أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

مشهد ما بعد الانتخابات: طاروا المصريات

 

لسبب أو لآخر، يتمّ ملء الفراغ الاقتصادي والمالي بنقاشات تبدو خارج السياق، ليس لأنّها غير مُجدية، بل لأنّها تُناقش في التوقيت الخاطئ، ومع جهات غير ذي صفة، وضمن اطار يقود في أحسن الأحوال الى جدل عقيم لا يُقدّم ولا يؤخّر.

طفا الى السطح في الأيام الأخيرة، موضوع مجلس النقد (currency board) بلا مبرّر مُقنع بالنسبة الى الأسباب التي تستدعي طرحه بهذه الحماسة والديناميكية، وكأنّه مشروع قائم في حدّ ذاته، يمكن تنفيذه غداً.

ما هو أكيد انّ فكرة مجلس النقد، وفي أحسن الاحوال تستطيع ان تكون بنداً من عشرات البنود التي ينبغي ان تتضمّنها المفاوضات مع صندوق النقد الدولي عندما تبدأ، بعد تشكيل حكومة طبعاً. وللتذكير، وبما انّ التجربة البلغارية هي التي يستند اليها المؤيّدون لإنشاء مجلسٍ للنقد، لا بدّ من التذكير بأنّ المشروع لم يبدأ سوى بعد مفاوضات طويلة مع صندوق النقد، امتدت من تشرين الثاني 1996 حتى منتصف 1997، وتضمّنت دراسات وافية لتأثير الخطوة على كل مفاصل الاقتصاد في البلد، وفي مقدّمها الانعكاسات المحتملة على القطاع المصرفي. وكذلك، جرى التركيز على وضع البنك المركزي، لضمان تنظيف ميزانياته، بحيث لا يبقى بند المطلوبات (Liabilities) سلبياً في موازاة الموجودات.

اكثر من ذلك، تولّى صندوق النقد تنظيم ورش عمل للنواب في بلغاريا لإطلاعهم على طريقة عمل «مجلس النقد»، وأين قد يفيد، وأين قد يضرّ. ومن خلال هذه الورش يتضح انّ القطبة المخفية هي في حُسنِ التطبيق، وهي على غرار خطط الإنقاذ التي يموّلها صندوق النقد، اذ أنّ نجاحها او فشلها يتعلق بمدى التزام الدولة المعنية بمندرجاتها، وحتى بروحيتها.

باختصار، موضوع مجلس النقد يحتاج الى الاتفاق على خطة شاملة تتضمّن بنوداً ينبغي أن تُنفّذ أولاً، ومنها إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإعادة هيكلة البنك المركزي، وضمان قدرة الدولة على اعتماد موازنة مع صفر عجز، لتخفيف احتمالات الاقتراض من الخارج بمبالغ قد تعرقل خطة الانقاذ، ما دام المركزي، وبوجود مجلس للنقد، سيصبح خارج الخدمة في موضوع إقراض الدولة، او طباعة العملة، لتوفير سيولة ضرورية في حالات الطوارئ.

في المحصّلة، لا وجود لمشروع اسمه مجلس النقد في حدّ ذاته، بل انّه مجرد بند يمكن ان يُناقش ضمن خطة الإنقاذ الشاملة، للتأكّد اذا ما كانت تناسب الوضع اللبناني، وتساعد في مرحلة التعافي ام لا. لكن، هل المشكلة اليوم هي حقاً في اختيار الفكرة الاقتصادية أو المالية الافضل ضمن باقة الافكار القائمة، والتي يعرفها كل الاقتصاديين؟ من المؤكّد انّ المشكلة في مكان آخر، وربما من الأجدى حالياً، وطالما انّ المنظومة السياسية دمّرت تقريباً امكانية تشكيل حكومة تتولّى محاولة البدء في الإنقاذ، وهي خطوة إلزامية للخروج من النفق، ان يتمّ تركيز العصف الفكري الاقتصادي على الإجراءات التي يمكن اتخاذها، لتخفيف المعاناة قدر الإمكان، والحفاظ على الحدّ المقبول من القدرات المالية لاستخدامها لاحقاً، سواء اذا ساء الوضع اكثر، أو اذا انفرجت وحان موعد التفاوض على الإنقاذ.

من خلال المؤشرات القائمة، يبدو انّ احتمال الاستمرار بلا إنقاذ حتى موعد الانتخابات النيابية، وربما من بعدها الرئاسية، بات مُرجّحاً. وبالتالي، يحتاج اللبنانيون الى التركيز على الطريقة التي ينبغي اتباعها خلال هذه السنة، لتقليص الإنفاق من الاموال الوطنية المتبقية في المركزي، وفي الوقت نفسه ضمان الحدّ الأدنى من مقومات العيش للمواطنين، لاسيما الفئة الأضعف والأكثر حاجة. وبالطريقة المُعتمدة في الوقت الراهن، لن يبقى أموال لا للإنقاذ، ولا حتى لضمان استمرارية الحياة في حدّها الأدنى، في حال طال الوضع القائم وتخطّى حاجز السنة. وهذا الاحتمال وارد جداً، بالنظر الى المعطيات القائمة اليوم، إلّا اذا طرأ تغيير مفاجئ في المشهد. ولا مؤشرات حتى الساعة الى انّ التغيير آتٍ.

في هذا المناخ، الجدل البيزنطي حول رفع الدعم او ترشيده، وبالتوازي مع اطلاق البطاقة التمويلية المنتظرة، ماضٍ على قدم وساق. والإنفاق ماشي من «الاموال الوطنية» المتبقية. واذا أضفنا الإنفاق الذي سيضطر اليه المركزي اذا طبّق التعميم 158، يمكن ان نستنتج انّ الأزمة ستأخذ منحى مختلفاً بعد عام. ولا تبدو الإجراءات التي تُتخذ حالياً تستطيع أن تخفّف وطأة المأساة. على سبيل المثال، قبول مصرف لبنان باعتماد سعر الـ3900 ليرة لدعم البنزين، قد يؤدّي الى انفاق اضافي وليس العكس، لأنّ المبلغ الذي سيخصّصه الأخير لشراء البنزين سيزيد قليلاً اذا ما ألغى، نسبة الـ10% بالدولار على سعر السوق السوداء. وبالتالي، لا يهدف اقتراح مصرف لبنان الى خفض انفاق الدولارات بقدر ما يهدف الى امتصاص اضافي للسيولة بالليرة، من خلال جمعها على سعر 3900 بدلاً من 1500، بحيث يكسب القدرة على مضاعفة المبالغ المسحوبة من السوق بنسبة تقارب الـ220%. وليس مستبعداً ان يكون المركزي يخطّط لاستخدام الكتلة النقدية بالليرة المسحوبة من التجار، لإعادة شراء الدولارات من السوق الحقيقية!

في حسبة بدائية للإنفاق، واذا أخذنا في الاعتبار الدعم المُرشّد على طريقة الـ3900 للبنزين، سيتبيّن انّ العام الانتخابي سيكون السنة الأخيرة لوجود اموال وطنية في صناديق مصرف لبنان، وستصبح الخيارات في حينه، أقسى بكثير مما هي عليه اليوم.

انطوان فرح

تصفية عامة على الأموال بداعي الاقفــال

وصل الوضع المالي والاقتصادي الى مرحلة جديدة قد تكون بمثابة نقطة تحوّل نحو انهيار أسرع الى قعر أعمق. وما نشهده في هذه الفترة لا يوحي بوجود إجراءات للصمود بانتظار الفرج، بقدر ما يوحي بأنّ من يتحمّل مسؤولية ادارة الوضع أصيب باليأس وبدأ يفكر في «الانتحار» المُبكر كمخرج وحيد، في حين يؤمن مسؤولون آخرون بنظرية «من بعد حماري ما ينبت حشيش».

نزل كلام المتحدث باسم صندوق النقد الدولي جيري رايس في شأن قانون الكابيتال كونترول، والتعميم 158 للبدء في إعادة الودائع، كالصاعقة على رؤوس الذين كانوا يروّجون للمشروعين، ويحاولون تصنيفهما في خانة الانجازات.

وللإنصاف، أي كلامٍ أو موقف، وبصرف النظر عن الجهة التي يصدر عنها، ليس مُنزلاً. وبالتالي، لا يمكن الركون الى هذه المواقف للادّعاء انها حسمت الجدل لمصلحة نظرية على أخرى. ولا أحد يدّعي انّ صندوق النقد قد لا يُخطئ في مواقفه، أو حتى قد لا يتخذ مواقف لا تراعي دائماً مصلحة الشعوب، بل تكون لديه حسابات تتعارض أحياناً وهذه المصالح، من دون أن يعني ذلك انّ نظريات المؤامرة هي التي تدفع الى مثل هذه المواقف.

لكن ما أعلنه صندوق النقد يحتاج الى توضيحات لئلّا يُفهم على غير مقصده. إذ سارع كثيرون الى التساؤل كيف يعقل ان يعارض صندوق النقد مشروع الكابيتال كونترول، وهو مَن يضع هذا المشروع كشرط إلزامي قبل إقرار اية خطة إنقاذ يساهم في تمويلها؟

في الواقع، لا يعكس موقف الصندوق معارضة بالمطلق للكابيتال كونترول، بل يعبّر عن مشكلة تتعلق بالتوقيت، والتعامل مع الوقائع كما هي. ويدرك القيّمون على الصندوق الوقائع التالية:

اولاً – انّ الاموال التي كان يُفترض حجزها في بداية الأزمة، والتي كان سيتم استخدامها لتنظيم السحوبات، وتأمين استمرارية بعض القطاعات الاقتصادية، وضمان التحويلات الضرورية لدرء الأضرار الجسيمة، خرجت في غالبيتها من لبنان.

ثانياً – انّ إقرار قانون للكابيتال كونترول لا يمكن تطبيقه بسبب عدم توفر القدرة على ذلك، يعقّد الوضع اكثر مما هو معقّد.

ثالثاً – انّ الاستثناءات والتسابق بين مجلس النواب، أو شريحة منه، ومصرف لبنان على إرضاء المودعين الصغار والمتوسطين، لا يعكس حرفية (professionalism) وموضوعية في مقاربة أزمة بحجم الأزمة التي انخرط فيها الاقتصاد اللبناني.

وبالتالي، من يريد التفسير الواقعي لِما جرى، عليه ان يأخذ في الاعتبار انّ صندوق النقد لا يرى ان التوقيت مناسب لإجراءات تساهم في تسريع إنفاق الاموال المتبقية في البلد (إحتياطي مصرف لبنان، ودائع مُحرّرة للمصارف لدى المصارف المراسلة)، بذريعة ضبط الرساميل واعادة الودائع الى اصحابها. ما جرى في موضوع القانون والتعميم لا يشبه الضبط والتنظيم، بقدر ما يوحي بأنّ حالاً من اليأس حيال إمكانية التوصّل الى تشكيل حكومة وبدء عملية انقاذ حقيقية للوضع بالتعاون مع صندوق النقد، تسود لدى المسؤولين عن الوضع المالي. هذا اليأس دفع الى اعتماد طريقة التاجر الذي يقرر خفض خسائره من خلال التصفية العامة وإقفال متجره. فهل نحن امام مشهد من هذا النوع، حيث يعتبر البعض انه ليس مهماً تصفية الاموال المتبقية في البلد، لأننا ذاهبون الى الاقفال التام بعد عام. وهل يضبط البعض ساعة الاقفال على استحقاقات لها علاقة بفترة البقاء على الكرسي، أو حصول انتخابات نيابية؟

هنا تنبغي الاشارة الى انّ صندوق النقد يميل استناداً الى معاييره الى تشجيع الاقتطاعات الكبيرة من الودائع (Haircut)، لأنه يعتبر انها الطريقة الأسلم والأسرع لإنجاح خطط التعافي والوقوف مجدداً. وهذا ما قد يفسّر ايضا موقفه الرافض لفكرة البدء في اعادة الودائع الصغيرة من دون خطة اقتصادية شاملة للانقاذ. صحيح انّ اي دولة تريد مساعدة صندوق النقد لا يفترض ان تستسلم لشروطه بلا مناقشة، لكن الصحيح ايضا انه لا يمكن اتخاذ قرار بإعادة جزء بسيط من الودائع، في فترة الانحدار. هذا الامر قد يتم عندما يتوقف الهبوط، وتتضح معالم مرحلة الصعود التدريجي الى السطح.

ما شهدناه في الفترة الأخيرة لجهة الانهيار السريع لسعر صرف الليرة وتجاوز الدولار عتبة الـ15 الف ليرة ليس مفاجئاً، وهو ناجم عن 3 عوامل رئيسية:

اولاً – إنتهاء مفاعيل المنصة المركزية، والتي كان ينتظرها كثيرون ويترددون في طلب الدولار من السوق الحرة، لكنهم عندما تأكدوا ان المنصة مجرد وهم ولن تؤمّن الدولارات، عادوا الى بيت الطاعة واتجهوا الى السوق السوداء لشراء الدولار بما رفع حجم الطلب.

ثانياً – المناخ السياسي الذي أوحى بأن لا حكومة في الأفق، وان الامور ستبقى كما هي حتى موعد الانتخابات النيابية المقبلة، ساهم في زيادة الضغط على الليرة التي يحاول الناس التخلص منها، ولا يتم اقتناؤها سوى للانفاق اليومي.

ثالثاً – التعميم 158 الذي ألزم المصارف بتأمين 50 % من الاموال المطلوبة لتنفيذ مندرجاته. بما انّ بعض المصارف لا تملك السيولة الكافية بالدولار، اتجهت بدورها الى السوق الحرة لشراء الدولارات، لأنها أرخص وأقل ضرراً بالنسبة لها من الاقتراض من مصرف لبنان بفوائد مرتفعة جداً.

رابعاً – لا تحتاج السوق الحرة الى تبريرات لكي ترتفع او تنخفض، او حتى تستقر لفترة. انها طبيعة هذه السوق، لكن المقياس النهائي يبقى في الاتجاه العام. ومن البديهي ان الاتجاه العام لسعر الدولار هو مواصلة الارتفاع في هذا الوضع الهابط باستمرار.

انطوان فرح

«سباق» محموم على دولارات المودعين

عندما يصبح صدور قرار للبدء في اعادة الودائع الى اصحابها، واقرار اقتراح قانون ينظم السحوبات المالية والتحويلات ويجعلها عادلة للجميع، موضع شك وريبة من قِبل المواطنين والمتابعين، فهذا يؤكد ان القرارات والقوانين والتعاميم ليست طبيعية، ولن يكون تطبيقها سهلا.

عندما وضعت حكومة الرئيس حسان دياب خطة اقتصادية ومالية اصلاحية وبدأت مفاوضات على اساسها مع صندوق النقد الدولي، تدخلت لجنة المال والموازنة لإدخال تعديلات على الخطة. يومها، اتُهمت اللجنة بأنها تبنّت وجهة نظر البنك المركزي والمصارف لناحية حجم الخسائر المالية والفجوات المالية في القطاع المصرفي. واعتبر المشككون ان السلطة التشريعية ساهمت في إحباط خطة الاصلاح، التي لو تمّ السير بها، برأي هؤلاء، بغض النظر عن ايجابياتها وسلبياتها، لكان لبنان اليوم على خطى النهوض وليس على باب «جهنّم» كما هو حالياً.

المفارقة اليوم ان السلطة التشريعية التي اتُّهمت آنذاك بالتحالف مع القيّمين على القطاع المصرفي من أجل إحباط خطة الحكومة الاصلاحية، بدت امس وكأنها فسخت تحالفها مع المصارف، وسارعت بنشاط وزخم الى اقرار اقتراح قانون كابيتال كونترول بعد ان عجزت عن إقراره منذ بداية الأزمة في 2019 لأسباب مختلفة، «مُستفَزّة» مصرف لبنان الذي أصدر قانونه الخاص بالكابيتال كونترول.

ورغم ان المعطيات والمعلومات والعوائق التي حالت في السابق دون انجاز لجنة المال والموازنة دراسة اقتراح القانون، ما زالت على حالها، إلا ان اللجنة أقرّت امس اقتراح القانون مشدّدة على ان القانون أعلى من أي تعميم يصدر عن مصرف لبنان، وأحالت الى لجنة الادارة والعدل، التي باشرت فورا في مناقشته، مع العلم انه ما زالت أمام هذا الاقتراح مراحل ليجتازها في اللجان المشتركة في حال حصول خلاف في الرأي بين لجنتي المال والعدل، وفي الهيئة العامة لمجلس النواب، حيث بقيت بنود عدّة عالقة يجب الحسم فيها هناك في ضوء المعطيات المُطالب مصرف لبنان بتقديمها قبل الجلسة العامة للمجلس النيابي.

فمن سيسبق الآخر في بدء تطبيق قانونه الخاص للكابيتال كونترول، السلطة التشريعية أم السلطة النقدية؟

ورغم ان جمعية المصارف أكدت في كتاب لمصرف لبنان- قبل ان تتراجع عنه عبر كتاب آخر اكثر ايجابية- انها لا تملك القدرة والامكانيات المالية لتطبيق أي اجراء يتيح السحوبات النقدية بالدولار، إلا ان السلطتين النقدية والتشريعية ماضيتان في اقرار قانون فرض ضوابط على رأس المال، رغم عدم وجود رأس المال، ومع حرصهما الشديد على انهما تهدفان الى حماية حقوق المودعين.

في هذا الاطار، أوضح النائب ياسين جابر ان السلطة التشريعية ليست في سباق مع قرارات او تعاميم مصرف لبنان، معتبرا ان قرار البنك المركزي المتعلّق بتحديد السحوبات النقدية بالدولار هو من البنود التي تضمّنتها مسودة اقتراح قانون الكابيتال كونترول الذي تمّت مناقشته سابقا في اللجنة الفرعية، «حيث كنا نهدف الى اقرار قانون لا يحمي فقط المصارف من الدعاوى القضائية بل يحمي أيضا المودعين من خلال تنظيم السحوبات النقدية ووضع حدّ لعمليات السحب على سعر صرف الـ3900 الذي ساهم في اقتطاع 70 في المئة من اموال المودعين».

وعن قدرة المصارف على تطبيق قانون الكابيتال كونترول عند اقراره، أكّد جابر لـ»الجمهورية» انّ لجنة المال طلبت أرقاماً ومعلومات مالية من مصرف لبنان ولم تحصل عليها لغاية اليوم، «وكنا نتمنى الحصول على دراسة مفصّلة من مصرف لبنان حول انعكاسات السقوف المحددة في القانون للسحوبات بالليرة اللبنانية، على الكتلة النقدية، إلا انه لم يحضر أي ممثل عن مصرف لبنان الى جلسة لجنة المال ليفيدنا بالمعلومات المطلوبة».

اضاف: «وبما ان مصرف لبنان اعلن وألزم المصارف تسديد السحوبات النقدية بالدولار بالسقوف المحددة، فانه بالتالي قادر على فرض تطبيق الكابيتال كونترول الذي سيقرّه مجلس النواب، لأن قرار البنك المركزي شبيه باقتراح القانون الذي أقرّته اللجنة امس».

وردّا على سؤال، اكد جابر انه عند اقرار القانون، فان السحوبات النقدية بالليرة على سعر صرف الـ3900 لن تعود قائمة.

تسارع الانهيار

وتعليقاً على الاحداث والقرارات العشوائية التي تم اتخاذها في لبنان، اعتبر مسؤول مالي دولي، ان أزمة لبنان ستُستخدم في مناهج الدراسات العليا في الاقتصاد، كدراسة بحث (case study) تحت عنوان «كيف يدمّر الحكّام وصانعو السياسات السيئة والفاسدون، الأمم وثروة الوطن».

وقال: «كان لبنان يملك القدرة على أن يكون اقتصادا ناشئا نابضا بالحيوية، خصوصا في مجالات تكنولوجيا المعلومات، التعليم، المصارف، الطب، السياحة….. بدلاً من ذلك، أدار حكّامه الاقتصاد كما لو كان متجراً في «بازار».

وفيما أبدى المسؤول المالي خشيته من أن يتسارع الانهيار الاقتصادي بشكل كبير في الفترة المقبلة، رأى انه «حتى لو حصلت معجزة ما، وتم تشكيل حكومة، سيستغرق الامر وقتا طويلاً قبل أن يتمكنوا من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج تعديل، نظرا إلى التشوهات الكبيرة التي أحدثوها على نطاق واسع في الاقتصاد.

وختم: «لسوء الحظ، يبدو أن مزيدا من البؤس سيلحق بالسكان قبل التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي».

رنى سعرتي

تعميم الـ400 دولار…توقيتاً ومضموناً وشكلاً

 

من حيث المبدأ، ليس مألوفاً الاعتراض على تعميم موعود يُفترض ان يُجسّد روحية مبادرة «إراحة اللبنانيين». لكن الاسلوب والتوقيت وقسماً من المضمون تثير علامات استفهام تحتاج الى توضيحات اضافية، لكي تكون المبادرة مُريحة فعلاً للبنانيين.

ليس في الإمكان تقييم التعميم الذي يُتوقّع أن يصدره مصرف لبنان اليوم، كترجمة عملية لمبادرة إراحة اللبنانيين، سوى بعد الاجابة عن كمٍ من الاسئلة المطروحة. صحيح انّ أي عاقل لا يمكن أن يرفض فكرة اعادة الودائع الى أصحابها، لكن الصحيح أيضاً، انّه لا يوجد عاقل يستطيع أن يدّعي أنّه يعتبر القرار التمهيدي الصادر عن مصرف لبنان بمثابة قرار يؤدي الى تسديد الودائع.

في الواقع، يدفع هذا المشروع الى طرح الاسئلة التالية:

اولاً، من حيث التوقيت:

1- لماذا لم يصدر هذا التعميم منذ بداية الأزمة بحيث يكون بديلاً، ولو غير مكتمل المواصفات، لقانون كابيتال كونترول لم يصدر حتى الآن؟ وربما كان سيساهم في عدالة اكبر في سحب الاموال، وفي خروج أقل من الاموال الى الخارج، على اعتبار انّ قسماً من الودائع المتوفرة كسيولة في صناديق المصارف، كان سيُخصّص لتنفيذ مثل هذا التعميم.

2- هل هي مجرد صدفة بريئة ان يصدر هذا التعميم بعد دخول البلد رسمياً في السنة الانتخابية، والتي بدأت الاستعدادات لها بنشاط لافت؟ ألا يُخشى من اعتبار القرار «رَشِّة» دولارات قبل الانتخابات؟

3- لماذا يسابق التعميم قانون الكابيتال كونترول الذي قيل انّه سيُبتّ اليوم؟ اذا كان الجواب انّه يوجد تنسيق غير مُعلن لصدور التعميم، متماهياً مع مندرجات الكابيتال كونترول، يصبح السؤال، لماذا الاستعجال في اصدار التعميم، للإيحاء بأنّ القانون لن يصدر أبداً؟

ثانياً- من حيث الشكل والمضمون:

1- لماذا يبدو التعميم وكأنّه يصدر بالتقسيط، من حيث الاعلان عنه كمبادرة، ومن ثم قرار ولاحقاً (يُفترض اليوم) كتعميم.

2- لماذا يعتمد اسلوب التمويه من خلال تحديد فترة زمنية للوديعة التي يمكن السحب منها (من تشرين 2019 حتى آذار 2021)، للإيحاء بأنّ الموضوع مرتبط بإعادة الودائع وليس بتنظيم السحوبات (capital control).

3- لماذا جرى تقسيم السحوبات بين الليرة والدولار الحقيقي. اذا كانت واحدة من ايجابيات السماح بسحب الدولار تكمن في تخفيف الضغط على الليرة في السوق الموازية، فإنّ زيادة الكتلة النقدية حوالى 26 تريليون ليرة لن تؤدي سوى الى زيادة الضغط على العملة الوطنية، وبالتالي، سيكون سعر الدولار الى ارتفاع ملحوظ في الفترة المقبلة. كما انّ اعطاء المودع دولارات حقيقية (Banknote) فقط، سيضمن انفاقها من قِبل المودعين الذين يسحبون المال للحاجة وليس لتهريبها من المصرف. في حين انّ اعطاء المودع ما يعادل الـ400 دولار بالليرة سيشجعه على الانفاق من الليرة واخفاء الدولار. أما من لا يحتاج المال للإنفاق، سيعمد الى اعادة شراء الدولار بالمبلغ الذي سيحصل عليه بالليرة. وهكذا سنكون امام احتمال ارتفاع دراماتيكي للدولار، وتعرّض الشريحة الضعيفة في المجتمع لضغوطات معيشية اضافية.

4- ماذا سيكون مصير الودائع المصرفية التي جرى تكوينها في الخارج وفقاً لمندرجات التعميم 154، وستُستخدم لتلبية مندرجات التعميم المُنتظر اليوم؟ هل انتفت الحاجة الى المحافظة على العلاقات المصرفية مع المصارف المراسلة؟ هل انتفت الحاجة الى الابقاء على 3% من حجم الودائع في حسابات خارجية مُحرّرة من اي قيود؟ هل انتفت الحاجة الى اعادة هيكلة المصارف، وتحضيرها لاستعادة دورها من خلال «إعادة تفعيل نشاطاتها وخدماتها المعتادة لعملائها بما لا يقلّ عمّا كانت عليه في تشرين الأول 2019 «، كما ورد حرفياً في شرح المركزي لأهداف التعميم 154؟

5- هل أصبح مسموحاً اعلان افلاس مصارف وتصفيتها والمجازفة بخسارة المودعين فيها لأموالهم، وتوجيه ضربة اضافية الى القطاع المالي، ما دام مصرف لبنان لم يعد قادراً على وضع اليد عليها لضمان استمرارية عملها، وما دام الدمج شبه مستحيل في ظلّ معاناة كل المصارف؟

6- ماذا سيكون مصير بقية الودائع التي تتجاوز قيمتها الـ100 مليار دولار، اذا تمّ التفريط بالاحتياطي قبل البدء في خطة الانقاذ؟

كل هذه الاسئلة لا تعني انّه لا ينبغي السماح للمودعين بسحب دولارات حقيقية، بل تشير الى نقاط الضعف في المشروع المُقترح، والذي كان يمكن ان يكون فعّالاً لو صدر في تشرين 2019. أما اليوم، وبانتظار ان تستفيق السلطة السياسية من غيبوبتها وتقرّر إخراج البلد وابنائه من جهنم، عبر تسهيل الوصول الى مرحلة يصبح معها متاحاً الاتفاق على خطة انقاذ مع صندوق النقد ومع المجتمع الدولي، فانّ المعالجًة المقبولة، تكمن في مجرد تنظيم السحوبات المصرفية، وتحديد سقف السحب بالدولار الحقيقي للجميع بما لا يتجاوز الـ200 دولار شهرياً، وإصدار البطاقة التمويلية لحماية الفئات الأضعف التي لا يمتلك أصحابها ودائع مصرفية لا بالدولار ولا بالليرة. ومن المهم ان يتمّ تنظيم السحوبات عبر قانون الكابيتال كونترول وليس عبر تعاميم إعادة الودائع. وكل ما عدا ذلك سيزيد الأضرار، مع الاعتراف المسبق بأنّه لم يعد يوجد أي اجراء يمكن أن يُريح اللبنانيين، بل أقصى ما يمكن فعله، هو اختيار الاجراء الأقل وجعاً وظلماً، والأهم الاقل خطراً، على تدمير احتمالات الخلاص في المستقبل.

انطوان فرح

بعد 22 عاماً من تثبيت الدولار/الليرة: لماذا اندلعت أزمة سعر الصرف؟

بعد 22 عاماً من تثبيت سعر صرف الدولار الأميركي الى الليرة اللبنانية منذ عام 1997 على معدّل 1507.5، كاد هذا الرقم يشكّل حقيقة ثابتة ورمز الثقة الوحيد بالإقتصاد اللبناني، وبات غير قابل للبحث، وكأنّ سعر الصرف على جزيرة نائية، لا يتأثّر بكل ما يدور حوله من تطوّرات تطاول مختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية وعوامل المخاطر الناتجة من غياب الاستقرار السياسي، التي تعتمدها مختلف مؤسسات التصنيف الدولية، لتقييم قدرة البلدان على سداد ديونها بالعملات الأجنبية…من هنا لا يزال السؤال المركزي في مختلف الأوساط يتمحور حول الأسباب العميقة لاندلاع ازمة سعر الصرف؟ والجواب المباشر: إذا أردتم أن تعرفوا ماذا جرى عام 2019، إبحثوا في ما حصل منذ العام 2011…

إنطلاقاً من الأدبيات العلمية الإقتصادية، من المعلوم أنّ تاريخ أزمات سعر الصرف عالمياً أتاح وفق المراحل تفسير أبرز أسبابها وعناصر تطوّرها من خلال «أجيال من النماذج» التي تأخذ في الاعتبار أصل الأزمات وعواملها ومحدّداتها الرئيسية.

في هذا السياق، تمّ تصنيفها وفق ثلاثة أجيال من النماذج وهي:

– نماذج الجيل الأول، الذي يفسّر الأزمات بملاحظة تدهور أساسيات الاقتصاد الكلي، أي تدهور شامل لمختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية بشكل جامع ومتراكم لسنوات (عجز مالي، تراجع في نمو الإقتصاد، عجز في ميزان المدفوعات…) بحيث يفقد الإقتصاد المعني ثقة مختلف العملاء الإقتصاديين به وبعملته…

– نماذج الجيل الثاني، التي تشرح حالات أزمة العملة، حيث يبدو أنّ المتغيّرات الأساسية للاقتصاد الكلي لم تتدهور؛ تنشأ هذه الأزمات من توقعات العملاء الإقتصاديين للتطور المستقبلي للمؤشرات في ما يتعلق بشكوك السوق، مما يخلق توازنات متعددة ؛

– نماذج الجيل الثالث، التي تخلق علاقة بين أزمات العملة والأزمات المصرفية. يمكن أن تؤدي أزمة العملة أيضًا إلى أزمة مصرفية إذا كانت المصارف الخاصة مثقلة بالديون بالعملة الاحتياطية.

في حالة لبنان وبمنهج تحليلي تسلسلي، يتبيّن أن نموذج الجيل الأول هو اكثر ما يفسّر إنفجار الأزمة النقدية وسعر الصرف عام 2019، بالنظر الى تراكم تدهور جميع المؤشرات الماكرو-إقتصادية وبشكل حاد ومتصاعد تحديداً منذ العام 2011.

من هنا، يتبيّن أنّ أساسيات الاقتصاد الكلي تشرح تماماً كيف أنّ الفترة الممتدة بين عام 2011 وعام 2019 كانت تحضّر أزمة سعر الصرف على أفضل وجه، من خلال التدهور التراكمي المعمّم لجميع مؤشرات الاقتصاد الكلي في الماضي. ولبنان على وجه الخصوص منذ عام 2011، كما سنُظهر في هذا الإطار.

أزمة العملة «الجيل الاول»

بول كروغمان (1979)، كان رائداً في المفهوم النظري الأساسي لما يُسمّى بنموذج أزمة العملة «الجيل الأول». يوضح كروغمان من خلال نموذجه، أنّ نمو الإئتمان المحلي المرتبط بتمويل عجز الميزانية المزمن عن طريق الاقتراض من البنك المركزي (عن طريق طبع النقد)، يؤدي إلى انخفاض الاحتياطيات، ويجبر السلطات النقدية على التخلّي عن نظام أسعار الصرف الثابتة.

ويظهر، مع تساوي جميع العوامل الأخرى، أنّ الاحتياطيات تنخفض، لأنّ القطاع الخاص غير راغب في الاحتفاظ بالجزء المتزايد من القاعدة النقدية. النتيجة المنطقية التي يشرحها كروغمان، هي أنّه سيكون هناك هجوم مضاربات، بسبب التوسع المفرط في المعروض النقدي (التضخم)، ما يؤدي إلى استنفاد الاحتياطيات وبدء أزمة العملة.

وبالتالي، فإنّ الحفاظ على التكافؤ في سعر الصرف يؤدي بالبنك المركزي إلى السحب من احتياطياته لإعادة شراء عملته، متدخّلا في سوق القطع في حدود استنفاد احتياطياته، ما يضطر البنك المركزي إلى التخلّي عن أسعار الصرف الثابتة ومراقبة نظام سعر الصرف العائم.

وطبعاً، لا تتغيّر النتائج الأساسية للنموذج في حالة تمويل عجز الموازنة عن طريق إصدار الأوراق المالية بدلاً من طباعة النقد مباشرة.

في هذه الحالة، تؤدي خدمة الدين إلى زيادة تدريجية في العجز حتى يعبّر فيها القطاع الخاص عن رفضه الاحتفاظ بمزيد من سندات الدين. وقد يؤدي ذلك إلى لجوء السلطات إلى طباعة النقد لتمويل العجز المالي.

ويتلخّص تدهور المؤشرات الماكرو-إقتصادية وفق ثلاثة مرتكزات أساسية:

1) إنغماس الجهاز المصرفي في تمويل الدين العام المتنامي، والذي تمت دولرة ثلثه (اي أنّ ثلث الدين العام هو بالعملات الأجنبية)، ويحمل الجهاز المصرفي أكثر من نصف الدين بالعملات الأجنبية، فضلاً عن معظم الدين العام بالليرة اللبنانية..

2) الدولرة الثابتة والمرتفعة منذ الأزمة النقدية في لبنان في الثمانينات على الرغم من تثبيت سعر الصرف طيلة 22 عاماً.

3) التمسّك باعتماد نظام ربط سعر صرف الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي بشكل متشدّد على معدّل 1507.5، بغض النظر عن أي تطوّرات في مختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية، لاسيما منها تراكم العجز الحاد لميزان المدفوعات منذ العام 2011، مما ساهم بنفاد إحتياطي البنك المركزي بالعملات الأجنبية.

أولاً، انغماس القطاع المصرفي في تمويل الدين العام، من خلال شراء سندات يوروبوند بقيمة 15 مليار دولار أميركي، وشهادات إيداع من مصرف لبنان بقيمة 52.2 مليار دولار (بلومبرغ)، والتي تُضاف إلى 17.5 مليار دولار كانت تشكّل الاحتياطي الإلزامي على الودائع بالعملات الأجنبية، أو ما يفوق 70 مليار دولار لدى مصرف لبنان من إجمالي الودائع بالعملات الأجنبية البالغة 120 مليار دولار.. تُضاف الى معظم الدين العام بالليرة اللبنانية الذي يحمله الجهاز المصرفي..

مما يجعل معظم الودائع موظفّة لدى القطاع العام من خلال القطاع المصرفي. كما أنّ معظم الودائع بالعملات الأجنبية عالقة في القطاع العام بين شهادات الإيداع بالدولار للمصرف المركزي وشراء اليوروبوند للدولة اللبنانية.. يعني أنّ المصارف منكشفة على القطاع العام بما يفوق ثلثي التوظيفات لديها، فيما تسليفاتها للقطاع الخاص تقلّ عن ثلث التوظيفات…

وعلى الرغم من مخاطر الاستدانة بالعملات الأجنبية خصوصاً، تظهر الأدبيات الإقتصادية ميل البلدان الناشئة والبلدان المشابهة لوضع لبنان الاقتصادي، الى الاستدانة بالدولار الأميركي لتتمكن من استقطاب تمويل من الأسواق الخارجية. من هنا اللجوء إلى إصدار سندات اليوروبوند للحصول على تمويل على الصعيد الدولي، كما لكون معدّلات الفوائد على سندات اليوروبوند عمومًا تكون أقل من معدلات الفائدة على سندات الخزينة بالعملة الوطنية (نظرًا لاختلاف عوامل المخاطرة) مما يساعد في تخفيض خدمة الدين. وهذا كان أساس هدف زيادة حصة الدين العام بالدولار الأميركي من مجموع الدين العام في لبنان.

ثانياً، الدولرة (نسبة الودائع بالدولار الأميركي من مجموع الودائع في لبنان)، التي بدأت في لبنان أثناء الأزمة النقدية في الثمانينات، بقيت مرتفعة على الرغم من تثبيت سعر صرف الليرة إزاء الدولار الأميركي طيلة 22 عاماً، الأمر الذي كان يفترض أن يعيد أكثر الثقة بالليرة اللبنانية ويخفّض معدّل الدولرة. علماً أنّ الدولرة في لبنان كانت ولا تزال خياراً تلقائياً للقطاع الخاص، القلق من تدهور سعر الصرف وخسارة القدرة الشرائية للعملة الوطنية، وقد بقي يحاول أن يحتمي بتحويل معظم مدخراته الى الدولار الأميركي، على الرغم من تثبيت سعر الدولار لسنوات… إلّا أنّ الدولرة غير الرسمية والجزئية المرتفعة، ترافقت مع إنشاء البنك المركزي لغرفة مقاصة بالعملات الأجنبية، كما سمح للمصارف بتعبئة الصراف الآلي بالدولار الأميركي، مما ساهم في تدفّق الدولار نحو السوق الموازي بشكل غير منضبط، وتمويل المضاربة على الليرة، كونه كان يُسمح لأي مقيم على الأراضي اللبنانية بإيداع مثلاً 150 ألف ليرة لبنانية في حسابه الجاري وسحبها مباشرة 100 دولار أميركي ورقاً، دون أي تدقيق، بسبب التحويل والسحب الورقي لعملة اجنبية لا يمكن طباعتها في لبنان!

د. سهام رزق الله

إبادة مالية جماعية بانتظار اللبنانيين… إلا إذا

كل الطرق تقود إلى حتمية اقتطاع جزء أكبر من الودائع (BAIL IN) عند بلورة خطة إعادة هيكلة الدين العام، وتحميل المودعين العبء الأساسي لاستيعاب الخسائر. فمع شطب الدولة المنتظر لدينها بالعملتين المحلية والأجنبية، سيتحتم على المصارف إجراء “هيركات”، وتحويل الودائع إلى أسهم. الفرق الوحيد أن العملية ستصبح رسمية، بعدما مارستها المصارف طوال الفترة الماضية إعتباطياً.
على الرغم من إعلان لبنان تخلفه عن سداد الديون في نيسان 2020، إلا أن “المركزي ظل يسدد ديون الحكومة بالعملة المحلية عن طريق طباعة النقود”، بحسب تقرير Doom Loop “حلقة الموت” الذي أعدته وكالة “ستاندرد آند بورز”. ما سيحتم في المستقبل “تضمين أي برنامج لاعادة الهيلكة، الدين الحكومي بالعملة المحلية. ذلك أن إعادة هيكلة الديون بالعملات الأجنبية وحدها لن تؤمن الإستقرار المالي، لكونها لا تشكل سوى 38 في المئة من إجمالي الدين السيادي في نهاية عام 2020. وحتى مع شطب جميع سندات “اليوروبوندز” والديون الرسمية، ستبقى ديون الحكومة تقدر بـ107 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي”.

بين السيئ والأسوأ

تحتفظ البنوك (47 مصرفاً تجارياً) بحوالى 60 في المئة من أصولها على شكل ودائع في مصرف لبنان وشهادات إيداع، و11 في المئة على شكل أذونات خزانة و”يوروبوندز”. وهي تستحوذ على 26 في المئة من الدين الحكومي بشكل مباشر، فيما يستحوذ مصرف لبنان على حوالى 44 في المئة، لغاية نهاية عام 2020. ومن أجل تقدير التكاليف المحتملة لاعادة هيكلة الدين العام، وضعت “ستاندرد آند بورز” ثلاثة سيناريوات للخسائر في سندات “اليوروبوندز” الحكومية، والدين الحكومي بالعملة المحلية، وودائع مصرف لبنان، شهادات الإيداع CDs، فضلاً عن قروض القطاع الخاص.

السيناريو الأول: شطب 50 في المئة من ديون الحكومة اللبنانية بالعملة الأجنبية والمحلية، وشطب 10 في المئة من إيداعات مصرف لبنان، وتحديد نسبة خسائر إقراض القطاع بـ5 في المئة.

السيناريو الثاني: خصم 75 في المئة على سندات اليوروبوندز، و 60 في المئة على الدين بالعملة المحلية، و 50 في المئة على إيداعات مصرف لبنان، و 15 في المئة على إقراض القطاع الخاص.

السيناريو 3: تخفيض 90 في المئة على سندات اليوروبوندز، و70 في المئة على الدين بالعملة المحلية وإيداعات مصرف لبنان.

الكلفة تتدحرج مثل كرة الثلج

ما يمكن إستنتاجه من تقرير “الوكالة”، بحسب المدير التنفيذي السابق في بنوك وصناديق مالية عالمية صائب الزين، أن “الكلفة على المودع والمواطن والإقتصاد، ترتفع مع كل يوم تأخير في إيجاد الحل النهائي من قبل الجهات المعنية الأربع التي حددتها الوكالة، أي: الحكومة، البرلمان، مصرف لبنان، وجمعية المصارف. وهذا ما حذرنا منه منذ بداية العام الماضي”. وبرأي الزين فان “الكلفة الباهظة التي حددتها الوكالة في السيناريو (رقم 3) بـ102 مليار دولار، تشكل 134 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، قد تصبح غداً أكبر. والمشكلة بالكلفة لا تنحصر في حجمها الهائل فحسب، بل بكيفية توزيعها”. ففي الوقت الذي حيدت فيه خطة الإنقاذ 98 في المئة من المودعين عن خطر الإقتطاع من ودائعهم، نرى اليوم أن نسبة “الهيركات” على صغار المودعين، كما على الكبار، بلغت 78 في المئة. وفي ظل استنزاف العملات الأجنبية وانعدام التدفقات الخارجية واستمرار طباعة الليرة اللبنانية لتمويل الدين والعمليات الداخلية، فان الكلفة سترتفع أكثر على المودعين والمواطنين، نتيجة التضخم واستمرار انهيار الليرة أمام الدولار. والمفارقة أن السيناريوات الموضوعة من قبل الوكالة هي على أساس سعر الصرف الرسمي، فيما لو تم احتساب سعر الصرف على 10 آلاف ليرة فان الخسائر سترتفع بين 2 و3 مرات.

ما يميز الأزمة اللبنانية عن بقية الأزمات في الدول والأسواق الناشئة هو تركها تتدحرج مثل كرة الثلج. إذ إنه كلما كبرت “الكرة” كلما انخفضت الديون على القطاع المصرفي وارتفعت على المودعين. وبحسب دراسة الوكالة لـ17 سوقا ناشئاً عانى من حالات التخلف عن السداد السيادية بين عامي 1999 و2010، يتبين أن متوسط نسبة اقتطاع الديون الحكومية بلغت 42 في المئة فقط. فيما هذه النسبة قد تصل في لبنان إلى 90 في المئة، مع ما ستحمله هذه العملية بحق المودعين والمواطنين من “إبادة مالية جماعية”، كما يصفها الزين. فـ”الأزمة النقدية والمالية في لبنان ليست بتعجيزية. وهي مرت على غير دول واستطاعت معالجتها من خلال إجراءات أصبحت معروفة. إلا أن فقدان التعاون بين الجهات المعنية وتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، دفعا كل جهة لـ”تغني على ليلاها” ولتعميق الأزمة، وإلى تحميل المواطنين الكلفة الباهظة لانهيار الليرة والتضخم”.

ألف باء الحلول

الدراسة لوكالة “ستاندرد أند بورز” تفترض شطب حقوق المساهمين في المستقبل، حيث من المرجح أن يخسر المساهمون معظم استثماراتهم في مختلف السيناريوات. كما لا بد من اقتطاع جزء من الودائع عبر Bail in، وطلب المساعدة الخارجية من صندوق النقد، وفصل البنوك الجيدة عن الرديئة، وتصغير حجم القطاع المصرفي وزيادة فعاليته عبر إجراءات الدمج والإستحواذ. إلا أنه مرة جديدة فان “التأخير في اعتماد هذه الحلول البديهية في مواجهة الأزمات النقدية، رفعت كلفة الإقتطاع من الودائع من حدود 20 في المئة قبل منتصف العام الماضي إلى أكثرر من 40 أو حتى 50 في المئة اليوم”، يقول الزين، “كما أن القيمة الفعلية للسندات بالعملات الأجنبية Eurobonds قد تراجعت اليوم إلى ما بين 12.5 و15 سنتاً للدولار. ما يعني حتمية Haircut عليها بنسبة تتراوح بين 85 و87.5 في المئة. فيما سيؤدي تمويل الدين الداخلي من طباعة الليرة إلى زيادة نسبة التضخم، وبالتالي زيادة الخسائر على المواطنين. عدا عن أن هذا الإجراء يبقى رهن الإتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي يفضل عدم التفرقة في المعاملة بين الديون الداخلية والخارجية، والتوصل إلى اتفاق مع المقرضين الدوليين”.

ما تطرحه S&P مع ما يحمله من اقتطاعات كبيرة يصح لمعالجة الواقع اليوم. أما غداً فان الكلفة ستكون أكبر وقد نذهب إلى ما بعد السيناريو (رقم 3)، يقول الزين، و”لو قُبلت التعديلات على خطة الإنقاذ وتم السير بها، لما تجاوز “الهيركات” الـ20 في المئة فيما سيكون أعلى بكثير عند بدء تطبيق أي خطة لاعادة الهيكلة. فالدولار في السوق الموازية كان في أيار العام 2020 حوالى 4450 ليرة ما يعني أن نسبة الإقتطاع من الودائع عند السحب كانت 29 في المئة، وكلفة التضخم على الرواتب بالليرة كانت حوالى 150 في المئة. أما اليوم ومع دولار 13 الف ليرة فقد أصبحت 86 في المئة على المودعين، وأكثر من 400 في المئة على عموم المواطنين”.

في الوقت الذي يُتوقع فيه استمرار الإقتطاع بنسب كبيرة من الودائع عند تبلور أي خطة إقتصادية، فان الإقتصاد يتحول إلى نقدي والبنوك إلى صرافات آلية. ولكن أهمية هذه الدراسة هي إثباتها إمكانية المعالجة في حال تشكيل حكومة قادرة، واتخاذ القرارات المناسبة وتقديم المصلحة الوطنية على المصالح الضيقة لاصحاب القرار الذين حددتهم “الوكالة” بوضوح.

خالد ابو شقرا

هل يُدرك رئيس المركزي اللبناني حجم الورطة التي تنتظرهُ؟

 

ثلاثة أيام تفصلنا عن بدء عمل المنصة الالكترونية لمصرف لبنان، فيما دولار السوق السوداء يعاند ويستمر ثابتاً على مقربة من عتبة الـ13 الف ليرة للدولار. ماذا يعني ذلك؟ هل سيتغيّر الوضع يوم الخميس، وهو الموعد المحدّد لبدء التداول عبر المنصة؟ وما هي احتمالات النجاح والفشل في هذا الإجراء الجديد؟

لم يتمّ الإعلان عن إطلاق المنصة الالكترونية لمصرف لبنان قبل نحو شهرين، في اجواء عادية، بل تحت الضغط، وفي مناخٍ متشنّج. يومها، كان رياض سلامة يخضع للمساءلة من قِبل السلطة السياسية حول الاسباب التي أدّت الى تحليق دولار السوق السوداء ووصوله الى 15 الف ليرة. وكانت السلطة السياسية، تشير الى ارتفاع الدولار وكأنّه مؤامرة محبوكة في الغرف السوداء لأهداف سياسية.

في هذه الاجواء، جرى الاعلان عن المنصّة المركزية، وتمّ الترويج لها على أنّها علاج ناجع لمسألة استمرار ارتفاع الدولار، كما تمّ الترويج لسعر ثابت للدولار في حدود الـ10 آلاف ليرة. كل هذا الكلام لم يكن في موقعه الصحيح، وحتى من يطلقه كان يعرف ذلك، لكن الهدف كان محاولة اشاعة مناخ ايجابي يؤمل منه أن ينعكس فعلياً على سعر الدولار في السوق السوداء.

انطلاقاً من هذا الواقع، ما هي التوقعات المستقبلية لعمل المنصّة، ولتطور سعر صرف الليرة؟

لا بدّ من التوضيح انّ مبدأ وجود منصة مركزية للتداول الحر أمرٌ مطلوب لجسّ نبض السوق، ومعرفة السعر التقريبي الحقيقي للعملة الوطنية. هذا المبدأ يمكن اعتماده ضمن أي خطة اقتصادية انقاذية بهدف توحيد سعر الصرف، ومن ثم اتخاذ قرار بالسعر المرجعي الذي سيجري اعتماده لليرة، بحيث يكون سعراً واقعياً يعكس العرض والطلب والمخزون الاحتياطي، بالإضافة الى اداء الاقتصاد القائم والمتوقع على المدى القصير. ومن خلال تجارب الدول التي مرّت بأزمات مالية وانهيارات وافلاسات، ومن ثم باشرت تنفيذ خطط انقاذ، يتبين انّ سعر العملة في السوق السوداء يعكس الى حدّ ما المستوى الحقيقي للسعر الذي ينبغي اعتماده في مرحلة الخروج من الأزمة. لكن هذا الامر غير مُتاح بالنسبة الى الوضع اللبناني انطلاقاً من نقطتين:

اولاً- استمرار سياسة دعم السلع المستوردة من قِبل المركزي، بما يعني انّ السوق السوداء لا تعكس الحجم الحقيقي للعرض والطلب.

ثانياً- احتمال وجود مضاربات وألاعيب تداولية تهدف إما لتحقيق ارباح سريعة، وإما للضغط السياسي.

من هنا، يمكن الاستنتاج انّ المنصة المركزية ستكون قادرة على مراقبة السوق لمنع المضاربات المشبوهة أو فضحها، لكنها لن تكون قادرة على تحديد السعر الحقيقي لليرة منذ الآن، من اجل اعتماده عندما يبدأ تنفيذ خطة الإنقاذ، هذا اذا بدأت يوماً ما.

الشفافية التي يفترض ان تؤمّنها المنصّة لا يمكن أن تتحقّق إلّا بشرط وحيد، ينصّ على نجاح المنصّة في الغاء السوق السوداء والحلول مكانها. ولكي نصل الى هذه المرحلة ينبغي ان تعمل المنصة على غرار آلية السوق السوداء، أي انّ تشتري وتبيع الدولار. وحتى الآن، عُرف كيف ستبيع الدولارات الى المستوردين، وبأي سعر، ومن أين ستأتي المصارف بالدفعة الاولى من هذه الدولارات، لكن لم يُعرف بعد كيف سيحصل الافراد على الدولارات، وأين سيبيعون دولاراتهم. المنطق، انّ كل هذه العمليات ستتمّ في المصارف ولدى الصرافين الشرعيين، وإلّا فإنّ السوق السوداء ستستمر وستقضي مع الوقت على المنصة، وعلى قسم من دولارات المركزي.

في كل الاحوال، واذا سلّمنا جدلاً بأنّ المنصة ستنجح في الاقلاع وفق آلية عمل السوق السوداء، وانّها ستنجح مع الوقت في الغاء السوق السوداء، وتصبح هي بمثابة السوق الحرة لتبادل العملات، فهل سيكون الوضع أفضل، لجهة سعر الصرف؟

في الواقع، تنطلق المنصّة بالتزامن مع ارتفاع منسوب التشاؤم على المستوى السياسي، بحيث اصبح هناك قناعة بأنّ العهد قد ينتهي بلا حكومة. كذلك، تشير ملامح النقاشات الى انّ هدر الدولارات بالدعم 09العشوائي سيستمر بصرف النظر عن سقف الاحتياطي الالزامي، وبالتالي ستستمر مسيرة الإنحدار بسرعة اكبر. وهذا يعني حصول ضغط اضافي على الليرة، بما يضع مصرف لبنان وحاكمه امام خيارات كلها صعبة، على اعتبار انّه سيصبح مسؤولاً الى حدٍّ ما عن السوق الحرة وتقلّباتها، في حين انّه كان يتنصّل من أي مسؤولية في السوق السوداء.

إذا فلت سعر الدولار بسبب اشتداد الضغط سيكون مصرف لبنان امام الاحتمالات التالية:

1- ترك السوق يفرض السعر المناسب، وهذا يعني احتمال تحليق الدولار، وإشاعة القلق والرعب والبلبلة في البلد.

2 – التدخّل في السوق لبيع الدولار، وهذا يعني تسريع استنفاذ ما تبقّى من دولارات، وتأجيل الكارثة بضعة أشهر، وتقليل فرص النجاة لاحقاً.

3 – وقف بيع الدولار عبر المنصّة والسماح مجدداً بعودة السوق السوداء.

كل الخيارات ستكون صعبة وقاسية، والأرجح انّ سلامة سيتعرّض لضغوطات سياسية من العيار الثقيل لإلزامه بالتدخّل، خصوصاً انّه سيصبح مسؤولاً الى حدٍ ما عن السوق، بسبب إشراف المركزي على منصة التداول، وسينتقل البلد بسرعة من تحت الدلفة الى تحت المزراب… كل الطرق المرسومة حتى الآن توصل الى جهنم.

انطوان فرح

هل يخلق تعميم «المركــزي» أزمة ليرة؟

يُستشفّ من التعميم الذي أصدره المصرف المركزي أمس ان سعر صرف جديداً سيطرح في الاسواق اعتباراً من يوم غد من خلال منصة «صيرفة» بسعر 12,000 ليرة للدولار، على ان تبدأ المنصة عملها الفعلي الخميس المقبل. ويوكِل التعميم مهمة الصيرفة للمصارف لكن يخشى ان يستغل ذلك لتعزيز رصيدها لدى المصارف المراسلة، امّا تدخّل المركزي بالمنصة عبر ضخ الدولارات فهو استعمال علني للاحتياطي الالزامي يهدف الى امتصاص ثلث الليرات المتداولة في السوق.

أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامه، في بيان امس، «انّ البنك المركزي سيقوم بعمليات بيع للدولار الاميركي للمصارف المشاركة على منصة Sayrafa بسعر 12,000 ليرة للدولار الواحد». وطلب من المشاركين الراغبين في تسجيل جميع الطلبات على المنصة اعتبارا من نهار الجمعة الواقع في 21 أيار 2021 وحتى نهار الثلاثاء الواقع في 25 أيار 2021، شرط تسديد المبلغ المطلوب عند تسجيل الطلب بالليرة اللبنانية نقدا على ان تتم تسوية هذه العمليات نهار الخميس الواقع في 27 أيار 2021. وأكد ان الدولارات الاميركية ستدفع لدى المصارف المراسلة حصراً.

وفي قراءة لتعميم مصرف لبنان، يقول المستشار المالي ميشال قزح لـ»الجمهورية» ان ما يحاول مصرف لبنان القيام به اليوم هو امتصاص الليرة من السوق، إذ يتبيّن وفق آخر ميزانية نشرها المركزي ان كمية النقد المتداولة في السوق تقدر بحوالى 39 تريليون ليرة أي بما يوازي حوالى 3 مليارات دولار اذا احتسب الدولار بحوالى 12 الف ليرة. فعلياً، اذا باع المركزي اليوم مليار دولار من خلال المنصة يكون قد امتص 12 تريليون ليرة من السوق، متوقعاً ان يتراجع عرض الليرة او توفرها في الفترة المقبلة.

واكد قزح ان امتصاص الليرة سيكون على حساب الاحتياطي الالزامي، فمتى تراجع عرضها سينخفض الطلب على الدولار وهذا ما يراهن عليه المركزي اليوم.

ولفت قزح، رداً على سؤال، الى انه بنتيجة هذا التعميم سيتحول عمل المصارف الى الصيرفة، لكنه لم يستبعد ان تلجأ المصارف في حال كان عمل المنصة مفتوحاً امام الجميع أي امام الافراد والشركات الى خفض سقف السحوبات للأفراد بالليرة كي تستعمله في المقابل لشراء الدولارات عبر المنصة بغرض تعزيز احتياطاتها لدى المصارف المراسلة. على سبيل المثال، قد تلجأ المصارف الى خفض سقف السحوبات للأفراد من 20 مليون ليرة شهريا الى 5 ملايين ليرة على ان تستعمل الـ 15 مليون ليرة المتبقية لشراء الدولارات من خلال المنصة وتحويلها الى المصارف المراسلة، لافتاً الى ان هذا الاحتمال وارد الا في حال أعطيت دولارات المنصة مقابل فواتير استيراد.

وأكد قزح ان هذا التعميم لن يلغي السوق السوداء التي يباع فيها الدولار بحوالى 12600 ليرة، إنما ما حصل هو خلق سعر صرف جديد، ووفق دراسة أعدّها قزح يتبيّن ان لدى المركزي اليوم 9 مليارات دولار نقداً قابلة للاستعمال، مبرراً ذلك بأنّ الورقة التي قدمها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الى رئيس الجمهورية ميشال عون في شباط 2020 تظهر ان قيمة النقدي المتوفرة هو 21 مليار دولار، وبالنظر الى حجم العملات الصعبة التي يصرفها شهرياً وبعد حذفها من قيمة هذا النقدي يتبقى حوالى 9 مليارات دولار نقدي. وأوضح قزح انه من ضمن قيمة اموال الاحتياطي التي يصرّح بها المركزي والتي تبلغ 15 مليار دولار يوجد 6 مليارات دولار أقرضَها للمصارف، أي هي ديون غير متوفرة نقدا حالياً، وهذا ما يؤكد أيضا انّ الاحتياطي الالزامي النقدي القابل للتصرف به هو 9 مليارات دولار فقط.

وعن تقديراته لكمية الأموال التي سيضطر المركزي الى ضخّها في المنصة للمحافظة على سعر 12 الف ليرة ولاحقاً خفضها، يعبّر قزح عن اعتقاده ان المصرف المركزي لطالما تدخل في السوق السوداء للجم انهيار الليرة من خلال الصرافين، اما الآن فسيتحول لضخ الدولارات من خلال المصارف عبر منصة صيرفة وهو بذلك يهدر المليارات الأخيرة المكونة للاحتياطي الالزامي.

وقدّر قزح ان يؤمّن المركزي ما بين 5 الى 6 مليارات دولار سنويا لدعم الليرة ولتأمين فاتورة الاستيراد. وعليه، من المتوقع ان يخدم الاحتياطي حوالي عام ونصف العام كأبعد تقدير قبل ان يهدر كلياً، وعندها يصبح الاحتياطي صفراً ولن يبقى امام لبنان سوى بيع الذهب إذا لم ندخل في برنامج عمل إصلاحي مع صندوق النقد الدولي.

ورداً على سؤال اذا كانت ستنجح المنصة في خفض سعر الدولار الى 10 آلاف ليرة؟ يقول قزح: كان الاجدى بمصرف لبنان ان يبدأ ببيع الدولار عبر المنصة بالسعر المعمول به في السوق السوداء أي 12700 او 12800 ليرة تكون متاحة للجميع، وترك السوق تسعّر الليرة من خلال حركتي العرض والطلب على ان يتدخل المركزي فقط في حال انهيار الليرة. بهذه الطريقة يتوحّد سعر الصرف ويتحسن سعر الليرة ويمكن عندها خفضه تدريجاً الى 12000 ليرة، مستبعدا ان تتمكن المنصة من خفض سعر الصرف الى 10 آلاف ليرة وفق ما سبق وصرّح وزير المالية.

وعما اذا كان بدء العمل بالمنصة سيحدّ من اي ارتفاعات مستقبلا في سعر الدولار مقابل الليرة، يقول قزح: ان سعر الصرف يتحدّد عندما يتم رفع الدعم كليا خصوصاً عن المحروقات التي تكلّف حوالى 4 مليارات دولار سنويا، عندها يتوقّف المركزي عن استنزاف الدولارات التي لديه ويترك للسوق ان تحدّد سعر الصرف.

تضخّم عالمي 11%: ما مدى تأثيره على لبنان؟

من المعلوم أنّ الاقتصاد اللبناني يئنّ اليوم تحت وطأة معدّلات التضخّم الملتهبة، نتيجة تدهور سعر الصرف. وهي ظاهرة ستتفاقم قريباً إذا دخل لبنان في مرحلة رفع الدعم من دون وجود سيولة تسمح لمصرف لبنان بالتدخّل في سوق القطع لضبط سعر صرف الليرة. ومن المعروف أيضاً أنّ جانباً أساسيّاً من الضغط على السيولة المتوافرة في الأسواق بالدولار يعود إلى حاجة البلاد إلى العملة الصعبة للاستيراد.

لكنّ وتيرة استنزاف العملة الصعبة للاستيراد ومستوى التضخّم سيتأثّران أيضاً بمتغيّرات عالميّة ستزيد من سوداويّة المشهد، خصوصاً لجهة معدّلات التضخّم العالميّة التي بدأت بالارتفاع أخيراً.

تشهد جميع السلع الأساسيّة منذ أشهر ارتفاعاً حادّاً في أسعارها على المستوى الدولي، نتيجة دخول معظم الاقتصادات العالميّة في مسارات التعافي بعد فتح أسواقها تدريجياً، وزيادة الطلب على هذه السلع. وسيؤدّي ارتفاع الأسعار في الخارج، تلقائياً، إلى ارتفاع كلفتها بالنسبة إلى لبنان، الذي يعتمد على الاستيراد لتوفير الغالبيّة الساحقة من احتياجاته، وهذا سيؤدّي بدوره إلى ارتفاع مستوى الطلب على الدولار المطلوب لاستيراد هذه السلع، وإلى زيادة الضغط على سعر صرف الليرة. وفي الوقت نفسه، سيكون ارتفاع الأسعار في الخارج سبباً لارتفاع أسعار السلع نفسها محليّاً، زائداً من معدلات التضخّم المرتفعة أساساً. باختصار، من المفترض أن يكون تعافي الاقتصادات العالميّة خبراً سارّاً لشعوب العالم، التي عانت من آثار وباء كورونا وقرارات الإقفال الشامل في أسواق العالم، لكنّ ذلك لن ينطبق على لبنان الذي ستزيد معاناته في ظل هذه التطوّرات.

وتيرة استنزاف العملة الصعبة للاستيراد ومستوى التضخّم سيتأثّران أيضاً بمتغيّرات عالميّة ستزيد من سوداويّة المشهد، خصوصاً لجهة معدّلات التضخّم العالميّة التي بدأت بالارتفاع أخيراً

وفقاً لأرقام البنك الدولي، ارتفع مؤشّر أسعار المنتجات والمشتقّات الزراعيّة من نحو 97.65 نقطة في بداية أيار من العام الماضي، إلى نحو 123.69 نقطة في بداية شهر آذار من هذا العام. فتكون أسعار هذه المواد على المستوى الدولي قد ارتفعت بنحو 27% خلال فترة 11 شهراً فقط. وتضمّ سلّة المنتجات المشمولة بهذا المؤشّر القمحَ، الذي يُموَّل استيراده حتّى اللحظة من احتياطات مصرف لبنان، والذي ارتفعت أسعاره بنحو 53% بين بداية شهر أيلول من العام الماضي وبداية الشهر الحالي، أي خلال 8 أشهر فقط. وارتفاع أسعار المشتقّات الزراعيّة يرفع أيضاً كل أسعار المصنوعات الغذائيّة، التي تدخل كلفة المشتقّات الزراعيّة في كلفتها، كالمعلّبات والسكاكر والزيت مثلاً.

ارتفع المؤشّر الخاص بالحديد والمعادن، بشكل سريع، من 83.66 نقطة في شهر نيسان من العام الماضي، إلى 140.66 نقطة في بداية آذار من هذا العام، زائداً أكثر من 67% خلال فترة 11 شهراً فقط. بالنسبة إلى لبنان، سيستفيد الاقتصاد المحلّي من هذه التغيّرات من خلال زيادة أسعار خردة الحديد والنحاس التي تصدّرها البلاد، والتي تجاوزت قيمتها 147 مليون دولار خلال العام الماضي، خصوصاً أنّ تصدير الخردة وتجارتها يشهدان منذ بدء الأزمة ازدهاراً غير مسبوق. لكن سيؤدّي، في المقابل، ارتفاع أسعار المعادن والحديد إلى قفزة كبيرة في فاتورة استيراد جميع البضائع التي تدخل هذه الموادّ في كلفتها، بما فيها المعدات والماكينات وحديد البناء وغيرها.

وفقاً لأرقام البنك الدولي، ارتفع مؤشّر أسعار المنتجات والمشتقّات الزراعيّة من نحو 97.65 نقطة في بداية أيار من العام الماضي، إلى نحو 123.69 نقطة في بداية شهر آذار من هذا العام

أمّا القفزة الكبرى في الأسعار فشهدتها مصادر الطاقة بمختلف أشكالها، وخصوصاً النفط والغاز. فمؤشّر الطاقة ارتفع بين بداية نيسان من العام الماضي وبداية آذار من هذا العام من 38.66 نقطة إلى 105.33 نقطة، متضاعفاً خلال 11 سنة بنحو 2.72 مرّة. أمّا حساسيّة هذا المؤشّر بالنسبة إلى لبنان في هذه المرحلة بالذات، فهو ارتباطه بارتفاع حجم السيولة المطلوبة لاستيراد المحروقات. وهي سيولة ستكون السوق الموازية مصدَرَها، بعد الوصول إلى مرحلة رفع الدعم عن استيراد المحروقات، لكنّ هذا سيترك أثراً على سعر صرف الليرة.

مع ارتفاع أسعار المعادن والموادّ الغذائيّة والمحروقات، ستكون النتيجة ارتفاعاً موازياً في أسعار جميع السلع الأخرى، خصوصاً أنّ هذه الموادّ الأساسيّة الثلاث تدخل في كلفة إنتاج جميع أنواع المصنوعات الأخرى بمختلف أنواعها، وخصوصاً المحروقات. ولهذا السبب، تتوقّع وكالةFocusEconomics  أن يشهد الاقتصاد العالمي ارتفاعاً عامّاً في أسعار السوق بنسبة تتجاوز 11% قبل نهاية العام، مسجّلاً بذلك معدّل تضخّم عالميّاً كبيراً قياساً إلى السنوات السابقة. وتتوقّع أرقام الوكالة استمرار نمط الارتفاع نفسه في الأسعار عالميّاً، نتيجة استمرار الارتفاع في الطلب العالمي على السلع والخدمات بعد فتح الأسواق، ومحدوديّة الإنتاج العالمي الذي لم يواكب بعد هذا الارتفاع.

أمّا الدولة اللبنانيّة، وتحديداً حكومة تصريف الأعمال، فتبدو غائبة كلّيّاً عن كل هذه التوقّعات والتطوّرات المقلقة، لا بل بدا واضحاً ابتعادُ الحكومة عن متابعة هذه الأحداث من خلال خطّتها للبطاقة التمويليّة، التي بنت تقديراتها للحاجات التمويليّة على أسعار العام الماضي، والتي تدلّ على عدم معرفة المستشارين بما جرى من تطوّرات أخيراً في أسعار السلع عالميّاً.

علي نور الدين

كيف سيتمّ تحديد سعر الدولار عبر المنصّة؟

 

تنطلق المنصّة الالكترونية في اجواء لا يمكن البناء عليها للقول انّها ستحقّق الفرق الذي كان يأمل البعض حصوله لجهة تأمين نوع من الاستقرار المرِن في اسعار الصرف في السوق الحرة. وبانتظار ما ستؤول اليه مبادرة مصرف لبنان لإراحة اللبنانيين، لا يبدو انّ الراحة ستعرف طريقها الى الناس في المرحلة المقبلة.

من خلال التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان لاعلان آلية عمل المنصة الالكترونية، يتبيّن انّ بعض النقاط التي كان يشوبها الغموض جرى توضيحها، في حين بقيت نقاط أخرى غامضة الى حدٍ ما، وهو غموض مقصود وليس بالصدفة.

من أهم الامور التي توضحت، تلك المتعلقة بهوية من يحق له الحصول على الدولارات أو الليرات من المنصّة الالكترونية. وفي حين كان الاعتقاد السائد أنّ عمل المنصّة سينحصر بالمستوردين وبعض الجهات التي لديها مبررات مُقنعة لشراء الدولار، أوضح مصرف لبنان في تعميمه، انّ المصارف تستطيع عبر المنصّة «تأمين الحاجات التجارية والشخصية لعملائها، أياً تكن صفتهم، وفقاً للعرض والطلب في السوق». وهذا يضع حداً لأي التباس. في المقابل، يحدّد التعميم طريقة البيع والشراء، بحيث انّ المودع لا يستطيع، على سبيل المثال، تحويل جزء من وديعته الدولارية (لولار) الى دولار حقيقي من خلال عملية تحويل مباشرة تنصّ على احتساب سعر الدولار على المنصّة القديمة (Sayrafa) على 3900 ليرة، وشراء دولارات بالمبلغ. بل المطلوب ان يسحب المال بالليرة، ومن ثم يشتري نقداً الدولار الحقيقي من المنصة. في تبسيط للموضوع، لا يمكن البيع والشراء دفترياً بشكل مباشر عبر الحسابات المصرفية، بل ينبغي حصر العمليات بالاموال النقدية الورقية بالليرة وبالدولار.

النقطة التي بقيت غامضة عن قصد، هي تلك المتعلقة بثلاثة أمور:

اولاً- كيف سيتمّ تأمين المال لانطلاق العملية في كل مصرف على حدة؟ هل انّ مصرف لبنان سيخصّص مبلغاً مقطوعاً بالدولار للمصارف، ام انّ المصارف ستتعهد بذلك؟

ثانياً- ما هو السعر الذي سيجري تحديده لانطلاق العمل في اليوم الاول؟ هل سيتمّ اعتماد سعر السوق السوداء، ام سيتمّ تحديد سعر اكثر انخفاضاً؟ وفي هذه الحالة، كيف ستتأمّن الدولارات لتغطية المرحلة الاولى التي ستكون محصورة في الشراء بانتظار ان يتبرمج السعر الموازي في السوق السوداء، ويصبح مساوياً لسعر المنصة، وينتفي بذلك مبرر وجوده؟

ثالثاً- هل من كوتا يومية لحجم التبادل، خصوصاً لجهة بيع الدولار، ما دامت المشكلة تكمن في حجم الطلب على الدولار وليس في حجم الطلب على الليرة؟ وعندما تنفد الدولارات المخصّصة لعمل المنصّة من المصرف هل يتوقف عن البيع، ام انّ مصرف لبنان سيتدخّل عندها لضخ دولارات تلبّي الطلب؟ ومن أين سيموّل المركزي الصندوق الذي سينشئه للمنصة؟

رابعاً- اذا توقف الدعم في هذه الفترة بالتزامن مع انطلاق المنصّة، سيزيد الطلب على الدولار لزوم تأمين الاستيراد، وهو طلب كبير نسبياً يُقدّر حجمه مع احتساب التراجع المتوقع في الاستيراد بحوالى 500 الى 600 مليون دولار شهرياً. كيف سيتمّ امتصاص هذا الطلب؟

في المقابل، ستؤمّن المنصة الالكترونية شفافية كبيرة لانسياب الدولار في السوق الحرة، وسيصبح في مقدور مصرف لبنان مراقبة السوق بدقة، ومعرفة تحركات سوق الصرف بيعاً وشراءً، ومعرفة هوية من يشتري ويبيع، وبالتالي، سيكون في مقدور المركزي ان يعرف عندما تحصل مضاربات مشبوهة لأسباب تجارية أو سياسية. وهذا تطور ايجابي، خصوصاً في ظل التوجّس الموجود لدى البعض، من وجود مؤامرات دائمة تهدف الى رفع سعر الدولار اصطناعياً. وقد شهدنا هذا النوع من الشكوك عندما ارتفع الدولار الى 15 الف ليرة، واستدعى رئيس الجمهورية حاكم مصرف لبنان وسأله عن اسباب هذا الارتفاع غير المبرّر. بوجود المنصّة يستطيع الحاكم ان يجيب بالتفصيل الممل ماذا يجري في السوق الحرة، ويبيّن اذا ما كان هناك من يشتري الدولار لمجرد زيادة الطلب ورفع السعر، وممارسة ضغوطات سياسية على هذا أو ذاك.

في المحصلة، ومن خلال مضمون التعاميم التي صدرت، ومن خلال الوقائع المعروفة سواء لجهة القدرات المالية لمصرف لبنان، أو لجهة السيولة الدولارية التي تستطيع ان تؤمّنها المصارف لسوق الصرف، يمكن التأكيد انّ سعر الليرة لن يكون ثابتاً بعد المنصّة، بل سيبقى عرضة لأهواء السوق المرتبطة بدورها بالحاجة والواقع. وبالتالي، واذا لم يطرأ جديد يخفّف من منسوب التشاؤم القائم، ومن الحاجة المتزايدة الى دولار غير متوفر، ينبغي ان نتوقّع استمرار انهيار الليرة في المرحلة المقبلة، ولن تكون المنصة اكثر من وسيلة لتشريع سوق الصرف الحرة، بدلاً من تركها في الشارع تحت مُسمّى السوق السوداء.

انطوان فرح.

25 ألف دولار لكلّ صاحب وديعة.. من أين؟

قفز حاكم مصرف لبنان رياض سلامة فوق فشل البنوك في تطبيق التعميم الـ154، ليعلن جزافاً، ومن دون تفاصيل، “نجاح التعميم”، ويتيح لنفسه إعلان “مبادرة” لتقسيط ودائع الناس. فمن أين تأتي البنوك بالأموال؟

واقع الأمر أن القطاع المصرفي دخل منذ أشهر طويلة في مسار الفصل في قوائم مطلوباته بين ما قبل 17 تشرين وما بعده، بمعنى أنّ أيّ دولار دخل البنكَ بعد 17 تشرين له حكم مختلف عن الودائع السابقة لذلك التاريخ. وقد قامت البنوك بتصفية كمّ غير محدّد من تركة ما قبل 17 تشرين عن طريق “الليلرة”، أي السماح للمودعين بسحبها بالليرة وفق سعر 3900 ليرة للدولار، مع إجراء تسوية مقابلة مع مصرف لبنان تجعل البنك يتحرّر من مطلوبات بالدولار من دون أن يتحمّل أيّة خسارة.

مضمون بيان مصرف لبنان يشير، بشيء من الغموض المقصود، إلى مخطّط يُعدّ له لتصفية مشكلة ودائع ما قبل 17 تشرين، على النحو التالي:

المشكلة الأكبر ستكون لدى أصحاب الودائع الكبيرة. فهؤلاء لن يحصلوا سوى على جزء بسيط من أموالهم بالدولار، وعلى فترات تقسيط مطولة، فيما ستصبح بقية أموالهم عرضة لهشاشة سعر صرف الليرة

– سداد جزء منها بالدولار، بسقف لا يتجاوز 25 ألف دولار سنويّاً، مهما بلغ حجم الوديعة، مع تجميد الأجزاء الأخرى من هذه النسبة لفترات استحقاق مؤجّلة تمتدّ لسنوات.

– تحويل نسبة من الودائع إلى الليرة وفق سعر يقاس بمعادلة معيّنة كنسبة إلى سعر صرف المنصّة التي ستُطلَق، مع فرض سقوف على السحوبات، لئلا تتضخّم الكتلة النقدية بالمفهوم الضيق (M1)، فيخرج سعر الدولار في السوق الموازية عن السيطرة.

– في المقابل، يُجري مصرف لبنان تسوية مقابلة مع البنوك، بحيث يُبقي على جزء قليل منها بالدولار، ولفترات استحقاق ممتدّة، على أن يحوِّل جزءاً آخر إلى شهادات إيداع بالليرة.

هذه الخطة ستحمل “هيركت” مباشر في سعر التحويل من الدولار إلى الليرة، و”هيركت” آخر غير مباشر من خلال الانخفاض اللاحق المتوقّع لسعر الصرف بعد عملية “الليلرة”. لكنّها في منظور القطاع المصرفي ضرورية، لأنها تريح ميزانيات البنوك إلى حدّ بعيد، فهي تحرّرها ممّا لا يقلّ عن سبعين مليار دولار من المطلوبات، ويتيح لها ردم جزء كبير من الفجوة بين الموجودات والمطلوبات الأجنبية.

وتخفّف أيضاً الضغوط على مصرف لبنان، من حيث تقليص الفجوة الهائلة في ميزانيته التي تبقى أرقامها الدقيقة سرّاً من أسرار رياض سلامة، لكن يمكن الاستناد إلى حجم “الموجودات الأخرى” في ميزانية المصرف المركزي البالغة نحو 74.5 ألف مليار ليرة، للاستنتاج أنّها لا تقلّ عن 50 مليار دولار.

لكن أين تكمن المشكلة؟

المشكلة الكبرى ستكون لدى أصحاب الودائع الكبيرة. فهؤلاء لن يحصلوا إلّا على جزء بسيط من أموالهم بالدولار، وعلى فترات تقسيط مطوّلة، فيما ستصبح بقية أموالهم عرضة لهشاشة سعر صرف الليرة.

وفي الأمر إشكال أخلاقي كبير. فسلامة نفسه هو عرّاب النموذج الخطير، الذي سمح للبنوك ببناء انكشافات على المطلوبات بالعملة الأجنبية بهذه الضخامة، لتوفير التمويل للقطاع العام، وكانت الضمانة الوحيدة للمودعين هي الإيداع بالدولار. فالارتداد عنها الآن بغطاء قانوني، كما يطلب سلامة، هو في الحدّ الأدنى خديعة للمودعين.

والمشكلة الثانية، ستكون في صعوبة توفير 25 ألف دولار لكل صاحب وديعة. فكلّ ما تبقّى من تلك الودائع ليس أكثر من نسبة الـ15% المجمّدة لدى مصرف لبنان على شكل توظيفات إلزامية، وهي آخر ما تبقّى من احتياطاته. وعلى هذا الاحتياط لا يقف فقط عبء دعم المواد الأساسية وحفظ الحدّ الأدنى من الاستقرار النقدي، بل يقف عليه أيضاً عبء استحقاقات مدفوعات الفوائد التي يتحمّلها مصرف لبنان على شهادات إيداع البنوك (يدفع نصفها بالدولار ونصفها بالليرة)، وهي أيضاً أعباء لا يكشف مصرف لبنان بياناتها، خلافاً لأدنى قواعد الشفافية والإفصاح.

أمّا البنوك فهي العاجزة عن تحرير 3% من قيمة الودائع في حسابات لدى البنوك المراسلة، وهي التي تصرخ في مجلس النواب بأنّها لا تستطيع توفير 900 مليون دولار سنوياً لتغطية التحويلات الضرورية المنصوص عليها في مسوّدة اقتراح قانون الكابيتال كونترول، فمن أين تأتي بعشرة في المئة من قيمة الودائع بالدولار؟

بعض التقديرات من مسؤولين مصرفيين تشير إلى أنّ الحسابات التي في رصيدها 25 ألف دولار أو أكثر من مرحلة ما قبل 17 تشرين، تعدّ بمئات الآلاف، ما يعني أن تكلفة دفع هذا المبلغ لها ستكون بالمليارات وليس بمئات الملايين، ومن غير الممكن توفيرها إلا من خلال قرار كبير بخفض الحدّ الأدنى للتوظيفات الإلزامية لدى مصرف لبنان من 15% إلى 10%، وهو قرار له آثار كبيرة في هذه المرحلة، ويمكن أن يؤثّر على أيّة خطة مستقبلية للخروج من الأزمة.

المشكلة الثانية، ستكون في صعوبة توفير 25 ألف دولار لكل صاحب وديعة. فكل ما تبقى من تلك الودائع ليس أكثر من نسبة الـ15% المجمدة لدى مصرف لبنان على شكل توظيفات إلزامية، وهي آخر ما تبقى من احتياطاته

الرهان كلّه إذاً على أمرين: أوّلهما تجميل الميزانيات العمومية للبنوك ومصرف لبنان وإصلاح الفجوات في سلالم الاستحقاقات، وثانيهما تخفيف عبء تكاليف التمويل بالدولار على مصرف لبنان وإنقاذه من التعثّر.

الصدمة في بيان حاكم مصرف لبنان ليست في هذه الخطة الصعبة المنال، بل في شبه الجملة التي ساقها في مطلع البيان كما لو أنّها تحصيل حاصل، ونصّها: “بعد نجاح التعميم الـ154 والتزام المصارف بمندرجاته (…)!”

هكذا، وبكل بساطة، تمرّ معلومة بهذه الخطورة، يتوقّف عليها ما إذا كان أيٌّ من البنوك مفلساً أم مليئاً، وما إذا كان قادراً على إعطاء الودائع للناس أم لا.

ألا يستحقّ أمرٌ بهذه الخطورة أن يُصدر مصرف لبنان بياناً خاصّاً يوضح نتائج تقويم أوضاع القطاع بنكاً بنكاً، ومعدل كفاية السيولة وكفاية رأس المال لدى كلٍّ منها، ومعدّلات جودة الأصول؟

أقلّه، هل يستطيع حاكم المصرف المركزي أن يجيب بلا مواربة على أربعة أسئلة تتعلّق مباشرة بمندرجات التعميم الـ154:

1- هل التزمت جميع البنوك بتكوين حسابات حرّة من الالتزامات لدى البنوك المراسلة الخارجية بما لا يقلّ عن 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية لديها؟

2- هل قام كلّ مصرف حقّاً “بعملية تقويم عادل لموجوداته ومطلوباته”، ووضع خطة إعادة هيكلة تمكّنه “خلال فترة زمنية محدودة” من الالتزام بمعايير الملاءة والسيولة، و”إعادة تفعيل نشاطاته وخدماته المعتادة لعملائه بما لا يقلّ عمّا كانت عليه قبل تشرين الأول 2019″؟

3- هل نجحت البنوك في حضّ العملاء والمستوردين على إعادة 15% من الأموال المحوَّلة إلى الخارج، وإقناع الأشخاص المعرّضين سياسياً ومسؤولي البنوك وكبار المساهمين بإعادة 30% من تحويلاتهم؟

4- هل عرضت البنوك على أصحاب الودائع تحويلها إلى سندات دين دائمة؟

تلك هي مندرجات التعميم الـ154، ولو أنّ البنوك نفّذتها بالفعل، ولا سيما البندين الأوّلين، لكانت الأزمة المصرفية قد قطعت نصف الطريق إلى الحلّ. لكنّ الواقع أبعد ما يكون عن ذلك. وقد كانت البنوك صريحة في أنّها لم تستطع تنفيذ التعميم في الشقّ المتعلّق بالحسابات لدى البنوك المراسلة، وهو ما تتواتر المعلومات في شأنه منذ انتهاء المهلة في آخر شباط الفائت.

لجدير التذكير به أنّ بياناً صدر عن المجلس المركزي في مصرف لبنان، في ذلك الحين، لم يأتِ على ذكر التزام المصارف بالتعميم الـ154، بل تحدّث عن “إجماع على وضع خريطة طريق مع مُهل للتنفيذ سيلجأ مصرف لبنان من خلالها إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة”.

مرّت معلومة بهذه الخطورة في شبه جملة، لأنّه شبه بيان، ولأنّها شبه مبادرة. فمصرف لبنان وحاكمه محشوران في زاويةٍ لا تسمح لهما بالمبادرة. ليس الأمر أكثر من محاولة لتفادي الآتي الذي هو أعظم.

عبادة اللحن

تثبيت سعر الصرف مع «رَشِّة» دولارات للمودعين

 

لا أحد يتحدث في العلن عن الرابط بين ملفات رفع الدعم والكابيتال كونترول وإطلاق العمل في المنصّة الالكترونية للتداول. لكن فكّ رموز التعاميم والقرارات التي يصدرها مصرف لبنان، بالإضافة الى طريقة تعاطي بعض السياسيين، يدفعان الى استنتاج وحيد، مفاده انّ البلد امام سلة جديدة من الإجراءات، هدفها المُعلن التعايش مع الأزمة بانتظار الحل، لكنها وصفة مفيدة أيضاً للانتخابات النيابية التي دخلت عامها الحاسم.

أعطى الكتاب الذي أرسله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الى وزير المال غازي وزني أول اشارة رسمية الى وظيفة المنصّة الالكترونية لعمليّات الصرافة التي يُطلقها مصرف لبنان، والتي تبيّن انّها تهدف الى «تأمين ثبات القطع». هذه الوظيفة المُعلنة تدفع الى طرح علامات استفهام عدة منها:

أولاً- هل يمكن تثبيت سعر الصرف في هذا الوضع القائم، وهل هي سياسة نقدية ناجعة اليوم؟

ثانياً- هل يملك مصرف لبنان القدرة على ممارسة سياسة تثبيت سعر الصرف في ظل فقدان الثقة بالعملة الوطنية وبآفاق الحلول للأزمة؟

ثالثاً- هل المقصود بعبارة ثبات سعر الصرف تحديد سقف وقعر لسعر الليرة، ام انّه تثبيت متحرّك (floating)، يمكن ان يتماهى مع الوضع والضغوطات ضمن ضوابط مقدورعليها؟

رابعاً- ما هي مدة صلاحية مثل هذا الإجراء، والى متى قد يصمد ويستمر؟

خامساً- من هي الفئات التي ستستفيد من المنصّة، وهل سيلغي وجودها السوق السوداء القائمة حالياً؟

خارج اطار ملف المنصّة، والتي سيتحدّد فيها سعر صرف الدولار بحوالى الـ10 آلاف ليرة، لا تزال علامات الاستفهام مطروحة حول التعميم 939، والذي طلب فيه مصرف لبنان من المصارف تزويده بداتا مفصّلة، من دون اسماء، حول أرصدة الزبائن لديها بالليرة وبالعملات الاجنبية كما كانت في 13-10-2019، وكما أصبحت في 31-3- 2021. ولا تشمل المعلومات المطلوبة الحسابات المفتوحة بعد 31 تشرين الاول 2019.

أعطى البعض تفسيرات ملتبسة حول هدف هذا التعميم، منها انّ المركزي يريد معرفة التحويلات التي جرت الى الخارج، خصوصاً انّ الجزء الثاني من التعميم طلب معلومات عن أرصدة الودائع منذ 31-12-2015 وحتى 31-3-2021.

من خلال النموذج الذي أرفقه مصرف لبنان بالتعميم، يتضح انّ الهدف الرئيسي هو معرفة نوعية المودعين كما أصبحت اليوم. خصوصاً انّ هذه الوضعية التي كانت قائمة قبل ثورة تشرين 2019، قد تكون اختلفت كثيراً اليوم. في التقديرات، انّ عدداً كبيراً جداً ممن كانوا يُصنّفون صغار المودعين، (أقل من 5 ملايين ليرة، أو ما يوازيها بالدولار وفق السعر الرسمي) خرجوا من الجهاز المصرفي بعدما أغلقوا حساباتهم يوم قدّم لهم المركزي العرض (offer) بإمكانية تحويل أرصدتهم من الليرة الى الدولار ومن ثم سحبها على سعر مرتفع قياساً بالسعر الحقيقي الذي بلغته الليرة في تلك الحقبة، شرط اقفال الحساب. هذا الامر أدّى الى اقفال عشرات آلاف الحسابات في حينه. كذلك، واصل مودعون صغار لم يشملهم العرض، سحب ودائعهم بالدولار المُقنّن في البداية، ومن ثم بالليرة عندما توقف دفع الدولار. وبذلك سحب عدد كبير من هؤلاء كامل ارصدتهم.

من هنا، يسعى المركزي الى الحصول على المعلومات، في اطار إجراء حسابات دقيقة عن الرقم الذي يستطيع اعتماده في حال تقرّر السماح للمودعين بسحب كمية محدّدة من ودائعهم بالدولار وليس بالليرة، في اطار قانون الكابيتال كونترول. وستساعد دراسة وضعية الودائع وتوزعها على فئات (bracket) المودعين، في تحديد المبلغ الذي يمكن سحبه شهرياً بالدولار من قِبل المودع.

كل ذلك ينبغي ان يأتي في سلّة واحدة، ولو لم يتمّ الاعلان عن هذا الرابط. أي انّ الكابيتال كونترول سيسمح للمودعين بسحب دولارات حقيقية، والمنصّة ستحدّد سعر الصرف بـ10 آلاف ليرة، وسيتمّ استخدامها لتأمين دولارات الاستيراد، والبطاقة التمويلية ستغطي حاجات من لا يملك دولارات او أرصدة في المصارف ليسحب منها. وفي الموازاة، سيتمّ رفع الدعم الذي بدأ تطبيقه عملياً من دون اعلان رسمي.

يبقى السؤال الأهم في هذا المشروع: من وكيف سيموّل هذه السلّة، ومن اين ستأتي الدولارات لتثبيت سعر صرف المنصة، واعطاء دولارات للمودعين؟

الجواب، انّ مصرف لبنان، ومقابل وقف الدعم، سيخصّص مبلغاً للتمويل، وكذلك المصارف ستتولّى تمويل قسم من المشروع، لاسيما ما يتعلق بدفع دولارات حقيقية للمودعين.

هذه هي الوصفة السحرية المتوافق عليها ضمناً، وهي تحظى بموافقة قوى سياسية تريد بأي ثمن تقديم شيء ما للناخبين، بعدما دخلت البلد رسمياً في العام الانتخابي. لكن ضمان نجاح هذه السلّة الملتبسة في التوقيت والأهداف والنتائج، يدفع الى الذعر من احتمال الفشل، لأنّ فشلها سيؤدي الى انفجار اجتماعي غير مسبوق، وقد لا ينتظر الجائعون موعد الانتخابات للتغيير، فينزلون الى الشارع على غرار ما حصل في كانون الاول 2001 في بوينس ايرس، عندما نزل الارجنتينيون الى الشارع يهتفون بصوت واحد بالاسبانية Que se vayan todos وهي العبارة التي اقتبسها ابناء الثورة في لبنان (كلّن يعني كلّن). يومها أسقط الارجنتينيون رئيس الجمهورية والحكومة، وحصلوا على التغيير لكنهم لم يحصلوا على الحل لأزمتهم، لأنّ من جاء بعد ذلك لم يكن على مستوى التحدّي. انّه نموذج يؤكّد انّ المطلوب ليس مجرد التغيير، بل التغيير نحو الأفضل.

(ملاحظة: المقال حُرِّر قبل صدور بيان مصرف لبنان الأخير).

انطوان فرح

مُستقيل وغير مُرشّح للانــتخابات.. ماذا يخشى؟

 

رغم قساوة الظروف التي يمرّ فيها القطاع المالي، ورغم المصير شبه المشترك بين مصرف لبنان والمصارف، إلّا انّ غريزة البقاء تُخفي معاناة كبيرة بين الطرفين، فيما يساهم الوقت الضائع في «تحسين» دفاتر المركزي، وخفض فرص إنقاذ الودائع.

حوالى 50 يوماً مضت على انتهاء مهلة تنفيد التعميم 154، وهي فترة كافية لكي تكون اللجنة المكلّفة تسلّم ملفات المصارف قد كوّنت فكرة اولية عن أوضاع القطاع، وان تكون عملية الفرز أحرزت تقدماً، بحيث أصبح واضحاً من هي المصارف التي نجحت في تنفيذ مندرجات التعميم بالكامل، ومن هي المصارف التي نفذت التعميم جزئياً، ومن هي المصارف العاجزة عن الالتزام بالبندين الاساسيين في التعميم، وهما رفع الرأسمال بنسبة 20%، وتأمين ودائع في حساباتها في المصارف المراسلة بنسبة 3% من مجموع ودائعها الدولارية.

حتى الآن، هناك تكتّم تام في شأن الخطوط العريضة للنتائج التي عاينها مصرف لبنان. ولا يبدو من المؤشرات المتوافرة وجود نية لفتح هذا الملف قريباً، لأسباب متعددة من أهمها:

أولاً- انّ قدرات مصرف لبنان المادية والمعنوية لا تسمح حالياً بأن يأخذ على عاتقه أي مصرف عاجز عن تلبية شروط إعادة الهيكلة.

ثانياً- انّ التوقيت غير مناسب لفتح الملف على مصراعيه، لأنّ ورشة من هذا الحجم يُستسحن ان تتمّ بالتزامن مع تغيير المشهد العام في البلد، اي بالتماهي مع بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للاتفاق على خطة إنقاذ.

ثالثاً- المصارف التي سيُحكم عليها بأنّها عاجزة عن الاستمرار، لا حاجة الى كشفها منذ الآن، ما دامت «الوظيفة» التي يضطلع بها المصرف حالياً بسيطة ويمكن ان تستمر، حتى لو كان المصرف بحكم المفلس مع وقف التنفيذ.

رابعاً- لا توجد مصارف كبيرة «مرتاحة» وقادرة على تولّي انقاذ مصارف صغيرة متعثرة كما كان يحصل في السابق.

خامساً- هناك تجاذبات غير مُعلنة بين مصرف لبنان والمصارف التجارية تنطلق من مبدأ حرب البقاء (survivor war). هذه المواجهة تقوم على مبدأ المنافسة على تنظيف الدفاتر وتحسين الحسابات تمهيداً ليوم «الحساب».

في هذا السياق، يمكن القول انّ المركزي والمصارف، ورغم قناعتهما بأنّهما على مركب واحد، الّا انّ كل طرف منهما يحاول ان يضمن بقاءه، وهذا ما يبرّر أحياناً عمليات التجاذب. ويبدو انّ مصرف لبنان، وبوجود فجوة كبيرة في حساباته، وهو الذي يعتبر انّ هذه الفجوة في دفتر الموجودات والمطلوبات لا يمكن تفسيرها على أنّها خسائر، يحاول ان يضيّق هذه الفجوة مع ضمان عدم وقوعه في مطب التوقّف عن الدفع، كما فعلت الحكومة اللبنانية في آذار 2020. لكن ما هو واضح، انّ تضييق الفجوة في دفاتر المركزي، والاستمرار في الدفع، يؤدّيان عملياً، ومنذ العام 2018، الى زيادة الضغوطات على القطاع المصرفي، والى نقل قسم من فجوة المركزي الى المصارف بسبب الخسائر التي قد تتراكم تباعاً، نتيجة اجراءات البقاء التي اعتمدها مصرف لبنان لتحسين دفاتره.

وبما أنّ مصرف لبنان يُمسك بالدولارات، ويُمسك كذلك بسوق القطع والتحويلات، وبما انّه يعتبر انّه ساهم بسياسته في تأمين ازدهار وأرباح القطاع المصرفي طوال السنوات التي سبقت انفجار الأزمة في العام 2019، فإنّه يفرض اجراءات اليوم تسمح له بضمان الاستمرارية وربما تضييق الفجوة المالية، مقابل تكبير خسائر المصارف التي ستُظهر نتائجها المالية نمواً كبيراً في خسائرها في العام 2020، وستكون الخسائر اكبر بكثير في العام 2021. ذلك انّ مصرف لبنان بات يشطب من ايداعات المصارف لديه، لتلبية حاجات هذه المصارف الى السيولة بالليرة، او حاجتها الى انجاز عمليات خارجية بالدولار. وبهذه الطريقة، ينجح المركزي في خفض الفوائد التي يدفعها الى المصارف مقابل ايداعاتها لديه، والتي تتراوح بين 70 و80 مليار دولار.

من هنا، من المستبعد ان يلجأ مصرف لبنان، في المدى المنظور، وطالما انّ الحكومة لم تتشكّل، ولم تبدأ مفاوضات الإنقاذ مع صندوق النقد، الى حسم موضوع إعادة هيكلة المصارف، وسيبقى هذا الملف مُجمّداً، وسيواصل المركزي في هذا الوقت الضائع عملية تحسين دفاتره، لكن المفارقة هنا انّه كلما طالت فترة الوقت الضائع، وكلما ردم مصرف لبنان الفجوة، كلما زاد حجم الفجوة في المصارف، بما يعني انّ المودع قد يدفع في النتيجة من حقوقه ثمن الوقت المهدور، والمسؤولة عنه السلطة السياسية دون سواها.

انطوان فرح