أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

مؤشرات الانهيار الكبير: اللبناني يتحضّر للأسوأ

بدأ الوضع في لبنان يقترب من المشاهد التي كان يتابعها اللبناني عبر الشاشات في دول منهارة، أصاب الفقر شعوبها. بطاقات تموينية، التقاتل على كيس رز، استجداء محطات الوقود للحصول على غالون بنزين… انّه الانهيار الكبير الذي ظهرت بعض معالمه في الايام القليلة الماضية.

وقع المحظور وانتقل لبنان في أقل من أسبوع من السيئ الى الأسوأ الذي سيتفاقم يومياً. فما قبل اجتماع بعبدا المالي ليس كما بعده، ونحن نشهد حالياً تداعيات القرارات الخنفشارية التي صدرت عنه، والتي قد تكون ساهمت في تسريع تدهور سعر صرف الليرة بشكل دراماتيكي. إذ مع إيقاف عمل منصّات التسعير وملاحقة الصرافين الشرعيين، بات الكل لاعباً في السوق السوداء، بدليل تدهور الليرة من 10 آلاف الى 15 الفاً في أسبوع.

وقد رسم هذا الواقع مشهدية جديدة في حياة المواطن اللبناني تُلخّص “بالذل”، وبعد ان كان الذلّ محصوراً في المصارف انتقل الى السوبرماركت، حيث التقاتل على المواد المدعومة وما تيسّر على الرفوف من مواد غذائية، قبل ان تسجّل مزيداً من الارتفاع، ومنه الى باقي القطاعات الاقتصادية. فالطوابير طويلة امام محطات المحروقات، التي لا تزال توفّر مادة البنزين للحصول على ليترات محدودة. اما غالبية المحلات التجارية مقفلة بانتظار استقرار الصرف، والجديد تهديد نقابة اصحاب الافران بالتوقف القسري عن الإنتاج ريثما تستقر الأسعار.

وفي غياب أي حلول سياسية، اقلّه في المدى المنظور، وأي قرارات إصلاحية وفعّالة تحدّ من التدهور المتلاحق، كشفت مصادر متابعة لـ”الجمهورية”، انّ بعض اصحاب السوبرماركت بدأ باعتماد نوع من الأمن الذاتي في المناطق التي يعملون فيها، وتتمثل بحصر بيع المواد والسلع الغذائية الى زبائنهم، وذلك كتدبير يهدف الى الحدّ من تحرّك بعض “المجموعات” التي تنتشر في المناطق، وتعمل على سحب المواد المدعومة ما ان يتمّ عرضها في السوبرماركت، وخصوصاً الحليب والزيت والسكر، بحيث تصبح الكميات المعروضة منها اقل من الطلب، ويعمد هؤلاء تالياً، اما الى تجميع ما توفّر من المدعوم وتهريبه الى سوريا، واما الى إعادة بيعه في متاجر أخرى بأسعار غير مدعومة، وذلك بعد تغيير غلافها، وهذا ما تجلّى أخيراً بظاهرة حرق كمية من أكياس المواد التموينية المدعومة.

أما في ما خصّ بيع المحروقات، فلفتت المصادر الى انّ اكثرية المحطات باتت تعتمد اليوم سياسة التقنين في البيع، للحدّ من خسارتها قبل ارتفاع سعر صفيحة البنزين كل يوم اربعاء. والملاحظ انّ هذا التقنين أدّى بالمستهلكين الى التوجّه نحو الأرياف، حيث لا تقنين، لأنّ الضغط على الطلب أقل، كذلك انتشرت ظاهرة باصات البنزين التي تجوب المناطق لبيع البنزين بالغالونات بأسعار السوق السوداء، أي مضاعفة عن الأسعار الرسمية.

أضف الى ذلك، توجّه غالبية المصارف الى رفض قبول شيكات الدولار، والتي سبق للمصرف المركزي ان فرض تأمينها بنسبة 10% كشرط من شروط فتح اعتماد لاستيراد المحروقات. أما المصارف التي تقبل شيكات الدولار فتفرض تجميد التصرف بها لمدة عام، بما من شأنه ان يزيد من تفاقم الأمور مستقبلاً.

ما سبق هو اختصار ليوميات مواطن مذلول. أما الدولار المحلّق، فبيعه متوقف لدى الصرافين الشرعيين الذين اغلقوا محلاتهم بعد ملاحقتهم. ومتى سألت عن مكان لبيع الدولار، الكل يدلّ الى الضاحية الجنوبية مركز البيع والشراء والتسعير.

وبعد كل ما تقدّم، تبدو الصورة واضحة تماماً، اننا في جهنم الذي سبق وتحدث عنه رئيس الجمهورية، وانّ الاتجاه نحو مزيد من الفقر والعوز والجوع من دون ان ينكشف حتى الساعة القعر الذي تنحدر نحوه البلاد.

نقطة اللاعودة

في السياق، تؤكّد مصادر مطلعة لـ”الجمهورية”، انّ لا سقوف للدولار بعد اليوم، ولا شيء سيحدّ من تدهور الليرة الّا سلطة بديلة من خارج نظام الطوائف، وذلك في حال كانت هناك نية لبقاء البلد وليس زواله. لكن طالما انّ همّ المسؤولين محصور اليوم في الحسابات الديموغرافية والتوزيع الطائفي في وظائف الدولة والمحاصصة المتوقفة عند طائفة موظف فئة، خامسة فهذا يعني اننا لا نتحدث عن بلد.

وقالت المصادر: “لا نعلم اذا كنا دخلنا الأسوأ ام بعد، لكن اللعب والترقيع في الحلول من دون الإنصراف الى خطة شاملة من اساسياتها ترشيد الدعم، هو بمثابة بيع أوهام. كذلك الحديث عن البطاقة التموينية التي لم تصدر حتى الآن، والتي أصبحت لا تمثل أكثر من 10 الى 15 في المئة من القوة الشرائية التي خسرها المستهلك اللبناني”. وأبدت المصادر خشيتها من اننا وصلنا الى نقطة اللاعودة، لا بل نحن في صلبها، والمشكلة انّ البديل لم يولد بعد. فالأزمات في لبنان تتراكم وتتفاعل لدرجة انّ معالجتها ما عادت ممكنة مع هذا النمط او المستوى من الحكّام.

من جهة أخرى، ورداً على سؤال، رأت المصادر انّه ليس الوقت المناسب اليوم لرصد أعداد الهجرة، لأنّ أبواب غالبية الدول لا تزال موصدة بسبب تداعيات كورونا. لكن مع الوقت، وبعد ان تبدأ كورونا في الانحسار، وفي حين لا تزال الاوضاع في لبنان تمضي نحو القعر، عندها هناك خشية من هجرة كل لبناني يملك مهارات.

وقالت: “ألا يدرك المعنيون مدى خطورة خروج 100 طبيب من مؤسسة رائدة اسمها الجامعة الأميركية؟ فكل طبيب هو خسارة تقدّر بنحو 10 ملايين دولار، وهؤلاء هم عبارة عن خسارة مئات ملايين الدولارات تمثل قوة لبنان والقيمة المضافة التي يتمتع بها، الثقافة والصحة ومظاهر قوة لبنان”.

تابعت: “انّ الخلل الديموغرافي الوحيد المخيف اليوم هو هجرة الطبقة الوسطى، والتي ستطال المسيحيين أكثر من المسلمين، لأنّهم يشكّلون العدد الأكبر من هذه الطبقة. ويتميز المسيحيون بقدرة اكبر على التأقلم والاندماج مع مجتمعات جديدة، لأنّ لهم باع طويل في الهجرة، يعود الى اكثر من 100 عام”.

ايفا ابي حيدر

الليرة تستسلم لقدرها بعد انهيار الثقة بالكامل

بدأت السيناريوهات السوداء تتظهّر أكثر فأكثر. وتبدو الليرة في هذه المرحلة وكأنها فقدت كل مقومات الصمود واستسلمت لقدرها. لكن ما هو آتٍ سيرسم صورة كارثية تتجاوز الوجع الحالي، لأنّ العملة الوطنية قد تفقد قيمتها بالكامل، ويتوقّف التعامل فيها.

بعدما وصل سعر السنت الأميركي الواحد إلى 500 مليار دولار في زيمبابوي في العام 2008، وفي خضم الأزمة الاقتصادية التي جعلت الدولار الزيمبابوي بلا قيمة، اضطر السكان الى حمل حقائب مليئة بالنقود من أجل التسوّق وشراء احتياجاتهم الأساسية الغذائية، وكانت الأسعار تتضاعف، ممَّا دفع بالحكومة الى تعليق العمل بالعملة المحلية.

في لبنان، لم يعادل الدولار الاميركي بعد ملايين ومليارات الليرات اللبنانية، لكن انهيار الليرة بشكل متسارع وبنسبة 15 الى 20 في المئة يومياً، سيجعل مصير لبنان مشابها يوما بعد يوم لمصير زيمبابوي، حيث لن تكون الفترة طويلة جدّا قبل ان تتكاثر «الاصفار» على أسعار السلع في لبنان، وقبل ان نرى عملات ورقية أكبر من فئة المليون و50 او 100 مليون او حتى مليار! كما وانه لن يطول الوقت قبل ان ترفع المصارف سعر الصرف المعتمد من قبلها للسحوبات النقدية بالليرة وقبل ان يعدّل مصرف لبنان سعر صرف منصته الالكترونية في حال بقي هناك من دولارات للابقاء على المنصة وعلى سياسة الدعم، وقبل ان يرفع القطاع العام والخاص الرواتب والاجور… إلّا ان جميع تلك الترجيحات الآتية لا محالة، لن تساهم ولن تعالج ولن تحدّ من تداعيات الأزمة المالية والنقدية والاقتصادية ولن ترفع القدرة الشرائية للمواطن، لأنّ الفارق بين سعر الصرف في السوق السوداء وفي القطاع المصرفي سيبقى شاسعاً، على سبيل المثال 20 الف ليرة في السوق السوداء مقابل 8 آلاف في المصارف. كما ان رفع الاجور لن يوازي ارتفاع معدل تضخم الاسعار، وبالتالي أي زيادة في الاجور بنسبة 20 او 30 في المئة لن تغطّي ارتفاعا بقيمة 60 و80 في المئة في أسعار السلع والخدمات.

ومن يعتقد انّ ارتفاع الدولار الى 13500 ليرة هو السقف الاقصى الذي سيفجّر الأزمة ويولّد الحلول، لا يجب ان يغيب عن ذهنه سيناريو زيمبابوي وغيرها من الدول التي لم تعالج أسباب الأزمة بل اكتفت فقط بوقف التداول بعملاتها المحلية. وهذا الاجراء ليس مستبعداً من طبقة حاكمة قررت محاربة انهيار عملتها بقمع المنصات الالكترونية واقفال محال الصيرفة. وها هي الليرة منذ بدء هذه الاجراءات البوليسية تشهد أسرع انهيار لها في اسبوع حيث تراجع سعر صرفها من حوالى 9000 ليرة مقابل الدولار يوم الاثنين الماضي عندما اتخذ قرار القمع في اجتماع بعبدا، الى اكثر من 13500 ليرة أمس بعد امتناع الصرافين الشرعيين عن العمل، وبعد إقفال المنصات الالكترونية المعنية بتحديد سعر صرف العملة مقابل الدولار.

في هذا الاطار، رأى الخبير المالي مايك عازار «اننا بلغنا الخطر الذي كنا نخشى حصوله، وهو فقدان الثقة التام بالليرة اللبنانية من قبل كافة شرائح المجتمع. عندما كان البعض يعتبر ان الليرة ستعاود الارتفاع او انه ستتم معالجة الأزمة، لم يكن مسار انهيار العملة متسارعا كما هو الحال اليوم، حيث كانت هناك فترات من الاستقرار أيضا في سعر الصرف في السوق السوداء. إلا اننا اليوم نشهد فقدانا تاما للثقة في الليرة، وتسارعاً مخيفاً في تدهور سعر الصرف بين ساعة واخرى، وباتت الليرة تفقد حوالى 1000 و2000 ليرة من قيمتها يوميا».

وقال لـ»الجمهورية» انه لاحظ عبر المنصات الالكترونية التي ما زالت قائمة او من خلال المجموعات المعنيّة بتحديد سعر صرف الليرة عبر تطبيق «واتساب» وغيره، اتّساع الفارق بين سعر بيع وشراء الدولار بحدود ألف ليرة، وهو مخالفة كبيرة للقوانين والشروط المحددة للصرافين، بما يتيح لكافة المتعاملين في السوق السوداء من اشخاص شرعيين وغير شرعيين تحقيق ارباح أكبر خلافاً للقانون.

واشار عازار الى شبه انقطاع للدولار في السوق السوداء وعدم توفره بكميات كبيرة يحتاج لها التجار، بما سيؤثر سلبا في سلسلة التوريد الغذائية والصحية ويؤدّي الى انقطاع السلع الاساسية الغذائية والاستهلاكية وفقدانها أو ارتفاع اسعارها أضعافاً، معتبرا ان التجار، مع ارتفاع سعر صرف الدولار بشكل متسارع ويومي، قد يلجأون الى التسعير بالدولار واشتراط الدفع نقدا وبالدولار بسبب الصعوبة التي يواجهونها في تأمين العملة الصعبة للاستيراد، إلا ان ذلك لن يشكّل حلّاً لأن معظم المستهلكين لا يملكون الدولارات ولا قدرة لهم على شرائه، وبالتالي سيتعذّر على كلّ من لا يحمل الدولارات شراء حاجاته الاساسية.

وفيما شدد على انه لا يمكن تحديد المسار الذي سيسلكه سعر الصرف في المرحلة المقبلة، توقّع عازار، في حال بقي الوضع من دون معالجات جدّية على كافة الاصعدة، ان نصل الى مرحلة يتضاعف فيها سعر الصرف بشكل يومي لتفقد العملة المحلية قيمتها بشكل كامل ويتوقف التداول بها نهائيا، لافتاً الى انّ تغيير العملة المحلية هو جزء من الاصلاحات النقدية التي لا مفرّ منها لاحقاً.

ورأى ان لجوء الطبقة الحاكمة الى أسهل الطرق للخروج من الأزمة عبر منح زيادة على رواتب فئة من القطاع العام سيجرّ زيادات لفئات اخرى، وسيليه رفع سعر صرف السحوبات النقدية في المصارف واجراءات اخرى مماثلة لا تعدو كونها «مجاراة» للأزمة وليس «معالجة» لها.

رنى سعرتي

وماذا إذا كرّر الدولار تجربة حزيران 2020؟

كلما ارتفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، تنطلق التحليلات المعمّقة لاستكشاف الاسباب، وتواكبها أصوات مسؤولين يطالبون أو يعِدون بإجراءات جذرية لوقف انهيار العملة الوطنية. لكن الدولار يعاند ما يُسمّى اجراءات، ويُكذّب التحليلات المُموّهة.

ما يصيبنا في موضوع استمرار انهيار سعر صرف الليرة في السوق السوداء، وهي السوق الحرة الوحيدة حالياً، شبيه بما أصابنا في موضوع الافلاس وضياع الاموال في المصارف. صرفنا طوال 20 عاما عبر الاقتراض دورياً من المصارف، ومصرف لبنان لسد العجز في الموازنة. هدرنا حوالى 35 مليار دولار على دعم الكهرباء. دفعنا تعويضات ورواتب تقاعدية أذهلت المؤسسات الدولية وبينها البنك الدولي، وأدهشت شركة «ماكنزي» عندما اطّلعت على الأرقام لإعداد برنامج اقتصادي للبلد. رفعنا الرواتب بنسبة 100%، وبسعر ليرة مدعومة بالدولار من اموال المودعين (سلسلة الرتب والرواتب) في زمن كنّا قد اقترضنا فيه بصورة طارئة بفوائد خيالية (الهندسات المالية). وبعد كل ذلك، رحنا نسأل، وبجدّية، أين ذهبت الاموال؟ نريد أن نعرف.

الأمر نفسه يحصل معنا اليوم، والمقصود بـ«نحن» هنا، المنظومة السياسية برمتها. أعلنت تعليق دفع مستحقات اليوروبوندز في 7 آذار 2020 (نحتفل اليوم بذكرى مرور سنة وشهر)، من دون خطة جاهزة للانقاذ. هُدرت أموال مصرف لبنان، حتى نضبت ولم يبق سوى الاحتياطي الالزامي. تُرك الاقتصاد لمصيره، أقفلت المؤسسات وهي مستمرة في الاقفال تباعاً، ارتفعت نسب البطالة والفقر الى مستويات مرعبة، انكمش حجم الاقتصاد (GDP) الى مستويات غير مسبوقة تقريبا في أي دولة في العالم. واصلت الدولة الانفاق من جهة، والدعم العشوائي من جهة أخرى. وفي موازاة الانفاق من الاحتياطي بالعملات، كان يتمّ الانفاق بالليرة بواسطة الطباعة. وارتفعت الكتلة النقدية بالليرة منذ 2019 حتى 2020، من 9818 مليار ليرة، الى 29244 مليار ليرة، أي بزيادة نسبتها 300%، وهي بالمناسبة النسبة نفسها التي سجّلها ارتفاع الدولار على الليرة خلال العام 2020.

في المقابل، تعثّر تأليف الحكومة، وبدا الأفق السياسي مسدوداً بالكامل… وبعد كل ذلك، وكلما ارتفع الدولار الى سقف جديد، يصابون بالذهول، ويسألون: ماذا يجري؟ ويسارعون الى اتخاذ اجراءات أصبحت وصفة دائمة ومُكرّرة ومُملة: اقبضوا على الصرافين، أقفلوا منصات التسعير، أطلبوا من مصرف لبنان اتخاذ الاجراءات اللازمة لوقف تدهور الليرة. وفي الموازاة، يجتهد الفقهاء والسياسيون أصحاب المصلحة في التحليل المؤامراتي لشرح اسباب ارتفاع الدولار. هذا يعتبر انّ الحريري يضغط على عون، وذاك يرى العكس ويشيّع أنّ فريق عون يضغط على الحريري لإخراجه، وآخر يشم رائحة مؤامرة يحوكها «حزب الله» لإسقاط البلد، والبعض يوجّه أصابع الاتهام الى الولايات المتحدة التي تريد برأيه تركيع «حزب الله» وايران من خلال دولار لبنان، وتطول التحليلات الى حدود اللامنطق واللامعقول…

السؤال الوحيد الذي يمكن طرحه في الوضع الحالي: كيف يمكن أن نُفاجأ عندما يرتفع سعر صرف الدولار، في حين ان الامر الوحيد الذي يُفترض أن يُشكّل مفاجأة هو أن يبقى سعر صرف الدولار مستقراً لمدة طويلة نسبياً، عندها فقط ينبغي ان نُفاجأ وأن نحلّل وندرس ونبحث عن الأسباب.

ما هو مؤكّد انّ الليرة ستواصل مسارها الانحداري، ولو انها مرةً تنهار بسرعة، وأحيانا ببطء، واحيانا قد تعود وترتفع. هذا الامر بديهي، والخط البياني للانهيار لا يمكن ان يكون إلا متدرجاً (up & down).

وفي مراجعة شهرية للمسار الذي سلكه سعر صرف الدولار في 2020، يُلاحظ ان الخط البياني لارتفاع الدولار لا يرتبط عضويا بالتطورات السياسية والاقليمية ذات الصلة بلبنان. ومن خلال مراقبة سعر الدولار شهرياً في 2020، يتبيّن التالي:

كانون الثاني: افتتح الدولار على 2100 ليرة، وفي نهاية الشهر وصل الى 2150، أي بزيادة حوالى 2%. مع ان كانون الثاني شهد تطورات مُقلقة للبنان، أهمها اغتيال قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني، في المقابل، كانت حكومة حسان دياب قد ولدت وتستعد لنيل الثقة.

شباط: وصل الدولار في نهايته الى 2450 ليرة، اي بارتفاع نسبته حوالى 14%. في هذا الشهر حصلت الحكومة على الثقة.

آذار: ارتفع الدولار الى 2750 ليرة، بزيادة نسبتها 12%. في 7 آذار، أعلنت الحكومة تعليق دفع اليوروبوندز.

نيسان: ارتفع الدولار الى 3800 ليرة، بزيادة نسبتها حوالى 38%. في هذا الشهر اقترحت لازار اقتطاع نسبة 61% من الودائع فوق الـ100 الف دولار، وحماية بقية الودائع. وقدّرت الخسائر (الفجوة) بـ 62 مليار دولار بالاضافة الى حذف رساميل المصارف (20 مليار دولار).

ايار: ارتفع الدولار الى 4100 ليرة، بزيادة 8%. وكانت الحكومة قد أعلنت خطتها وبدأ النقاش فيها.

حزيران: ارتفع الدولار الى 9200، بزيادة نسبتها 125%. هذا الارتفاع غير المسبوق لم تقابله تطورات سلبية تبرّره. جرى في هذا الشهر، حوار وطني في بعبدا، واستمر التفاوض مع صندوق النقد.

تموز: تراجع الدولار الى 7650 ليرة، بانخفاض نسبته 22%. ومن المفارقات انّ شهر تموز شهد تطورات سلبية من ضمنها تجميد المفاوضات مع صندوق النقد.

آب: ارتفع الدولار الى 7650 بزيادة نسبتها 1,3%. في الرابع من هذا الشهر حصل انفجار مرفأ بيروت، واستقالت حكومة دياب.

ايلول: ارتفع الدولار الى 8350 ليرة. بزيادة نسبتها 8%. جرى تكليف مصطفى اديب تشكيل الحكومة، وفُرضت عقوبات اميركية على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس.

تشرين 1: تراجع الدولار الى 6800، بانخفاض 22%. في اواخر هذا الشهر، جرى تكليف الحريري تشكيل الحكومة. كما بدأت مفاوضات ترسيم الحدود البحرية.

تشرين 2: ارتفع الدولار الى 8000 ليرة. بزيادة نسبتها 18%. سُجل اقرار قانون رفع السرية المصرفية لإنجاز التدقيق الجنائي. وفُرضت عقوبات أميركية على جبران باسيل وفق قانون ماغنتسكي.

كانون 1: ارتفع الدولار الى 8400 ليرة، بزيادة 5%. فُتح البلد في الاعياد، واستقبل أعداداً من اللبنانيين العائدين لتمضية العطلة.

في المحصلة، يُلاحظ ان معدل نسبة ارتفاع الدولار شهريا بلغت حوالى 25%. ويتبيّن ان الدولار ارتفع في شباط 2021 من 8800 الى 9600 بزيادة 10%، وهي نسبة لا تصل الى معدل ارتفاعاته الشهرية في 2020.

وبالتالي، اذا ارتفع في آذار بنسبة 25%، أي وفق معدل ارتفاعه الشهري في العام الماضي، فإنه سيصل في نهاية الشهر الى 12 الف ليرة. أين المفاجأة في ذلك؟ واذا لم يفعلها في آذار فقد يحققها في نيسان، ولا أحد يعرف متى يكرّر الدولار تجربة حزيران، ويرتفع 125% في شهر واحد.

كل المطلوب من المنظومة وقف مسرحيات الاندهاش والاستغراب والدهشة، والتفرّغ الى معالجات حقيقية تتجاوز سقف اعتقال صراف أو إغلاق منصّة.

انطوان فرح.

خدمة الدين العام.. وكرة ثلجه!

من المعروف أنّ الدين العام اللبناني ارتفع منذ أوائل التسعينات تصاعدياً على شكل كرة ثلج، حتى بلغنا عدم استدامة المديونية العامة، وانتهى الأمر بإعلان العجز عن السداد.. ولكن ما هي أبرز العوامل التي عززت هذا المنحى، وتحديداً الى أي مدى كان لخدمة الدين دور أساسي في هذا الاتجاه؟ الإجابة عن هذا الموضوع تتطلّب قراءة مفصّلة وفق المراحل لمكوّنات الدين العام وهيكليته ووقع معدّلات الفوائد على نموّه، علماً أنّ هذه الفوائد جاءت بدورها نتيجة عوامل عدة، لا سيما منها عامل المخاطرة وغياب الإصلاح، فاتجهت الدولة الى الهروب نحو زيادة دولرة الدين لخفض خدمته.. ماذا في التفاصيل؟

 

في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت المتوجب على الخزينة اللبنانية يعادل نحو 3 مليارات دولار أميركي منه 327.5 مليون دولار أميركي والمتبقي بالليرة اللبنانية. وباحتساب كلفة خدمة هذا الدين العام على أساس معدلات الفائدة السنوية المعتمدة لدى مصرف لبنان على مدى السنوات 1992 -2011 والمدفوعة من الخزينة اللبنانية، فإنّ تلك المبالغ المتوجبة في نهاية العام 1992 وبعد إضافة الفائدة المتجمعة على مدى كل سنة بين عامي 1992 و 2001 بلغت 30 ألف مليار ليرة لبنانية. كذلك سداد الدين بالدولار الأميركي بفعل تراكم الفوائد على رصيد الدين العام، ليصبح نحو ملياري دولار أميركي، ليتخطّى مجموع الدين المقوّم بالدولار حدود 22 مليار دولار.

 

كما ساهم تراكم العجز السنوي لمؤسسة كهرباء لبنان على مدى الفترة الممتدة من نهاية العام 1992 وحتى العام 2011، والذي اضطرت الخزينة اللبنانية إلى تغطيته وتسديده عن المؤسسة، بزيادة حجم الدين العام وخدمته. في حين كان حجم القطاع العام وعدم تحقيق الإصلاح المالي والاداري فيه يثقلان الخزينة، حتى تخطّت كلفته ثلث الموازنة، في حين لا تتجاوز حصته 10 الى 15% من الموازنة في مختلف بلدان العالم.

 

كما أنّ فترة ما بين عام 1992 و 2004، كانت فترة «إعادة إعمار لبنان ما بعد الحرب»، التي سعت فيها الدولة الى استقطاب أكبر قدر ممكن من التمويل، خصوصاً عبر الاستدانة، في غياب سبل التمويل الأخرى، نظراً لضعف الإيرادات العامة وضرورة ضبط خلق النقد، لاعتماد سياسة نقدية متشدّدة تحدّ من التضخم وتدهور سعر الصرف. وبعد فترة وجيزة بدأت الجهود لخفض تدريجي لسعر صرف الدولار إزاء الليرة اللبنانية، حتى اعتماد سياسة ربط الليرة بالدولار على أساس سعر الصرف 1507.5 بدءاً من العام 1997.

 

عملياً، كان من المتوقع أن يرتفع الدين خلال فترات النمو الاقتصادي الأقل من المتوسط. وعموماً، في بيئة منخفضة النمو، لا تزيد الإيرادات الحكومية كثيرًا، في حين أنّ النفقات العامة (خصوصاً في ما يتعلق بالإنفاق الاجتماعي و/ أو الإنفاق الرأسمالي) حيث تحتاج الحكومة إلى مزيد من التدخّل، وبالتالي تنفق المزيد لتحريك الاقتصاد. إلّا أنّ النمو يتوقف في اقتصاد مثقل بالديون في المقام الأول، لأنّ الرافعة المالية المرتفعة تهدّد قدرة الحكومة على تحديد أولويات الميزانية، ولكن أيضًا لأنّ الدين يميل إلى تقييد وظائف سياسة الدولة التي بدأت توجّه تباعاً تمويل الجهاز المصرفي نحو مزيد من تمويل القطاع العام، إن كان بالليرة اللبنانية أو بالدولار لأميركي.. وقد جعلت السياسة المالية للبنان وعبء الفوائد المدفوعة على ديونه غير مستدام. وأصبحت نسبة إجمالي الدين العام المستحق إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان من بين أعلى المعدلات في العالم في عام 2006، حين بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ذروتها عند 183%. وبحلول عام 2007-2012، تراجعت النسبة تدريجياً لتصل إلى 131% في عام 2012، لتعاود ارتفاعها مع تدهور مجمل المؤشرات الاقتصادية إبتداء من العام 2011..حتى عادت اليوم تتخطّى من جديد معدل الـ180%.

 

منذ عام 2013 عاد المسار للدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان في اتجاه تصاعدي، حيث وصل إلى 153% في عام 2018. كما تراكمت في بلدان أوروبية أخرى مستويات دين عام تجاوزت ناتجها القومي. ومع ذلك، فإنّ ما يجعل دين لبنان ببساطة غير مستدام، هو عبء الفائدة المرتفع، وسط بيئة من النمو الضعيف، كما هو موضح في الجدول أعلاه.

 

تكوين الديون

معظم الدين اللبناني محلي (أي أنّ معظم المكتتبين هم من المقيمين، إن كان بالليرة أو بالعملات الأجنبية)، علماً أنّ التقارير اللبنانية تسمّي «ديناً داخلياً» الدين بالليرة اللبنانية و»ديناً خارجياً» الدين بالعملات الأجنبية، وتحديداً الدولار الأميركي أي «يوروبوند»، حتى لو كانت في محفظة المقيمين. فيما علم الاقتصاد يسمّي «ديناً داخلياً» السندات الموجودة في محفظة عملاء مقيمين، و»ديناً خارجياً» فقط السندات الموجودة في محفظة عملاء غير مقيمين. أي في وضع لبنان، اليوروبوند الموجودة في محفظة عملاء غير مقيمين، لا تُحتسب ضمنها اليوروبوند الموجودة في محفظة العملاء المقيمين (مثل الجهاز المصرفي اللبناني).

 

في الواقع ، يحمل الجهاز المصرفي معظم الدين المحلي، إن كان سندات الخزينة بالليرة اللبنانية أو السندات بالدولار اليوروبوند، على المدى القصير والمتوسط، كما السندات طويلة الأجل. وقد تطوّر الدين وخدمته بين الليرة والدولار وفق الجدول المرفق.

 

الإقتراض الكبير

في بداية فترة إعادة الإعمار التي أعقبت الحرب، إعتمدت الحكومة اللبنانية على السوق المحلية للاقتراض، وتكلفة إعادة بناء القدرات البدنية والبشرية للبنان بعد الحرب الأهلية 1975-1990.

 

إرتفع الدين العام إلى 7 مليارات دولار بحلول عام 1994، وهو ما يمثل نموًا سنويًا بنسبة 67%. بين عامي 1993 و 2001، اعتمدت الحكومة اللبنانية في البداية على الاقتراض الكبير من السوق المحلية، وبالتالي جمعت مزيداً من الديون بالعملة المحلية، لتلبية متطلبات التمويل الإجمالية. وقد شكّل الدين العام بالليرة اللبنانية في تلك المرحلة 81.3% من إجمالي الدين بنحو متوسط، مع ارتفاع تكاليف الاقتراض نظراً لعامل المخاطرة.

 

منذ عام 2002 إلى عام 2008، اكتسبت الديون بالعملات الأجنبية زخمًا بارزاً، يعكس نجاح لبنان في الاستفادة من أسواق رأس المال الدولية، لا سيما مع مؤتمرات الدعم الدولية للبنان. وقد شكّلت الديون بالعملات الأجنبية، في المتوسط 49.1 % من إجمالي الدين من 2002 إلى 2008.

 

في عام 2009، شكّل الدين العام بالليرة اللبنانية 58.3% من إجمالي الدين والباقي بالعملات الأجنبية. ومن 2010 إلى 2018 استحوذ معدل الدين بالليرة اللبنانية على نحو 60.25% في شكل متوسط. فيما بدأ الإتجاه بدءاً من العام 2016 الى خفض خدمة الدين العام، من خلال استبدال تدريجي لجزء من الدين بالليرة الى دين بالدولار، بالاعتماد على الهندسات المالية لوزارة المال والمصرف المركزي والمصارف اللبنانية، وهي المموّل الرئيسي للدولة اللبنانية.

 

حالياً، تخطّى الدين العام حدود الـ 95.5 مليار دولار في نهاية العام 2020 (موزع بين 62.26% بالليرة اللبنانية و37.34% بالدولار الأميركي)، وتراجع تصنيف الدين السيادي لدى الوكالات الدولية (فيتش، موديز، ستاندر أند بورز) الى أدنى المستويات، وبات لا بدّ من تفنيد أبرز مكوّناته والعوامل المؤثرة بتزايده، لا سيما منها الكلفة المرتفعة للدين، والتي بات لبنان يستدين لإيفائها…

 

والمعلوم أنّ وكالة «موديز» أظهرت أنّ تصنيف لبنان بات الأدنى في تصنيفات الوكالة، وهو يعكس توقعات «موديز»، أنّ الخسائر التي سيتكبّدها حاملو السندات ستفوق 65% من إجمالي قيمة استثماراتهم في السندات التي أصدرتها الدولة. وقد بيّنت في آخر تقرير لها في نهاية العام 2020، أنّ من غير المرجح تغيير التصنيف الحالي للبنان، قبل إعادة الهيكلة، نظراً لحجم الاقتصاد، والتحدّيات المالية والاجتماعية، وتوقعاتنا لخسائر كبيرة جداً». وأوضح تقرير الوكالة، أنّه من دون اتخاذ خطوات لإصلاح الاقتصاد والأوضاع المالية، فإنّ دعم التمويل الخارجي الرسمي لمساندة هيكلة الديون لن يكون متاحاً بسهولة.

 

كرة الثلج

في ظلّ ظروف الأزمة المالية والدين العام غير المستدام، شهد لبنان زيادة في الفائدة على الدين العام في شكل تأثير «كرة الثلج»، ساهمت في غياب الإصلاح المالي الفعلي، الى جوانب عوامل إقتصادية أخرى، لا سيما منها تدهور المؤشرات الماكرو-اقتصادية منذ العام 2011 في شكل أساسي، الى انفجار أزمة الدين العام وتفشيها، الى الجهاز المصرفي المموّل الرئيس للدولة، كما ساهم أيضاً في فقدان الثقة بقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها لسداد ديونها. كما نشهد «ضريبة تضخمية»، حيث يوفّر التضخم إيرادات ضمنية للدولة، عن طريق خفض الدين العام القائم بالعملة الوطنية.

 

على الرغم من أنّ دراسة استدامة الدين العام ترتكز عموماً على مؤشّر الدين العام/الناتج المحلي، وهو يتخطّى في لبنان عتبة 176% في نهاية عام 2019، فيما وفق المعايير الدولية، تتطلّب استدامة الدين أن لا يتخطّى هذا المعدل 60% إلى 80% من الناتج المحلي الإجمالي. إلّا أنّ تسليط الضوء، خصوصًا على الدين بالعملة الأجنبية، فيعود لأنّ لبنان قادر نظريًا في أقسى الحالات، على اللجوء الى المصرف المركزي لطباعة العملة الوطنية وتسديد الدين بالليرة اللبنانية، حتى لو أدّى ذلك الى مزيد من التضخّم. إلّا أنّ الأزمة الكبرى تبقى في الدين بالعملة الأجنبية، التي تحتاج الى توافر العملة الأجنبية وتأمين استمرارية إستقطابها، في حين أنّ لبنان يشهد تدهورًا في ميزان المدفوعات (ما عدا كمية الدولارات التي اجتذبتها المصارف للمشاركة في الهندسات المالية خصوصًا عام 2016، لشراء اليوروبوند وشهادات إيداع المصرف المركزي بالعملة الأجنبية).

 

فوائد سندات خزينة باهظة مطلع التسعينات

المعروف، أنّ معدل سندات الخزينة لمدة سنة، الذي استقرّ من آذار 2012 حتى كانون الأول 2019 على معدل 5.35%، وهو معدل الفائدة الذي ترتبط به معدلات الفائدة للقروض السكنية، إن كان القروض المدعومة من مصرف لبنان مباشرة أو تلك الممنوحة من خلال مؤسسة الإسكان، بعد انخفاضات متتالية عن مستويات مرتفعة بلغت ذروتها نحو 38% في شهر أيلول من العام 1995…ولكن اضطرت الدولة الى رفعه الى 6.5% مطلع عام 2019، بعد صعوبة ايجاد مكتتبين في سندات الخزينة، مع ارتفاع درجات المخاطرة عليه وطول مفاوضات مع الجهاز المصرفي في شأنها… الى أن صدر قرار بخفضها الى 4.5 % أخيراً في نيسان 2020 لخفض خدمة الدين العام…

 

ولطالما كانت معدلات الفائدة المعتدلة تبقى مرتبطة بعوامل عدة وليس بمجرد قرار مركزي! ومن أبرز هذه العوامل المؤثرة بمستوى الفوائد:

 

أولاً، «مخاطر البلد»، وهو عنصر مهم وأساسي، يمنع تراجع معدّلات الفوائد بنحو ملحوظ، على الرغم من أنّ المصرف المركزي استمر في دعم القروض بفوائد مخفضة، وخصوصاً للاستثمار العقاري وللقطاعات الإنتاجية المختلفة.. ولكن في موازاة ذلك، تدرس الوكالات الدولية لتصنيف المخاطر، وضع كل بلد وفق مؤشراته الاقتصادية وغير الاقتصادية المؤثرة على اقتصاده (وطبعاً من أبرزها إستقراره السياسي)، مما ينعكس بنحو حاسم على تحديد معدلات الفائدة. أضف إلى ذلك، إنّ رفع المصرف المركزي الأميركي معدلات الفائدة لعام 2017، زاد الضغط على معدلات متوسطة الأجل.

 

وقد أصبح معدّل الفوائد على سندات الخزينة «معدل فائدة رئيسياً»، أي المؤثر في مجمل هيكلية الفوائد الدائنة والمدينة في لبنان. وبالتالي، كلما ارتفع عامل المخاطرة تضطر الخزينة الى زيادة الفائدة كتعويض عن عامل المخاطرة، لإقناع المستثمرين بالاكتتاب في سنداته. وهنا يلاحظ وجود عاملي مخاطرة: عامل مخاطرة البلاد، الذي يجعل من الضروري رفع الفائدة على سنداتها بأي عملة كانت، وعامل مخاطرة العملة الذي يجعل الفائدة على سندات الليرة اللبنانية أعلى من الفائدة على السندات بالعملات الأجنبية اليوروبوند. وهذا ما دفع الدولة الى زيادة دولرة الدين، أي حصة اليوروبوند من مجمل الدين، على الرغم مما تحمله زيادة الدين بالدولار من خطر عدم القدرة على السداد، في حين أنّ الدين بالليرة يمكن في أقسى الحالات سداده عبر اللجوء الى طبع النقد وتحمّل التضخّم الناتج منه. كذلك، ترتفع الفوائد الإسمية مع ارتفاع التضخم، لكي يبقى معدل الفوائد الفعلية إيجابياً، لتستمر عملية الإقراض، أي حتى لا يخسر المقرض القدرة الشرائية للأموال لحظة السداد.. فضلاً عن سعي الدولة في السنوات الأخيرة الى رفع الفوائد لاجتذاب الرساميل، ثم العمل على توظيف جزء كبير منها في تمويل الدولة المديونة والمضطرة الى الاستجانة لتسديد ديونها السابقة، في ظلّ تراكم العجز المالي على شكل كرة ثلج، لا بل المرور في فترات عجز مالي أولي، أي العجز المالي بين الإيرادات والنفقات، من دون حتى احتساب خدمة الدين.

 

يبقى أنّ ثمن «إطفاء» الدين العام بالعملة الوطنية، عبر طباعة النقد من جهة والإعلان عن التخلّف عن سداد ديون العملات الأجنبية من جهة أخرى، ينعكس تراكماً في الخسائر في النظام المصرفي كممّول رئيسي للدولة… وبعد نفاد كل وسائل إدارة الأزمة وتأجيل انفجارها، لم يعد من سبيل للخروج من المأزق سوى بمعالجة جذرية وإصلاح مالي شامل.

د. سهام رزق الله.

مالية الاقتصاد الصغير في لبنان الكبير…

على رغم من صغر حجمه لطالما شكّل الاقتصاد اللبناني قبل حرب 1975 نموذجا استثنائيا لامعا في محيطه بموازنات مالية متوازنة بلا عجز ولا حاجة للاستدانة وفائض ميزان مدفوعات بنتيجة تغطية فائض ميزان الرساميل على العجز التقليدي لميزان المدفوعات.. الى أن تبدّلت الحال منذ فترة الحرب وازدادت تحديات فترة إعادة الإعمار، ثم ما إن بدأ الاقتصاد يستعيد أنفاسه حتى جاءت متغيرات العام 2011 لتغلق كل مصادر تمويله واستقطابه للعملات الأجنبية.. فهي إشكالية المالية العامة في لبنان وكيف خرجت عن السيطرة؟ وأي أفق لتطوّرها؟ ما هي أبرز المراحل التي شهدها تطورها؟ وما أهم محطاتها؟ وأي تطلّع الى مستقبلها؟

بعد العصر الاقتصادي الذهبي الذي سبق اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 وحتى اليوم، أصبحت موازنات الدولة المتتالية تعاني عجزاً مالياً، ليس بسبب الدور المتنامي للقطاع العام في التنمية الاقتصادية، ولكن بسبب الحرب ثم بسبب فقدان السيطرة على الإنفاق والإيرادات وغياب الإصلاحات الاقتصادية المعمّمة في فترة ما بعد الحرب، وغياب الرؤيا الاقتصادية الكفيلة بتحقيق التنمية المتوازنة قطاعيا ومناطقيا على كل المستويات، لا بل توجيه معظم الادّخار صوب تمويل مالية عامة تفتقد للإصلاح وتستدين لإيفاء فوائد ديونها السابقة…

بين عامي 1982 و1985، زادت النفقات بنسبة 178 % بينما زادت الإيرادات بنسبة 65 % فقط. بين عامي 1986 و1988، زادت النفقات بنسبة 702 % وزادت الإيرادات بنسبة 250 % . بين عامي 1988

و1990، أي خلال العامين الأخيرين من الحرب، وبفضل ضغوط مصرف لبنان المركزي الذي تشدد حينها في تمويل الخزينة تم ضبط التمويل المباشر منه بمقدار ثلث الحاجات التمويلية للقطاع العام وبدء التوجّه نحو الاستدانة لشراء الوقت والتخفيف من التضخم الناتج من التسليفات المباشرة وزيادة الكتلة النقدية المتداولة… كذلك تم إبعاد شبح تقسيم المصرف المركزي حينها ومحاولات البعض الضغط في اتجاه خلق عملتين للاقتصاد وانهيار آخر رموز وحدة اقتصاد الوطن المتشلّع على ضفّتي خطوط التماس… فكان الاقرار بأنّ الاقتصاد اللبناني أصغر من أن يقسّم في عز انقسام دولة لبنان الكبير…

وتشير تقديرات وزارة المال إلى استمرار عجز الموازنة خلال مراحل الحرب حيث بلغ نحو 28.5 % من الإنفاق عام 1977، و27.8 % من الإنفاق عام 1978، و38 % من الإنفاق عام 1981. وتشير تقارير صندوق النقد الدولي إلى أنّ النمو الذي شهده لبنان بين 1979 و1980 بسبب دخول التدفقات الرأسمالية أو «المال السياسي» إلى لبنان من خلال دعم دول أجنبية، قد بدأ في النمو. وتدهور من النصف الثاني من عام 1981..

بين عامي 1991 و2011، أظهر اقتصاد لبنان نموا معتمدا إلى حد كبير على المديونية (بمقدار 150 % من الناتج المحلي الإجمالي) وعلى السياحة والخدمات المالية والاستثمار العقاري وخصوصا التحويلات المالية من الخارج (المبالغ التي يرسلها اللبنانيون المقيمون في الخارج إلى أقاربهم في الوطن) تتجاوز 7 مليارات دولار في السنة… ذلك قبل أن تتبدل الأوضاع مع اهتزاز الاستقرار السياسي عام 2011 وبداية الأزمة في سوريا والعراقيل التي رافقتها عبر الحدود البرية لتبادل السلع وانتقال السائحين بين لبنان وسائر البلدان العربية، وقد ترافق ذلك مع توافد مئات ألوف من النازحين في اتجاه لبنان وتبدّل مناخ الاستقرار في المنطقة، وتحوّل ميزان المدفوعات من رصيد إيجابي بفضل استقطاب الرساميل الخارجية الى تراكم رصيد سلبي تطلّب شراء الوقت عبر اللجوء الى «هندسات مالية» منذ العام 2016 لزيادة الاحتياطي من العملات الاجنبية وخفض كلفة الدين العام، كون الفائدة على اليوروبوندز أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية والمحافظة على سياسة ربط سعر صرف العملة الوطنية بالدولار الأميركي على أساس 1507.5 ليرة لكل دولار أميركي… الى ان تراكمت عناصر الأزمة في أواخر العام 2019 وانفجرت عام 2020 بالتدهور الشامل تزامنا مع الذكرى المئوية لقيام «دولة لبنان الكبير».

وفي نظرة تاريخية الى المؤشرات الاقتصادية للبنان، يتبيّن أنّ ذكرى الفترة التضخمية وانهيار سعر الصرف في الثمانينات شكّلا أساس خيارات مصرف لبنان، من حيث سياسة الاستقرار النقدي وتثبيت سعر الصرف، التي انتُهجت بين عامي 1997 و2019. وقد أظهرت مختلف الدراسات أنّ المكمن الرئيسي لأزمة الثمانينات كان على وجه التحديد التمويل النقدي لعجز الموازنة، من خلال التسليفات المباشرة من مصرف لبنان إلى الخزينة. في المرحلة الأولى، كانت فترة التمويل بواسطة التسليفات المباشرة من مصرف لبنان أي طبع النقد، وكان النهج النظري، الذي جعل من الممكن تفسير هذه الأزمة هو «التضخم المفرط والمفاجئ» الناتج من التمويل النقدي لعجز موازنة الدولة تحت ضغوط الحكومة المعروفة بمشكلة «التضارب الزمني».

ومع تطور الدين العام، أصبحت السياسة الأنسب للسلطة النقدية اللبنانية مرتكزة على الأسلوب الكلاسيكي الجديد والذي تثبت أدبياته الاقصادية، أنّه حتى لو كان المصرف المركزي يسيطر بصرامة على معدل نمو الكتلة النقدية على المدى القصير، فإنّ المديونية المتزايدة للدولة يمكن أن تؤثر على توقعات تحقيق الدخل، وبالتالي التوقعات التضخمية.

فكان اختيار العملاء الاقتصاديين هو «استيراد الصدقية النقدية» باللجوء إلى الدولرة. وكان اختيار مصرف لبنان هو السعي لتحقيق الاستقرار النقدي وفقا للنهج التقليدي النقدي من خلال التحكّم بالتضخم بالارتكاز الى سياسة نقدية مقيّدة، قبل التحرك تدريجا بنحو موازٍ لربط سعر الصرف. في ظلّ معدلات دولرة آخذة بالارتفاع، بحثاً عن ضمان القدرة الشرائية للمدخرات وتسهيلاً للتسعير والتداول للمنتجات.

ومن المعلوم أنّ التجربة القاسية لتضخم الثمانينات أرخَت بظلالها بقوة على خيارات السياسة النقدية مطلع التسعينات، حيث تلقّى المصرف المركزي كرة النار، فكان عليه امتصاص التضخّم الذي ساهم في حدوثه بنحو أساسي، بسبب زيادة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، إن لتمويل الدولة أو لتلبية احتياجات تمويلية تحت كل ضغوط تلك الحقبة من الحرب وعدم الاستقرار على كل المستويات… هكذا بدأ تأثير ذكرى فترة التضخّم والدولرة على سلوك الحكومات والسلطة النقدية بحثاً عن تثبيت استقرار قيمة العملة الوطنية وقدرتها الشرائية في مطلع التسعينات، بعد انتهاء الحرب ميدانياً.

وخلال تلك الفترة، تركّزت جهود الحكومة على استبدال التمويل النقدي لعجز الموازنة على شكل سلفات خزينة مباشرة من المصرف المركزي بالدين العام، عبر اصدار سندات الخزينة، حتى لو احتفظ بجزء كبير منها المصرف المركزي والمصارف التجارية العاملة في لبنان، التي كانت مُلزمة بداية بالاكتتاب بسندات الخزينة بنسبة 60 % من التزاماتها بالليرة، ثم تمّ خفض هذه النسبة الى 40 % عام 1994 قبل إلغائها عام 1997 تزامناً مع اتخاذ خيار تثبيت سعر الصرف…

علماً أنّ تثبيت سعر الصرف بدلاً من الكتل النقدية، هو خيار طبيعي وثابت في الأدبيات الاقتصادية العلمية، كما في تجارب في ظلّ الدولرة، لأنّ الدولرة تفقد فعالية ضبط الكتلة النقدية بالعملة الوطنية بفعل سيطرة استخدام العملة الأجنبية، لذا يكون اعتماد ضبط سعر الصرف هو الأنجع.

إذاً، وعلى رغم من تعدّد الأسباب، إلّا أنّ الشرارة الأولى للتضخّم بدأت مع تمويل المصرف المركزي للدولة، ومع اعتماد زيادة النقد بالعملة الوطنية حتى افتقاد السيطرة على قيمتها وبدء هروب الناس منها في اتجاه الدولار، بعد افتقاد أدوارها الثلاثة كوحدة حساب وتسعير، ووسيلة للتداول ودفع المستحقات وقيمة للاحتياط..

ومع ذلك، من الضروري التمييز بين المنطق التقليدي الذي يفترض وجود عملة واحدة فقط، يتمّ تداولها في كل اقتصاد، والمنطق الذي يأخذ في الاعتبار وجود دولرة في الاقتصاد المعني، وبالتالي وجود عملة أجنبية مستخدمة الى جانب العملة الوطنية وتعرّض السوق لما يُعرف بـ»التضخّم المستورد» في حال تدهور قيمة العملة الوطنية ازاء العملة الاجنبية، وبالتالي الاضطرار الى تثبيت العملة الوطنية ازاءها، في ظلّ توازي استخدام العملتين.

وقد أظهرت تقارير صندوق النقد الدولي أنّ النمو الذي شهده لبنان بين عامي 1979 و1980، بسبب تدفق رأس المال أو «المال السياسي» إلى لبنان من خلال دعم الدول الأجنبية، ترك بعده تدهوراً بدأ من النصف الثاني من عام 1981 مع تدهور الأمن. خلال هذه الفترة، فقدت الدولة كل سيطرتها على إيراداتها ونفقاتها، واستندت قراءة أرقام المالية العامة والوضع الاقتصادي العام فقط على التقديرات، ولم تعد الإحصاءات رسمية وموثوقة. واستمر تعليق نشر حسابات الموازنة على النحو المنصوص عليه في الدستور وقانون المحاسبة العامة من 1979 إلى 1993.

منذ الثمانينات، حاول مصرف لبنان الحدّ من تسليفاته المباشرة للخزينة العامة، والحدّ أيضاً من تحويل مكاسبه من إعادة تقييم احتياطيات من الذهب إلى الخزينة العامة، كونه لم يقم لا بعملية بيع ولا إدارة لاحتياطي الذهب، حتى يعتبر أنّه حقق منه أرباحاً.

ومنذ عام 1993، تبنّى مصرف لبنان سياسة نقدية متشددة ودعم تدريجي لليرة اللبنانية، حتى ربط صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي عند 1507.5 كمعدل متوسط منذ عام 1997.

إلّا انّ تزايد الدين العام مثّل تقييداً للسياسة النقدية وأثّر في صدقية المصرف المركزي لدى العملاء الاقتصاديين (الذين يتوقّعون عن حق لجوء الدولة اليه لتمويل الدين العام)، كذلك يشكّل معدّل الدولرة المرتفع تقييداً أيضاً للمصرف المركزي وسياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والتي كانت مكلفة للاقتصاد، من دون ضمان الاستقرار الفعلي، والبرهان استمرار معدّل الدولرة بنسبة 82 % بعد 22 عاماً من تثبيت سعر الصرف، فيما كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومُتماهٍ مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعاً بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي.

ومن المعلوم أنّ الدين العام قد ازداد بـ»تأثير كرة الثلج» منذ بداية فترة إعادة الإعمار في التسعينات، إلّا أنّه شهد تغيرًا جذريًا في هيكليته في عام 2002. وحتى العام 2002، كانت الحصة أصل الدين العام بالليرة اللبنانية. منذ عام 2002، وبعد مؤتمر باريس -2 بالتحديد للدعم الدولي للبنان، بدأت تكبر حصة الدين العام بالدولار الأميركي، بهدف خفض خدمة الدين العام ونموه (حيث أنّ أسعار الفائدة على سندات الخزينة بالدولار الأميركي أقل طبعاً من معدلات الفائدة على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية)، وتشجّع أصحاب رأس المال المقيم وغير المقيم على الاكتتاب فيها. وقد أدى هذا التغيير في هيكلة الدين العام دورا حاسما في الحفاظ على سياسة سعر الصرف، وزاد من تعقيد قيود الدولرة. وصندوق النقد الدولي، الذي دعا سابقاً إلى خفض قيمة العملة، عاد وأيّد سياسة ربط سعر الصرف، بعد أن تبيّن له أنّ أي خفض في قيمة العملة سيؤدي إلى زيادة الدين بالعملات الأجنبية، وسيؤثر على ملاءة الدولة وسيخاطر بإحداث أزمة خطيرة في النظام المصرفي كالتي نعيشها اليوم..

والمعلوم إقتصادياً أنّ كل زيادة في السيولة المتداولة لا تتوافق مع نمو اقتصادي موازٍ ومن دون تغيير في سرعة تداول العملة، تُترجم بزيادة معدل الأسعار وضرب سعر صرف العملة الوطنية نسبة الى سائر العملات الأجنبية، ما يجعل الاستيراد أيضاً أغلى، فيتغذى أكثر مفعول التضخم… وهذا ما يحصل يومياً في لبنان ولو بنحو أكثر وضوحاً منذ تشرين الأول 2019 من دون معرفة الحدود الزمنية والكمية لهذه المؤشرات كما لانعكاساتها.

د. سهام رزق الله.

ما “مصير” 3,2 مليارات دولار في الخارج؟

مع انتهاء المهلة الزمنية لتنفيذ التعميم 154، يباشر مصرف لبنان دراسة أوضاع المصارف. ومن خلال المؤشرات، لا يبدو أنّ المشكلة تكمن في التزام المصارف بمندرجات التعميم، بقدر ما هي في التوقيت ومصير الأموال الجديدة.

لطالما كانت العلاقة بين مصرف لبنان والمصارف التجارية جيدة، وتتسِم بالحرفية التي تفرضها المعايير العالمية المتعارف عليها، للتعاون بين المصرف التجاري مع الجهة المنظمة (regulator) والمُشرفة (supervisor) على القطاع. لكن في الحالة اللبنانية يمكن الادعاء انّ العلاقة تخطّت بعض السقوف، واكتسبت صفة الودّ والتعاون المُفرط في فترة من الفترات، من دون أن يعني ذلك تخطّي الخطوط الحمر.

بعد المطبّات التي اجتازها الوضع المالي، ووصول الأزمة الى المرحلة المتقدمة التي بلغتها اليوم، كيف يمكن وصف هذه العلاقة؟

من خلال متابعة التعاميم وطريقة التعاون، يمكن القول انّ العلاقة حالياً تتحكّم بها ثابتتان لا يمكن لأي طرف تجاوزهما: الثابتة الأولى قناعة الطرفين بأنهما على مركب واحد. الثابتة الثانية ترتبط بسعي كل طرف الى تحصين وضعه على المركب، لأنّ الانقاذ يتطلب التضحية بالبعض، ومن البديهي ان كل فريق يكافح لاستبعاد اسمه عن لائحة المُضحّى بهم.

قبَيل ساعات من انتهاء المهلة المُعطاة للمصارف للالتزام بمندرجات التعميم 154، كان لافتاً صدور تعميم وسيط لتنظيم الحسابات الجديدة التي تُعرف بحسابات الـFresh دولار. وقد أُعطيت تفسيرات عدة لصدور هذا القرار، لكن الاسباب الموجبة والأهداف معروفة، ويمكن تلخيصها بالتالي:

اولاً – الفصل التام بين السيولة الخارجية المطلوبة للالتزام بالتعميم 154 (3 % من حجم الودائع)، وبين ودائع الاموال الطازجة. وجاء توقيت التعميم قبَيل ساعات من انتهاء المهلة، وبعدما تماهى الى مسامع المركزي انّ بعض المصارف تريد استخدام هذه الاموال في احتساب نسبة السيولة المطلوب تكوينها في حسابات المصارف المراسلة.

ثانياً – يخدم التعميم أهداف المركزي في إبقاء الحسابات الجديدة مُحرّرة من أي قيود، وجاهزة للدفع غب الطلب عندما يقرر صاحب الوديعة ذلك.

ثالثاً – يدرك المركزي انّ وظيفة المصارف التقليلدية غير قائمة حاليا، وبالتالي فإنّ الابقاء على نسبة سيولة كاملة (100 %) بالنسبة الى الحسابات الطازجة، لن يؤثّر في الاقتصاد، لأنّ المصارف حالياً غير جاهزة لتمويل الاقتصاد كما كانت تفعل قبل الأزمة. كما انّ الاقتصاد نفسه غير جاهز لاستيعاب عمليات التمويل سوى في حالات استثنائية جداً.

وهكذا جاء التعميم الوسيط ليعطي الانطباع بأنّ المركزي مصرّ على تنفيذ التعميم 154، وانه سيباشر في اتخاذ الاجراءات القانونية في حق أي مصرف غير مُلتزم.

في موازاة هذا الوضع، تتحرّك المصارف من منطلق انها لا تريد التملّص من مندرجات التعميم، لكن هناك تساؤلات في شأن بعض النقاط، من أهمها:

اولاً- لماذا يتم التعاطي مع موضوع المهل بخفّة، في حين ان المعوقات التي أوجدتها جائحة «كوفيد 19» حقيقية وليست مجرد ذريعة بدليل ان كل حكومات العالم، بما فيها الحكومة اللبنانية أصدرت قوانين لتمديد المهل تماشياً مع هذا الواقع الذي لا يناقش فيه اثنان؟

ثانياً – اذا كان مبدأ زيادة الرأسمال مفهوماً، بل يشكّل حاجة توافق عليها المصارف، وتريد تنفيذها في أقصى سرعة ممكنة، لأنها وسيلة للصمود والبقاء في انتظار بدء إنقاذٍ تأخّر كثيراً، فإنّ هذا الأمر قد لا ينطبق على سيولة الـ3 % (حوالى 3,2 مليارات دولار)، من حيث التوقيت. إذ كيف سنحمي هذه السيولة ونضمن استخدامها بالطرق الصحيحة، اذا كانت الدولة قادرة على إصدار قوانين ساعة تشاء قد تؤدّي الى صرف هذه الاموال في غير مقصدها. ومن يضمن ألا تتحول هذه الاموال الى رهينة اضافية تنضمّ الى الاحتياطي الالزامي المُحتجز في مصرف لبنان، والذي يتمّ تبذيره تحت تسمية الدعم؟

ثالثاً – اذا كان مصرف لبنان حريصاً بهذا القدر على توفير الدولارات الطازجة، لماذا لا يعمد الى اتّباع آلية تضمن عودة الدولارات التي يتم استخدامها، في دعم المواد الاولية لمنتجات يُعاد تصديرها؟ وهل يجوز ان يبقى هذا الامر مبهماً، بحيث لا يُعرف كم خرج من لبنان وكم عاد اليه من دولارات جرى اقتطاعها لدعم الانتاج؟

رابعاً – اذا كان تأمين سيولة الـ3 % ينبغي أن يتم عبر استرجاع نسب حدّدها التعميم 154 من مودعين أخرجوا أموالاً من القطاع المصرفي منذ منتصف 2017، عبر الحَثّ. فهل أصبحت المصارف مسؤولة عن عدم قدرتها على إلزام مودعيها بهذا الأمر؟ وهل من الطبيعي ان تتمكّن المصارف من استعادة الاموال، في حين انّ الدولة بكل وسائلها المتاحة عاجزة عن الامر؟ وهل المطلوب تطبيق التعميم على ناس وناس؟

هذا المناخ يوحي بالتغيير الذي طرأ على العلاقات الودية بين مصرف لبنان والمصارف التجارية. وهو مناخ يكاد يكون بديهياً، لأنّ البلد في أزمة خانقة، وكل طرف يتحسّس رقبته للحفاظ على كيانه. مصرف لبنان من جهته، يريد شراء المزيد من الوقت بالاعتماد على المصارف هذه المرة. والمصارف تريد ضمان الاستمرارية والحد من استمرار الخسائر لئلّا يكون الحل في النتيجة مُدمّراً للقطاع وللودائع.

في المحصلة، سيتمّ تنفيذ التعميم 154 وفق قاعدة «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم»، وستُعطى المصارف القادرة على الالتزام الوقت الكافي، برغم الصرامة في اللغة التي يستخدمها مصرف لبنان. لكن المصارف العاجزة عن الالتزام، بصرف النظر عن المهل، سيتمّ التعاطي معها على أساس انّ خروجها من السوق عبر الدمج، او تغيير ملكيتها عبر وضع مصرف لبنان يده عليها، أفضل للجميع.

انطوان فرح.

الليرة خرقت الحاجز النفسي وأصبحت بلا ضوابط

هل وصلت الليرة اللبنانية الى القعر بوصول سعر صرف الدولار في السوق السوداء امس الى 10 آلاف ليرة؟ وهل يمكن القول انّها بتحطيم رقم قياسي جديد خرجت الأمور عن السيطرة، وباتت السقوف غير قائمة، وكل الاحتمالات واردة؟ ام لا يزال هناك أمل بالعودة الى سقوف محدودة؟

حطّمت امس الليرة اللبنانية الرقم القياسي الذي سبق وبلغته في 3 تموز الماضي، بوصول سعر الدولار في السوق الموازية الى 9900 ليرة، وسجّلت امس سعر المبيع 10 آلاف ليرة وسعر شراء الدولار 9950 ليرة. لا شك انّ كسر حاجز الـ10 آلاف قد يعبّد الطريق امام مزيد من الانهيار لليرة، قد تصحّ معها كل التوقعات التي سبق وتحدثت عن 17 الفاً للدولار وعن 22 الفاً، وصولاً الى توقعات «بنك أوف أميركا» بتسجيله 50 ألف ليرة للدولار الواحد. فهل سيتكيّف اللبناني مجدداً مع مستوى فقر جديد، أصبح فيه الحدّ الأدنى للأجور 68 دولاراً، ومتوسط قيمة الراتب 120 دولاراً، ام انّه حان الوقت للتحرّك والانتفاضة على الواقع المرير الذي نعيشه، خصوصاً وانّ الإنخفاض في قيمة العملة المحلية سينعكس المزيد من الارتفاع في أسعار السلع والمواد الغذائية؟

في السياق، يرى المستشار المالي ميشال قزح، انّ وصول سعر الدولار مقابل الليرة الى 10 آلاف ليرة له انعكاس نفسي قد يدفع البعض ممن يملك الدولار الى بيعه، بخلفية انّ هذا سقفه او حدوده، لكن في الواقع ليس هذا هو السقف النهائي لسعر صرف الدولار. واعتبر انّ الضوابط التي يفرضها مصرف لبنان والمصارف على المودعين من خلال تحديد سقف السحوبات او ما يُعرف بالكابيتال كونترول، ساهما في تهدئة السوق، بدليل أنّه ما أن يُرفع الكابيتال كونترول عن الحسابات المصرفية بالليرة، او حتى عن تسعيرة 3900 ليرة، سيتهافت المودعون لسحب ودائعهم وشراء الدولار من الصرافين، وعندها يحصل ما سبق وتكهّن به «بنك اوف اميركا» بأن يصل سعر الصرف الى 50 الف ليرة.

لماذا تتدهور الليرة؟

رداً على سؤال لـ«الجمهورية»، عزا قزح ارتفاع سعر الدولار الى أسباب عدة ابرزها لجوء بعض المصارف الى سحب الدولارات من السوق من اجل تكوين سيولة بنسبة 3% لدى المصارف المراسلة، بدليل انّ بعض المصارف عرضت إعطاء شيكات مصرفية بالليرة اللبنانية مع حسم بنسبة 10 الى 12% من ثمنه، اذا تأمّن لها المبلغ بالليرة نقداً، وهي تهدف بذلك الى استخدام النقدي لشراء الدولار من الصرافين. كذلك لجأ بعض المصارف ومنذ العام 2020 الى بيع شيكات مصرفية بالدولار مع حسومات، كي تتمكن من تحصين نفسها احترازياً، قبل الوصول الى هذه المرحلة، في حين لجأت بعض المصارف منذ حوالى الاسبوعين الى اعتماد هذه الخطوة لأنّها كانت تراهن على تمديد مفعول التعميم 154.

وقدّر قزح الكتلة النقدية التي سُحبت من السوق في الشهرين الماضيين، واستُعملت لغرض تطبيق التعميم 154 بحوالى المليار دولار. وقال: «هذه الأموال لم تعد موجودة اليوم في صلب الاقتصاد اللبناني، لأنّها أُعطيت فعلياً الى المصارف المراسلة الموجودة خارج لبنان، والاسوأ انّ هذه الشيكات المصرفية بالدولار التي بيعت سيُعاد سحبها من المصارف وفق سعر 3900 ليرة، وستُترجم بالمزيد من الطلب على الدولار عند الصرافين، ما سيؤدي مجدداً الى ارتفاع سعره في الفترة المقبلة. وبالإستناد الى حجم التحويلات المالية التي تدخل الى لبنان والمقدّرة بحوالى 500 مليون دولار شهرياً، ربما نحن بحاجة الى حوالى الشهرين لتستعيد السوق توازنها وتغطي النقص في الدولارات الذي سبّبته المصارف بتنفيذها التعميم 154».

ورأى قزح، انّ ارتفاع الدولار اليوم ليس بريئاً، فهناك علامات استفهام عدة تُطرح على الحاكم، منها كيف يتراجع الاحتياطي 10 مليارات دولار بينما كلفة الدعم لم تتخطّ الـ 5 مليارات دولار؟ اين ذهب فارق الأموال؟ هل الحاكم يتدخّل في السوق السوداء من خلال الصرافين، يمدّهم بالدولار لتهدئة السوق وكلما أحجم عن ذلك يتدهور سعر الصرف، إم انّ هذه المليارات استُعملت لتهريب أموال السياسيين الى الخارج؟

تسعيرة ثابتة؟

يؤكّد قزح، انّه بعدما أصبح الفارق بين دولار السوق ودولار المصرف كبيراً، بات المصرف المركزي ملزماً بتغيير سعر المنصّة أي 3900 ليرة اذا كان يريد تفادي ثورة شعبية يقودها المودعون. اما عدم تغيير السعر فقد يكون الهدف منه قيام ضغط شعبي من اجل الإسراع في تشكيل الحكومة. وقال: «لا بدّ من ترقّب الخطوة التي سيُقدم عليها مصرف لبنان في هذا الخصوص في المرحلة المقبلة، لكن اذا اقدم المركزي على رفع هذا السعر سيصبح لدينا كتلة نقدية بالليرة أكبر من الموجودة حالياً، وبالتالي يصعب سحبها من السوق وستُترجم غلاء في الأسعار ومزيداً من التدهور في سعر الصرف، وهكذا دواليك.

من جهة أخرى، أكّد قزح انّ الحل الوحيد لوقف الانهيار يبدأ من تشكيل حكومة اختصاصيين والسير بخريطة طريق تبدأ بالتفاوض مع صندوق النقد. فنحن وصلنا اليوم الى مرحلة اللاعودة، والكل مجبر على التضحية كي نصل في مرحلة مقبلة الى سعر ليرة مقابل الدولار ما بين 6000 الى 7000 ليرة. أما إيجاد حل لودائع الناس في المصارف فلن يتوفر من دون ان يتحمّل أصحاب المصارف وكبار المودعين الخسائر.

مسيرة التدهور

بعد مرور عام ونصف العام على بدء التدهور في سعر الليرة لم تقم الطبقة السياسية بأي خطوة للحدّ من الانهيار، بل اكتفت بالتفرّج عليه، عرقلت الخطة الاقتصادية والكابيتال كونترول واستعادت الأموال المنهوبة. في هذا الوقع ارتسم مشهد انهيار الليرة من بعد انفجار مرفأ بيروت على النحو الآتي:

مع وصول سعر الليرة خلال شهر تموز 2020 الى حوالى 9900 ليرة، عاد السعر وتراجع بعد الانفجار الى حوالى 7000 ليرة ثم 6500 ليرة، وذلك مع وصول بعض المساعدات المالية الى لبنان.

لكن الليرة استأنفت تدهورها اعتباراً من شهر كانون الأول 2020 مسجّلة 8000 ليرة ثم حوالى 8600 ليرة في شهر كانون الثاني وبلغ 9000 ليرة خلال شهر شباط، وارتفع اعتباراً من منتصف شهر شباط الى 9500 بعدما زاد الطلب على الدولار.

ايفا ابي حيدر.

ماذا بين ثبات الدولرة وتثبيت سعر الصرف؟

منذ نقطة التحول الكبرى في السياسة النقدية في لبنان منذ التسعينيات، أظهرت خيارات مصرف لبنان مخاوف ملحوظة من إعادة إنتاج النمط الذي كان سائدًا في عام 1987، عندما تجاوز التضخم المفرط 487%، وانطلق مسار الدولرة كخيار حرّ للقطاع الخاص سعياً للحفاظ على قدرته الشرائية، ثم تراجع تدريجيًا مع السياسة النقدية التقييدية عام 1992. ومع تثبيت سعر الصرف منذ 1997، انتظر الجميع أن تتراجع الدولرة في تلك الفترة .. إلّا أنّ الدولرة الجزئية بقيت مرتفعة، ومع انفجار الأزمة المالية-النقدية-المصرفية في الربع الأخير من العام 2019 ازدادت أكثر لتلامس 80% من الودائع اليوم.. هل فعلاً كانت الدولرة ردة فعل اختيارية ازاء انهيار سعر الصرف في الثمانينيات؟ وبالتالي ما سرّ ثبات الدولرة رغم سنوات من تثبيت سعر الصرف؟ وأي خيارات ممكنة اليوم؟

في الثمانينيات، ترافق انهيار سعر الصرف الوطني مع ارتفاع سعر الدولار من 2.25 ليرة لبنانية عام 1972 إلى أكثر من 2850 ليرة عام 1992، قبل أن ينخفض تدريجياً، من نهاية عام 1992 حتى تمّ تثبيته عند 1507.5 ليرة منذ عام 1997… وذلك مع ارتفاع معدل دولرة الاقتصاد من حوالى 25% من الودائع عام 1972 إلى أكثر من 86% عام 1987، لينخفض تدريجياً الى حدود 67% في سنوات الاستقرار، ثم ارتفاعه ليصبح اليوم حوالى 80%.

إلّا انّ خصوصية الأزمة الحالية تختلف أيضًا عن الثمانينيات، إذ لم تعد دولرة الودائع تحمي أصحابها، بعد أن وظفت المصارف أكثر من ثلثيها بين الاكتتاب بسندات خزينة الدولة بالدولار والأوروبوند، واشترت بالجزء الأكبر شهادات إيداع مصرف لبنان بالدولار، لتعزيز إحتياطاته بالعملات الأجنبية… علماً أنّ الودائع بالدولار التي بلغت 120 مليار دولار، أي مرة ونصف من الناتج المحلي الإجمالي للبنان في بداية العام 2019 قبل اندلاع الأزمة، تراجعت الى حوالى 112 مليار دولار حالياً، بعد سحب المودعين كميات كبيرة منها بين شراء ذهب وتسديد ديون وشراء عقارات أو سيارات، وللاحتفاظ بالسيولة بالدولار والليرة، تحسباً للمزيد من شح النقد..

وكان القطاع المصرفي يحتفظ بـ 15 مليار دولار على شكل سندات يوروبوند، و 70 مليار دولار مع مصرف لبنان، بين احتياطي إلزامي على الودائع بالعملات الأجنبية (15% من الودائع بالعملات الأجنبية أو ما يقرب من 18 مليار دولار أميركي) وشهادات إيداع بالدولار (قدّرتها مؤسسة بلومبرغ بـ 52.8 مليار دولار)… بينما حمل مصرف لبنان سندات يوروبوند مقابل 5.7 مليارات دولار.

في العام 1987 كان الدولار متاحًا، وكان الطلب عليه يتزايد بسبب التضخم ، وكان سعره الرسمي يتزايد بالتوازي. في المقابل، اليوم الدولار غائب وسعره الرسمي ثابت والسوق الموازية تغذي التضخم … ولا يمكن تصور الخروج من الأزمة بما حدث عام 1992 باعتماد قرار تثبيت سعر الصرف ، لأنّ الدولارات اللازمة غير متوفرة هذه المرة.

في الثمانينيات، وافق المصرف المركزي والمصارف اللبنانية على اختيار القطاع الخاص اللبناني اعتماد الدولرة الجزئية وغير الرسمية، عن طريق الاختيار الحرّ للعملاء الاقتصاديين، الذين فقدوا الثقة في العملة الوطنية… ولم «تضفِ» السلطات النقدية الطابع الرسمي على استخدام الدولار كعملة وطنية لدفع الضرائب والرسوم وتنظيم إجراءات الإدارة العامة … إلّا أنّ مصرف لبنان أنشأ غرفة مقاصة للشيكات بالدولار وملأها ماكينات الصرف الآلي (ATM) عن طريق العملتين: الليرة اللبنانية والدولار الأميركي.

عملياً، من الطبيعي أن يكون معدّل الفائدة على الودائع بالعملة الوطنية أعلى من معدل الفائدة على الودائع بالدولار في البلد المدولر جزئياً، نظراً لفارق عامل المخاطرة، كذلك من الطبيعي أن يكون معدل الفائدة على الودائع بالدولار في البلد المدولر، أعلى مما هي عليه نفس الودائع بالدولار، لو تمّ توظيفها في أسواق أخرى خارجية أكثر استقراراً، نظراً لعامل المخاطرة في البلد المدولرة..

واذا كانت مبدئياً الدولرة الجزئية مفترقاً للاتجاه إما صوب استعادة الثقة بالعملة الوطنية أو الانغماس أكثر بالدولرة حدّ التخلّي عن العملة الوطنية أو السعي لنظام استقرار للعملة الوطنية، مربوط بتثبيت سعر الصرف، إما برط العملة الوطنية بالعملة الأجنبية أو باعتماد مجلس نقد أو مجلس مصرفي … ويُلاحظ أنّ لبنان عرف ثباتاً مرتفعاً في معدّلات الدولرة، على الرغم من مرور 22 سنة من تثبيت سعر الصرف بربط الليرة اللبنانية بالدولار… تراجع معدل الدولرة قليلاً ليعاود ارتفاعه مع كل فترة اهتزاز الاستقرار واضطرار المصرف المركزي لاستنفاد إحتياطه بالعملات الأجنبية، ومحاولة تأجيل انفجار الأزمة عبر «الهندسات المالية». هذه العمليات النقدية غير التقليدية خفّضت خدمة الدين للدولة، كون معدل الفائدة على اليوروبوند أقل مما هو على سندات الخزينة بالليرة. كما مكّنت الخزينة من الحصول على ضرائب تخطّت ملياراً ومئتي مليون ليرة (توازي 800 مليون دولار حينها) كضريبة 15% على مردود المصارف من هذه العمليات الاستثنائية، فضلاً عن استقطاب المزيد من الودائع بالدولار، وتوجيهها الى المصرف المركزي لزيادة احتياطه بالعملات الأجنبية.. في حين كانت الدولة تزيد «دولرة» دينها العام، عبر زيادة حصة اليوروبوند من مجموع دينها العام، في حين كان ميزان المدفوعات يراكم عجوزات متتالية منذ 2011، غطّتها مرحلياً الهندسات المالية في 2016-2017 لتعاود العجز ويكبر الفارق بين الودائع المتزايدة بالدولار من جهة وتراجع الموجودات بالدولار الأميركي من جهة أخرى..

في موازاة ذلك، كانت مؤسسات التصنيف الدولية (فيتش، موديز، وستاندرد أند بورز)، تخفّض أكثر فأكثر التصنيف السيادي للبنان، مما يعطي إشارة لحاملي اليوروبوند عن صعوبة السداد. وبالنسبة لسندات الخزينة بالعملة الوطنية يمكن تغطيتها، حتى في حال عجز الدولة عن السداد، عبر اللجوء الى طبع النقد في المصرف المركزي، كإجراء استثنائي في الحالات الطارئة، وتتحمّل البلاد التضخّم بعدها. أما بالنسبة لليوروبوند، فلا يمكن للمصرف المركزي المحلي طباعة الدولار الضروري لتسديدها، ولا الاستمرار الى ما لا نهاية باستنزاف احتياطه بالعملات الأجنبية .. الأمر الذي يؤدي بالدولة الى إعلان وقف السداد، كما حصل في نيسان 2020 عند العجز عن تأمين الدولار لإيفاء الاستحقاقات..

إذا كانت الدولرة الجزئية، على الرغم من ارتفاعها كما هو الحال في لبنان، تشكّل «وسيلة ملجأ» للعملاء الاقتصاديين من عدم استقرار قوتهم الشرائية، بعد تجربة تضخمية شديدة وانخفاض حاد في سعر صرف، قد يكون من الصعب إزالتها.. في حين يُعتبر إلغاء الدولرة بشكل تدريجي أمرًا ضروريًا لتجنّب مخاطر الدولرة الجزئية: خصوصاً مخاطر الملاءة المالية ومخاطر السيولة.

كما أنّ الدولرة جعلت أي أداة استقرار قائمة على ضبط عرض النقود بالليرة اللبنانية غير فعّالة، وأدّت إلى اعتماد الاستقرار القائم على تثبيت سعر الصرف، بالتدخّل المستمر لـ»دعم» سعر صرف العملة الوطنية. لكن الحفاظ على هذا «الاستقرار» كان يتطلب دائمًا توفير عنصر احتياطي العملات الأجنبية لمصرف لبنان، للحفاظ على هامش تدخّله في سعر الصرف في السوق، الأمر الذي تطلب جذب ما يكفي من الدولارات من الخارج، وتحقيق فائض في ميزان المدفوعات (من خلال مجموع فائض تقليدي في ميزان الرساميل، يفترض أن يعوّض عجز الميزان التجاري في بلد يستورد 80% من إستهلاكه).

من هنا، يتبيّن دور تدهور ميزان المدفوعات منذ عام 2011، والنفاد التدريجي لاحتياطيات العملات الأجنبية، ما أدّى إلى اندلاع الأزمة في تشرين الأول 2019، والانهيار الحاد بسعر الصرف، بعد السيطرة على السعر الرسمي إلى مستوى USD / LBP 1507.5 منذ عام 1997.

وهكذا، بعد 22 عامًا من تثبيت سعر الصرف، من خلال ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، تشهد العملة الوطنية انخفاضًا جذريًا في قيمتها في سوق الصرف الموازي، مع توقف إمكانية تحويل العملة الوطنية إلى عملات أجنبية في القطاع المصرفي. ومرة أخرى، تفقد الليرة اللبنانية وظائفها الثلاث، وهي: وحدة الحساب والوسيط التجاري والاحتفاظ بالقيمة الشرائية، وهو ما يذكّرنا بتجربة الاستهلاك والتضخم المفرط في الثمانينيات. ومع ذلك، فإنّ الأزمة الحالية تتميز ببيانات أكثر خطورة وتعقيدًا، من تلك التي كانت موجودة في الثمانينيات. مع القلق من المنحى المعاكس، المتمثّل بإزالة قسرية للدولرة وفرض سحب الودائع المصرفية اللبنانية بالدولار الأميركي حصرياً بالليرة اللبنانية، كما يحصل اليوم، قبل اعتماد سعر صرف موحّد حفاظاً على قيمتها وفق معطيات السوق…

من هنا، وبعد سقوط نظام ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي على أساس التدّخل المستمر للمصرف المركزي للحفاظ على سعر صرف رسمي، لم يعد يأخذ في الاعتبار مجمل المؤشرات الماكرو اقتصادية، لا سيما منها ميزان المدفوعات، في ظل الدولرة الجزئية، ما يدعو للتطلّع صوب خيارات بديلة أكثر فعالية لاستعادة الاستقرار بالمعطيات الحالية.. فهل يكون الاتجاه صوب إلغاء ألزامي للدولرة أو العكس، الذهاب الى الدولرة الشاملة، أم الوقوف وسطياً أمام خيار مجلس النقد أو مجلس مصرفي مستقبلي، يساهم أيضاً في استعادة الثقة بالجهاز المصرفي ككل؟

د. سهام رزق الله

هل يتغيّر مشهد المصارف في الاسبوع المقبل؟

شباط، ليس مجرد موعد يتحدّد معه مصير القطاع المصرفي، بل محطة للتذكير بالمصير الذي يمضي نحوه البلد بخطى سريعة، وكأنّ من في يده القرار يستعجل الهبوط نحو أعمق قعرٍ ممكن، وفي زمن قياسي غير مسبوق.

اسبوع واحد يفصلنا عن موعد انتهاء المهلة المعطاة الى المصارف للالتزام بمندرجات التعميم الاساسي والتعاميم الوسيطة التي تهدف الى إعادة هيكلة القطاع المصرفي.

في هذا الوقت، يحتدم النقاش وترتفع وتيرة التكهنات، بين من يؤكّد انّ المهلة لن تُمدّد، ومن يجزم بأنّها ستُمدّد قسرياً، بقوة القانون الذي أقرّه مجلس النواب (تمديد المهل). في حين يرى آخرون انّ التمديد سيكون بقوة الامر الواقع، لأنّ لا مصلحة لأحد في إسقاط مصارف لا تزال قادرة على الصمود والاستمرار في هذا التوقيت، فذلك سيكون بمثابة انتحار أو جريمة موصوفة في حق المودعين، وكل اللبنانيين.

الأمر الواقع هنا، لا يتعلق بعجز مصرف لبنان في الظروف الحالية عن تسلُّم مفاتيح مصارف عدة في وقت واحد لإدارتها وإعادتها لاحقاً الى السوق، بل أيضاً في أنّ لا مصلحة لأحد برفض التمديد، طالما أنّ النية في الالتزام موجودة، وقد تحتاج الى فترة اضافية للتنفيذ. وهذا الأمر قد يشمل مصارف كبيرة، أنجزت عمليات بيع كافية لتأمين الاموال الضرورية للالتزام بقرار اعادة الهيكلة، لكن اجراءات نقل الملكية وما يرافقها قبل ان تصبح الاموال مُحرّرة وجاهزة للاستخدام، قد يحتاج الى وقت اضافي يتجاوز 28 شباط الجاري، وبالتالي، من البديهي منح وقت اضافي لهذه المصارف للالتزام بالوضعية الجديدة المطلوبة.

لكن، وفي هذه المعمعة، يغيب عن البال، انّ النقطة الساخنة في هذا الملف لا ترتبط بالمِهَل وتمديدها، بل في تحقيق الهدف الذي من أجله صدر التعميم، أي «إعادة تفعيل نشاطات وخدمات المصارف المعتادة لعملائها، بما لا يقلّ عمّا كانت عليه في تشرين الاول 2019». فهل هذا الهدف واقعي في حال تبيّن انّ المصارف نجحت في الإلتزام بمندرجات التعميم في 28 شباط الجاري؟

من يتابع عمل المصارف في هذه الحقبة يدرك عمق الأزمة، ويدرك انّ الخطورة الحقيقية تكمن في تبذير الوقت من قِبَل الدولة. في العام 2019، وهو العام الذي شهد في نصفه الثاني ظهور مؤشرات واضحة للأزمة التي تدرّجت صعوداً، وصولاً الى اعلان ما يشبه الكابيتال كونترول الذاتي وغير المقونن، بسبب تعذّر إصدار قانون، كانت المصارف، أو بعضها، لا تزال قادرة على تحقيق ارباح. اليوم، وبعد مرور اكثر من عام على الأزمة، سوف تعلن المصارف بدءاً من الشهر المقبل نتائج العام 2020، وسيتبيّن انّها تعرّضت لخسائر جسيمة قد يقضي مجموعها على نسبة عالية من الزيادة في الرساميل التي قرّرها مصرف لبنان، (حوالى 4 مليارات دولار). واذا تواصل تبذير الوقت قبل إقلاع خطة الإنقاذ، ستكون أرقام 2021 مُفجعة، وسنكتشف انّ الثقب الاسود إلتهَمَ نسبة مرتفعة من رساميل المصارف التي يُفترض في الأساس ان تُستخدم في اطفاء قسم من الخسائر ضمن خطة الإنقاذ.

هناك اسباب عدة لارتفاع خسائر المصارف من أهمها انّها فقدت وظيفتها الأساسية في تمويل الاقتصاد والإنفاق. على سبيل المثال، نجحت المصارف خلال 2020 في تحسين دفاترها ومخاطرها المستقبلية من خلال خفض محفظة ديون القطاع الخاص لديها من حوالى 52 مليار دولار الى 35 مليار دولار، من خلال تشجيع المقترضين على سداد ديونهم بواسطة البيوعات العقارية، او الدفع بالليرة لقروض بالدولار على سعر 1500. لكن ذلك لا يعني فقط انّ المصارف نجحت في خفض حجم ديونٍ قد تصبح هالكة وتتحوّل الى خسائر، من خلال نقلها الى خانة المطلوبات (liabilities)، بل يعني ايضاً انّ الارباح التي كانت تجنيها المصارف من فوائد هذه القروض تراجعت بنسبة 40% تقريباً. في المقابل، خسرت المصارف الفوائد على «اليوروبوندز»، كما أنّها مضطرة الى حجز مؤونات بنسبة 45% على محفظتها من السندات الدولارية، بما يساوي حوالى 5 مليارات دولار. بالإضافة الى حوالى مليار دولار مؤونات على توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان. وبالتالي، أصبحت ايرادات المصارف محصورة في الفوائد على ما تبقّى من ديون للقطاع الخاص، والفوائد التي لا يزال مصرف لبنان يدفعها لها لقاء توظيفاتها لديه. كل ذلك يشير الى انّ الخسائر في 2021 ستكون اكبر بكثير من خسائر 2020، ولن يبقى من الرساميل الكثير لاستخدامه لاحقاً في اطفاء خسائر.

في الموازاة، لا تدخل الى المصارف ودائع جديدة برغم بعض التحفيزات. وهناك توجّه لدى قسم من اللبنانيين الى فتح حسابات مصرفية في قبرص، رغم انّ الجزيرة الصغيرة خرجت قبل فترة من أزمة مالية صعبة مرتبطة بالأزمة اليونانية. وفي السياق، لا بدّ من الإشارة الى انّ قبرص التي قُدّرت خسائرها في الأزمة اليونانية بحوالى 17 مليار دولار، طُلب منها لتسريع عملية الإنقاذ والخروج من الأزمة، تنفيذ هيركات تحت تسمية ضريبة لمرة واحدة، بنسبة 6,75% على الودائع التي تبلغ قيمتها 100 الف يورو وما دون، ونسبة 9,9% على الودائع التي تفوق قيمتها الـ100 الف يورو.

فهل يمكن تصوّر نسبة الضريبة (هيركات) التي سيُطلب من لبنان فرضها، اذا كانت تقديرات حكومة حسان دياب للخسائر في نيسان 2020 وصلت الى حوالى 80 مليار دولار، وزادت اليوم، وفق المفهوم المحاسبي نفسه، الى حوالى 100 مليار دولار؟

انطوان فرح

تدهورٌ مُستمرّ في الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي والمؤشرات تُنذر بالأسوأ

الإقفال العام ضرب الاقتصاد وزاد الفقر ولمُ يأتِ بالجدوى المطلوبة صحياً

خطرٌ جديد يُهدّد العالم من البوابة الصينية والتداعياتُ قد تكون كارثيةً 

الوضع الاقتصادي يتراجع يوميًا ومعه الوضع المالي للدولة ووضع الليرة اللبنانية وكل هذا يزيد الضغوطات على المواطن الذي يغوص في الفقر يومًا بعد يوم. هذا القول ليس بجديد، ولكن ما يجب معرفته هو أن المُحرّك الأساس في كل هذه اللعبة هو النمو الاقتصادي. فبدون هذا النمو، لا يُمكن للمالية العامة التي تعتاش على قسم من هذا النمو، ولا لليرة التي تعكس هذا النمو، ولا للمواطن الذي يعتاش من هذا النمو أن يخرجوا من الأزمة الحالية التي أصبحت قاسية وتزداد قساوتها مع مرور الوقت.

ميزان المدفوعات والذي هو عبارة عن مؤشر خروج ودخول العملة الصعبة من وإلى لبنان أصبح يدلّ بوضوح على الوضع الصعب الذي يعيشه لبنان. فهذا الميزان يُسجّل أرقامًا سلبية منذ العام 2011 تحت وطأة الإستيراد الهائل والذي بلغ مُستويات كبيرة وصلت إلى 20 مليار دولار أميركي حتى العام 2019، وبالتالي كان ميزان المدفوعات يُسجّل أرقامًا سلبية كان إلى حدٍ ما مقبولاً حتى العام 2018، أي عام تقريبًا بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب، حيث أخذ ميزان المدفوعات بتسجيل عجز كبير (8.4 مليار د.أ في العام 2018، و8.5 مليار د.أ. في العام 2019، ليصل إلى 10 مليار د.أ في الأشهر الأحد عشر الأولى من العام 2020). وإذا كان هذا العجز مُبرّرًا قبل العام 2020، بعجز الميزان التجاري، إلا أن العام 2020 لايُمكن تبرير عجزه بعجز الميزان التجاري نظرًا إلى إنخفاض الإستيراد أكثر من النصف، وبالتالي فإن عجز ميزان المدفوعات هو نتاج حركة رؤوس أموال إلى الخارج!

نمو اقتصادي من دون رأسمال وإستثمارات هو أمر مُستحيل بحسب النظرية الاقتصادية والسبب أن الإستثمارات هي وقود النشاط الاقتصادي. إذًا تحقيق نمو إقتصادي يفرض إستثمارات أي بمعنى أخر دخول أموال من الخارج نظرًا إلى شحّ الدولار في الأسواق. هذا الأمر يفرض على الدولة أن تفاوض صندوق النقد الدولي الذي ربط المُجتمع الدولي أي مساعدة بنجاح هذه المفاوضات. وبما أن صندوق النقد لا يتعامل إلا مع حكومات أصيلة، لذا لا يُمكن الحصول على مُساعدات إلا من خلال تشكيل حكومة.

عمليًا على الأرض، الدولار يختفي كل يوم من مصرف لبنان الذي يُموّل الإستيراد (على السعر الرسمي وسعر المنصة) حيث تذهب حصة الأسد إلى المحروقات التي إستهلكت 258.2 مليار دولار أميركي على الأشهر التسعة الأولى من العام 2020 مع مُعدّل شهري يوازي 250 مليون دولار أميركي. أيضًا يُموّل مصرف لبنان إلتزامات المصارف التجارية لدى المصارف المراسلة ولكن أيضًا إلتزامات الدولة من خدمات مُستوردة.

في المقابل، لا يستقبل لبنان، إلا القليل من الدولارات التي يتمّ تحويلها على شكل دولارات «طازجة» تمر عبر المصارف أو شركات تحويل الأموال. وعلى عكس تقديرات البنك الدولي الذي يتوقّع أن يكون حجم تحويلات المُغتربين 9.6 مليار دولار أميركي في العام 2020، فإن النماذج الحسابية التي إعتمدناها، تُشير إلى 5.3 مليار دولار في أحسن الأحوال.

الإقفال العام

النتائج المرجوة من الإقفال العام الذي تمّ إقراره، من 14 كانون الثاني الماضي إلى 31 منه، لم تكن على الموعد. فمُستوى الإصابات ما زال مُرتفعًا والمُستشفيات تكتظ بالمُصابين وأعداد الوفيات إلى إرتفاع. ومع التوجّه بتمديد الإقفال أسبوعين إضافيين للحدّ من إنتشار الجائحة، يتساءل المواطن عن الإستراتيجية التي تعتمدها السلطات من خلال عملية الإقفال هذه؟

مراجعة المواقع الإلكترونية الأجنبية، تُظهر أن كل إقفال تقوم به دولة (مثل بريطانيا، ألمانيا، فرنسا#0236) يهدف إلى السيطرة على تفشّي الوباء من خلال ملاحقة المصابين ومتابعتهم من خلال تطبيقات وغيرها، ولكن أيضًا من خلال زيادة القدرة الإستعابية للمستشفيات والتحضير للِّقحات. لكن في لبنان، لم تُعلن السلطات أيًا من هذه الأهداف على الرغم من التصريحات التي يقوم بها المسؤولون، لا بل على العكس هناك سؤال جوهري أساسي يطرحه كل مواطن عن كيفية حفظ اللِقاحات على درجة حرارة -70 درجة مئوية؟

في هذا الوقت، تعلو صرخة المواطن الذي يُعاني الأمرّين من نقص في المداخيل مما يؤثّر على قدرته على تأمين المواد الغذائية إضافة إلى غياب واضح للدولة إن على صعيد تأمين المواد الغذائية الأساسية أو على صعيد مُحاربة جشع التجار الذين يفتكون بالأخضر واليابس.

حجّة الإقفال العام لأن الصحة أهمّ من الإقتصاد، لم تعد تنفع، فعشرات ألوف المواطنين سيقضون من الجوع إذا لم يتمّ السماح للناس مُعاودة أعمالهم كالمُعتاد مع التشدّد الكبير في تطبيق الإجراءات الوقائية مثل الكمّامات والمسافات الإحترازية وغيرها. هذا الأمر سيسمح للمواطن بإستعادة قسم من كرامته.

في هذا الوقت يجب على السلطات التحضير الجدّي لمرحلة اللِقاحات التي ستبدأ بعد أسبوعين، وحتى الساعة لا نعلم مدى جهوزية السلطات ومكان وجود المراكز وإذا ما تمّ تجهيزها، وهل تمّ تدريب الجسم الطبي وغيرها من الأسئلة التي أصبحت تشغل بال المواطن.

أيضًا يتوجب على السلطات زيادة القدرة الإستعابية للمستشفيات وذلك بحكم أنه لا يُمكن إقفال البلد إلى ما لا نهاية بحجّة أن القدرة الإستعابية بلغت حدّها الأقصى! فلتقمّ السلطات بالتشاور مع المستشفيات الخاصة والحكومية وترفع من قدرتها على إستيعاب مرضى كورونا، لأن المُستقبل غير واعد خصوصًا مع بدء الحديث عن فيروس جديد. وأين أصبحت المساعدات في بناء المستشفيات الميدانية؟

نيباه

بدأ الحديث يعود عن إنتشار فيروس إسمه «نيباه» في الصين والذي يُقال عنه أنه أشدّ فتكًا من فيروس كورونا مع نسبة وفاة تصل إلى 75%! هذا الفيروس والذي يأتي من الخفافيش ليس بجديد، فقد تمّ إكتشافه في العام 1999، إلا أن الجديد هو عودة تفشيه في الصين بحسب ما أشارت صحيفة الغاردين البريطانية. حتى أن هناك معلومات عن حالات تمّ إكتشافها في مصر، إلا أن هذا الأمر نفته السفيرة الصينية في مصر وقالت أن «ربط هذا الفيروس بالصين أمر غير صحيح، لأنه موجود فى جنوب آسيا وليس في الصين تحديدًا». هذا الجواب لا يحمل في طياته نفيًا قاطعًا عن تفشّي الفيروس في الصين وبالتالي فإن على الدولة اللبنانية التعلّم من تجربة كورونا والبدء بالتحضّر لمثل هذا الوباء الذي قد تكون نتيجته كارثية. وما يزيد من هذه المخاوف هو تصريح المدير التنفيذي لمؤسسة طبية أوروبية، والذي صرّح أن «فيروس نيباه مرض معد آخر ناشئ يسبب قلقًا كبيرًا، ومن الممكن أن تندلع جائحة في أي لحظة، ويمكن أن يكون الوباء العالمي التالي مع عدوى مقاومة للأدوية».

الإحتجاجات الشعبية

إحتجاجات طرابلس تُرسل مؤشرات سلبية جدًا عمّا آلت إليه الأوضاع الإجتماعية. بالطبع هناك قوى تُحاول الإستفادة من هذه الإحتجاجات لخلق فوضى على مثال الحادثة المدانة من خلال حرق البلدية في طرابلس، إلا أن تردّي الأوضاع سيُعطي زخمًا أكبر للإحتجاجات وسيدفع الناس إلى النزول إلى الشارع خصوصًا إذا ما إستمرّت حالة الإقفال العام والتي تُشكّل كارثة على صعيد قوت المواطن. من هذا المُنطلق، فإن ترابط الأحداث سيؤدّي إلى تصاعد إسّي (Exponential) للفوضى ستضع دون أدنى شكّ القوى الأمنية في مواجهة المواطنين الجياع. لذا يتوجّب على المعنيين أخذ الإجراءات التصحيحية للوضع الإقتصادي تحت طائلة وصول الوضع إلى حالة لا يُمكن السيطرة عليها إلا بأثمان عالية جدًا بشريًا وسياسيًا لا يمكن التنبؤ بها.

البروفسور جاسم عجاقة

كيف سيتفاعل سعر الدولار مع موازنة 2021؟

إستحوذ مشروع موازنة العام 2021 على اهتمامٍ ومتابعة، وتعرّض لانتقادات مُبكرة من قِبل أكثر من جهة. فهل تساهم موازنة من هذا النوع في تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي للبنانيين، ام انّها تنطوي على مخاطر تسريع الإنحدار، وزيادة الضغط على الناس والاقتصاد؟

لا تمتلك وزارة المال عصا سحرية تستطيع من خلالها ابتكار موازنات انقاذية لتغيير المشهد الاقتصادي والمالي في البلد. ومن يدعو الى موازنة اصلاحية في هذه الظروف، ومن خارج سياق المشهد السياسي العام، يكابر ويجافي الحقيقة. الإصلاح والإنقاذ اكبر من مشروع موازنة على الورق، في ظروف شبيهة بالظروف التي وصل اليها البلد.

ما حاول أن ينجزه فريق عمل وزارة المال في مشروع الموازنة، يُختصر في تقديم أرقام تقضي على العجز، وتوحي بالتالي بأنّ الدولة ليست مضطرة الى الإقتراض اكثر لتغطية هذا العجز الذي كان قائماً طوال السنوات العشرين الماضية، وتراكم حتى وصل حجم الدين العام الى نقطة الإنفجار الذي أدّى الى اعلان الإفلاس (التوقّف عن الدفع). والى جانب خفض العجز، تضمّنت الموازنة بنوداً اصلاحية في الوظيفة العامة، وهي التي اعترض عليها النقابيون والعمال والموظفون.

ومن أجل تحاشي زيادة العجز في الموازنة، والناتج من تراجع الإيرادات، ولأنّ تعويض هذه الإيرادات لم يعد ممكناً عبر فرض ضرائب اضافية على المداخيل والأرباح، تمّ اللجوء الى خيار «الهيركات» غير المُعلن، والخوّة المُقنَّعة، من خلال الضريبة على الودائع من 1 الى 2%، والضريبة على فوائد استثمارات البنوك لدى مصرف لبنان بنسبة 30%. والهدف المُعلن تأمين بين 2000 و2200 مليار ليرة للخزينة.

في الضريبة على الودائع، والتي تمّ اقتراحها بصيغة لمرة واحدة، تُطرح الاسئلة التالية:

اولاً- هل من المناسب فرض أي ضريبة أو اقتراح أي «هيركات» غير مُعلن، وبصرف النظر عن المُسمّيات، فيما الودائع عالقة، ولا يستطيع صاحبها تحريكها؟

ثانياً- هل من العدل التعاطي مع السقف المُقترح لبدء فرض هذه الضريبة على تسعيرة 1500 ليرة للدولار؟ بمعنى، هل من العدل مساواة وديعة المليون دولار، مع وديعة المليار ونصف مليار ليرة، في حين انّ وديعة الليرة باتت تساوي فعلياً في سوق الصرف الحقيقي حوالى 170 الف دولار؟

ثالثاً- ما المقصود بتحصيل هذه الضريبة وفق عملة الوديعة؟ بما انّه لا يوجد دولار حقيقي، فهذا يعني تحويل قيمة الضريبة الدولارية الى الليرة. ما هو سعر الصرف الذي سيُعتمد؟ وهل سيتمّ تطبيق «التسمية» التي ابتكرتها وزارة المال لتحديد الضريبة على الدخل للمؤسسات التي تدفع الرواتب بالدولار، من خلال استخدام مصطلح «سعر الصرف المُجدَّد» من قِبل مصرف لبنان؟

وفي ما خصّ الضريبة على فوائد استثمارات المصارف لدى المركزي، والمحدّدة بـ30%، هناك مجموعة تساؤلات من أهمها:

اولاً- هل الوقت مناسب لحذف 30% من إيرادات المصارف، بعدما أصبح هذا النوع من الإيرادات يشكّل النسبة الاكبر من مجموع ايرادات البنوك؟ وهل المجازفة بزيادة حجم خسائر القطاع، وتعريض بعضه للإفلاس هو في مصلحة الوضع المالي والاقتصادي في هذه الحقبة؟

ثانياً- اذا كان مصرف لبنان قد اختار عدم الإنضمام الى الحكومة في قرار التوقف عن دفع التزاماتها، فهل يجوز ان تسمح الحكومة لنفسها بضرب هذا القرار من خلال اقتطاع نسبة الثلث من قيمة هذه الاستحقاقات؟

ثالثاً- وفق أي سعر سوف تستوفي الخزينة هذه الضريبة على استثمارات الدولار، على سعر 1500 او 3900 (السعر المُجدَّد)؟

رابعاً- ماذا سيكون تأثير هذا القرار على المستثمرين والمودعين والمساهمين الذين تتمّ دعوتهم في هذه الاثناء للمشاركة في رفع رساميل المصارف؟ ألن يؤدي قرار الضريبة هذا الى تهشيل من كان يفكر في الاستثمار في المصارف؟ وهل يخدم إحجام هؤلاء عن المساهمة في تكبير رساميل القطاع المصرفي، الاقتصاد الوطني في المرحلة المقبلة؟

خارج سياق الارقام الدفترية التي لا تقدّم ولا تؤخّر، يبقى السؤال، من أين ستأتي الدولة بالدولارات التي تحتاجها في امور لا تمكن معالجتها بالليرة؟ وهناك مجموعة مستحقات دولارية، منها الإنفاق على البعثات الديبلوماسية في الخارج، شراء معدات ضرورية لتسيير بعض الشؤون، تسديد فواتير مختلفة بينها فواتير لتغطية اتعاب محامين دوليين في قضايا تحكيمية…

تحتاج الدولة الى مبلغ لا يستهان به بالدولار سنوياً، من أين ستجلبه؟

الجواب من مصرف لبنان طبعاً. والبنك المركزي يدفع حالياً قسماً من عائدات المصارف لقاء استثماراتها المالية لديه بالدولار ايضاً. كذلك يموّل المركزي الدعم العشوائي المستمر بلا قيود. كل ذلك يعني انّ مصدر الدولار واحد، وهو الاحتياطي المتبقي من الاحتياطي الإلزامي.

في المقابل، الأموال بالليرة التي تريد الخزينة الحصول عليها من خلال الضرائب على الفوائد وعلى الودائع، بالإضافة الى اضطرارها الى تمويل مدفوعات اخرى، كما هي حال المدفوعات الى الضمان الاجتماعي بواسطة إصدار سندات دين بالليرة، كل ذلك سيؤدي الى إلزامية تكبير حجم الكتلة النقدية بالعملة الوطنية في الاشهر القليلة المقبلة، بما قد يزيد الضغط على الليرة ويقود الى انهيار اضافي في سعر صرفها، بحيث قد نشهد ارتفاعات جديدة ومؤذية جداً للدولار.

هل يعني ذلك، انّه من دون هذه الموازنة سيكون الوضع أفضل؟

الجواب لا. وكل ما نفعله اليوم هو بمثابة لحس للمبرد. ولا حلول خارج اطار خطة إنقاذ شاملة، بالتعاون مع صندوق النقد والمجتمع الدولي، تتماهى معها مشاريع الموازنات المقبلة. وكل ما عدا ذلك، دوران في حلقة مفرغة، واستمرار للسقوط السريع نحو الأعمق والأسوأ. أما نقل الارقام من دفتر المصارف الى دفتر الخزينة، فهو مشهد كاريكاتوري لا يتجاوز سقف المونوبولي، حيث العقارات والمشاريع دمى صغيرة والاموال أوراقٌ للعب واللهو.

سباق الحكومة مع مصرف لبنان… وفي الهريبةِ كالغزالِ

يبدو البلد في هذه المرحلة مشلولاً بشكل كامل، ولولا تركيز الاهتمام على جائحة «كوفيد-19»، لكان المشهد نافراً ومُقزّزاً أكثر. إذ انّ الجائحة خطفت الأنفاس، وغطّت على القرف السياسي الذي وصل الى مراحل متقدّمة من الانحطاط والانفصال عن الواقع الذي يعيشه الناس. وبعد انقشاع غبار الجائحة، وعودة الامور الى طبيعتها، سوف تعود الأزمة الاساسية الى الصدارة، وهي أزمة سياسية قادت الى كارثة اقتصادية ومالية.

من الوجهة المالية والاقتصادية، هناك امكانات وفرص متاحة امام لبنان للخروج من النفق، اذا تمّ عزل العوامل السياسية، وسُمح باتخاذ الإجراءات المطلوبة للحل. وتكمن نقاط القوة التي لا تزال متوفرة حتى هذه اللحظة، بالآتي:

اولاً- احتياطي من الذهب باتت قيمته توازي 80 أو 90 في المئة من حجم الاقتصاد (GDP) الحقيقي، الذي تراجع الى ما بين 19 و20 مليار دولار.

ثانياً- قوى لبنانية عاملة في الخارج، خصوصاً تلك الموجودة في دول الخليج العربي والقرن الافريقي، قادرة على رفد السوق بكمية من الدولارات الطازجة تتراوح بين 6 الى 7 مليارات دولار سنوياً، أي ما يوازي في الوضع الحالي حوالى 70% من حجم الاستيراد. وتشكّل نسبة هؤلاء حوالى 20% من مجموع القوى العاملة في لبنان. وهي من اكبر النسب في العالم.

ثالثاً- كادرات بشرية متخصصة ومتطورة، قادرة على تحويل البلد الى منصّة اقليمية في قطاع اقتصاد المعرفة، برغم المنافسة الاسرائيلية وتقدّمها في السباق، وهو قطاع مفتوح على كل الأسواق العالمية.

رابعاً- شبكة مغتربين موزّعين في كل انحاء الكرة الأرضية، يمكن أن يشكّلوا جسور عبور على المستويين السياسي والاقتصادي، وأرضية جاهزة للدعم المعنوي قبل المادي. هذه الشبكة لا تتوفر بالقوة نفسها في دول كثيرة حول العالم.

خامساً- ثروة نفطية قابعة في المياه الاقتصادية، يصعب تحديد قيمتها الفعلية قبل استكمال عمليات التنقيب.

سادساً- ثروة عقارية غير مُستثمرة تملكها الدولة عبر المشاعات والاملاك البحرية والنهرية…

سابعاً- مؤسسات عامة يمكن تحويلها الى مؤسسات منتجة اكثر ورابحة من خلال الخصخصة، أو الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)، أو حتى من خلال الـBOT.

ثامناً- عقول ومهارات وخبرات بشرية متفوقة على مستوى المنطقة، في قطاعات الاستشفاء والتعليم والمال والمصارف والسياحة، جاهزة لإحداث الفرق عندما يتبدّل المشهد السياسي.

هناك لائحة أطول بنقاط القوة التي لا تزال موجودة، رغم الانهيار المالي والاقتصادي القائم، والذي قد يزداد تعقيداً وصعوبة مع الوقت. لكن المشكلة تكمن في المشهد السياسي. والمقصود هنا، ليس المشهد الحالي المرتبط بتشكيل الحكومة، حيث أصبحنا امام حكومة تصريف أعمال مستقيلة، ورئيس مكلّف عاجز عن التأليف، بل في المشهد الأوسع المرتبط بالنقطة التي يقف فيها البلد، وسط الصراع الاقليمي الذي صار اكثر وضوحاً وشراسة، وينعكس مباشرة على الوضعين المالي والاقتصادي.

لكن هذا الواقع لا يعفي السلطة الحالية بكل مكوناتها، لاسيما منها حكومة تصريف الاعمال من مسؤولياتها. وهي المسؤولة عن هدر حوالى 11 مليار دولار منذ سنة ونيف ولم يرف لها جفن. وهي مستمرة في هذا الهدر تحت عنوان الدعم، رغم علمها بأنّ نسبة صغيرة جداً من الاموال التي تُدفع للدعم تصل الى المواطن المحتاج، في حين انّ القسم الأكبر من الاموال تذهب الى تجار أو متحايلين، أو ميسورين، سواء عبر التهريب الى سوريا أو عبر الإفادة من السلع المدعومة لتحقيق ارباح غير مشروعة، أو لتهريب الاموال الى الخارج، أو حتى للإفادة من استمرار السرقة في الداخل، كما يحصل في العقود التي يتمّ تجديدها بلا أي مجهود لخفض كلفتها، وتُدفع بالدولار.

قد يتراءى للبعض أنّ المواجهة المفتوحة اليوم بين الحكومة ومصرف لبنان ترتبط بتصفية حسابات شخصية، كأن يُقال انّ حاكم المركزي الذي يشعر بالضغط السياسي عليه، من خلال تحريك ملفات قضائية في وجهه، يحاول ان يردّ الصفعة عبر فتح ملفات تدين جهات سياسية بالفساد، كما هي حال الكهرباء مثلاً. لكن الواقع مختلف تماماً، ويشير الى انّ المواجهة أصبحت محصورة في الهروب من ساحة المعركة، بعدما بات اعلان الهزيمة في الحرب على قاب قوسين أو أدنى. وعندما يُهزم بلدٌ في حرب مدمّرة ويُطلب من شعبه دفع الثمن، يتعرّض المسؤولون عن الهزيمة للمحاكمة، سواء المعنوية او الفعلية. وهذا ما يجري اليوم في الصراع بين حكومة تريد أن تخرج بأقصى سرعة لئلا تتحمّل مسؤولية المشهد الاسود الذي ستتضح معالمه قريباً، وبين مصرف مركزي يرفض حاكمه، ومعه المجلس المركزي، أن يكون في الواجهة، عند اعلان الهزيمة.

إرتكزت طبيعة الصراعات في الماضي على النفوذ، وكان كل طرف في المعادلة يستميت في الدفاع عن «حقوقه» في أن يكون صاحب القرار وليس سواه. لكن المواجهة بين الحكومة ومصرف لبنان حالياً، هي في الاتجاه المعاكس، انّها معركة للتخلّي عن النفوذ والقدرة على اتخاذ القرارات. الحكومة تقول لمصرف لبنان انّها غير معنية ولا تستطيع أن تقرّر شيئاً، والمركزي يدعو الحكومة الى تحمّل مسؤولياتها واتخاذ القرارات والتوقيع عليها، لأنّه غير راغب في هذه المسؤولية التي تتجاوز حدود قدراته وصلاحياته.

جرت العادة على أن تكون الصراعات في البلد من أجل انتزاع النفوذ والسلطة، وهو مشهد يعكس الفساد والانحطاط. أما وقد وصل الصراع الى مرحلة القتال من أجل التخلّي عن سلطة القرار، فهذا يوضح أين أصبح البلد اليوم، وأين سيكون غداً.

انطوان فرح.

مواجهة مفتوحة بين الحكومة ومصرف لبنان

يرفض مصرف لبنان أن تتعامل معه الحكومة على قاعدة « take it or leave it « في ما يتعلّق بتمويل نفقات الدولة على سعر الصرف المدعوم ممّا تبقّى من احتياطي عملات أجنبية يحاول البنك المركزي منفرداً ترشيد استهلاكها من اجل إطالة أمد الدعم الى أطول فترة ممكنة، وضمان ديمومة عمل المَرافِق العامة وتوفير الحاجات الاساسية لتيسير الامور الحياتية للمواطنين.

وبما انّ قطاع الكهرباء يعدّ من الامور الحيوية التي لا يمكن التفريط بها، أكد مصرف لبنان أنه يتعاون إيجاباً في هذا الملف، وهو على استعداد لتأمين السيولة المطلوبة بالعملات الاجنبية لتمديد عقد تشغيل وصيانة معملي دير عمار والزهراني وتفادي غَرق البلاد بالعتمة، إلّا انه يجد نفسه الجهة الوحيدة الحريصة على ما تبقى من احتياطي عملات أجنبية وعلى ضرورة ترشيد الدعم، في حين تمارس كل الجهات المستفيدة من الدعم، إن كانت الوزارات او المؤسسات الادارية او الشركات والتجار، سياسة الضغط من خلال تَخييره بين الظلمة او الدعم وبين انقطاع المواد والسلع أو الدعم، غير آبهة بترشيد حاجاتها من الدولارات وتقليصها، مع العلم انّ الوضع المالي والنقدي لم يعد يحتمل أي تقاعس في ادارة الأزمة.

مصادر في مصرف لبنان أكدت لـ»الجمهورية» انه مع انعدام القدرة على تعزيز احتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية في مقابل ارتفاع حاجات الإنفاق، يحاول المجلس المركزي في مصرف لبنان التعاون بشكل إيجابي مع الحكومة والفرقاء السياسيين من أجل تجنيب البلاد انفجاراً اجتماعياً مع الحفاظ في الوقت نفسه على ما تبقّى من دولارات لدعم أي خطة اقتصادية ستضعها الحكومة المقبلة في حال تشكيلها.

وأشارت المصادر الى انه في حال التوافق مع صندوق النقد الدولي على برنامج إنقاذ، فإنّ الحد الأقصى للدعم المالي السنوي سيبلغ حوالى ملياري دولار في حين «اننا اليوم نقوم بإنفاق 6 مليارات دولار سنوياً على الدعم من دون أي خطة إصلاحية، ما يؤدي الى هدرها»، مشددة على ضرورة تشكيل حكومة جديدة تضع خطة لاستغلال تلك الاموال المتبقية في إطار خطة اقتصادية ومالية واضحة.

وحول سيناريوهات ترشيد الدعم التي وضعتها الحكومة، اعتبرت مصادر البنك المركزي انه من المفترض وضع خطة واحدة للدعم تتناسَب والوضع المالي للبلاد، وتقطع الطريق امام عمليات التهريب والتخزين والاحتكار القائمة، وتفيد بشكل أساسي الأسَر الاكثر فقراً، وليس خطط دعم «شعبوية».

وأسِفت لأنّ الوقت يمرّ من دون التوصل بعد الى أي قرار او خطة في شأن ترشيد الدعم، «بل كلّ ما يُعرض علينا هو سيناريوهات بعيدة جدّاً من أي ترشيد فعليّ وجدّي للدعم»، موضِحة انّ تلك السيناريوهات تعتمد على تحديد الكميات التي يتم دعمها واقتراحات، على سبيل المثال، بخفض قيمة دعم بعض السلع بـ100 مليون دولار في مقابل زيادة حجم دعم سلع أخرى بالقيمة نفسها.

وسألت: هل اقتراح خفض فاتورة الدعم السنوية البالغة 6 مليارات دولار بمقدار 300 مليون دولار، يُعدّ ترشيداً للدعم؟

بيان مصرف لبنان

وبالعودة الى أزمة الكهرباء، أصدر مصرف لبنان امس بياناً أكد فيه حرصه «على المصلحة العامة، وعلى استمرارية عمل المرافق العامة وفي مقدمتها كهرباء لبنان، وتأمين السلع الاساسية»، مُذكّراً بمراسلاته خلال الأشهر الستة السابقة مع وزارة المالية، المتعلقة بالوضع المالي العام لمصرف لبنان وضرورة ترشيد سياسة الدعم.

وقال: بما أنه، ولاستمرار قيام مصرف لبنان بمهامه في هذه الأزمة الحادة، والمَنصوص عنها في المادة 70 من قانون النقد والتسليف المتعلقة بالمحافظة على النقد لتأمين نمو اقتصادي واجتماعي دائم، وبما أنّ مصرف لبنان يستخدم موجوداته المحدودة بالعملات الاجنبية بناء على مسؤوليته الوطنية،

وعطفاً على طلبات شركة كهرباء لبنان والوزارات المعنية بالدعم، وطلبات المستوردين للمواد المدعومة، فإنّ مصرف لبنان كان قد أرسل كتاباً الى وزير المالية في 12 شباط 2021 يفيد فيه الآتي بيانه:

– ضرورة اعتماد خطّة فورية لترشيد الدعم مع تحديد الأولويات ومصادر تمويلها الأمر الذي يدخل في صُلب مهام الحكومة، وإبلاغ مصرف لبنان بها، علماً أنّ أي تأخير في ذلك له تداعيات سلبية على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي.

– ضرورة تحديد الاجراءات التي ستتخذها الحكومة لتأمين العملات الأجنبية اللازمة للمصاريف والمستوردات الأساسية.

– يقترح مصرف لبنان على وزير المالية، بالتعاون مع وزير الطاقة ومدير عام شركة الكهرباء، وضع دراسة شاملة على كل العقود الموقعة من قبل شركة كهرباء لبنان تشرح فيها طريقة اختيار الشركات المتعاقدة والتأكد من عدم وجود وسائل بديلة لتخفيض التكاليف، وهذا ما كان قد اقترحه مصرف لبنان مراراً خلال اجتماعات الاشهر الماضية مع معالي وزير الطاقة وشركة الكهرباء، وعلى أن تكون هذه الدراسة علنية ومتوفرة للعموم لِفَسح أوسع مجال للمشاركة في هذه المسؤوليّة الوطنية.

– ضرورة أن يكون هناك موافقة خطية على كل الفواتيرالمعروضة للدفع من شركة كهرباء لبنان وكافة الوزارات المعنية والمستوردين المعتمدين، من قبل مركزية واحدة تقررها الحكومة. على أن تحدّد الحكومة الأولويات، وتُؤكِّد مع المركزية على احترام آلية الدفع المتفق عليها مع مصرف لبنان، وتحمّل مسؤولية كلفة الدعم بالعملات الاجنبية وأي هدر أو سوء استعمال ينتج عنها.

وقد طلب مصرف لبنان من وزير المالية الإجابة بالسرعة الممكنة نظراً لحساسية الوضع الحالي وحفاظاً على استمرارية عمل المرافق الاساسية كافة».

أزمة الكهرباء

تجدر الاشارة الى انّ الشركة الأميركية primesouth المُشغّلة لمعملي الزهراني ودير عمار يتنهي عقدها يوم الاثنين 15 شباط 2021، وتهدّد بالانسحاب وتسليم معملي إنتاج الكهرباء لمؤسسة كهرباء لبنان التي طالبت بدورها بتمديد العمل للشركة، وحصلت على موافقة وزارتي المالية والطاقة. لكنّ الشركة الاميركية رفضت التمديد قبل دفع مستحقاتها السابقة البالغة قيمتها 45 مليون دولار، ومستحقاتها الجديدة للعام المقبل والبالغة 60 مليون دولار. وقد عُقدت اجتماعات عدّة في هذا الاطار بين وزير الطاقة ريمون غجر ومدير عام مؤسسة كهرباء لبنان كمال حايك ومسؤولين في مصرف لبنان للتوصّل الى صيغة حول كيفية تأمين مستحقات الشركة والاتفاق معها قبل يوم الاثنين المقبل وتفادي غرق البلاد في العتمة، علماً انّ الطاقة الكهربائية المنتجة من قبل معملي دير عمار والزهراني تشكل حوالى 10 ساعات من التغذية الكهربائية يومياً.

ووفقاً لِما يتم التداول به فإنّ الكرة اليوم في ملعب مصرف لبنان الذي تنتظر وزارة الطاقة جواباً منه حول إمكانية تأمين المبالغ المطلوبة بالدولار.

رنى سعرتي

أين إعادة الودائع من إعادة رسملة المصارف؟

إستقطبت المتابعين للوضع المصرفي في لبنان قضية إعادة رسملة المصارف وإعادة هيكلة القطاع وإعادة النظر بانخراطه في تمويل الدولة، فيما الهاجس الأساسي للناس يكمن في كيفية إعادة الودائع! فما هي أهمية استحقاق زيادة رسملة المصارف وزيادة احتياطاتها لدى المصارف المراسلة؟ وأين «يصرف» المودعون حصيلة كل التعاميم المتلاحقة؟ إنّ القراءة المتأنية تتطلّب تحديد إشكالية أزمة ودائع الناس لدى المصارف وأزمة المصارف في توظيفاتها من جهة، ثم تحديد مدى انعكاس الاجراءات الجديدة على تخفيف المخاطر عن المودعين أو المساهمة في تحسين الدفاع عنها من جهة أخرى.

أمام عتبة استحقاق شباط 2021 الذي يوجِب على المصارف، وفق تعاميم المصرف المركزي، توفير سيولة بنسبة 3% من ودائعها بالعملات الأجبنية لدى المصارف المراسلة وزيادة رأسمالها بنسبة 20%، لا بد من التذكير أنّ النشاط المصرفي بمجمله لقانون التجارة (1942) ولقانون النقد والتسليف (1963)، وأنّ المصارف والمؤسسات المالية الأخرى في لبنان تعمل تحت إشراف مصرف لبنان، أي المصرف المركزي الذي يشكّل السلطة النقدية الناظمة لعمل المصارف في البلاد. فالمصرف المركزي هو مصرف المصارف ومصرف الدولة في آن، وهو الذي يمنح الترخيص لإنشاء مصارف جديدة، ويحدّد مجال عملها، ويرسم أصول المهنة ويفرض القواعد الاحترازية التي ينبغي أن يعتمدها القطاع.

أما الهيئة الرقابية فتتمثّل في لجنة الرقابة على المصارف التي أُنشئت في العام 1967، والتي تتولّى مراقبة نشاط المصارف، وتتأكّد من حسن تطبيق القوانين والأنظمة المرعية.

ولقد ازدهر القطاع المصرفي في ستينات القرن العشرين، وهي المرحلة التي شهدت انطلاقة هذا القطاع وانتعاشه، إلى أن حصلت أزمة بنك انترا (1966).

وقد أعقبتها فترة الإزدهار النسبي قبل تجمّع عوامل أزمة الثمانينات التي اقتصرت على التضخّم المفرط وتدهور سعر صرف الليرة، كون المصارف لم تكن بعد غارقة في تمويل القطاع العام العاجز عن التسديد، لا سيما في العملة الأجنبية، كما أصبحت عليه الحال تِباعاً منذ منتصف التسعينات، وبدأ انكشافه مع تراكم عجز ميزان المدفوعات وتقلّص الدولارات في البلد وانغماس القطاع المصرفي في استقطابات الدولار لتمويل كّل من الدولة (عبر الاكتتاب بالأوروبوند) وحاجات المصرف المركزي (عبر شراء شهادات الايداع بالدولار الأميركي لتعزيز احتياطي مصرف لبنان بالدولار، الضروريين لاستمرار الدفاع عن ربط سعر الصرف بحدود 1507.5، بغضّ النظر عن كل تدهور المؤشرات الماكرو-اقتصادية وعجوزات ميزان المدفوعات، وإن لتلبية احتياجات الاستيراد في بلد يشكّل فيه الاستيراد أكثر من 80% من الاستهلاك، ويتم فيه تعويم نمط عيش أعلى من إمكانية معظم المواطنين بين مروحة القروض التي تم إغراق معظم المواطنين فيها بالدولار الأميركي لشراء السيارات والمفروشات والسفر والسياحة، وحتى عمليات التجميل… من دون أدنى تحذير لهم نظراً لأنّ معظمهم من أصحاب الرواتب المتواضعة بالليرة اللبنانية، التي يستحيل أن تصمد إزاء أي تدهور في سعر الصرف. وها هي السلطات النقدية قد اضطرت لفرض استمرار تسديدها حتى اليوم على أساس سعر الصرف 1507.5..)، فباتت المصارف في المقابل عاجزة عن استرداد دولاراتها الموظف منها لدى الدولة على شكل يوروبوندز، أو لدى المصرف المركزي على شكل شهادات إيداع بالدولار، أو لدى هذه الشرائح من القطاع الخاص من مواطنين اقترضوا بالدولار وبالكاد رواتبهم بالليرة تسمح لهم التسديد على سعر الصرف القديم.

الانكشاف السيادي للمصارف اللبنانية

أبعد من سندات اليوروبوندز التي تحملها المصارف اللبنانية بالدولار الأميركي واليوروبوندز التي يحملها المصرف المركزي، من الضروري الإشارة الى أنّ الجهاز المصرفي اللبناني لديه مصادر قلق أخرى من الانكشاف السيادي. فبالإضافة إلى اليوروبوندز التي يحملها القطاع المصرفي، تُظهِر أرقام وكالة «بلومبرغ» أن المصارف اللبنانية اشترت شهادات إيداع بالدولار الأميركي من المصرف المركزي حتى باتت عليه التزامات بقيمة 52.5 مليار دولار على شكل ودائع بالعملات الأجنبية وشهادات إيداع بالدولار الأميركي يعود معظمها الى المصارف اللبنانية، أي أنها توظيفات من مجموع مدّخرات المودعين اللبنانيين بالعملات الأجنبية. وعلى رغم أنّ القليل من شهادات الايداع يستحق هذا العام أو العام المقبل، فإنّ أكثر من 8 مليارات دولار تستحق في 2022 و2023.

كذلك، من المفيد الاشارة الى أنّ معدل الاحتياطي الالزامي على الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف هو 15%، ما يعني أنّ مقابل مجموع الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف، التي انخفضت من 120 قبل اندلاع الأزمة الى حوالى 112 مليار دولار اليوم، انخفضت الحاجة الى الاحتياطي الالزامي لدى مصرف لبنان من 18 الى 17 مليار دولار (15% من الودائع بالدولار الأميركي) على شكل احتياطي إلزامي بالعملات الأجنبية، تُضاف الى الأعباء بالعملات الأجنبية التي يفترض أن تكون لدى المصرف المركزي إمكانية تغطيتها (علماً أنّ معدل الاحتياطي الالزامي هو 25% على الودائع الجارية بالليرة اللبنانية و15% على الودائع المجمّدة بالليرة اللبنانية).

القروض المتعثّرة للمصارف وجمود النشاط الاقتصادي

الى جانب الانغماس بالانكشاف على الدين السيادي للدولة وشهادات الايداع بالعملات الأجنبية، تواجه المصارف اللبنانية مخاطر انعكاسات جمود النشاط الاقتصادي وتوقّف الطلب على التسليفات، كما توقف تدفّق الرساميل من الخارج وزيادة الودائع في الداخل، والتوجّه المعاكس نحو تقليصها أكثر من قبل أصحابها الى الحد الأدنى الممكن، إن من خلال استخدامها لسدادٍ مُسبَق لتسليفاتهم أو السحوبات المستمرة بالدولار الأميركي في بداية الأزمة كما بالليرة اللبنانية حالياً ولو على سعر المنصة 3900، أو حتى من توجّه كثيرين الى ما يُعرف بأدوات الحماية من المخاطر عبر شراء الذهب أو الاستثمار العقاري.. علماً أنّ لهذا الأخير إيجابيات كثيرة، لا سيما في تسييل عقارات كانت مجمّدة بفعل الأزمة فيما أصحابها مديونون للمصارف ويهمّهم إطفاء أكبر جزء من ديونهم ولو بشيكات مصرفية، بغض النظر عن إمكانية سحبها نقداً.

من هنا، تفتح الأزمة الاقتصادية باب مخاطر القروض المتعثّرة لدى المصارف، والتي لا تقلّ أهمية عن مخاطر الانكشاف السيادي، مع الاشارة الى أن التسليفات المصرفية بالعملات الأجنبية للقطاع الخاص اللبناني تتراوح بحدود 30 مليار دولار، وتسعى تعاميم المصرف المركزي على احتوائها من خلال العمل على وضع سقوف على الفوائد الدائنة، وتخفيض الفوائد المدينة بشكل مباشر، وتوجيه المصارف لإعادة هيكلة الديون المتعثّرة عبر إطالة الأجال، وإعادة النظر بالشروط الى جانب الالتزام بالتعاميم الجديدة الصادرة عن المصرف المركزي، والتي تنص على تخفيض معدلات الفوائد…

كما أنّ الإجراءات الحالية من ضبط حركة الرساميل بسبب الأزمة في غياب نص قانوني جامع وضوابط موحّدة، جمّدت كلياً إقدام غير المقيمين وحتى المغتربين عن إرسال التحاويل، لا بل أدت الى قلق المقيمين على ودائعهم، إن كان بالعملات الأجنبية أو حتى بالليرة اللبنانية، ما يدفعهم يومياً الى نشاط مصرفي باتجاه واحد هو سحب الأموال وتخزين الأوراق النقدية إن كان بالدولار أو حتى بالعملة الوطنية، ما ينسف النظام المصرفي ككل ويدفع باتجاه الاقتصاد النقدي cash economy، فيضرب إمكانية استعادة المصارف دورها في التسليف أيّاً كانت شروطها لافتقاد ثقة العملاء بإيداعها مدّخراتهم.

أزمة السيولة بالدولار وتراكم عجز ميزان المدفوعات وازدواجية سعر الصرف

تعتمد المصارف اللبنانيّة على حساباتها لدى المصارف المراسلة في الخارج (القطاع المالي غير المقيم) لشراء الدولارات الورقيّة وشحنها إلى لبنان، لتأمين السحوبات النقديّة لزبائنها. كما تعتمد المصارف على هذه الحسابات لسداد ديونها في الخارج، وإجراء الحوالات لعملائها، خصوصاً بعد تشدد مصرف لبنان في استعمال الاحتياطي المتوفّر لديه من العملة الصعبة.

وتبيّن الميزانيّات المجمّعة للمصارف اللبنانيّة أنّ هذه المصارف خسرت خلال عام 2019 وحده ما نسبته 43.56% من قيمة حساباتها لدى القطاع المالي غير المقيم (أي المصارف المراسلة)، فضلاً عن انعكاس أثر السحوبات النقديّة الكثيفة والمستمرّة منذ 17 تشرين الأوّل 2019. وكان واضحاً أنّ استمرار المصارف في توفير السحوبات النقديّة لعملائها بالدولار سيكون مسألة متعذّرة خلال الفترة المقبلة، إلا إذا سمح مصرف لبنان باستعمال الاحتياطي الذي يملكه من العملة الصعبة لهذه الغاية، والذي يمثّل كما سبق وذَكَرنا جزءاً من ودائع المصارف بالعملات الأجنبية لديه عبر شرائها لشهادات الايداع بالعملات الأجنبية…

وعلى خط مواز، وحتى قبل اتخاذ الإجراءات المكبّلة لحركة الرساميل، كان لبنان يعاني في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ العام 2011، انقلابَ وضعِ ميزان المدفوعات وتحوّله الى سلبي بشكل مستمر مع تراجع ميزان الرساميل وعدم إمكانيته التعويض عن العجز الهائل في الميزان التجاري الذي تخطى سنوياً 17 مليار دولار أميركي.

هذا التراجع في استقطاب العملات الاجنبية وعجوزات ميزان المدفوعات كانا يضغطان بشكل متزايد على سوق القطع، الذي يعتمد منذ عام 1997 على ربط سعر صرف الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي على أساس 1507.5 ليرة للدولار. إلّا أنّ انفجار الأزمة ومحدودية الاحتياطي بالعملات الأجنبية وأولويات استخدامه بين تلبية استحقاقات داهِمة بالدولار الأميركي قبل بَت إعادة هيكلة الدين العام وتمويل استيراد مواد أساسية من قمح ودواء ولوازم طبية ومشتقات نفطية، في ظل تزايد الطلب على الدولار في السوق، جَمّد إمكانية الصرف في القطاع المصرفي الذي أبقى على السعر الرسمي 1507.5 من دون إمكانية التحويل في المصارف ولا التحويل الى الخارج، حتى تضاعَف الطلب على الدولار لدى الصرافين، وأفلتَ السوق من إمكانية ضبطه فظهرَ سعراً موازياً للدولار أعلى من السعر الرسمي، فتهاوى معه الهدف الأساسي للمصرف المركزي المتمثّل بحماية القدرة الشرائية والاستقرار النقدي من تقلبات سعر الصرف وموجات التضخم.

أفق مخارج الأزمة وانعكاساتها على المودعين

بين تعاميم البنك المركزي لزيادة الرسملة وزيادة السيولة لدى المصارف المراسلة بنسبة 3%، قد تتمكن بعض المصارف من تعزيز وضعها في السوق، لا سيما تلك التي تبيع أصولها في الخارج. لكنّ التعاميم تسمح بإعادة تقويم العقارات التي تملكها المصارف كجزء من موجوداتها الأساسية والموجودات التي استحوذت عليها من المقترضين مقابل القروض المتعثّرة، واستعمال الارتفاع في قيمة العقارات لتحقيق الزيادة المطلوبة في الرساميل، ما يجعل تحقيق زيادة الرساميل مسألة دفتريّة ومحاسبيّة لا تحقق أي تغيير في سيولة المصارف وقدرتها على سداد التزاماتها للمودعين حالياً بانتظار تحسّن وضع القطاع العقاري والتمكّن من تسييلها.

أمّا عجز المصارف في التزاماتها لدى المصارف المراسلة في الخارج، فيجعل من الصعب عليها تحرير فائض من زيادة السيولة لإحداث أي حَلحلة لجهة تحرير ودائع زبائنها بالدولار الأميركي.

أما عودة الانتظام إلى القطاع فتتطلّب خطة متكاملة على مستوى الحكومة، وتحديد الخسائر المنتظرة في القطاع والطريقة العادلة لتوزيعها من جهة أخرى، على أن تكون عمليّة إعادة هيكلة المصارف وإعادة رسملتها إحدى أجزاء هذه الخطة الكاملة.

هذه الخطة تتطلّب إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة رسملته، مع التشديد على ضرورة الضخّ المباشر للأموال في رؤوس أموالها من المساهمين، علماً أنّ هوية المساهمين وإمكاناتهم وإرادتهم لها تأثيراتها الأساسية في إمكانية تحقيق هذه الخطوة، فضلاً عن إمكانية دخول المستثمرين الجدد في المرحلة التالية، ما يجعل إعادة هيكلة القطاع أمراً ملحّاً قبل التوجّه الى مستثمرين جدد أو حتى لاستمزاج كبار المودعين بالمساهمة في زيادة الرساميل، ليكون معروفاً أي مصارف، أو بالأحرى أي مجموعات مصرفية، ستكون محتلّة المشهد الجديد للقطاع.

وإذا كانت أبرز التحديات المستقبلية أمام المصارف اللبنانية تكمن في اكتساب الثقة لاسترجاع الأموال المخزّنة في المنازل من جهة وإعادة استقطاب الرساميل من الخارج، فمن المعروف أنه يصعب استعادتها من الكثير من المصارف الموجودة حالياً بعد اهتزاز العلاقة بين طرفي العقد من مصارف ومودعين، والمسألة باتت تتطلّب مشهداً جديداً قادراً بأن يوحي بالفرق ويحقّقه فعلاً.

ولكن حتى لو لم تكن عمليات الدمج والاستحواذ كافية في القطاع المصرفي، فالأساس يبقى في التقويم العلمي الحقيقي لواقع أصول المصارف لتحديد المصارف ذات المخاطر الكبرى وغير القابلة على الاستمرار، كما تحديد المصارف المتمكّنة ضمن مجموعات مصرفية ذات رسملة جيدة ولو استعانت بمساهمة من كبار مودعيها لتعزيز رسملتها ومكانتها في السوق، ووضع الآلية المناسبة لإيفاء الدولة الالتزامات تجاهها بعد وضع أطر إعادة هيكلة الدين، طالما من المرجّح أنها لا تزال تحمل سندات خزينة وشهادات إيداع لدى المصرف المركزي. وذلك يكون من خلال برامج إشراك المصارف في المرافق الحيوية للدولة لاستعادة كامل الأموال المستثمرة من قبلها لدى الدولة المتعثّرة، وهي أموال المودعين، فيكون بذلك تحقق الإصلاح باتجاهين: الاتجاه الأول عبر وضع برنامج واضح لإعادة حقوق المصارف والمودعين، والاتجاه الثاني هو إنقاذ المرافق العامة عبر إشراك القطاع الخاص بكل فعاليته وإنتاجيته في ملكيتها وإدارتها بما يحسّن كل نوعية أدائها.

للمرة الأولى يطرح ملف إعادة هيكلة القطاع المصرفي باتجاه البناء الصلب لقطاع متين بمؤسسات شفافية وفعالة بعيدة عن كثافة الأسماء والمنافسة غير الجديرة وأوهام الفوائد المضخّمة والأرقام غير الواقعية وتوجيه الادّخار نحو تمويل قطاع عام عاجز في ظل اختناق قطاع خاص… فهل يكون كل ذلك فرصة لاستعادة الثقة ببناء متين يستحق تحمّل الكلفة وعناء الصبر لاستعادة الحقوق؟

د. سهام رزق الله