أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

شيكات الليرة بـ10% وشيكات الدولار بـ60%

يستمرّ مصرف لبنان في شراء الوقت للسلطة، علّها تستفيق على واقع انّها مع كلّ تأخير في تشكيل حكومة واستئناف الإصلاحات والحصول على الدعم المالي الخارجي، تهدر آخر فلس من أموال المودعين بالعملات الاجنبية، وسط استنزاف حاد لاحتياطي البنك المركزي، محكوم بقرار سياسي برفض رفع الدعم عن المواد والسلع الغذائية والاستهلاكية الاساسية المستوردة.

بما انّ رفع الدعم قرار لن تتجرأ حكومة تصريف الاعمال او حتّى أي حكومة جديدة على اتّخاذه، فإنّ مصرف لبنان يعمد بشتّى الطرق الى إطالة مدّته قدر المستطاع، الى حين تدفّق أموال من الخارج، لتغذّي من جديد احتياطه من العملات الاجنبية. وبالتالي، يسعى البنك المركزي حالياً، بدل وقف الدعم، الى تقليص حجمه، من خلال لجم الاستهلاك وخفض فاتورة استيراد الادوية، القمح، المحروقات والمواد الغذائية والاستهلاكية الاخرى، المدعومة وفقاً لسعر صرف منصّة البنك المركزي.

تتمّ هذه العملية من خلال وضع سقوف على عمليات السحب بالليرة اللبنانية وخفضها تدريجياً، بالإضافة الى إلزام مستوردي السلع المدعومة على تأمين السيولة نقداً للمصارف، من اجل اتمام عمليات الاستيراد. وقد أدّى ذلك الى عرقلة وتأخير عمليات الاستيراد للادوية والمستلزمات الطبية والمحروقات وكافة السلع الاخرى المدعومة، بسبب صعوبة تأمين مليارات الليرات نقداً. كما ساهم هذا الإجراء في خفض الطلب على الدولار بنسبة ولو ضئيلة في السوق السوداء، نتيجة عدم تمكن المودعين من سحب السيولة الكافية بالليرة نقداً من اجل شراء الدولارات وتخزينها.

الاهمّ من ذلك، انّ تداعيات خفض السحوبات النقدية بالليرة، أدّت الى ظهور سوق جديدة للتجارة في الشيكات المصرفية بالليرة وبيعها بنسبة تراوحت بين 7 الى 15 في المئة، أقلّ من قيمتها الفعلية، مقابل الحصول على الليرة نقداً، على غرار الشيكات المصرفية بالدولار التي يتمّ بيعها بسعر يقلّ بنسبة 60 في المئة عن قيمتها الفعلية، علماً انّ تجارة الشيكات بالليرة مزدهرة حالياً في صفوف مستوردي المواد الاساسية المدعومة، خصوصاً الادوية والمستلزمات الطبية والمحروقات، حيث كشفت نقيبة مستوردي المستلزمات الطبية لـ»الجمهورية»، انّ التجار يلجأون الى شراء السيولة النقدية بالليرة مقابل شيكات مصرفية بسعر يفوق قيمتها بنسبة 11 في المئة، لضرروة دفع مستحقات متأخّرة للشركات الموردة في الخارج.

في موازاة ذلك، يستفيد القطاع المصرفي من حجز الودائع بالليرة، من خلال حث اصحاب تلك الودائع على تحويلها الى الدولار، شرط تجميدها لفترة لا تقلّ عن عام واحد وبفوائد منخفضة، بحجّة انّ المودع لن يستطيع الاستفادة من وديعته بالليرة حالياً، وانّ قيمتها قد تشهد مزيداً من التدهور، بانتظار رفع القيود عن السحوبات. مع الاشارة الى انّ عدداً من المصارف لم يتوقف منذ بدء أزمة الدولار، عن تحويل ودائع مصرفية من الليرة إلى الدولار، على الرغم من انّ هذا الاجراء يزيد من حجم الدولارات الوهمية في المصارف، ويفاقم حجم خسائرها، كما انّه لا يتماشى مع سياسة تجميل ميزانيات المصارف، عبر خفض حجم الودائع بالدولار دفترياً.

قد يكون هدف المصارف المستمرة في تحويل ودائع بالليرة الى الدولار وتجميدها، خفض مطلوباتها من الليرة اللبنانية، وتأمين السيولة المطلوبة بالليرة لدفع مستحقاتها، باعتبار انّها غير قادرة على سحبها من حسابها الجاري في مصرف لبنان، نتيجة السقوف التي وضعها الاخير لسحوبات المصارف النقدية بالليرة.

في هذا الاطار، شدّد الخبير المصرفي سمير طويلة لـ»الجمهورية»، على انّ القطاع المصرفي غير معنيّ بتجارة الشيكات المزدهرة، «وقد حاول الحدّ منها من خلال اصدار شيك مصرفي للمستفيد الاول فقط و chèque barré لا يُستعمل إلّا عبر ايداعه في حساب مصرفي للمستفيد الاول، وذلك تخوّفاً من حصول عمليات تبييض أموال».

واوضح، انّ هناك سوقاً سوداء لتجارة الشيكات، يستفيد منها مستوردو المحروقات والادوية وكافة السلع المدعومة، بالإضافة الى من يقوم بتسديد بوالص التأمين. لافتاً الى انّ حجم الخسارة من قيمة الوديعة التي يتمّ بيعها مقابل شيكات بالدولار تبلغ 60 في المئة. واشار طويلة، الى انّ المودع هو الخاسر الاكبر لصالح كبار التجار والمستوردين الذين يستفيدون من الدعم. معتبراً انّ اقتطاع 60 في المئة من قيمة الوديعة بشكل طوعي من قِبل المودع أمر مؤسف، يؤشر الى تخوّف كبير لدى المودعين، ناتج من غياب القرار السياسي الموحّد، وعدم تشكيل الحكومة وعدم استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

وعمّا اذا كانت تلك التجارة قد ساهمت في خفض حجم الودائع بالدولار في القطاع المصرفي، أكّد انّ تراجع حجم الودائع نتج من تسديد القروض المصرفية، والدليل على ذلك، انّ حجم التراجع في الودائع يعادل تقريباً حجم القروض التي تمّ تسديدها.

وبالنسبة لتجارة الشيكات بالليرة، قال طويلة انّ القرار الذي اتخذه مصرف لبنان بوضع سقوف للسحوبات النقدية بالليرة، هو قرار سليم، حدّ من الطلب على الدولار في السوق السوداء، «وهذا ما تُرجم في ارتفاع سعر صرف الليرة، ليس نتيجة تكليف رئيس للحكومة كما ظنّ البعض، بل نتيجة اجراءات مصرف لبنان». وبالتالي، توقّع طويلة ان يستمرّ تقييد السحوبات النقدية بالليرة، لأنّه نجح في وضع سقف لسعر صرف الدولار في السوق السوداء.

من جهة اخرى، أكّد طويلة انّ دولرة الودائع التي يقوم بها بعض المصارف، تهدف الى تسديد قروض بالدولار لبعض التجار، الذين لا يملكون مداخيل سوى بالليرة اللبنانية، مشيراً الى انّ تحويل الودائع من الليرة الى الدولار وتجميدها، لم يعد أمراً متاحاً اليوم، وإذا كان يحصل في بعض المصارف، فهو بنسبة محدودة جداً.

رنى سعرتي

كم سيبلغ سـعر الدولار مع عودة “la grieta”؟

في موازاة عملية التكليف والتأليف، لوحِظ انّ المزاج الشعبي يميل الى التركيز على مراقبة سعر صرف الدولار في السوق السوداء. وقد سجّلت العملة الخضراء تراجعاً بنسبة قاربت الـ20 %، وانتعشت الآمال في إمكان حصول تراجع إضافي يخفّف من الضغط المعيشي الذي يشعر به المواطن في كل مفاصل حياته اليومية.

تعود الأنظار في هذه الفترة لِتَشخُص ناحية الدولار بهدف تَتبُّع خط سَيره في الاسبوع الجاري، وفي الاسابيع المقبلة، بالتماهي مع الاجواء التشاؤمية على مسار تأليف الحكومة، والتي حَلّت ظرفياً ربما، مكان مناخ التفاؤل بتأليف سريع، كما كان سائداً في الايام الاولى على التكليف.

في موازاة هذه النكسة وتراجُع منسوب الآمال المعلّقة على ولادة سريعة لحكومة قادرة على تنفيذ الورقة الفرنسية لتمهيد الأرض لاحقاً أمام الانطلاق بمشروع إنقاذي شامل، برزت مؤشرات أخرى لا تدعو الى الارتياح، منها:

أولاً – المشكلة التي ظهرت في الداخل الفرنسي، والتي من شأنها أن تُلهي الفرنسيين عن المتابعة اللصيقة للوضع اللبناني، كما كان يُفترض أن يحصل.

ثانياً – الاتجاه الذي أخذه ملف التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، حيث تبيّن انّ المنظومة السياسية لا تزال تتّبع نهج إلقاء التهم على أطراف أخرى. تعقد الاتفاقات المدفوعة بالعملة الصعبة مع شركات أجنبية، ولا تُكَلّف نفسها عناء دراسة هذه العقود لئلّا تنتهي الى لا شيء.

ثالثاً – بروز نتائج وأرقام مالية واقتصادية مُرعبة، من أهمها تقرير صندوق النقد الدولي حول تقديراته لحجم الناتج المحلي (GDP) في نهاية العام 2020، والذي قدّر بأنه سيكون أكثر بقليل من 18 مليار دولار. هذا الرقم يبدو مستغرباً بعض الشيء، ويحتاج الى تدقيق اضافي، خصوصاً انّ التقرير تحدثَ عن انكماش الاقتصاد بنسبة 25 %، وهذه النسبة لا توصِل الناتج المحلي الى 18 مليار دولار، من حوالى 52 مليار حجم الناتج في نهاية 2019. وتنبغي الاشارة هنا الى أنّ تقديرات الصندوق لا تصيب دائماً، وهي تعاني احياناً تأخيراً ينعكس تفاوتاً في التقديرات. بمعنى، انّ الصندوق عندما يُصدر تقريره في زمن محدّد، غالباً ما يكون قد جَمعَ المعطيات في وقت سابق، بحيث تسبقه التطورات، خصوصاً في دول غير مستقرة، كما هي الحال في لبنان. على سبيل المثال، تَوَقّع تقرير الصندوق، الذي صدر في تشرين الاول 2019 (شهر اندلاع الثورة في لبنان)، ان يرتفع الناتج المحلي الى 60,5 مليار دولار في 2020!

رابعاً – ما عُرف بالقيود على سحب الليرة، وهو القرار الذي ساهم في بروز أزمات، من ضمنها أزمة القطاع الصحي، لن يتم التراجع عنه بسهولة، وهو قد لا يكون مجرد إجراء مؤقت بالمعنى الذي فهمه البعض، أي انه قد يستمر الى حين بدء خطة الانقاذ، والتي يبدو انها قد تطول أكثر من اللزوم، بفضل «صمود» المشهد السياسي على ما هو عليه من فساد ومماحكات وصراعات سخيفة، وقلة ضمير…

هل تعني هذه المؤشرات انّ الاسبوع الطالع، واذا ما تَأكّد تَعثّر ولادة الحكومة، سيشهد ارتفاعاً للدولار؟

هذا الأمر وارد بقوة، لكنه لا يشكّل أزمة في حدّ ذاته رغم أضراره الجسيمة، بقدر ما يُعتبر مؤشّراً الى ما ينتظر الناس في المرحلة المقبلة. وسيكون الصراع على أشدّه في كيفية إنفاق ما تبقى من ودائع في مصرف لبنان، هذا اذا تبيّن فعلاً انّ الاحتياطي الالزامي (حوالى 17 مليار دولار) متوفّر فعلاً، وإلّا قد تتجه الانظار النَهِمَة نحو الذهب.

في مطلع ايلول الماضي، توصلت الحكومة الارجنتينية الى اتفاق مع دائنيها، في صفقة اعتبرت ناجحة ويمكن أن تشكّل منصة لبداية جديدة للارجنتينيين. شملت الصفقة إعادة جدولة دين بقيمة 65 مليار دولار. وتضمّن الاتفاق خطوات تعهّدت أن تقوم بها الارجنتين لضمان استعادة الثقة، والعودة الى الاسواق العالمية، وتحرير سعر صرف عملتها (بيزو) للقضاء على ظاهرة السوق السوداء…

اليوم، وبعد مرور حوالى الشهرين على الاتفاق، بدأ يتّضِح انّ الامور لا تسير كما هو مُخطّط لها. وقد اضطرّ الدائنون الى إصدار بيان تحذيري حيال ما يجري. وقد تبيّن أنّ السوق السوداء ظلت قائمة، وبدلاً من أن تضمحل أصبحت الملاذ الذي يلجأ اليه الارجنتينيون للحصول على الدولار. وقد أدّى ذلك الى ارتفاع سعر العملة الأميركية في هذه السوق الى حوالى 190 بيزو، في حين انّ السعر الرسمي يُقارب الـ79 بيزو للدولار الواحد. كذلك شهدت سوق السندات الثانوية انخفاضاً ذي دلالات، اذ تراجع سعر سند اليوروبوندز استحقاق 2030 من 50 سنتاً لدى توقيع تسوية جدولة الدين الى 38 سنتاً حالياً، كما تراجع سند استحقاق 2035 الى 34 سنتاً. ويستنتج الدائنون انّ الوضع غير مُطمئن، إذ تستمر خسائرهم في الارتفاع، ومنسوب الثقة بنجاح الانقاذ يتضاءَل بسبب ما سَمّوه المناخ السياسي غير السليم الذي عاد الى الارجنتين بعد توقيع التسوية. أمّا في الشارع الارجنتيني، فإنّ العبارة السائدة اليوم هي أنّ «la grieta» عادت، وهو مصطلح شعبي مُقتبس من عبارة في اللغة الاسبانية، يستخدمه الارجنتينيون للاشارة الى الانقسامات السياسية التي تقف وراء الأزمة الاقتصادية في البلد. وكان «زعماء» السياسة في الارجنتين قد تعهّدوا بِوَقف خلافاتهم، ومنع الانقسام، وتحقيق نوع من الوحدة الوطنية لتسهيل الانقاذ. لكن، وبعد توقيع التسوية مع الدائنين، عاد هؤلاء الى نهجهم السابق. هذه العودة دفعت الارجنتينيين حالياً الى مزيد من الاحباط، وبات السؤال المطروح في الشارع اليوم يتمحور حول نقطتين: كم بلغ سعر الدولار في السوق السوداء؟ وهل من أمل في المستقبل في هذا البلد؟

في لبنان، من البديهي أن يسأل المواطن كم سيبلغ سعر الدولار مع عودة «la grieta» اللبنانية، والتي حاولت المنظومة السياسية أن تُقنع الناس، قبل فترة، بأنها أقلعت عنها الى غير رجعة.

انطوان فرح.

الدور المتغيّر للسوق السوداء في بيروت

انطلقت السوق السوداء لتسعير الدولار الاميركي مقابل الليرة اللبنانية في بيروت، مع اعلان حاكم مصرف لبنان عن بداية ازمة شح الدولار، اعتباراً من شهر آب 2019. وقد اعتبر الحاكم وقتذاك، انّه من الطبيعي ان يكون هناك فارق بين سعر الصرف الرسمي مقابل سعر السوق السوداء، محدّداً ايّاه بـ10 في المئة.

من المفهوم عموماً انّ السوق السوداء او السوق الموازية للسلع والخدمات كما العملات، ينشأ بسبب زيادة الطلب على العرض المؤسس دائماً على اسباب اقتصادية ومالية وسياسية ونفسية.

هكذا لعب سعر الصرف في السوق السوداء دور «الباروميتر» للاقتصاد، عبر اختصار هذه العناصر الاربعة في سعر واحد. الوجه الآخر لمشكلة وجود سوق موازٍ او سوق سوداء في اي عملة، يعود الى فرض سعر مشوّه للعملة بقوة القانون، يخلق الفارق بين اسعار الصرف في سوق واحدة، لأنّ السوق لا يستطيع ان يلبّي كل حاجاته بالسعر المشوّه.

عادةً ما يكون للسلطة النقدية اسباب مختلفه وراء القبول بهذا الفارق. اهم هذه الاسباب هي انّ هذه السلطة لا تريد او لا تستطيع الاستغناء عن سعر الصرف الرسمي، وفي الوقت عينه تريد ان تخفّض حجم الطلب على العملات الاجنبية.

في الاقتصادات التي لا تتعرّض (او تتعرّض بشكل هامشي) للاختلالات الهيكلية في الاقتصاد، يلعب سعر الصرف العائم الدور المانع لوجود اسواق موازية. مثال ذلك، العملات العائمة التي تختزل كافة المؤشرات المؤثرة في سعر الصرف الرسمي، بما يلغي عملياً اي حاجة للسوق السوداء.

يحتاج ذلك الى بنوك مركزية قوية بما يكفي، والى تنسيق السياسات النقدية والمالية والاقتصادية في الدولة. وعدم وجود هذين الشرطين، وبخاصة الضعف في احتياطات البنك المركزي، يسمحان بنشوء مراكز خارج السلطه النقدية تتحكّم بسعر الصرف في السوق السوداء.

انّ المشكلة التي تعاني منها السيولة في لبنان اليوم، بالعملات الاجنبية كما بالليرة اللبنانية، حوّل هذه المراكز الى سلطة او سلطات نقدية بديلة، في ظلّ ضعف البنك المركزي، وهو ما كنا قد حذّرنا منه منذ انطلاق ازمة شح الدولار وأزمة شح الليرة (التي برزت مع التعميم الوسيط الرقم 573).

يُعتبر الهبوط الاخير في سعر صرف الدولار في السوق السوداء من حوالى 9000 ليرة الى ما دون 7000 ليرة، اختباراً قوياً لميزان القوى في السوق السوداء. فإذا كنت قادراً على احتكار السيولة بالدولار ولديك مخزون واسع من السيولة بالليرة، فأنت تستطيع ان تتلاعب بسعر الصرف في السوق السوداء.

يقول حاكم مصرف لبنان، انّ حجم السوق السوداء لا يتجاوز 10 الى 15% من مجموع السيولة المتوفرة. اي انّ هذه النسبة الضئيلة من حجم المبادلات باتت قادرة على السيطرة على اتجاه تقلّبات سعر الصرف. ماذا يعني ذلك؟

هبوط إصطناعي

لقد شكّك الاقتصاديون والمحلّلون في شؤون المال في بيروت، بهذه القدرة العجيبة لتكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، على تأمين هذا الانخفاض الواسع في السوق السوداء، معتبرين ايضاً انّ هناك مراكز مالية تحرّكت في لحظة، ما لفرض هذا الهبوط الاصطناعي في سعر الصرف في السوق الموازية.

دعونا هنا نأخذ حالة اخرى للدراسة. ماذا لو وجدت هذه المراكز (أو ما أُسمّيه السلطة النقدية الخفية) انّ من مصلحتها ان تنزع بسعر الدولار في الاتجاه المعاكس؟ نحو العودة الى 9000 ليرة للدولار او الى 15000 او اكثر او اقل؟ فما دام هذا الجزء القليل من السيولة قادراً على تسعير السوق السوداء بمجملها، وقادرًا على قلب توقعات المتعاملين، فما الذي يمنع تحول هذا التسعير من باروميتر للاقتصاد الى باروميتر للسياسة؟ ماذا لو حاول احد الاطراف المحليين الوازنين الاعتراض على حصّته في التركيبة الحكومية او على قرارات قد تتخذها الحكومة المزمع تشكيلها؟ ماذا لو تعقّدت مفاوضات ترسيم الحدود البحرية؟ الجواب: انظر ماذا فعلت، انظر الى سعر الصرف!.

هناك عدد كبير من العِقد سوف يظهر مع تطور الاوضاع، وقد يحتاج الى تدخّل «تسهيلي» ما في السوق السوداء.

قد لا يكون صحيحاً ما يتمّ تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، من انّ حاكم مصرف لبنان بالاتفاق مع المصارف الكبرى، ضخّ دولارات سخية في السوق من اجل دعم ترشيح الحريري، والإيحاء بأنّ تشكيل الحكومة سوف يدفع الى مزيد من انخفاض سعر الصرف في السوق السوداء. لكن ما تُتهمّ به المصارف اليوم ممكن ان تمارسه هذه المصارف او اخصام لها، فليس هذا هو الاساس. الاكيد انّ استخدام هذه التقنية من قبل مراكز المال الكبرى امر ممكن، لتوجيه سعر الصرف في السوق السوداء، بما يخدم أجندات سياسية محلية وخارجية، ومن اطراف ربما تكون متناقضة.

نحن نعيش في ظلّ اسوأ أشكال ادارة الاقتصاد، واسوأ أشكال ادارة المالية العامة، والآن في أخطر مراحل إدارة النقد.​

د. بيار الخوري أكاديمي وخبير اقتصادي

ذهب لبنان “يَهرُب” من بوابة الصادرات

كان من المتوقع أن ينعكس إنهيار سعر الصرف إيجاباً على الميزان التجاري. كما كان ينتظر أن يَخرج من معمودية نار الأزمة كائن اقتصادي أكثر اعتدالاً، يصدّر أكثر ويستورد أقل. فالعجز البنيوي الهائل في هذا الميزان والذي لامس 16 مليار دولار العام الماضي ما هو إلا مرآة فقدان الدولار، سبب كل علة.

ما تفتعله الحكومات قصداً بتخفيض قيمة عملتها لتحسين وضعية الميزان التجاري، جرى في لبنان من دون “منّة” مباشرة منها. فمن جهة تخفيض قيمة العملة يجعل أسعار السلع المستوردة أغلى بالنسبة للمقيمين، ويشجع على الإقبال على المنتجات الوطنية، ومن جهة أخرى تصبح أسعار السلع المصنعة محلياً أرخص بالنسبة للأجانب، ما يفترض تعزيز قدرتها التنافسية للمنتجات الوطنية ويرفع بالتالي من حجم الصادرات إلى الخارج. إلا أن هذا ما لم يحدث في لبنان. حيث أظهرت نتائج الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي (لغاية نهاية تموز) تراجع الصادرات بنسبة 8.3 في المئة بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي، حيث انخفضت قيمة الصادارت من 2.4 مليار دولار في العام 2019 إلى 2.2 مليار منذ بداية العام ولغاية شهر تموز من العام الحالي.

أسباب تراجع الصادرات

ما يظهر على انه تراجع في الصادارت بنسبة 8.3 ما هو إلا “وسام على صدور الصناعيين اللبنانيين الذين يمثلون النسبة الأكبر من المصدّرين”، يقول رئيس اتحاد المستثمرين اللبنانيين وعميد الصناعيين جاك صرّاف. ويشكر الله “على انها لم تتراجع أكثر”. فالأزمة الخانقة التي يمر بها لبنان، ترافقت مع مشكلتين أساسيتين أعاقتا رفع قيمة الصادارت على الرغم من الجهود الجبارة التي يبذلها المصنّعون المصدرون وهما: – إنتشار فيروس كوفيد-19 الذي أقفل الحدود بين الدول، وجعلها اكثر انغلاقاً على نفسها، ومنها العراق على سبيل الذكر لا الحصر. حيث يتكبد المصدّر اللبناني أكلافاً باهظة للوصول إلى أسواقها عبر منافذ البصرة أو تركيا. – صعوبة استيراد المواد الأولية للصناعة بسبب إجبار المصدرين على تأمين الدولار الطازج بسعر السوق الثانوية. هذا الواقع ترافق بحسب صراف مع “عدم وضع آليات الدعم التي وعُد بها الصناعيون موضع التنفيذ. فعلى الرغم من جهود وزير الصناعة لتأمين التمويل للصناعيين، عبر أكثر من طريقة فان كل الوعود بقيت حبراً على ورق ولم ينفذ منها الشيء الكثير لغاية اللحظة”.

صندوق “أوكسيجين”

بعدما أرخى إنهيار سعر صرف الليرة بثقله فوق كاهل المصدرين وتهديده الجدي بتعطيل الصناعة، أصدر مصرف لبنان بعد مطالبات حثيثة من جمعية الصناعيين التعميم رقم 556، حيث كان من المفترض ان يؤمن 100 مليون دولار على سعر 3200 ليرة للصناعيين من أجل استيراد المواد الاولية. وعلى الرغم من ولادة القرار مشوهاً، حيث لا يمكن ان يستفيد منه اكثر من 333 معملاً، لغاية مبلغ حده الاقصى 300 الف دولار سنوياً، مقابل حرمان أكثر من 5 آلاف معمل من الدعم، فهو لم يطبق بالشكل المطلوب. أما بالنسبة لصندوق cedar oxygen fund، الذي ينص على تحويل عوائد الصادرات الصناعية المقدرة بـ 3 مليارات دولار بشكل كامل الى الصندوق، على ان يعود ويقرضها إلى الصناعيين كاملة من أجل تمويل شراء حاجاتهم من الخارج، فهو لم يتوقف. وعلى الرغم من ضعف إقبال الصناعيين عليه حيث لم يتخطَّ لغاية اللحظة عدد الطلبات المقدمة العشرين طلباً، فان “العمل بالصندوق مستمر، والأموال جاهزة والجهد ينصب على تطوير آلياته وجعله مألوفاً اكثر للصناعيين”، بحسب الصناعي وعضو المجلس الإستشاري لـ “الصندوق” بول أبي نصر. “ولأن الصندوق موجود في اللوكسمبورغ، وإجراءات التدقيق بالملفات والعملاء مشددة وتتطلب أوراقاً ومستندات أكثر من التي يجب تقديمها في لبنان، فان العملية تأخذ بعض الوقت. إلا ان هذا لا يعني أبداً ان العمل في الصندوق قد توقف”.

بحسب أبي نصر فان “محاولة الصندوق توفير تمويل قائم على إرجاع قسم من أموال الصادرات بالعملة اللبنانية، لإفساح المجال أمام تأمين الدولار للصناعيين غير المصدرين بسعر أقل من السوق، عقّدت العملية قليلاً وأخافت الصناعيين”. إلا ان الصندوق في طور اطلاق خدمة جديدة تتمثل في التمويل الكلاسيكي قصير المدى. حيث يفتح الصندوق للصناعي اعتماداً مالياً LC لفترة شهرين أو ثلاثة مقابل فائدة بسيطة. وهو ما سيسهل على الصناعيين والمصدّرين استئناف عملياتهم مع الخارج بسهولة ومن دون أي تعقيدات لوجستية. ومن بعدها يصبح أسهل على الصندوق بحسب أبي نصر تأمين التمويل التعاضدي البالغ الأهمية.

الاعتماد على الذات

هذا الواقع دفع بالمصدّر للاعتماد في التمويل على نفسه. حيث يؤمن بدل مشترياته ويحافظ على مؤسسته وعماله من صادراته. “ولا يتكل على العقلية الفاشلة عند السياسيين، كل السياسيين، التي لا تشبه ثقافة الصناعة والتصدير”، يقول صراف. من دون ان ننسى ان أهمية الصناعة الوطنية لا تقتصر على التصدير بل أهميتها أيضاً بالدور الذي تلعبه كبديل عن الاستيراد وهذا ما لمسناه بتراجع استيراد الادوية بنسبة 16 في المئة رغم دعمها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المنظفات والمعقمات والسلع الغذائية والكثير غيرها من الصناعات الوطنية”.

هروب الذهب

بحسب الارقام، إحتلت صادرات الاحجار الكريمة وشبه الكريمة والمعادن الثمينة المركز الاول بحصة بلغت 40.6 في المئة من مجمل الصادارت. تلتها منتجات صناعة الأغذية بنسبة 11.1 في المئة. فالآلات والأجهزة والمعدات الكهربائية بنسبة 9.4 في المئة. ثم منتجات الصناعة الكيماوية بنسبة 8.7 في المئة. فالمعادن العادية ومصنوعاتها بنسبة 8.2 في المئة.

اللافت للنظر كان الارتفاع الكبير في حجم الصادرات إلى سويسرا حيث سجلت الصادرات منذ بداية العام زيادة بنسبة 22 في المئة لتبلغ حصتها 33.9 في المئة من مجمل الصادرات السلعية وبقيمة تقدر بحوالى 766 مليون دولار، من أصل مجموع الصادرات البالغ 2.2 مليار دولار. هذه الزيادة الكبيرة بالتصدير إلى سويسرا تمثل الوجه الآخر لارتفاع صادرات المعادن الثمينة. وبالتالي تتخطى موقع لبنان كوسيط لاعادة تصدير الذهب والمعادن النفيسة القادمة من جنوب أفريقيا، وترتبط بحسب أبي نصر بعملية “اخراج المودعين ما يملكون من ذهب يحتفظون به في القطاع المصرفي على شكل حلى ومجوهرات أو سبائك وليرات، وارساله إلى الجهة الاكثر أماناً المتمثلة بدولة سويسرا”. هذا الإخراج الشرعي والقانوني يرتبط بانعدام الثقة بالقطاع المصرفي والخوف من مصادرة المجوهرات والسلع النفيسة بعد مصادرة الدولارات.

ماكينزي والصادرات

العودة إلى الرؤية الإقتصادية التي وضعتها ماكينزي للسنوات الخمس المقبلة 2020-2025 تعتبر اكثر من ضرورة بالنسبة إلى الصناعيين. خصوصاً ان الخطة تشدد على تعزيز القطاعات الانتاجية من صناعة وزراعة، والعمل إلى رفع مساهمتها من الناتج المحلي إلى 35 في المئة. وبحسب صراف فان “على الحكومة الجديدة إعادة وضع الخطة على طاولتها وتفعيلها”، لما للانتاج من أهمية في تأمين السلع والمواد الغذائية والطبية وزيادة الصادرات وتعزيز دخول الدولار إلى الاقتصاد.​
خالد ابو شقرا.

أزمة لبنان المالية: قراءة في توقعات سعر الدولار لسنة 2021

حفظت من الأرقام، على كثرتها، تلك التي أصدرتها مراجع أجنبية:

– بنك أوف أميركا توقّع الدولار بـ 46500 ليرة في نهاية العام 2020.

– صحيفة إندبندنت توقعت، بحسب الخبير عمر تامو، بلوغ الدولار 17500 ليرة بعد رفع الدعم.

– معهد التمويل الدولي وضع سيناريوهين مختلفين؛ إمّا توحيد «أسعار» الدولار بسعر 6200 ليرة أو بلوغ الدولار 14500 ليرة مع السماح بسحب الدولار من المصارف على 8000 ليرة.

لا ألوم المواطن اذا ما أضاع بوصلته في هذا الكم من التوقعات، وهو الغريق في بحر من الظلمات يبحث عن حبل ولو من هواء ليتمسّك به، لعله يَنتشله من الضياع الذي تتخبّط فيه لقمة عيشه. لا ألومه لأنني لم أجد في هذه التوقعات طريقة الاحتساب التي بُنيَت عليها وإن كان البعض منها قد يكون صائباً.

تعالوا نحلّل ولا أقول نتوقع، لعلنا نصل الى نتيجة علمية تنير بعض الشيء مصيرنا الذي أقلّ ما يُقال فيه أنه مجهول وضبابي.

لنبدأ بما يتمّ تداوله حول مبدأ تثبيت سعر الصرف والذي تتجاذبه الأرقام من كل حدب وصوب؛ هذا يقول سيثبتوه على 4000 ليرة وذاك على 6200 ليرة وغيرها من الأرقام التي يطالعنا بها البعض من دون إعطائنا حتى اليوم طريقة الاحتساب. كنت أودّ لو أستطيع أن أشاركهم حلمهم الجميل، لكنّ التقنيات وما أثقلها ما تلبث أن تشدّني الى أرض الواقع فأجيبهم بمرارة؛ هل تعلمون ما معنى تثبيت سعر أي سلعة كانت؟

عمليّاً، يمكنك أن تثبّت سعر أية سلعة على مستوى معيّن عندما تتمكّن من مساواة العرض والطلب على هذا المستوى وهذا من أبسط البديهيات. بمعنى آخر، أن تلبّي كل الطلب على هذه السلعة، وعلى هذا المستوى بالذات، مهما بلغ حجمه، وإلّا فأنت تقع في مبدأ المزايدة عليها (Auction). السؤال يبقى هل يستطيع مصرف لبنان أن يلبّي الطلب على الدولار على سعر 6200 ليرة أو أي سعر آخر؟ بالطبع لا، وقد برهَنتُ في مقالات سابقة أنّ استراتيجية معاكسة الرياح (Leaning Against the Wind) لم تعد قابلة للتطبيق، وهذا بسبب انخفاض الإحتياطي بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان. وبناء عليه، إنّ أي تثبيت لسعر الصرف لن يكون الّا مؤقتاً، وسيأتي على بقية أموالنا لدى المصرف المركزي.

يتفاءل دُعاة تثبيت سعر الصرف بما سيغدقه صندوق النقد علينا من أموال مما يساعد في تثبيت السعر، بينما يشترط الصندوق من جهته تحرير سعر الصرف للتعاون مع لبنان. وفي ذلك ضياع بين نقيضين.

هذا من ناحية عدم إمكانية تثبيت سعر الصرف، أمّا من ناحية سعر سحب الدولار من المصارف في 2021 على 8000 ليرة وفي ما يتعلق بتوقعات المراجع العالمية لسعر السوق السوداء على 14500، 17500 أو 46500 ليرة للدولار، فلنحللها معاً.

إنّ رقم 46500 ليرة الذي توقعه بنك أوف اميركا لنهاية العام 2020 يبدو بعيداً في الوقت الحاضر، وإن كان العام لم ينته بعد. وهو إن دلّ على شيء فهو أنه حتى أكبر المراجع الدولية تخطىء في توقعاتها. هذا لا يعني طبعاً استبعاد هذا الرقم في السنوات القادمة، فالخطأ بالتوقيت يبقى وارداً ومن المحتمل أن يتحقق تَوقّع بنك أوف أميركا في السنوات القليلة المقبلة طالما لم يطرأ حدث إيجابي كبير يغيّر في مسار الأمور.

أمّا بالنسبة لرقم 8000 ليرة للسحوبات من المصارف، وبالعودة الى مبدأ محاكاة أزمة الدولار في الثمانينات، أعدتُ بناء الأرقام بطريقة المحاكاة (Simulation) وبنفس نسَب تطور أسعار الدولار في فترة 1983 – 1992 ولكن انطلاقاً من سعر 1500 ليرة للدولار الواحد وبدءاً من تشرين الاول 2019، فبيَّنَت لي أسعار الدولار في المصارف على الشكل التالي:

2019: المحاكاة أعطت 2189 ليرة، والواقع أعطى 2200 ليرة.

2020: المحاكاة أعطت 3565 ليرة، والواقع أعطى 3900 ليرة.

2021: المحاكاة أعطت 7259 ليرة، والواقع ينتظرنا السنة القادمة.

وكما يبدو أعلاه فإنّ توقّع معهد التمويل الدولي 8000 ليرة للدولار الواحد للسحوبات المصرفية في 2021 قريب جداً من نسبة ارتفاع الدولار في السنة الثالثة من انهيار الليرة في الثمانينات من 8,89 ليرات في آخر سنة 1984 الى 18,10 ليرة في آخر سنة 1985، أي أن الدولار المصرفي تضاعف بين السنتين الثانية والثالثة من الانهيار في الثمانينات. وبالتالي، فإنّ سعر 8000 ليرة للسحوبات المصرفية في 2021 لديه تفسيره العلمي.

المرجع لفترة 1982-1992 كتاب: L’effondrement de la livre libanaise 1982-1992, une histoire qui nous hante – Fadi Khalaf

بالنسبة لتوقعات معهد التمويل الدولي لسعر الدولار في السوق السوداء 14500 ليرة في العام 2021 وصحيفة إندبندنت 17500 ليرة بعد رفع الدعم، أعود بتحليلي إلى التجربة المصرية الأخيرة بين عامي 2016 و2018 وهي تُظهر بأنّ السلطات النقدية المصرية كانت تقوم برفع سعر الدولار لدى المصارف ليشكّل ما يقارب 50% من السعر في السوق السوداء، ثم تعود إلى رفعه مجدداً كلما ارتفع السعر في هذه السوق، إلى أن استقرّ الوضع في النهاية على ملاقاة السعر الرسمي للسوق السوداء، مع فوارق مقبولة نسبيّاً عند استتباب الوضع. ونلاحظ حالياً محاولة مصرف لبنان الحفاظ على سعر الدولار على 3900 ليرة لدى المصارف أي حوالى 50% من سعر السوق السوداء (مع هامش يتراوح بين 40% الى 60%) لأسباب عديدة، قد يكون أهمها ثَني المودعين عن سحب دولاراتهم من المصارف بالليرة لشراء الدولار الورقي من السوق السوداء عند أول فرصة.

فلو افترضنا أنّ سعر السحوبات المصرفية في 2021 سيتراوح بين 7000 و8000 ليرة، قد يكون من المنطق الاستنتاج أنّ سعر الدولار في السوق السوداء يمكن أن يتأرجح ما بين 13000 و20000 ليرة، على اعتبار أنه ولفترات محدودة قد يزيد سعر السوق السوداء عن ضعفي سعر السحوبات من المصارف في احتمالات تجاوز الهدف (overshooting) قبل أن يعود ويتراجع. ويبدو أنّ توقعات معهد التمويل الدولي وصحيفة إندبندنت للعام 2021 يقعان كلاهما ضمن هامش 13000 الى 20000 ليرة للدولار في السوق السوداء.

هذا كان تحليلٌ لأرقام التوقعات الدولية التي تتساقط على المتعاملين بالليرة حالياً لعلّنا نجد بعض المنطق في هذه التوقعات، على أمل أن لا نخلط بين التحليل العلمي والتوقعات غير المبرّرة علمياً لسعر الدولار حتى لا يُقال يوماً «كذب الخبراء ولو صدقوا».

د. فادي خلف.

ما علاقة الحريري بدولار السوق السوداء؟

يستند الرئيس المكلّف في تشكيل حكومته على عنوانٍ من كلمتين، يكمن فيهما النجاح أو الفشل: «حكومة مهمّة». فهل سيواجه سعد الحريري نصف نجاح ونصف فشل، حيث يتمكّن من تحقيق نصف العنوان، يؤلّف «الحكومة»، ويعجز عن تنفيذ «المهمّة»؟

تترافق عملية تشكيل الحكومة العتيدة التي يتولاّها الرئيس المكلّف سعد الحريري مع تطورات وايحاءات ومؤشرات متناقضة. منذ اللحظة الاولى التي طرح فيها الرجل مسألة تولّيه رئاسة «حكومة المهمّة» لفترة 6 أشهر، لتنفيذ الورقة الاصلاحية الفرنسية، والتي تُعتبر بمثابة تمهيد لعملية الانقاذ المالي والاقتصادي الشاملة التي تأتي في فترة لاحقة، سجّل المراقبون تغييراً في سوق سعر صرف الدولار في السوق السوداء. ومع استمرار تراجع سعر الدولار، الى مستويات منخفضة نسبياً قياساً بالسعر الذي بلغه قبل «المبادرة»، تعدّدت التفسيرات لهذه الظاهرة. البعض اعتبر انّها عفوية، وجاءت نتيجة الارتياح النفسي الذي أدّى الى تراجع الطلب على العملة الخضراء، البعض الآخر اعتبرها مصطنعة، وان هناك من ضخّ دولارات اضافية في سوق ضيّق لخفض سعر الدولار، ومنح الحريري ورقة قوة في يده، خلال التكليف والتأليف. وآخرون ذهبوا الى اعتبار انّها لعبة وسخة، استفاد فيها المضاربون من العملية الحكومية، واختبأوا وراءها لخفض سعر الدولار للتمكّن من شراء كميات من العملة الخضراء بسعرٍ منخفض، ومن ثم بيعها لاحقاً بأسعار مرتفعة، عندما يعود السوق الى وضعه الحقيقي في الايام القليلة المقبلة…

بصرف النظر عن الجدل في شأن هذه النظريات، لا بدّ من لفت الانتباه الى أمرين:

اولاً- ترافقت مبادرة الحريري مع قرار مصرف لبنان تشديد القيود على سحب النقد الوطني من صناديقه، الأمر الذي أدّى الى شح في الليرات، وتراجع الطلب على الدولار بسبب هذا الشح. وهنا أيضاً، هناك من يؤمن بعامل الصدفة في هذا التزامن، وهناك من يطرح نظرية المؤامرة.

ثانياً- انّ مستوى الانخفاض الذي سجّله سعر صرف الدولار لا يُبنى عليه كثيراً، لأنّ مسألة الارتفاع والهبوط ضمن هامش يحدّده المنحنى (curve) في الرسم البياني لتطوّر سعر الصرف في الشهرين الماضيين، يسمح بالاعتقاد ان هذا الهامش المتحرّك يصل الى 2000 ليرة للدولار الواحد بين الصعود والهبوط. وبالتالي، ورغم وسْعِ هذا الفارق، لا يمكن التعويل على أي هبوط أو ارتفاع مفاجئ لا يتجاوز هذا السقف للحديث عن سعر جديد وشبه ثابت للدولار على الليرة. وبالتالي، الأمور في سوق الصرف الضيّق على حالها، ولا يمكن البناء على الارقام التي سجّلها الرسم البياني حالياً للتفاؤل أو التشاؤم.

الرهان الحقيقي يستند الى امكانات النجاح أو الفشل في تحقيق «المهمّة» التي تعهّد الحريري تنفيذها مع حكومته العتيدة في حال نجاحه في التأليف. هذه المهمّة التي تستند الى الورقة الفرنسية، والتي يُفترض أن تُنفّذ في غضون 6 أشهر تدور حولها علامات الاستفهام.

من المعروف انّ البنود الواردة في الورقة الفرنسية تعتمد في عنوانها العريض على خطة انقاذ شاملة، ينبغي ان يتمّ التوافق عليها لاستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. ومن المعروف ايضاً، انّ كل البنود الاخرى في الورقة تنطوي على تفاصيل، بحيث ان تنفيذها ليس معقّداً، ويكفي اتّباع التعليمات الواردة (mode d’emploie)، بعكس خطة الانقاذ، والتي تكتفي الورقة الفرنسية بإيراد عنوان عريض لها، في حين انّ الجميع يعرفون انّ المشكلة هنا تكمن في التفاصيل، وليست في المبدأ.

في اشكالية خطة الانقاذ، وهي أساس النجاح أو الفشل، توجد أكثر من نقطة قد تُفجّر الخطة، وتمنع عملية الوصول الى تفاهم حولها. وقبل مناقشة الاعتراضات الداخلية التي تحول دون صياغة خطة تحظى بالتوافق، لا بدّ من مناقشة التناقضات بين الفريق اللبناني الذي سيقوده الحريري لصياغة خطة جديدة، وبين الاليزيه الذي رسم في السابق مبادئ عامة لا تتماهى مع قناعات الحريري، وقناعات قسم من القطاع المالي والاقتصادي اللبناني، وعلى رأسه المصارف. وبالتالي، سيكون السؤال كيف ستتمّ معالجة هذه الاشكالية التي فجّرتها شركة «لازارد» من خلال الخطة السابقة التي تبنتها حكومة حسان دياب، وواجهت معارضة من المصرف المركزي ومن المصارف اللبنانية، ومن ثم من المجلس النيابي ممثلاً بلجنة المال والموازنة، التي دخلت على الخط وأنجزت عملاً لا يُستهان به؟ وما يلفت الانتباه، انّ الرئيس الفرنسي، لا يزال يشدّد في بعض مواقفه على نقاط تلتقي والفلسفة التي اعتمدتها «لازارد» في «خطة التعافي».

الى جانب هذه المواجهة أو المعضلة التي تحتاج الى حلول، ستبرز أزمة أكثر خطورة على مستوى المعارضة في الداخل. وبعدما كانت بعض الأطراف، وعلى رأسها «حزب الله»، أوحت في عهد حكومة دياب انها تخلّت عن تحفظاتها التاريخية حيال «شروط» صندوق النقد الدولي، برزت في الآونة الأخيرة مواقف غير مُطمئنة، أهمها ما ورد على لسان أمين عام «حزب الله» لجهة رفض بعض ما قد يقترحه صندوق النقد للموافقة على تمويل خطة انقاذ للاقتصاد اللبناني.

بين التباعُد في وجهات النظر حول فلسفة الحل بين الفرنسيين والحريري، وبين التناقض والرفض والتشكيك بين وجهتي النظر في مقاربة شروط صندوق النقد الدولي بين «حزب الله» والحريري، هناك من يخشى أن «نربح» حكومةً ونخسر الانقاذ، ونكون كمَن ربح النحل وخسر العسل.

ما تبقّى من الودائع: 12 سنتاً لكل دولار

مضى حوالى العام على احتجاز أموال المودعين في المصارف اللبنانية، ولا يزال البعض يعيش حالة إنكار للأزمة المالية التي نمرّ بها، معتبراً انها مؤامرة أو «غيمة صيف وتمرّ»، وسيعود الدولار الى 1500 ليرة وسيسترجع وديعته وبالدولار، ما ان تنجلي هذه الغيمة. فما حقيقة وضع الودائع في المصارف؟ وهل هي حقاً موجودة؟ ومتى يمكن استرجاعها؟ وبأية شروط؟

أين كنّا وأين أصبحنا؟ أين هي ودائعنا ولماذا تبخرت؟ وهل من أمل باسترجاعها؟ هذا هو لسان حال اللبنانيين والمغتربين الذين شعروا منذ حوالى العام بأنّ ودائعهم هي مجرد أرقام وهمية، وانّ مدّخراتهم وجَنى العمر تبخّر، وانّ كل ما يَجنونه بالكاد يكفي طعاماً. فمتى ينتهي هذا الكابوس ويخرج أحد المسؤولين ويصارح اللبنانيين بالحقيقة ويرسم لهم خريطة الطريق للمرحلة المقبلة؟

في ظل هذه الضبابية السائدة يبدو حتى الآن انّ المرحلة المقبلة ستكون أسوأ من السابقة، فأين قصّرت الدولة؟ وما الخطوات التي كانت لتجنّبنا هذا الهبوط الحاد الى القعر؟

في السياق، يقول المستشار المالي ميشال قزح انّ ما حصل منذ 17 تشرين الأول 2019 حتى اليوم هو لا مساواة بين المودعين، بحيث انّ أصحاب المصارف وبعض النافذين سياسياً ومساهمي المصارف تمكّنوا من إخراج أموالهم من لبنان، في حين انّ أموال بقية الشعب ظلّت عالقة في المصارف. وقال لـ«الجمهورية»: كان يمكن لحاكم مصرف لبنان ان يُصدر تعميماً في 18 تشرين الأول 2019 يفرض بموجبه الكابيتال كونترول لمنع تحويل الأموال الى الخارج، مؤكداً انّ لمصرف لبنان السلطة الكاملة لإصدار هكذا قرار، وقد رأينا كيف أصدر مجموعة تعاميم اتخذ فيها قرارات قوية، منها التعميم رقم 154.

ولدى سؤاله: هل هناك أيّ أمل باسترجاع الودائع العالقة في المصارف؟ أجاب قزح: عندما يدعو أحد النواب الى إعادة تكوين الودائع فهذا يعني انها غير موجودة، وإذا كنّا لا نريد المَسّ بالذهب فهذا يعني انّ المبلغ المتوفّر في البنك من كل دولار هو حوالى 12 سنتاً؟ بما يعني انّ 88% من الودائع غير موجودة.

أضاف: المركزي يرفض اليوم تحويل الودائع الى ليرة، لذلك يُجيز سحب الدولار وفق تسعيرة 3900 ليرة. وبما اننا في وضع غير مستقر لجأ المودعون الى سحب دولاراتهم من المصارف، رغم تعرّضهم الى haircut بنسبة 45 الى 50% عندما كان سعر الدولار مقابل الليرة يتراوح ما بين 7200 و7500 ليرة، بينما ارتفعت هذه النسبة اليوم الى ما بين 55 الى 60% بوصول الدولار في السوق الموازي الى 9000 ليرة.

6 أشهر صعبة

وأكد قزح انّ المرحلة المقبلة، والتي تتراوح ما بين ستة أشهر الى سنة، ستكون صعبة جداً على المواطن اللبناني، خصوصاً انّ سعر صرف الدولار مقابل الليرة مرجّح أن يرتفع في السوق الموازي الى أكثر من 20 ألفاً، الّا انّ الأوضاع ستبدأ بالتحسّن تدريجاً بعد التوقيع مع صندوق النقد، لأنه الجهة الوحيدة القادرة على ضَخ أموال جديدة في السوق. وقال: إنّ عودة الثقة بالقطاع المصرفي ممكنة، لكن هناك عدة خطوات تسبق ذلك، منها: خفض عدد المصارف العاملة في لبنان من 60 حاليّاً الى 10، وإعادة النظر بطريقة عملها، ولاحقاً يمكن جَذب المودعين من خلال إعطائهم دولارات نقداً ربما تبدأ بـ 200 دولار أسبوعيّاً وتزيد مع الوقت، لكنّ ذلك مستحيل قبل 5 سنوات من بدء تطبيق الكابيتال كونترول على ان يبدأ العَد من تاريخ التوقيع مع صندوق النقد.

وتوقّع قزح، في حال لم يوقّع لبنان اتفاقاً مع صندوق النقد، أن يلجأ حاكم مصرف لبنان في القريب العاجل الى رفع سعر الدولار المعتمد في المصارف للسحوبات بالعملات الاجنبية من 3900 ليرة الى 6000 ليرة، مؤكداً انّ المعطيات تشير الى ان لا قرار سياسياً بعد للتوجّه نحو صندوق النقد. ولفت الى انّ الكابيتال كونترول والـbail in هما من ضمن الشروط التي يفرضها صندوق النقد، وتطبيق الـbail in، أي أن يمتلك الدائنون أسهماً في المصارف اللبنانية، هو خطوة مرفوضة من قبل أصحاب المصارف لأنها تعني تغييراً في مُدراء المصارف ومالكيها، مع العلم انّ وضعهم اليوم شبيه بمَن يترأس شركة مفلسة. فالمصارف أقرضَت مصرف لبنان، وهي للأسف لا تزال تأمل باسترجاع أموالها التي هي أموال المودعين، الّا ان هذا الامر مستبعد جداً لأنّ الاقتصاد اللبناني دخل في المربّع السلبي.

واعتبر قزح انّ المركزي يراهن على ان يؤدّي إخراج الودائع من المصارف (باللولار والليرة اللبنانية) الى التخفيف من حجمها، وهذه الخطوة ستخفّف عنه عبء دفعها بالدولار الحقيقي في المرحلة المقبلة. لكنّ هذه الخطوة أدّت في المقابل الى تكبير الكتلة النقدية في السوق، ما انعكسَ تدهوراً في قيمة العملة الوطنية، فسجّلَ التضخّم مستويات غير مسبوقة. وأكد انّ طبع الليرة اللبنانية وشحنها الى لبنان يتم بكميات كبيرة، والدليل انّ ورقة الـ100000 ليرة دخلت في التسلسل E28، لافتاً الى انه منذ بدء الأزمة الى اليوم، أي في خلال عام، ارتفعت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية من 11 تريليوناً الى 31 تريليون، أي انها زادت حوالى 3 مرات.

عن رفع الدعم

من جهة أخرى، أكد قزح انّ المصرف المركزي لن يرفع الدعم كلياً عن المحروقات والقمح والأدوية إنما تدريجاً، وذلك بعد وصول الإحتياطي الالزامي الى 17.5 مليار دولار. ويمكن ان يسمح بتراجع الاحتياطي أكثر، عازياً ذلك الى التراجع الحاصل في حجم الودائع في المصارف، وقال: بما انّ المصرف المركزي مُجبر على عدم المَس بـ 15% من حجم الودائع، وهو ما يعرف بالاحتياطي الالزامي، فإنه بالتالي كلما تراجَع حجم الودائع كلما تراجعت معه نسبة الاحتياطي الالزامي، بما معناه انه في الفترة المقبلة ستتراجع نسبة الاحتياطي الالزامي متأثرة بتراجع حجم الودائع من 17.5 مليار دولار الى 17 مليار دولار ثم الى 16 مليار وبعدها الى 15… وهذا ما يؤكد انّ الدعم سيستمر في الفترة المقبلة، إنما سيخف تدريجاً.

تابع: انّ التهريب الحاصل، خصوصاً في مادة المحروقات (كونها تستنزف الحصة الأكبر من أموال الدعم، حوالى 5 مليارات دولار سنوياً)، لم يساعد كثيراً في استدامة خطة الدعم لأنّ هذه الأموال استعملت لاستهلاك بلدَين. وجَزمَ انّ التهريب الى سوريا لن يخف حتى لو ارتفع سعر صفيحة البنزين الى 200 ألف ليرة، لأنّ لبنان منفذ سوريا الوحيد لشراء البنزين.

ورداً على سؤال، تخوّف قزح من ان يؤدي ارتفاع الدولار المتوقّع بعد البدء التدريجي برفع الدعم الى جَعل البطاقة التموينية التي يعدّها المصرف المركزي بقيمة مليون ليرة شهرياً من دون أي جدوى، لأنها لن تكفي لا لشراء الادوية ولا المحروقات، مؤكداً انّ لبنان دخل في سيناريو فنزويلا، والتخوّف اليوم هو من الدخول في سيناريو الصومال حيث يزداد العنف بهدف السرقة. ورأى اننا مقبلون على ثورة اجتماعية كبيرة، لأنه لن يكون في مقدور اللبنانيين العَيش في ظل سعر 20 ألفاً للدولار مقابل الليرة.

ايفا ابي حيدر

هكذا “حَسَبها” رياض سلامة عندما قرّر “حَبس” الليرة

بين ليلة وضحاها، كادت الليرة أن تتحوّل عملة صعبة على غرار الدولار، يصعُب الحصول عليها. تعدّدت الاجتهادات في تفسير ما يجري، لكنّ الواضح أنّ ما يمرّ به البلد ليس طبيعياً، ومن البديهي أن تكون القرارات والتطورات والحقائق والأرقام غير طبيعية أيضاً.

أثار قرار وضع قيود على السحب بالليرة عاصفة شعبية وقطاعية، واضطرّ مصرف لبنان، ورغم تمسّكه المبدئي بالقرار، الى تَليين موقفه بشكل غير مُعلن، الأمر الذي سمحَ للمصارف بطمأنة الناس الى أنّ السيولة بالليرة ستكون مؤمّنة من دون توضيحات كافية.

ما هي الظروف التي اضطرّت حاكم المركزي الى اتخاذ مثل هذه الخطوة، مع علمه المُسبق بحجم الاعتراضات التي ستواجهه، وبالأضرار التي ستلحقها الخطوة بالاقتصاد؟

من الواضح أنّ رياض سلامة أدركَ، بعد جَسّ النبض الذي أجراه في موضوع وقف الدعم، أو تخفيفه تدريجاً، انّ المنظومة السياسية ليست مستعدة للمشاركة معه في أي قرار. وعلى طريقة الكابيتال كونترول، تنصّلت السلطة من مسؤولياتها، وكأنها تقول لسلامة: «قَبِّع شَوكَك بإيدَك».

عند هذا الحد، أدرك حاكم المركزي أنه سيكون أمام خيارات كلها صعبة، وتنطوي على مجازفة غير مضمونة العواقب. ولا شك في أنه فكّر في وقف الدعم، وحَشرِ السلطة لدفعها الى اتخاذ قرار، إمّا بتأييد الاجراء الجديد، أو بالطلب إليه الاستمرار في الدعم، وعلى مسؤوليتها. لكنه أدرك أنّ السلطة لن تَنحشِر، وستعمد الى وضعه في وجه الناس. وقد جاءت تحركات الاتحاد العمالي العام في الشارع، لتمنحه أنموذجاً عن الاسلوب الذي سيُعتمد لمواجهة قرار وقف الدعم.

الخيار الآخر الذي قد يكون فكّر به سلامة هو الاستمرار في الدعم، والبدء في الانفاق من الاحتياطي الالزامي. لكن، ومن خلال معرفته بأسلوب السلطة السياسية، كان يعرف، أو هكذا يُفترض، انّ السلطة ستنام على حرير الـ17 مليار دولار، وقد تنضب الاموال، ونصل الى الجحيم الذي سيحرق الجميع، خصوصاً انّ المركزي يُهَيّء نفسه للمرحلة المقبلة في شباط 2021 (بعد 4 أشهر فقط)، حيث سيبدأ ورشة اعادة تأهيل القطاع المصرفي، وقد يضطر الى وضع يده على أكثر من مصرف متعثّر، فكيف يستطيع أن يفعل اذا كانت إمكانته المالية قد تراجعت بنِسَب اضافية عمّا هي عليه اليوم؟

من هنا، اعتبر حاكم المركزي أنّ أهون الشرور يكمن في خفض السحوبات بالليرة من المصارف، بحيث تساهم خطوة من هذا النوع في خفض الانفاق من الاحتياطي الالزامي، من دون أن يكون قد اضطرّ الى رفع الدعم ومواجهة غضب الناس وغضب القطاعات الاقتصادية منفرداً. واعتبر انه بهذا القرار يضرب اكثر من عصفور بحجر واحد، إذ يؤدي تقييد السحوبات الى الامور التالية:

اولاً – تراجع الاستهلاك، وبالتالي تراجع الاستيراد وخفض منسوب الانفاق من اموال الودائع في مصرف لبنان.

ثانياً – تخفيف الضغط على الليرة في السوق السوداء لمنع ارتفاع اضافي في سعر صرف الدولار.

ثالثاً – إخراج بعض الدولارات المُخبّأة في المنازل، لترييح سوق الصرف.

رابعاً – وقف ظاهرة شيكات الـSwap، والتي تعتمد مبدأ استبدال سيولة بالليرة بشيك بالدولار، يُعاد سحبه على سعر المنصّة، الامر الذي يؤمّن أرباحاً مضاربة تزيد في تأزيم المشهد المالي.

خامساً – تخفيف عملية طباعة الليرة، خصوصاً انّ الطلب يزداد على العملة الوطنية. الدولة تموّل إنفاقها من الطباعة، والمركزي يؤمّن سحب الودائع الدولارية بالليرة من خلال الطباعة أيضاً. وتشير التقديرات الى حركة 4 آلاف مليار ليرة شهرياً في عملية السحوبات من المصارف.

لكنّ هذه «المزايا» التي قد يوفّرها قرار تقييد السيولة بالليرة، تقابلها حقائق لا يمكن الاستخفاف بنتائجها، من أهمها:

اولاً – إنكماش اقتصادي سريع ناتج عن تراجع الاستهلاك نتيجة شح السيولة. وهذا يعني إقفال المزيد من المؤسسات، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل، وتراجع حجم الاقتصاد (GDP)، وارتفاع نسبة الديون الهالكة، بما يؤدي الى زيادة الضغط على المصارف، وتصعيب الحلول عندما يحين موعد وضع خطة للخروج من الحفرة.

ثانياً – فقدان مواد استهلاكية في الاسواق، وندرة تَوَفّر مواد أخرى، خصوصاً انّ المركزي اشتَرطَ الحصول على سيولة نقدية من الشركات المستوردة مقابل فتح اعتمادات مدعومة على سعر صرف 1507 أو 3900 ليرة.

ثالثاً – إعاقة القطاع الصناعي، بما قد يؤدّي الى انخفاض حجم التصدير، وتراجع كمية العملات الصعبة التي يُدخِلها القطاع الى البلد.

رابعاً – عودة التشنّج في العلاقة بين المصارف والزبائن، وهذا الامر ليس في مصلحة أحد خصوصاً انّ المصارف، لا سيما الصغيرة منها، ستكون امام خيارين: إمّا الاكتفاء بسقف السحوبات المنخفض الذي حدّده المركزي بما يعني ازدياد حدّة المواجهة مع الزبائن، وإمّا الاستغناء عن فوائد شهادات الايداع بما يعني زيادة حجم خسائرها والمجازفة بالوصول في شباط المقبل الى مرحلة الاستسلام، وتسليم مفاتيح المصرف الى البنك المركزي.

في المقارنة بين «مزايا» حَبس الليرة و»أضرارها»، يصعب الاستنتاج أيّهما أقل ضرراً من الآخر، لكن الأكيد انّ الضرر واقع في الحالتين. واذا كانت المعالجة الجذرية ستتأخّر، سيكون البلد في مواجهة صعوبات إضافية، إذ لا توجد حلول خارج المعالجة الشاملة، التي لا يمكن أن تبدأ قبل تغيير المشهد السياسي، بما يعني أنّ القصة «مطَوّلة».

انطوان فرح

حاملو اليوريوبوندز يتحيّنون الفرصة المناسبة للانقضاض على أموال الدولة

Elliott, Aurelios,citadel.. صناديق تحوط (hedge fund) من حيث المبدأ، لكن يتمّ التعريف عنها بأنها vulture fund قامت بشراء سندات اليوروبوندز اللبنانية بأسعار بَخسة بعدما أعلن لبنان تخلّفه عن الدفع على عكس «اشمور» و»فيدالتي»، الّا انّ كل هذه الأطراف مجتمعة تستعد لمقاضاة لبنان بعد تعثّره. فما أوجه الاختلاف بينها؟ وكيف تستعد لمقاضاة لبنان؟ وهل تعدّ الدولة أوراقها للمواجهة؟

لدى إعلان لبنان تخلفه عن سداد سندات اليوروبوندز في 8 آذار الماضي، إتجهت الأنظار الى صندوق اشمور Ashmore الاستثماري على انه الجهة الشرسة التي استحوذت على الحصة الأكبر من سندات اليوروبوندز اللبنانية حتى باتت تحظى بحق «الفيتو» في أي قرار يتخذ لجهة إعادة جدولة الديون. وتردّد يومها انّ حصتها من السندات بلغت 25.3%. لكن يبدو انّ «اشمور» ليست الجهة الاشرَس التي ستقف في وجه لبنان في المرحلة المقبلة، فالمعركة الأكثر عدائية ستكون مع الجهات التي لم تكترث يوماً للسندات اللبنانية إنما اشترتها بعد تخلّف لبنان عن الدفع.

في السياق، يشرح الخبير المالي دان قزي لـ«الجمهورية» انّ الجهة التي كانت تشتري السندات اللبنانية منذ حوالى 10 سنوات الى اليوم، مثل fidelity و Ashmore، كان لديها إيمان بلبنان وعلى هذا الأساس كانت تُقرضه الأموال. وفي هذه الأزمة المالية، حافظت على السندات اللبنانية ولم تبعها، انما الجهة الأكثر شراسة، والتي تستعد لخوض معركة اليوم ضد لبنان، هي صناديق الـ vulture fund التي اشترت سندات لبنان بعدما وقّع، أي بعدما أعلن تخلّفه عن الدفع، وبأسعار بَخسة تقدّر بنحو 15 سنتاً للسهم. وأوضح ان المرة الأخيرة التي اشترت فيها اشمور السندات اللبنانية كانت في الفصل الأخير من العام 2019 بحيث كان سعر السهم حوالى 80 سنتاً بينما اصبح سعر السند اليوم اقل من 20 سنتاً، بما يعني انّ اشمور خسرت كثيراً بسندات لبنان، لكن كل هذه المعطيات لا تعني انّ صنوق اشمور لن يتجه الى المحاكم الدولية ليقاضي الدولة اللبنانية للاستحصال على حقوقه.

وأوضح انه قبيل بدء الحديث عن احتمال اعلان تعثّر لبنان، دخلت اطراف جديدة السوق اللبنانية واشترت سنداته، وهؤلاء نوعان: الأول يرى انّ هناك ما يستحق خوض هذه المعركة ضد لبنان (ممتلكات: نفط ذهب..)، والثاني راهَن على تدهور الأوضاع الاقتصادية فيه، فاستدانوا اليوروبوندز بسعر مرتفع باعوها في السوق المالية مراهنين على تدهور سعرها وما ان تدهور سعرها حققوا الأرباح واعادوها الى أصحابها.

الجهات الدائنة واقتناص الفرص

وعن سبب عدم تحرّك هذه الشركات لمقاضاة لبنان رغم مرور حوالي 8 اشهر على تعثر لبنان يقول قزي: انه من حسن حظ لبنان ان جائحة كورونا ألهت هذه الشركات عن لبنان، فنحن سوق صغير جدا لا يمثل اكثر من 1% مقارنة مع حجم أعمالها في دول أخرى. فكورونا أدّت الى انهيار الأسواق المالية العالمية بنحو 50% وكبّدت الشركات خسائر بالمليارات.

تابع: الى جانب ذلك، يمكن القول ان هذه الشركات الان في حالة ترقب للوضع المالي اللبناني وما اذا كنا سنحصل على دعم من صندوق النقد الدولي ام لا. وأوضح اذا وقع لبنان اتفاقا مع صندوق النقد فهذا يعني موافقة جدية على تطبيق الاصلاحات ودخول دولارات fresh money في المرحلة المقبلة ما من شأنه ان يزيد من مصداقية لبنان لدى الجهات الدائنة.

أضاف: في جميع الأحوال ان الجهات الدائنة لا تبدأ محادثات مباشرة مع الدولة اللبنانية انما هي تبقى في حال ترقب فتختار فتح معركتها في الوقت المناسب. على سبيل المثال، اذا قرّر لبنان ان يقترض الأموال سيحاولون وضع إشارة على الدين، ام اذا قرر بيع الذهب فسيحاولون وضع إشارة عليه، بما يعني انهم يتحركون إزاء أي خطوة من شأنها ان تدرّ أموالا للبنان.

وعن الهيركات المتوقع على السندات اللبنانية قال قزي: لا نسبة محدّدة انما هو يتراوح ما بين 50 سنتا كحد أدنى و75 سنتا كحد أقصى.​

ايفا ابي حيدر.

عام على 17 تشرين: الفقر ينتشر والإقتصاد من الأزمة الى الفاجعة

مَرّ عام على انفجار الأزمة المالية والاقتصادية التي قلبت الوضع رأساً على عقب، وفاجأت حتى المعنيّين والمسؤولين المباشرين وغير المباشرين عنها. سقط النظام المصرفي القائم على التحويلات المالية من الخارج بسرعة أكبر من المتوقع، فاضطّر الى احتجاز دولارات مودِعيه بسبب فقدانه السيولة بالعملة الاجنبية، وتحوّل الاقتصاد اللبناني الى اقتصاد نقدي يعتمد فقط على السيولة النقدية لإتمام المعاملات التجارية. آخر الإبداعات: ليرة بنكية Bira على غرار الدولار البنكي Lollar.

منذ 17 تشرين الاول 2019 ولغاية اليوم، يشهد لبنان انهياراً اقتصادياً مُتسارعاً أدّى الى زيادة حدّة الانكماش الاقتصادي من 7 في المئة الى 30 في المئة، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي من 52 مليار دولار في العام 2019 إلى 31 مليار دولار في العام 2020، وارتفع معدل التضخّم في مؤشر أسعار المستهلك الى 91.3 في المئة مقارنة مع 2.9 في المئة في 2019.

وقد استُنِزف احتياطي مصرف لبنان من العملات الاجنبية بالكامل بسبب مواصلة سياسة دعم استيراد السلع الاساسية على سعر الصرف الرسمي، ما أدّى الى تراجع اصول البنك المركزي من العملات الاجنبية الى حدود الاحتياطي الالزامي للمصارف عن 17.5 مليار دولار مقارنة مع 30 مليار دولار في 2019. وارتفعت نسبة الدين العام من الناتج المحلي الاجمالي الى 181 في المئة في 2020 مقارنة مع 177 في المئة في 2019، وذلك ليس بسبب استدامة الدين العام بل نتيجة تخلّف لبنان عن سداد ديونه الخارجية في آذار 2020 وتوقفه عن دفع سندات اليوروبوندز.

الانهيار الأبرز والأهم الذي نتج عن انفجار الأزمة، كان تدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار بنسبة فاقت الـ 70 في المئة، ليصل في بعض الفترات الى حدود الـ10 آلاف ليرة مقابل الدولار ويتراجع الى حوالى 8000 ليرة حالياً، في حين ارتفع معدل التضخم السنوي الى مستويات قياسية عند 450 في المئة، ووضع لبنان في المرتبة الثانية عالمياً بعد فنزويلا.

في النتيجة، انهارت القدرة الشرائية للمواطن اللبناني، وتضاعفت نسبة الفقراء لتصل إلى 55 في المئة في العام 2020 مقارنة مع 28 في المئة العام 2019، وارتفعت نسبة الذين يعانون الفقر المدقِع ثلاثة أضعاف، من 8 إلى 23 في المئة.

وفي ظل الابقاء على سعر الصرف الرسمي عند 1507 ليرة مقابل الدولار في القطاع المصرفي، أدّى الوضع المالي والنقدي المُزري الى وجود أسعار صرف مختلفة في السوق بالاضافة الى السعر الرسمي، وهي: سعر المنصة التي يحدده مصرف لبنان عند 3900 ليرة، سعر السوق السوداء عند 8000 ليرة حالياً، سعر شراء شيكات الدولار عند 3000 ليرة. كما بات هناك قيد التداول في السوق 4 عملات، هي: الدولار الحقيقي النقدي fresh dollar، الدولار الوهمي المُحتجز في المصارف (lollar)، الليرة الحقيقية النقدية، والليرة المحتجزة في المصارف (Bira/bank lira) والمستحدثة مؤخراً بعد ان قيّد مصرف لبنان السحوبات النقدية بالليرة اللبنانية ووضع سقوفاً لسحوبات المصارف النقدية بالليرة من المصرف المركزي.

ورغم تأكيد البنك المركزي على أنّ هذا النوع من التدابير هو بطبيعته إجراء موقّت تفرضه أوضاع استثنائية، وتلجأ اليه المصارف المركزية في العالم لمكافحة التضخّم والارتفاع المفرط في أسعار السلع والخدمات، من دون التقصير في تلبية مجمل حاجات السوق المحلي الى السيولة، إلّا انّ شح السيولة بالليرة في السوق في ظلّ شح السيولة بالدولار أيضاً وارتفاع الطلب عليه سيؤدي الى مزيد من الانكماش الاقتصادي لأنه سيعطّل الدورة الاقتصادية ويقلّص الاستيراد بنسبة اكبر من التي بلغها عند 50 في المئة مقارنة بالعام الماضي، وفي النتيجة سيخفّض من حجم الاستهلاك.

في هذا الاطار، وصف وزير الاقتصاد السابق سامي حداد الاجراء الذي اتخذه مصرف لبنان، عبر تقييد السحوبات النقدية، بـ«التعيس جدّاً والقصير الاجل»، لافتاً الى انّ الهدف منه هو الحفاظ على سعر صرف الليرة مقابل الدولار بصورة اصطناعية. وأوضح لـ«الجمهورية» انه سينتج عن هذا الاجراء مزيد من التدهور في النشاط الاقتصادي، «وبدلاً من تحفيز الاقتصاد وتنشيطه، فإنّ تقييد السحوبات بالليرة سيؤدّي الى مزيد من الانكماش»، معتبراً انّ هذه الاجراءات بعيدة جداً من أفق الحلّ المتمثّل بتَدفّق مليارات الدولارت الى لبنان وذلك من خلال التوصّل الى اتفاق على برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي.

من جهته، أكد الخبير المالي وليد أبو سليمان لـ«الجمهورية» انّ الهدف من تقييد السحوبات النقدية بالليرة هو لجم الاستهلاك المحلي، وتقليص حجم الاستيراد، ومنع خروج المزيد من الدولارات الى الخارج، والحفاظ على ما تبقى من احتياطي مصرف لبنان من العملات الاجنبية لفترة اكبر، موضحاً انّ تقييد السحوبات بالليرة جاء بالتوازي مع طلب مصرف لبنان من مستوردي السلع المدعومة تسديد قيمة فواتير الاستيراد بالليرة نقداً، ما سيؤدي بطبيعة الحال الى شح ٍفي المواد الاستهلاكية وفقدان السلع من السوق بشكل اكبر من الحاصل اليوم، والى مزيد من الانكماش الاقتصادي.

وأشار ابو سليمان الى انه نتيجة ذلك، سيصبح هناك ليرات مكّدسة في المصارف وfresh ليرة، «وقد بدأ بيع وشراء الشيكات المصرفية بالليرة مقابل ليرة نقدية بسعر يتراوح بين 10 الى 15 في المئة من قيمتها الفعلية». وأكد انّ دولارات المنازل ستبقى مخزّنة ولن يتم استخدامها، بغضّ النظر عن أي سقوف يتمّ تحديدها للسحوبات النقدية بالليرة.

رنى سعرتي.

أزمة لبنان المالية – شرطان لصندوق النقد: الدعم وسعر الصرف

إعتبر كبير الاقتصاديين في «معهد التمويل الدولي» غربيس ايراديان، انّ لبنان سيتوصل الى اتفاق حول برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي عاجلاً أم آجلاً، لانّه الخلاص الوحيد لأي حكومة جديدة، مهما كان شكلها أو لونها. موضحاً انّ صندوق النقد الدولي سيشترط رفع الدعم عن المحروقات، وتوحيد سعر صرف العملة المحلية، الذي رجّح ان يبلغ أقلّ من 6000 ليرة مقابل الدولار، في حال تمّ تنفيذ الاصلاحات المطلوبة، وحصل لبنان على الدعم المالي من المجتمع الدولي.

أكّد «معهد التمويل الدولي» في أحدث تقرير له، امكانية ان يصنّف لبنان كدولة فاشلة، في ظلّ غياب الإصلاحات السياسية والاقتصادية، لافتاً الى انّ الانفجار الهائل الذي حصل في مرفأ بيروت، بالاضافة الى الشلل السياسي أدّيا الى تعميق نسبة الانكماش في الاقتصاد إلى 26.6 في المئة لهذا العام، مقارنة مع 6.8 في المئة في 2019 و 1.9 في المئة في 2018.

واوضح انّ الانكماش الكبير في الإنتاج والانخفاض الهائل في سعر صرف العملة المحلية في السوق السوداء، سيؤديان الى تراجع الناتج المحلي الإجمالي من 52 مليار دولار في العام 2019 إلى 31 مليار دولار في العام 2020. مشيراً الى انّ معدل التضخم في مؤشر أسعار المستهلك بلغت 91.3 في المئة في 2020 مقارنة مع 2.9 في المئة في 2019.

وذكر «رنى سعرتيمعهد التمويل الدولي»، انّ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما من المانحين الرسميين، يحجمون عن تقديم الدعم المالي الى لبنان، بسبب الفشل المتكرر للطبقة السياسية في تنفيذ السلة المطلوبة من الإصلاحات، معتبراً انّه يمكن استئناف المفاوضات بين السلطات اللبنانية وصندوق النقد الدولي وتخطّي كافة الاشكاليات السابقة ونقاط الخلاف، في حال تمّ تشكيل حكومة جديدة متخصصة ومستقلة في الأسابيع القليلة المقبلة، والتي يجب ان تبدأ فوراً في تنفيذ الإصلاحات المالية والهيكلية، بما في ذلك إصلاح النظام المالي وإصلاح الكهرباء، بالاضافة الى اقرار مجلس النواب قانون يضمن استقلالية الهيئة القضائية، وقانون المشتريات العامة الجديد، والانتهاء من التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان الجارية حالياً.

وفيما توقع معهد التمويل الدولي تراجع العجز في الحساب الجاري، في ظلّ انهيار الطلب المحلي من 11.5 مليار دولار الى -3.1 مليارات دولار، اي بنسبة 22.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2019، إلى 10.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2020، اكّد انّ تراجع صافي تدفقات رأس المال سيعوّض الانخفاض الحاصل في عجز الحساب الجاري. وفي النتيجة، رجّح ان تنخفض الاحتياطات الرسمية للبنك المركزي بنحو 12 مليار دولار إلى 19.6 مليار دولار في نهاية العام 2020، مقدّراً أنّ ما لا يقلّ عن 18 مليار دولار من الأصول المتبقية لمصرف لبنان بالعملات الأجنبية، هي احتياطي إلزامي للمصارف، والتي لا يمكن للبنك المركزي استخدامها.

واكّد التقرير انّ العجز المالي سيبقى كبيراً بسبب انهيار إيرادات الدولة، وذلك بنسبة 10.3 في المئة من الناتج المحلي في 2020 مقارنة مع 11.9 في المئة في 2019. كما قدّر ان تبلغ نسبة الدين العام من الناتج المحلي الاجمالي 94.1 في المئة في 2020 مقارنة مع 175 في المئة في 2019.

واعتبر التقرير، انّ الإصلاح الاقتصادي والحدّ من حصول المزيد من التدهور سيتطلبان معالجة الفساد المستشري في لبنان بشكل جذري، وذلك عبر وجود إرادة سياسية قوية لإنشاء مؤسسات فعّالة تعزّز النزاهة والمساءلة في كافة مؤسسات القطاع العام، مشيراً الى انّ استقلالية النظام القضائي غالبًا ما تتعرّض للتحدّي من خلال التدخّل السياسي.

صندوق النقد يوقف الدعم

في هذا الاطار، اوضح كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي غربيس ايراديان، انّ الوضع الاقتصادي والمالي في البلاد بلغ القعر، ولم يعد أمام لبنان سوى فرصة التوصل الى برنامج انقاذ مع صندوق النقد الدولي وتشكيل حكومة متخصصة، لتطبيق الاصلاحات المطلوبة، بغض النظر اذا كانت حكومة تكنوسياسيين او اختصاصيين، مؤكّدا لـ«الجمهورية»، انّ أي رئيس حكومة مقبل، ليس امامه سوى صندوق النقد الدولي لانتشال لبنان من ازمته، «وهذا أمر واقع، لكن توقيته ما زال مجهولاً، قد يتمّ التوصل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي قبل نهاية العام او مع بداية العام المقبل».

وشدّد ايراديان على انّ الدعم على السلع الاساسية المستوردة لا يمكن ان يستمرّ ولا قدرة لمصرف لبنان على الاستمرار به، مشدّداً على ضرورة رفع الدعم على المحروقات بشكل خاص او على الاقلّ دعمها وفقاً لسعر صرف الـ 3900 ليرة، كذلك الامر بالنسبة للادوية التي يجب ترشيد دعمها، باستثناء القمح الذي لا يشكّل دعمه مشكلة كبرى. وكشف انّ صندوق النقد الدولي لا يمكن ان يوافق عبر أي برنامج إنقاذ سينفذه في لبنان على مواصلة الدعم، وبالتالي فانّ هذا الامر سيحصل عاجلاً أم آجلاً، «إلّا انّ رفع الدعم، بعد الحصول على دعم مالي من صندوق النقد وتعزيز احتياطي مصرف لبنان، لن يكون تداعياتهما سلبية على غرار رفعه اليوم»، مشدّداً على ضرورة ان يقابل رفع الدعم، تفعيل لشبكة الحماية الاجتماعية للأُسر الاكثر حاجة.

ارتفاع سعر الليرة؟

عن مسار سعر صرف العملة المحلية، قال ايراديان، انّ سعر الصرف سيستعيد تعافيه عند البدء في تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي، والحصول على أموال «سيدر» التي ستعزّز النمو الاقتصادي وتُعيد الثقة للقطاع الخاص، لأنّها مخصّصة لتنفيذ مشاريع استثمارية في القطاع العام والخاص. متوقعاً ان يرتفع سعر صرف الليرة بعد 3 اشهر من انطلاق برنامج الانقاذ، والبدء في تنفيذ الاصلاحات، الى أقلّ من 6000 ليرة مقابل الدولار. كما اشار الى انّ صندوق النقد سيطالب ايضاً بعد 3 او 4 اشهر من تنفيذ برنامجه، بتوحيد اسعار الصرف المعتمدة، اي السعر الرسمي 1500 وسعر المنصة 3900 والسوق السوداء، مرجحاً ان يكون السعر الموحّد عند حوالى 5000 او 5500 ليرة.

رنى سعرتي.

أزمة لبنان المالية: 16مليار دولار في 11 شهـــــراً.. ماذا يجري؟

«حيث لا يوجد دولار لا يوجد اقتصاد»…العبارة مقتبسة من كلام حاكم مصرف لبنان في مؤتمره الصحافي الشهير في 11 تشرين الثاني 2019. يومها أعلن سلامة ما يشبه «الكابيتال كونترول»، وأقرّ كذلك خطة دعم المحروقات والطحين والدواء. هذان القراران اتخذهما سلامة في ظلّ حكومة مستقيلة، وتعذُّر إقناع المجلس النيابي بأن يأخذ على عاتقه مسؤولية قرارات من هذا النوع.

اليوم، وبعد مرور 11 شهراً ونيف على هذا التاريخ المفصلي (11 تشرين الثاني)، يتبيّن انّ القرارين المتعلقين بـ«الكابيتال كونترول» المموّه ودعم السلع الاستراتيجية، يواجهان مطبّات واعتراضات وتُرسم حولهما علامات استفهام. فهل أخطأ حاكم البنك المركزي في هذين القرارين، وكيف سيتمّ التعاطي مع الملفين في المرحلة المقبلة؟

في ملف «الكابيتال كونترول»، تواجه لجنة المال والموازنة حقائق لا يمكن تجاوزها، من أهمها تراجُع القدرات المالية لدى المصارف، وتفاوتها بين مصرف وآخر، بحيث أصبح توحيد معايير سحب المال، أو تسديد التزامات بالعملة الصعبة (الدولار الطالبي مثلاً)، شبه مُتعذّر، ما دامت هناك مصارف عاجزة عن تأمين الحدّ الأدنى من هذه المتطلبات. وبالتالي، لم تعد «وظيفة» «الكابيتال كونترول» تشبه مبدأ «ادارة السيولة» الذي تحدث عنه سلامة في 11 تشرين الثاني 2019، لأنّ السيولة الحقيقية بالدولار نضبت تقريباً. ومن أصل حوالى 4 مليارات دولار كانت لا تزال متوفرة في حينه في حسابات المصارف اللبنانية لدى المصارف المراسلة، أصبح الرقم سلبياً اليوم. طبعاً، هذا لا يعني انّ كل المصارف باتت حساباتها في الخارج مكشوفة، بل هناك مصارف مكشوفة، وأخرى لا تزال تملك حفنة متواضعة من الدولارات.

في المقابل، كان مصرف لبنان يملك 30 مليار دولار احتياطياً قابلاً للصرف، بالاضافة الى سندات «يوروبوند» بما يوازي 5 مليارات دولار. اليوم، تراجع هذا الاحتياطي الى حوالى 19 مليار دولار، وأنفقت المصارف وفق التقديرات المُتاحة حوالى 5 مليارات دولار. بما يعني انّ 16 مليار دولار خرجت من لبنان في سنة. فهل من المنطق، أن تخسر الدولة المفلسة من احتياطي العملات الصعبة هذا المبلغ في عام واحد، في عام «إدارة السيولة»؟

ما ساهم في هذا الهدر القاتل للدولار، ثلاثة عوامل أساسية:

اولاً- عدم وجود قانون «كابيتال كونترول»، الأمر الذي سمح بتسرّب الدولارات من المصارف بإسلوب فوضوي غير موزون وغير مُقونّن. («تهريب» ودائع، اضطرار المصارف الى دفع ودائع ائتمانية (fiduciary deposit)، سحب نقدي مُقنّن وغير عادل، لأنّه لم يتمّ وفق معايير موحدة…)

ثانياً- قرار دعم السلع الاستراتيجية، (محروقات، دواء وطحين، وسلة غذائية فضفاضة، اختلط فيها ما هو اساسي للغذاء، وما هو حيوي كمواد أولية للتصنيع). ورغم انّه لا توجد أرقام حول نسبة الهدر في مشروع الدعم، لكن اذا أخذنا في الاعتبار عوامل التهريب الى سوريا، التحايل التجاري، افادة حوالى مليوني أجنبي مقيمين على الأراضي اللبنانية، استغلال الدعم لإخراج مزيد من الاموال الى الخارج، نستطيع أن نستنتج، أنّ نسبة الهدر في أموال الدعم تفوق الـ60%.

ثالثاً- الفشل الحكومي الصارخ، بدءاً بإعلان التوقف عن الدفع (افلاس) في آذار 2020، مروراً بالاسلوب العنجهي الفاشل في وضع خطة للتعافي، للتفاوض على مندرجاتها مع صندوق النقد الدولي، وصولاً الى تخلّي حكومة حسان دياب عن دورها في إعادة النظر في موضوع الدعم، والتنسيق مع مصرف لبنان لوضع خطة بديلة تتماهى مع خطة التعافي، من حيث الأهداف والبرنامج الزمني.

بعد مرور عام على اعلان بدء مرحلة «ادارة السيولة»، كيف أصبحت الخريطة المالية والاقتصادية في البلد، وما هو المطلوب في المرحلة المقبلة؟

– في الاحتياطي بالعملات، تراجع مخزون المركزي الى حوالى 19 مليار دولار، من ضمنه حوالى 17 مليار دولار احتياطي إلزامي.

– في موجودات المصارف، تراجعت السيولة بالعملات في الخارج والداخل الى أقل من مليار دولار. واذا أخذنا في الاعتبار الحسابات المكشوفة لبعض المصارف، يصبح لزاماً حسم حوالى ملياري دولار من السيولة المتوفرة، بما يعني انّ مجموع السيولة بالدولار في المركزي وفي المصارف التجارية لا تتجاوز الـ18 مليار دولار، ومن ضمنها الاحتياطي الالزامي. هذا المبلغ، مُضافاً اليه حوالى 22 مليار دولار على شكل ديون قابلة للاسترداد، بالاضافة الى حوالى مليار دولار يمكن استردادها من تسوية ديون اليوروبوند، تشكّل المجموع العام القابل للتناقّص يومياً من أصل حوالى 120 مليار دولار كانت موجودة في النظام المالي.

الملاحظة هنا، انّ اعتماد الـ(Ratio) بين أصل حجم الودائع، وما تبقّى منها اليوم (41 مليار دولار بما فيها الديون غير المُحصّلة) يشير الى النسبة المئوية نفسها المعتمدة في تصريف الشيكات مقابل الدولار الطازج (حوالى 33%).

– في حجم الناتج المحلي، تشير التقديرات الى تراجع لا يقلّ عن 30%، بما سيؤدّي الى هبوط الـGDP الى ما دون الـ35 مليار دولار.

– التضخّم في الاسعار تجاوز الـ200%، وهبوط قيمة الليرة وصل الى 500%.

هذه بعض الارقام الواضحة، والتي تشير الى خطورة المسار الذي يسلكه الوضع المالي. ومن المرجّح ان يزداد سوءاً بسرعة قياسية، لأنّ كل المؤشرات توحي بأنّ مصرف لبنان عاجز عن وقف الدعم والهدر الذي يواكبه، ورئيس الحكومة المستقيل حسّان دياب، لا يريد تحمّل مسؤولية وقف الدعم، تماماً كما أنّه لا يرغب في تحمّل مسؤولية اتخاذ قرار واضح، باستمرار الدعم وإنفاق ما تبقّى من دولارات. كل ما يريده دياب حالياً، هو أن يتولّى سلامة بالنيابة عنه اتخاذ القرار الصعب، وان يتحمّل الحاكم بنفسه مسؤولية تبخُّر ما تبقّى من دولارات للبنانيين. والحاكم هو صاحب مقولة «حيث لا يوجد دولار لا يوجد اقتصاد»، ويعرف بلا شك انّه حيث لا يوجد اقتصاد لا يوجد وطن. والسؤال: الى أين المفرّ؟

انطوان فرح

إيرادات الدولة تعكس عمق الأزمة وتداعياتها في المستقبل

تُبرز أرقام المالية العامة التي صدرت حتى الآن أزمة عجز متفاقم، يعكس انكماشاً اقتصادياً يُنذر بكارثة، خصوصاً على مستوى التراجع الذي يسجله القطاع الخاص الذي يعني انّ مستويات البطالة سوف ترتفع باضطراد، وسيزيد الضغط المعيشي على الناس.

تعتمد إيرادات الدولة بشكل أساسي على الضرائب والرسوم التي تستوفيها من القطاع الخاص من أجل تمويل نفقاتها التشغيلية وليس الاستثمارية، وهي حالياً تتمثّل برواتب وأجور القطاع العام وتمويل عجز الكهرباء، بعد ان تراجعت بشكل كبير كلفة خدمة الدين العام (-50 %) إثر تعثّر الدولة عن سداد ديونها في آذار الماضي وتوقفها عن تسديد الديون الخارجية واقتصارها فقط على تسديد ما يوازي مليار دولار من فوائد على الديون الداخلية.

وبالتالي، فإنّ القطاع الخاص ومؤسساته وشركاته، التي أقفل اكثر من 50 في المئة منها لغاية اليوم، هي المموّل الوحيد للدولة في ظل انعدام التدفقات المالية من الخارج والقضاء على السياحة، علماً انّ تراجع نشاط القطاع الخاص بهذه النسبة يعني تسريح موظفين بالنسبة نفسها وارتفاع عدد العاطلين عن العمل، في حين انّ القطاع العام الذي يشكل جزءاً اساسياً من عجز المالية العامة، والتي تشتهر إداراتها بالفساد والمحاصصة والهدر وعدم الانتاجية، ما زال عدد الموظفين فيه على حاله، رغم انّ نسبة كبيرة منهم تتقاضى رواتب مقابل وظائف وهمية.

في النتيجة، يستمرّ موظفو قطاع العام بقبض رواتبهم رغم تراجع قدراتهم الشرائية بسبب تدهور قيمة العملة المحلية، في حين انّ موظفي القطاع الخاص يخسرون مردودهم الشهري على حساب تمويل عجز الدولة من خلال طبع العملة، وبالتالي ارتفاع التضخم الذي يؤدي بطبيعة الحال الى تعثّر مؤسسات القطاع الخاص ويتسبّب في إقفالها.

وفي التفاصيل، تراجعت ايرادات الدولة في النصف الاول من العام الحالي حوالى 20 في المئة مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي الى حوالى 4 مليارات دولارات (وفقاً لسعر الصرف الرسمي) مع تراجع الايرادات الضريبية 28 في المئة والايرادات غير الضريبية بنسبة 30 في المئة. في المقابل، تراجعت نفقات الدولة بنسبة حوالى 20 في المئة ايضاً الى حوالى 6 مليارات دولار (وفقاً لسعر الصرف الرسمي) ليبلغ عجز الموازنة حوالى 2.2 مليار دولار بما نسبته 32.52 في المئة من مجموع النفقات.

في هذا الاطار، أوضح الخبير الاقتصادي بيار الخوري ان العجز ارتفع من 29.60 في المئة الى 32.52 في المئة في النصف الاول من العام 2020، مما يعني انّ انخفاض الايرادات لم يقابله انخفاض مماثل في النفقات «وهو امر طبيعي لأن نفقات الدولة لا تتمتّع بالمرونة ذاتها للايرادات، ورغم انها تراجعت هذا العام بالقيمة الاسمية بالليرة اللبنانية، فهي تبقى نفقات غير مَرنة، اي انه لا يمكن ان تشهد المزيد من التراجع».

وقال لـ«الجمهورية» ان ارقام المالية العامة تشير الى ان الانفاق على مؤسسة كهرباء لبنان تراجع بالفِعل من 720 مليون دولار الى 435 مليون دولار (وفقاً لسعر الصرف الرسمي) نتيجة تراجع استيراد النفط وتراجع اسعار النفط، وبالتالي فهذا التراجع هو عنصر غير ثابت. لافتاً الى ان النفقات العامة ما زالت على حالها عند حدود 4.7 مليارات دولار، وهي الجزء الاساس من الانفاق العام وبمرونة صفر، أي انه لا يمكن خفض هذه القيمة.

وبالنسبة لكلفة الدين العام، اعتبر الخوري انه لا يوجد انخفاض حقيقي في خدمة الدين العام الداخلي حيث تراجعت من 1.5 مليار دولار في النصف الاول من 2019 الى مليار دولار في النصف الاول من 2020 (سعر الصرف الرسمي)، موضحاً انّ التراجع في خدمة الدين العام مردّه الى انخفاض نفقات الفوائد على الديون الخارجية من 1.0 مليار دولار الى 135 مليون دولار نتيجة توقف الدولة عن الدفع.

ولفت الخوري الى انّ القيمة الحقيقية لتراجع حجم النفقات يجب ان يتم احتسابها وفقاً لسعر صرف العملة في السوق السوداء، أي ان كلفة الاجور البالغة 4.7 مليارات دولار وفقاً لسعر الصرف الرسمي عند 1500 ليرة، تبلغ اليوم فعلياً 884 مليون دولار، مما يؤكد ان الدولة تلجأ الى حل أزمتها عبر التضخّم ومن خلال انهيار سعر الصرف.

وأشار الى ان القيمة الفعلية للايرادات تراجعت ايضا وفقاً لسعر الصرف العائم، وانّ ترجمة الموازنة وفقاً لسعر الصرف في السوق السوداء يدلّ على انّ حجم الموازنة تراجع بنسبة 80 في المئة من ناحية الايرادات والنفقات.

واكد ان هناك قراراً بتمويل عجز الدولة من خلال طبع العملة، وهو امر جَليّ من خلال مراقبة حجم الكتلة النقدية المعروض M0 الذي ارتفع بشكل جنوني منذ تشرين الاول 2019 لغاية تموز 2020 حيث بلغ 19101.40 مليار ليرة مقارنة مع 17817 مليار ليرة في حزيران 2019. موضحاً انّ نسبة الارتفاع في القاعدة النقدية مماثلة لنسبة زيادة التضخم ونسبة تراجع سعر صرف العملة المحلية في السوق السوداء.

رنى سعرتي

200 دولار شهرياً لكل عائلة أفضل للجميع

يشكّل سيناريو وقف الدعم كابوساً مرعباً للبنانيين. والقول انّ الدعم سيتوقف بعد شهرين أو ثلاثة على الأكثر، يجعل البعض يتحسّب لجهنّم. لكن، ومع الاعتراف بأنّ الكارثة وقعت، لا بد من إجراءات مؤقتة، تحمي البلد من مخاطر تفوق طاقته على تحمّلها.

من الواضح أنّ الذين قرأوا كلام رياض سلامة في خلال الاجتماع الشهري مع جمعية المصارف اللبنانية، ركّزوا على العبارة التالية:

«الأزمة الحادة باتت وراءنا». وبصرف النظر عن التفسيرات التي أُعطيت لهذا التعبير الذي قد يكون المقصود فيه انّ الكارثة وقعت، وبالتالي صار المطلوب التركيز على المرحلة المقبلة التي يُفترض ان تُخصّص للخروج التدريجي من الهاوية، من المهم التمعّن في القضايا الحسّاسة التي تحدّثَ فيها حاكم المركزي، من خارج سياق هذه العبارة التي أثارت بلبلة وجدلاً.

ما أثاره سلامة أمام ممثلي المصارف اللبنانية مُقلق، ويمكن مناقشته بنداً بنداً، إنطلاقاً من الوقائع التالية التي سَرَدها الرجل:

أولاً – الخطة الانقاذية مجمّدة.

ثانياً – لا وجود لخطة حول مقاربة التفاوض مع الدائنين بعد إعلان التعثّر في آذار 2020.

ثالثاً – المفاوضات مع صندوق النقد عالقة.

رابعاً – الدولة تموّل عجزها المتفاقم بطباعة الليرة بطلب من وزارة المال، سواء لسد عجز الموازنة، أو لتسديد استحقاقات سندات الدين بالليرة.

خامساً – دعم السلع لا يمكن أن يستمر لأكثر من شهرين أو ثلاثة على الأكثر، وسيتوقف بعدها كليّاً لعدم المس بالاحتياطي الالزامي لدى مصرف لبنان.

سادساً – ضرورة التزام المصارف بتطبيق مندرجات التعميم 154.

إنّ كلّ نقطة من هذه النقاط تستحق نقاشاً مستفيضاً، وهي أهم بكثير من عبارة «الأزمة وراءنا»، لأنها في الواقع تؤكّد أنّ الأزمة في بداياتها، وما هو متوقّع، اذا استمر المسار السياسي على حاله، سيكون أسوأ بكثير من المعاناة الحالية للبنانيين.

لعلّ واحدة من النقاط الأكثر سخونة هي تلك المتعلقة بتمويل الدولة عبر طباعة الليرة. والنقطة الثانية التي لا تقلّ خطورة هي تلك التي ترتبط بوقف الدعم الكلي في غضون شهرين أو ثلاثة على الأكثر.

في موضوع طباعة العملة، تبدو الامور دراماتيكية لأنّ القطاع المالي برمّته لم يعد يملك العملة الصعبة، في حين أنّ المخزون الدولاري المُخبّأ في المنازل بات يفوق مخزون كل المصارف اللبنانية في الداخل، ولدى المصارف المراسلة. وبالتالي، لم يعد متاحاً تسيير شؤون الدولة، ودفع الرواتب وتأمين الانفاق الداخلي الضروري، وتسييل الودائع الدولارية جزئياً بالليرة، سوى من خلال طباعة العملة. وهذا يعني انّ مسار التضخّم (هبوط سعر الليرة) هو مسار دائم وتصاعدي، بما يعني انّ كارثة التضخّم المفرط (Hyperinflation) باتت تدق الأبواب. واذا استمر هذا المسار القسري في ظل ظروف الجمود السياسي، وعقم السلطة التنفيذية المستقيلة، قولاً وفعلاً، فإنّ سعر الدولار، الذي يشكّل بوضعه الحالي أزمة ضخمة للبنانيين، سينتقل الى مكان آخر تنطبق عليه عبارة «جهنم» بدقة متناهية.

كذلك يفتح هذا الموضوع النقاش حول موازنة الدولة للعام 2020، والتي لم تبصر النور بعد، في حين انّ بند إقرار هذه الموازنة وارد في ورقة الشروط ضمن المبادرة الفرنسية لتشكيل «حكومة مهمة». إذ من شأن الموازنة، ولو متأخرة كثيراً، أن توضِح الحقائق المتعلقة بالتمويل، خصوصاً انّ وزير المالية سبق له أن نفى ما أثير سابقاً حول تمويل الرواتب والانفاق عبر طباعة العملة، في حين سمعنا سلامة يؤكد أمام المصارف هذا الأمر.

في موضوع توقّف الدعم والذي يخشى الناس ان يؤدي الى كارثة تفوق بأضرارها وتداعياتها أضعاف الكارثة الحالية، لا بد من التوقّف عند مسألة المبلغ الذي تمّ إنفاقه في غضون 8 اشهر من الدعم، والذي يقدّر بحوالى 10 مليارات دولار، وهو رقم كارثي. ومن المرجّح انّ المواطنين استفادوا واقعياً بما يوازي مليارين أو ثلاثة على الأكثر، في حين أُنفق ما تبقّى لتمويل التهريب والسرقة والتحايل والهدر والتخزين، والذي يُقال انّ بعض الأحزاب تتولّاه بنشاط لضمان قدرتها لاحقاً على دعم محازبيها عندما تنتقل الكارثة الى المرحلة النهائية الأصعب.

هذا الواقع، بالاضافة الى الرقم الذي بلغه الاحتياطي في مصرف لبنان، يعني انّ الدعم بمفهومه الحالي ينبغي أن يتوقف فوراً، وان يتم الانتقال الى ترشيد هذا الدعم. والأفضل اعتماد الطرح الذي سبق أن قُدّم، من خلال بطاقات التمويل الشهري. وفي حسبة بسيطة، واذا اعتبرنا ان كل عائلة في لبنان ستحصل على 200 دولار شهرياً، ووفق حسبة انّ هناك حوالى مليون عائلة (على أساس 4 ملايين نسمة، وبمعدل 4 أفراد في الاسرة الواحدة)، فهذا يعني 200 مليون دولار شهرياً. اذا أضفنا فاتورة دعم الفيول للكهرباء، ودعم القطاع الصحي في موضوع الادوية للحفاظ على قدرة الهيئات الضامنة، يصبح مجموع الفاتورة الشهرية حوالى 300 مليون دولار. وهذا يعني انّ الملياري دولار ونصف المليار المتبقية (خارج إطار الاحتياطي الالزامي الذي يبلغ حوالى 17 مليار دولار) تكفي لدعم كل العائلات اللبنانية، وتأمين الكهرباء والدواء لمدة 8 أشهر، وهي فترة كافية لتكون الخطط الانقاذية قد أقلعت وبدأت تعطي النتائج. وهذا يعني اننا لو اعتمدنا هذا النهج منذ إعلان الافلاس في آذار، لكنّا وَفّرنا مليارت الدولارات التي هُدرت بلا طائل.

انطوان فرح.