويلة.

فهل يعتبر توقيع العقد في حد ذاته إنجازا يمهّد لكشف عمليات فساد وهدر تعرضت لها الاموال من خلال البنك المركزي، ام انّ مبلغ الـ 2 مليون و740 ألف دولار (قيمة العقد) سينضَم الى مبلغ الـ150 الف دولار، وتنتهي التحقيقات المحاسبية الجنائية الى لا شيء، أي «حَكي بحَكي»؟

من حيث المبدأ، يُفترض ان يكون فريق عمل «ألفاريز» قد بدأ العمل من مركزه في وزارة المال، بعدما رفض مصرف لبنان أن يُخصّص له مكاتب للعمل داخل المصرف. وبما أن العقد ينصّ على ان تقدّم الشركة المدقّقة تقريراً اولياً عن النتائج التي توصلت اليها بعد 12 اسبوعا من بدء العمل، فهذا يعني ان الحكومة اللبنانية، ومعها الشعب اللبناني، سيحصلون على معلومات قد تسمح بمعرفة أين تبخرت الاموال، ولماذا توجد فجوة مالية كبيرة في مصرف لبنان؟ وهل من سرقة وفساد وراء ذلك؟ ومن هي الشخصيات او الجهات المشتَبَه في انها مسؤولة أو متورطة في السرقة؟ اذا وجدت…

هل هذه التقديرات واقعية ويمكن ان تتحقّق فعلاً في منتصف كانون الاول 2020، اي قبل انتهاء العام ببضعة ايام، وتكون بمثابة هدية الميلاد ورأس السنة؟

نظرياً، واستنادا الى التقنيات والتجارب، ستتوصّل «ألفاريز» في المهلة المحدّدة الى نتائج اساسية في عملية التدقيق. وما يسمح بالاعتقاد انّ التقرير الاولي سيكون حاسماً لجهة تحديد وجود هدر وسرقة ام لا، هو انّ الشركة المدقّقة سبق لها أن حصلت على قسم كبير من العلومات المطلوبة لعملها، وقد درستها وحلّلتها، وجهّزتها لتضيفها الى التقرير الاولي. وبالتالي، لن يكون صعباً تحقيق تقدّم سريع في الاجزاء المتبقية، ومن خلال المعلومات التي ستحصل عليها في الفترة المقبلة، من خلال الافادة من قانون رفع السرية المصرفية عن حسابات مصرف لبنان.

هل من تقديرات مُسبقة في شأن النتائج التي سيخرج بها التقرير الاولي؟

طبعاً لا. لكن الحقائق التي يُفترض انها معروفة، هي التالية:

اولاً – الفجوة المالية في مصرف لبنان مصدرها الاساسي معروف، أي دعم الليرة وتمويل الدولة وتغطية عجز ميزان المدفوعات. وبالتالي، تنحصر مهمة التدقيق في ان يكشف فقط ما إذا كانت هناك نسبة من هذه الاموال هُدرت خارج سياق هذه الحقائق، ومن أهدرها أو سرقها؟ وهناك من يعتبر اليوم ان التدقيق الجنائي في شأن الاموال التي أُنفقت منذ اواخر 2019 أهم وأجدى، لأنّ حوالى 20 مليار دولار خرجت من مصرف لبنان في غضون 20 شهراً، أي بمعدل مليار دولار شهرياً، وقد انخفضت احتياطاته من حوالى 32 مليار دولار في تشرين الثاني 2019 الى حوالى 12 مليار دولار اليوم.

ثانياً- انّ التقرير الاولي لا يصلح للبناء عليه في المحاسبة، بل ينبغي انتظار التقرير النهائي، والذي قد يتأخر اكثر على اعتبار انه سيتضمّن تفاصيل وربما أسماء وما شابه.

ثالثاً- اذا ثَبُت لاحقاً وجود فساد، فإنّ حسم الشبهات سيكون امام القضاء. والتجارب في هذا المجال، خصوصاً بوجود مصالح سياسية كبيرة، غير مشجّعة لكي نتوقّع ظهور الحقائق وإصدار الأحكام.

يبقى انّ كانون الاول لناظره قريب، وكثيرون هم من ينتظرون الموعد. وهناك من يعتقد انه يستطيع أن يبني على التقرير لدعم معاركه في الانتخابات النيابية المقبلة… كثيرة هي الرهانات على التقرير، لكنّ الآمال قد تخيب، لأنّ الأمور معقودة بخواتيمها.

 

أي خيارات اقتصادية في التسعينات لأي نتائج اليوم؟

كثرت في الآونة الأخيرة التجاذبات حول الفترة التي يفترض الرجوع اليها لدرس عناصر الخلل في الخيارات الإقتصادية التي انفجرت عام 2019، بعد أن تفاقم تدهور المؤشرات في الاقتصاد الكلي والخارجي والمالي والنقدي منذ العام 2011، فيما كثيرون يبحثون عن بدايات الخيارات التي اتُخذت مطلع التسعينات… كان يُنظر إلى تشرين الأول 1992 على أنّه نقطة تحوّل رئيسية في مسار التضخم في لبنان. خلال ذلك الشهر، تمّ تشكيل الحكومة برئاسة رئيس الوزراء السابق الراحل رفيق الحريري، والتي تزامنت مع تحوّل جذري في الرأي العام اللبناني بشأن مستقبل الوضع النقدي والاقتصادي العام. كيف بدأت عوامل التغيير الكبرى؟ ما أبرز مسارات الدين العام ومعدلات الفوائد منذ بداية التسعينات؟ وكيف يمكن قراءتها على ضوء ما وصلت اليه الأوضاع اليوم؟

 

 

منذ عام 1993، بذل مصرف لبنان جهوداً متزايدة لتحقيق هدف ضمان استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية والأسعار المحلية. حافظ مصرف لبنان على استقرار سعر صرف تدريجاً الى حين اعتماد سياسة ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي منذ العام 1997.

 

استخدم مصرف لبنان أدوات مختلفة للدفاع عن الاستقرار النقدي:

 

– لجأ مصرف لبنان في شكل أساسي إلى التدخّل المباشر في سوق الصرف الأجنبي لشراء العملة الوطنية وبيعها، ما خلق الحاجة إلى تجديد احتياطياته بالعملة الأجنبية.

 

– في 20 أيلول 2001، اتخذ مصرف لبنان 3 قرارات بتعديل النصوص المتعلقة بمتطلبات الاحتياطي بالليرة اللبنانية وصافي السيولة المتوافرة بالعملة الأجنبية في المصارف. وقد ركّزت هذه الإجراءات أولاً على زيادة معدل متطلبات الاحتياطي الالزامي للمصارف التجارية في مصرف لبنان، وارتفع هذا المعدل من 13% من إجمالي الودائع إلى 15% للودائع لأجل، و25% للودائع تحت الطلب. أما الإجراء الثاني فكان إلزام المصارف بإيداع 15% من ودائع عملائها بالعملات الأجنبية في شكل دائم لدى مصرف لبنان وسنداتها الأخرى المقومة بهذه العملات. أما الإجراء الثالث، فيتمثل في تعزيز دور المصرف المركزي كملاذ أخير للإقراض بالعملة الأجنبية، لضمان السيولة في المصارف العاملة في لبنان.

 

– بين عامي 1993 و 1999، نما الدين العام الداخلي بنسبة 62%. وارتفعت حصة الدين العام الخارجي من إجمالي الدين العام من 8% في عام 1993 إلى 26% في عام 2000. وبما أنّ أسعار الفائدة على العملات الأجنبية أقل من أسعار الفائدة على الليرة اللبنانية، فإنّ إعادة هيكلة الدين العام في اتجاه الزيادة مكّنت حصّة الدين الخارجي من تقليص خدمة الدين بمقدار كبير ومن تسديدها، على أمل حدوث تطور إيجابي للوضع الاقتصادي.

 

أما في ما يتعلق بمصادر تمويل الدين الخارجي، فإنّ البيانات الواردة في الجدول أدناه توضح أنّ مساهمة المصارف تضاعفت عملياً في الحجم، إذ بلغت قرابة 4205 مليار ليرة لبنانية (2,789 مليون دولار) في نهاية كانون الأول 1999، و9799 مليار ليرة لبنانية (6500 مليون دولار) بنهاية أيلول 2002، تمثل على التوالي 50.4% و 52.7% من إجمالي الدين الخارجي.

 

أدّت سياسة أسعار الفائدة المرتفعة على سندات الخزينة إلى استنزاف معظم السيولة في تمويل القطاع العام على حساب تمويل القطاع الخاص. وبالفعل، فإنّ الاحتياجات التمويلية المتزايدة، جنبًا إلى جنب مع السياسة النقدية التقييدية لمصرف لبنان، تحرم القطاع الخاص من الاستفادة من السيولة الكافية لاستثماراته، مما يؤثر على النمو الاقتصادي والتوظيف في البلاد، لا سيما أنّ الاقتصاد اللبناني يُعتبر اقتصاد استدانة، حيث الاستثمار يرتكز على القروض المصرفية أكثر مما يلجأ الى السوق المالية وتداول الأسهم..ما يزيد من تأثير معدلات الفوائد على التسليفات وبالتالي مجمل النشاط الاقتصادي..

 

من اللافت للنظر، أنّ معدل الاقتراض على الليرة اللبنانية قد انخفض، لكن الفجوة بين الليرة اللبنانية والدولار الأميركي بقيت كبيرة كما كانت دائمًا، مما لم يشجع على الرافعة المالية في الليرة اللبنانية.

 

وقد بقي معدل الإقراض على الدولار الأميركي مرتفعاً جدًا مقارنة بالمعدلات الدولية بسبب الوضع السياسي (علاوة مخاطر البلد)، الذي دفع المصارف إلى تطبيق معدلات إقراض عالية، للاحتفاظ بالمدخرات اللبنانية وجذب رؤوس أموال غير المقيمين، وكذلك بسبب نظام الحدّ الأدنى من الاحتياطيات على الودائع بالليرة اللبنانية ومستوى السيولة المتعلق بالودائع بالدولار الأميركي، الذي فرضه مصرف لبنان، ثم الحدّ الأدنى للاحتياطيات التي أُدخلت على الودائع بالدولار الأميركي … ما دفع المصرفيين إلى زيادة معدلات الإقراض المطبّقة على عملائهم من أجل الحفاظ على هامش ربحهم.

 

تسببت زيادة الاكتتابات في سندات الخزينة، المصدر الرئيسي لتمويل القطاع العام، في حدوث فائض في حساب القطاع العام لدى مصرف لبنان (التسهيلات المقدّمة للحكومة والقطاع العام ناقص الودائع من الخزينة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من دون مراعاة فروق الصرف). تحول هذا الحساب من وضع المدين البالغ 520 مليار ليرة لبنانية في نهاية أيلول 1992، إلى وضع دائن يبلغ نحو 1400 مليار ليرة لبنانية في نهاية عام 1993. وهذا التغيير في الوضع بالتحديد هو الذي دفع وزارة المال إلى خفض مردود سندات الخزينة لأجل سنتين من 39.20% في نهاية آب 1992 إلى 24% في نهاية 1993.

وقد اصبح معدل الفائدة على سندات الخزينة هو المعدل الرئيسي الذي يؤثر على الهيكلية الكاملة لأسعار الفائدة، فإنّ انخفاض سعر الفائدة على سندات الخزينة أدّى إلى انخفاض معدل الاقتراض أيضًا.

 

كما واجهت المصارف مشكلة تتعلق بسيولتها بالعملات الأجنبية. فقد طلب مصرف لبنان من المصارف استخدام 55% من جميع ودائعه بالعملة الأجنبية. وكان عليها أيضًا الاحتفاظ بكمية معقولة من السيولة لتلبية أي طلب في السوق وتجنّب أي مشكلة سيولة كلما كانت هناك تحويلات سريعة وكبيرة من عملة إلى أخرى ، لا سيما بين الليرة اللبنانية والدولار الأميركي. ولهذا السبب، بدأ مصرف لبنان، اعتباراً من تشرين الأول 1992، عملية مقايضة مع المصارف التجارية، تتمثل في تزويدها الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية بأسعار تضمن مخاطر الصرف.

 

يبقى القول، إنّ هذه القراءة المركّزة على بداية الدين ومعدلات الفوائد، تظهر بداية إلقاء ثقل المالية العامة على الجهاز المصرفي، والسياسة النقدية المطبّقة منذ نهاية عام 1992 – بداية عام 1993، والتي نجحت في تثبيت سعر الصرف، إلّا أنّ فعاليتها تتطلب درس الكلفة والمزايا التي تُظهر أنّ هذا الاستقرار قد تحقق بتكاليف عالية… ومن أبرز هذه التكاليف كان إلى حدّ ما على النمو الاقتصادي، من دون أن يجعل من الممكن الانتقال من «التثبيت»، من خلال التدخّل المستمر لمصرف لبنان المركزي في سوق القطع، إلى «ثبات» يعكس ثقة وواقع السوق، والذي كان يفترض أن يحقق انخفاضاً تدريجياً بمعدّل الدولرة، وعدم استنزاف كل احتياطيات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية، دفاعاً عن سعر صرف جامد، أياً تكن التغيّرات الماكرو- إقتصادية، ووضع ميزان المدفوعات، وسلفات بالدولار للكهرباء التي لم تتأمّن، والسلفات التي لم تُردّ الى المصرف المركزي، وتغطية إستيراد هائل تبيّن أنّه «مدعوم»، نظراً لعدم ترجمة سعر الصرف لواقع الاقتصاد الذي شهدت مؤشراته تدهوراً هائلاً منذ العام 2011، قارعاً ناقوس خطر لم يتمّ الإصغاء له ولا التفاعل معه…​

د. سهام رزق الله