أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

تثبيت الليرة على 5500 مشروع قابل للتنفيذ؟

بعد رواج مصطلحات التدقيق الجنائي، ومن ثمّ الدعم، دخل مصطلح جديد الى «الساحة» المفتوحة على التجارب اللفظية، اسمه «مجلس النقد». وهو مصطلح بدأ يسمع به اللبنانيون بقوة في الأيام القليلة الماضية، ويتمّ تصويره وكأنه الحل السحري الذي سيُعيد الى الليرة رونقها، ويحمي البلد من «جهنم» الموعود.

فيما يستمر المشهد السياسي على مساره المعقّد، وتمضي الامور على رتابتها القاتلة، وتبقى البلاد بلا حكومة رغم دقة الوضع الذي وصل الى مرحلة بات يُسمح معها بالقول انّ لبنان يواجه خطر الزوال، يتمّ ملء الفراغ باقتراحات وأفكار لا ترتقي الى مستويات المرحلة. هذه الأفكار، على أهميتها أحياناً، تأتي في سياق منفصل عن الحل الشامل الذي باتت خارطة طريقه معروفة، وهي ترتكز على حكومة مستقلة تتولى وضع خطة إنقاذ شاملة، تتماهى ومتطلبات المجتمع المحلي والدولي، وتمرّ حُكماً في صندوق النقد الدولي.

خارج هذا الاطار، يَجهَد البعض في تقديم أفكار واقتراحات، يتلقّفها المجتمع المحلي المُتعطّش الى خشبة خلاص يمكن أن تنشله من حال الغرق المستمر منذ أشهر طويلة. آخر وأحدث الاقتراحات التي يجري التداول بها تتعلق بتشكيل مجلس للنقد (currency board) يتولى عملية انتشال الليرة من انهيارها، ويُثبّت سعر صرفها منعاً لمزيد من التراجع في قيمتها في المستقبل. ويعطي المتحمّسون للفكرة أرقاماً مُسبقة عن السعر الذي يمكن اعتماده لتثبيت الليرة، وهو بين 5000 أو خمسة 5500 ليرة للدولار الواحد. (سعر الصرف حالياً في السوق السوداء حوالى 8300).

ما قصّة مجلس النقد هذا، القادِر على اجتراح العجائب، وهل صحيح انه المَمر الآمن نحو سعر صرف ثابت في هذه الظروف الصعبة، التي يخشى معها اللبناني ان يستمر تدهور سعر صرف عملته الوطنية في المرحلة المقبلة، وصولاً الى أرقام تضخمية خطيرة تشبه تلك التي بلغتها دول تعرّضت للانهيار المالي والحصار الاقتصادي؟

قبل الوصول الى الحكم النهائي على دور وأهمية مجلس النقد الذي يتمّ الترويج له، لا بد من تقديم لمحة ولو موجزة عن ماهية هذه المؤسسة، كيف تعمل؟ أين عملت؟ وما كانت النتائج؟ وعليه، يمكن إيراد الملاحظات والحقائق التالية:

اولاً – عبر التاريخ، كانت مجالس النقد قائمة فقط في الدول المُستَعمَرة. وانتشرت بصورة خاصة في دولٍ استعمرتها بريطانيا، وبقيت تابعة لسلطتها. وفي كل مرة حصلت فيها دولة على استقلالها، كانت تتخلى عن مجلس النقد، وتؤسّس مصرفاً مركزياً. وهكذا تحوّل وجود مصرف مركزي الى مؤشّر لاستقلالية الدولة من الوجهة المالية والاقتصادية. وعليه، لا يمكن تقييم نتائج تجارب هذه المجالس ومقارنتها بالوضع الراهن للدول، بعد زوال حقبة الاستعمار في العالم.

ثانياً – في العصر الحديث، توجد تجارب عدة في موضوع مجلس النقد، منها ما اعتُبر فاشلاً مثل التجربة الارجنتينية التي بدأت في العام 1991 وانتهت في 2002. وبعضها يعتبره البعض ناجحاً، ولو انه يحتاج الى مزيد من التدقيق مثل التجربة البلغارية. كذلك خاضت تجربة مجلس النقد كل من ليتوانيا واستونيا والبوسنة. وكل هذه التجارب لا تزال تخضع لعملية تقييم لمعرفة نتائجها الحقيقية على الاقتصاد، خصوصاً انّ هذا النوع من السياسات النقدية يحتاج فترة زمنية طويلة للحُكم على نتائجه.

ثالثاً – لا توجد دول متطورة ومستقرة تعتمد في سياستها على مجلسٍ للنقد، بل ينحصر وجود هذه المجالس في دول تعاني أزمات وأوضاعاً استثنائية، ولذلك يُستخدم مصطلح CBA currency board arrangement للدلالة على الطابع الاستثنائي والتسيوي لإنشاء هذا النوع من المؤسسات.

في المحصّلة، ينبغي أن يكون معروفاً انّ الدور الحصري تقريباً لمجلس النقد هو المحافظة على سعر صرفٍ ثابت من خلال ربط عملة البلد المُستهدف بعملةِ بلد آخر متطور. ويستند هذا المبدأ على فكرة الربط الكامل بين عملتين: واحدة تابعة وأخرى مَتبوعة. ولا يمكن تطبيق هذا المبدأ من دون الاستناد الى تغطية بالعملة التي يختارها أي مجلس نقد لتشكّل الاحتياطي الذي يمكن الاستناد اليه لطباعة العملة وتحديد حجم الكتلة النقدية. والمبدأ بسيط، ويقضي بعدم طباعة أي ورقة نقدية لا تُؤمَّن تغطيتها بالعملة الصعبة. ويبقى الهدف من هذا الاجراء وقف نمو التضخّم، وتحديد سعر منخفض للفوائد.

لكن هذا المبدأ على بساطته لا يمكن تطبيقه بالبساطة نفسها، ويكاد يكون نجاح تجربة مجالس النقد أو فشلها شبيهاً بتجارب النجاح والفشل في تعاون الدول مع صندوق النقد. البعض ينجح والبعض الآخر يفشل، والمعيار هنا في الاجمال، التطبيق الدقيق للخطط والقوانين، ووضعية كل دولة.

هل تنطبق معايير نجاح تجربة مجلس النقد على الوضع اللبناني؟

اسئلة كثيرة ينبغي أن تتأمّن الاجابة عنها لمعرفة الجواب، منها:

أولاً – ما الفرق بين تجربة تثبيت سعر صرف الليرة التي قد يتولاها مجلس النقد، وتجربة التثبيت التي قام بها مصرف لبنان على مدى عشرين عاماً؟

ثانياً – ما هو الاحتياطي النقدي من العملات الصعبة التي سيستند اليها مجلس النقد لتحديد سعر صرف الليرة، وهل انّ الاحتياطي الالزامي الباقي في المركزي ثابت لاعتماده، ام انه متحرّك وبتصرّف السلطة التي تفكر في استخدامه لاستكمال الدعم ولو تحت مُسمّى الترشيد؟

ثالثاً – ما تأثير وجود مجلس للنقد على القطاع المصرفي الذي سيتم الاعتماد عليه، رغم فقدان الثقة به حالياً، للنهوض بالبلد مجدداً عندما يحين موعد تنفيذ خطة للانقاذ؟

رابعاً – ما رأي صندوق النقد الدولي بهذا الموضوع، وهل يمكن اعتماد هذا الخيار من دون موافقته؟

هناك اسئلة اضافية ينبغي أن تُطرح قبل إبداء الحماسة لإنشاء مجلس للنقد، والأمر يحتاج الى دراسة مُعمّقة وهادئة، وليس الى مزايدات في طرح الاقتراحات، على طريقة «أنا اقترح إذن أنا موجود».

انطوان فرح.

عن ازمة لبنان المالية: المستثمرون في الأسهم يقبضون بـ”اللولار”.. ويدفعون الثمن الأكبر

شركات التداول تُجبر المساهمين على بيع أسهمهم بـ”اللولار”
نقمة الدفع بـ”اللولار” بدلاً من الدولار بنسبة تقل، اليوم، 50 في المئة عن السعر الحقيقي.. تحولت إلى فرصة لقلة قليلة من المضاربين. فبين السعرين هامش كبير من الإستفادة ممكن ان “تقطفه” شركات تداول الأسهم بجرة قلم إغلاق الحسابات، وتصفية الاستثمارات وإرجاعها بـ… “اللولار” طبعاً.

بكثير من الدهشة والإستغراب تلقّى المستثمرون مع شركة Royal Financials المتخصصة في تجارة الأسهم والسندات، كتاب إغلاق جميع حسابات الأسهم والعقود الآجلة. وذلك “بسبب التغييرات غير المتوقعة التي طرأت على الأنظمة المصرفية اللبنانية والأسواق المالية بشكل عام”، بحسب نص الكتاب. الخبر يبدو لغاية الآن عادياً. وهو يحصل مع الكثير من الشركات التي توظف وتستثمر أموال العملاء في الأسواق المالية وتجارة الأسهم والعملات والسندات وخلافه.. إنما المفاجأة كانت ان الشركة التي طلبت من العملاء إغلاق جميع مراكزهم في غضون 30 يوماً من تاريخ تلقي الكتاب وعدم اتخاذ أي مراكز جديدة، حددت بما لا لبس فيه ان العملاء سيتمكنون من سحب أموالهم أو استرجاعها عبر شيك أو حوالة مصرفية إلى أيٍ من المصارف اللبنانية. بعبارة أخرى، فان المستثمرين سيخسرون نصف المبالغ المدفوعة بالدولار عند الاستثمار بفعل الفارق الكبير بين الدولار الطازج والدولار المحلي أو اللولار.

الأسهم موظفة في الخارج
قد يكون مفهوماً أن تلجأ شركة ما توظف أو تستثمر في اسهم الشركات اللبنانية، على قلتها، اللجوء إلى مثل هذا التدبير. إنما وبحسب أحد العملاء فان الشركة توظف الأموال في الخارج، وهي تشتري باسمها لصالحهم أسهماً تتداول في الأسواق العالمية. لذا من واجبها إرجاع الأموال بالدولار النقدي “الطازج” كما ستقبضه من الخارج.
إصرار الشركة على ضرورة إقفال العملاء لحساباتهم فوراً لانها “مباشرة” ستقفل جميع الحسابات، قوبل برفض حاملي الأسهم التوقيع على الكتاب في الوقت المحدد وإبراء ذمة الشركة.. مما اضطرها، بما يناقض إدعاءاتها السابقة، إلى تمديد فترة الإغلاق شهرين إضافيين بشرط قبول العملاء تقاضي أموالهم بشيك مصرفي، وهذا ما أثار أيضاً العديد من التساؤلات.

العملاء مجبرون على البيع بـ”اللولار”
عادة في مثل هذه الحالات التي تضطر فيها شركات التداول إلى الإقفال أو وقف التداول بالأسهم والسندات لمختلف الأسباب، تُترك الحرية متاحة أمام العملاء الذين لا يرغبون في بيع أسهمهم، نقلها إلى شركة أخرى. وهذا ما لم توفره شركة “رويال فاينانشل”، بحسب العملاء. فهي تجبر العملاء على البيع وقبض الثمن بشيك أو حوالة، بحجة أنهم (المستثمرون) اشتروا الأسهم بنفس الطريقة منذ نحو 3 سنوات. ولكن من وجهة نظر العملاء فانه “عند الشراء لم يكن هناك من فرق بين شيك الدولار أو الحوالة، والدولار الفعلي، هذا أولاً. أما ثانياً فان حجة الشركة أنها اشترت الأسهم بأموالها وأبقت أموال المستثمرين في لبنان، تنافي المنطق”.

الاستدانة على الأسهم!
أحد الخبراء في الأسواق المالية يلفت إلى انه “من المستحيل لمن يملك سهماً يُتداول خارج لبنان أن يتقاضى ثمنه بغير الدولار الطازج. وذلك لأن أرباح الأسهم في الخارج او عائد بيعها يسدد في الخارج. وأي عملية دفع لحاملي الأسهم بغير هذه الطريقة تعتبر سرقة موصوفة، لان قيمة الدولار الداخلي تقل بنحو 50 في المئة أو حتى أكثر عن قيمة الدولار الخارجي. وبالتالي فان الفارق بين الدولار المحلي والدولار الطازج يذهب لصالح الشركة في حين يخسر المستثمر ما لا يقل عن نصف أمواله”.
هناك الكثير من الحالات المشابهة تحصل مؤخراً في لبنان بشكل كبير. لكن ما حصل ان الكثير من شركات التداول استدانت على أسهم عملائها، ووظفت الأموال في لبنان وتحديداً في المصارف للاستفادة من الفوائد الخيالية على الدولار التي كانت تعطيها البنوك. في هذه الحالة لا يعود للشركة من مفر إلا الدفع بـ”اللولار”. انما هذا يعتبر بحسب احد المصادر “إساءة أمانة”. لان الأسهم تعتبر “أمانة” بحسب قانون الوساطة المالية، ولا يحق للشركة الاستدانة على أسهم الزبون أو العميل لصالح الشركة. فالاخيرة ملزمة بالاستدانة لصالح الزبون وليس العكس”. وبحسب المصدر ليس من المستبعد ان يكون حصل الأمر نفسه مع “رويال”.
أمّا في ما خص إدعاء الشركة أنها اشترت الأسهم بأموالها وليس بأموال العميل فهي مخالفة واضحة للقانون. إذ انه يمنع منعاً باتاً الخلط بين الحسابات الخاصة للشركة وحسابات عملائها، بحسب قوانين تنظيم الأسواق المالية في لبنان ومختلف الدول.

إساءة أمانة
من الملاحظ إرتفاع وتيرة التهرب والإحتيال في تجارة الأسهم والسندات بشكل كبير في الآونة الأخيرة، توضح مصادر قانونية قائلة: “صرلنا سنة عم نعاني من هالموضوع”. “فهناك الكثير من الدعاوى وخصوصاً على إحدى الشركات التابعة لمصرف كبير، حيث استدانت على أسهم عملائها وعجزت عن السداد لهم ثمن الأسهم في حالة البيع أو حتى تسديد الأرباح بالدولار “الطازج”. لكن المشكلة برأيه ان “بعض القضاة لا يفرّقون بين دعاوى تسديد الودائع بالدولار الطازج ودعاوى الأسهم. والفرق بينهما كبير جداً. فالوديعة تعتبر حساباً دائناً بامكان المصرف إعادتها بالليرة الوطنية التي تملك قوة إبراء، أو بـ”الدولار المحلي”، كما يقول حاكم “المركزي”. وفي حال التخلف عن سداد الودائع بامكان المودعين رفع دعوى إفلاس في وجه المصرف. أما في ما خص القيم المنقولة من أسهم وسندات فهي تعتبر أمانة، وليست حساباً دائناً والمصرف أو الشركة مجبران على اعادتها بقيمتها الفعلية كما هي وإلا يتهمان بالجرم الجزائي.
المشكلة ان مثل هذه الدعاوى تتطلب سنوات طويلة بحسب الحقوقيين وقليلة جداً القضايا التي رفعت ووصلت إلى خواتيمها السعيدة. وذلك على الرغم من انه يفترض إعطاء الحق الى حامل السهم، وتجريم الشركة بتهمة إساءة الامانة.

خالد ابو شقرا.

أين تبخرت أموال اللبنانيين؟

يتساءل المرء: أين تبخرت أموال اللبنانيين أو ذهبت أو هُدرت؟ أين ودائعهم المصرفية التي بلغت نحو أكثر من 170 مليار دولار، والتي كنا نتباهى عالمياً بها؟ لا شك في أنّ قسماً كبيراً من هذه الودائع ذهب نحو كلفة الفساد، والتهريب والصفقات والمحاصصة، وتمويل المشاريع الوهمية وتبييض الأموال وغيرها، لكن تقنياً وواقعياً، كيف صُرفت هذه الاموال وهُدرت عبر الموازنات المتعاقبة؟

ندرك جميعاً أنّ جزءاً كبيراً من الموازنة العامة كان يذهب إلى تمويل شركة كهرباء لبنان، إذ ليس سراً على أحد أنّ نحو ملياري دولار سنوياً (في السنوات العشرين الأخيرة) كانا يذهبان إلى تمويل قطاع الكهرباء العام، والذي كان يتدهور يوماً بعد يوم من دون أي إصلاح أو تقدم. ومن بعد كل هذه الاستثمارات غير البنّاءة وغير المنتجة، لا يصل التيار الكهربائي إلى المواطنين في أحسن حالاته، سوى بنحو 50 %، فيما الشعب ملزَم بدفع الفواتير المزدوجة العائدة إلى المولدات الخاصة، حيث يخضع المواطنون إلى مافيات أصحاب المولدات المرتبطة بخيوط السياسة والسياسيين أيضاً.

وإذا حسبنا الملياري دولار التي تتكبّدها الدولة اللبنانية خلال نحو آخر 20 عاماً فقط، تُفيدنا النتيجة الواقعية بأنّ نحو ما بين 40 مليار دولار و45 ملياراً، صُرفت وأُهدرت من أجل إنشاء كهرباء وهمية غير متوافرة أصلاً للمواطنين.

إنّ تمويل الكهرباء يُشكل نحو أكثر من 43 % من الدين العام. وهذا ما حصر القسم الاكبر من العجز والدين العام، وهنا صُرف القسم الأكبر من أموال المودعين التي استُثمرت في الدولة وأموال البلدان المانحة التي استُثمرت في هذا القطاع المهترئ. هذه الاستثمارات استُعملت بالفساد والمحاصصة الموجودين في كل مراحل هذه الادارة: من التوظيف إلى الصيانة، إلى المعدّات، إلى شراء الفيول، إلى المعامل… والذي ستدفع ثمنه أيضاً الأجيال المقبلة، وهو ثمن الاستثمارات الوهمية التي موّلت الأحزاب والسياسيين منذ سنوات عدة.

من جهة أخرى، علينا ألّا ننسى ونتناسى أنه في كل الموازنات الاخيرة كان يتراكم سنوياً عجز مالي يفوق نحو 6 مليارات دولار تقريباً، ما يعني أنّ الدولة اللبنانية كانت تتكبّد سنوياً خسائر فادحة من دون أي إصلاح أو إعادة هيكلية لوقف هذا النزف، الذي كان يُغطى وهمياً وشكلياً باستبدال دين بدين آخر (سواب – SWAP)، وإعادة جدولة، ومن ثم ندور في الدوامة نفسها من سنة الى سنة، حتى تراكم الدين العام وتبخّرت مدّخرات اللبنانيين والبلدان المانحة، لتمويل العجز غير البنّاء وغير المنتج، حتى وصلنا الى دين عام تعدّى نحو 100 مليار دولار، وهُدرت معه أموال اللبنانيين.

كذلك الأمر بالنسبة إلى حجم الدولة وموظفي القطاع العام، فقد بلغت كلفتهم ثلث الموازنات الأخيرة. لا شك في أنّ هناك موظفين في القطاع العام شرفاء ونزيهون، ولا نريد أن نشمل الجميع ونضعهم في سلّة واحدة، لكن في المقابل ذهبت الدولة إلى مغامرة مشروع سلسلة الرتب والرواتب، وباتت ترمي كرة النار من منصّة إلى أخرى، ومن حزب إلى آخر، ومن مسؤول الى آخر، والكل كان يُدرك أنها “شيك من دون رصيد”، ولا تستطيع الدولة تحمّلها، وصرفت هنا أيضاً أموال المودعين التي كانت مستثمرة في هذه الدولة، من دون أي شفافية أو حوكمة رشيدة.

نسمع البعض يتحدث وينتظر ويأمل من المبادرة الفرنسية، أو من مؤتمر “سيدر” أو حتى من تمويل صندوق النقد الدولي، لكن علينا أن نكون واقعيين وشفافين، ونقول بصوت عال: إن أي تمويل في حال حلمنا به، أو وصلنا من هذه المنظمات الدولية، لم ولن يكون لتمويل العجز، أو لتمويل شركات عامة وفاسدة، لكن سيكون لتمويل مشاريع إنمائية بنّاءة، مع دفاتر شروط مدروسة، ومع تدقيق داخلي وخارجي وتقني. ليعلم الجميع أن لا أحد سيُموّل شركات مهترئة، وطبقة سياسية فاسدة مسؤولة عن هذا الإنهيار.

إن الوعود التي نسمعها اليوم هي فقط للهروب إلى الأمام، وهدر الوقت وكسبه، لأنه واقعياً لا أحد سيغامر ويساعد لبنان اذا كان أركان سلطة الفساد والانهيار أنفسهم يُريدون أن يقودوا الإصلاح وإدارة الأزمة التي تسبّبوا بها.

في النهاية، كنا نعيش في اقتصاد وناتج محلي حجمه نحو 55 مليار دولار سنوياً، لكن بات في الوقت الراهن، لسوء الحظ، بحسب مرصد البنك الدولي، لا يتعدى الـ 20 مليار دولار، يعني أقل من النصف، جرّاء تراجع الإستثمارات والنمو، ما سيؤدّي إلى بطالة مخيفة وتراجع في نسبة العيش.

من الضروري أن نبدأ في اعادة هيكلة شركاتنا وأعمالنا وحتى حياتنا اليومية وطريقة عيشنا، ونتعايش مع هذه الوقائع الجديدة حتى تعبر العاصفة وننمو من جديد.

إنّ العالم ككل يعبر أزمة اقتصادية واجتماعية تاريخية وغير مسبوقة جراء جائحة “كوفيد – 19″، لكنّ اللقاح بات قريباً، وستكون 2021 سنة إعادة النهوض والنمو العالمي، لكن في لبنان حين سنستيقظ في نهاية هذا الوباء، ستكون مشكلتنا الاقتصادية والاجتماعية والمالية والنقدية، وباء أصعب بكثير، وسيعوزه لقاحات كثيرة على المدى القصير والمتوسط والطويل.​

د. فؤاد زمكحل

القيود على الليرة باقية رغم أزمات قطاعي الصحة والغذاء

أكّدت مصادر في البنك المركزي، انّ الاجراءات التي اتخذها مصرف لبنان لضبط سعر صرف الليرة أتت ثمارها، رغم تفاقم الاوضاع السياسية، مشيرة الى انّه من دون تلك التدابير كان سعر الصرف ليبلغ مستويات قياسية جديدة. وشدّدت المصادر على انّ مصرف لبنان لن يسمح بتهديد الأمن الصحي والغذائي جراء تقييد السحوبات، بل انّه على يقين بأنّ حجم الكتلة النقدية الموجودة في السوق يكفي لتأمين السيولة النقدية لمستوردي السلع الاساسية.

الأمن الغذائي مُهدّد والأمن الصحي أيضاً، وعلى جبهات عدّة، نتيجة تعميم مصرف لبنان الذي ألزم مستوردي السلع الاساسية المدعومة (محروقات، أدوية، معدات طبية، مواد غذائية) تأمين السيولة النقدية بالليرة لتمويل المستوردات. كذلك الامر بالنسبة لمستوردي مختلف السلع الغذائية والاستهلاكية غير المدعومة، والذين يعجزون عن شراء العملة لتمويل المستوردات بسبب خفض السحوبات بالليرة اللبنانية بالقطاع المصرفي.

هذه السياسة المتّبعة من مصرف لبنان لخفض الضغط الحاصل على الليرة اللبنانية في السوق السوداء ولجم انهيار سعر صرفها، تهدف أيضاً الى لجم الاستهلاك المحلي من اجل خفض حجم الاستيراد وخفض وتيرة الاستنزاف الحاصل لاحتياطي البنك المركزي من العملات الاجنبية، وتمديد مهلة وقف الدعم عن السلع الاساسية لاطول فترة ممكنة، على أمل التوصل الى توافق سياسي وتأليف حكومة تبدأ بالإصلاحات وتؤمّن الدعم المالي الخارجي المطلوب لإعادة ضبط الوضع المالي والاقتصادي.

إلاّ انّ سياسة شراء الوقت باتت تهدّد الامن الصحي والغذائي للمواطن اللبناني، بعد تراجع حجم الاستيراد بنسبة 93 في المئة، حيث انخفضت قيمة الإعتمادات المستنديّة المفتوحة للاستيراد خلال الاشهر التسعة الاولى من العام الحالي من 5 مليارات و678 مليون دولار في ايلول 2019 الى حوالى 547 مليون دولار فقط في ايلول 2020 وفقاً لإحصاءات مصرف لبنان، أي انّ عمليات الاستيراد منذ عام ولغاية اليوم باتت تقتصر على المواد الغذائية الاساسية والمحروقات والادوية والمعدات الطبية، وانقرضت كافة السلع الاستهلاكية المصنّفة كماليات.

ولكن بغض النظر عن ضرورة وجود الكماليات، فإنّ مستوردي المواد الغذائية يقولون انّ تعميم مصرف لبنان سيخفّض حجم استيراد المواد الغذائية الى النصف، مما يهدّد الامن الغذائي، كذلك الامر بالنسبة لمستوردي الادوية والمعدات الطبية، الذين يحذّرون من تراجع مخزونهم ونقص مرتقب في الادوية والمستلزمات الطبية، في حال لم يتمّ تأمين السيولة النقدية بالليرة من قِبل القطاع المصرفي. إلّا انّ مصادر في مصرف لبنان أكّدت لـ»الجمهورية»، انّ سياسة خفض السحوبات النقدية بالليرة وإلزام المستوردين تأمين السيولة النقدية للاستيراد، مستمرّان الى حين تأليف حكومة جديدة، يتمّ التوافق معها على خطة واضحة للأزمة المالية والاقتصادية.

واوضح المصدر المصرفي، انّ هدف ودور البنك المركزي الاساس اليوم هو ضبط سعر العملة المحلية ولجم الانهيار الحاصل بسعر صرفها، في ظلّ الأزمة السياسية القائمة، وقد اتخذ هذا الاجراء من اجل امتصاص الكتلة النقدية الضخمة الموجودة في السوق والبالغة 24 ألف مليار ليرة، وذلك عبر التجار والمستوردين. مشيراً الى انّ المستوردين والتجار ما زالوا قادرين على تأمين السيولة النقدية بالليرة من السوق، «والبنك المركزي يعمل جاهداً لمساعدتهم، ولن يسمح بتهديد الأمن الغذائي والصحي». لافتاً الى انّ تقييد السحوبات النقدية سيؤدي حتماً الى ترشيد الإنفاق والاستيراد.

وعمّا اذا نجح مصرف لبنان في ضبط سعر صرف الليرة نتيجة تقييد السحوبات بالليرة، أكّد المصدر المصرفي انّه في ظلّ تصاعد وتيرة التجاذبات السياسية حالياً، ووسط عدم تأليف حكومة او حتى تأكيدات حول امكانية تأليفها قريباً او قبل نهاية العام الحالي، «يمكننا القول انّ الاجراءات المتّبعة نجحت في ضبط سعر الليرة في السوق عند حوالى 7500 ليرة، والدليل على ذلك انّه عندما كانت الاجواء السياسية افضل من اليوم، بلغ سعر الصرف 9000 ليرة مقابل الدولار».

أضاف: «لو لم يتخذ البنك المركزي هذا التدبير في ظلّ الوضع السياسي الحالي، لكان سعر الصرف قد تخطّى مستوياته القياسية السابقة».

وبالنسبة لإمكانية رفع الدعم عن المحروقات، اشار المصدر الى انّ الدعم لا يمكن ان يستمرّ، «إلّا انّ القرار ليس من مسؤولية البنك المركزي، فهو قرار حكومي وسياسي، لا يمكن تحميل مسؤوليته لحاكم مصرف لبنان عبر رمي الكرة في ملعبه من اجل اتخاذه «. مشدّداً على انّ الأمن الغذائي والصحي أولوية، أهمّ من دعم استيراد المحروقات الذي تستفيد منه الطبقة الميسورة اكثر من الطبقة الفقيرة.

الأمن الغذائي مهدّد

بعد تحذير المستشفيات من خطر يهدّد الامن الصحي نتيجة عدم امكانية تأمين السيولة النقدية لشراء الادوية والمستلزمات الطبية، مما اجبر بعض المستشفيات على تأجيل العمليات الجراحية أو عدم تقديم بعض العلاجات بسبب نقص المعدات الطبية اللازمة وأدوية الامراض المستعصية، جاء امس دور مستوردي المواد الغذائية، مع تحذير رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي من تداعيات خطرة للتدبير الذي اتخذه مصرف لبنان والمصارف، القاضي بخفض السحوبات بالليرة من المصارف، على الأمن الغذائي.

ونبّه بحصلي في بيان، الى انّ هذا التدبير من شأنه خفض استيراد المواد الغذائية من الخارج الى أقل من النصف، نتيجة شحّ السيولة بالليرة التي تشكّل الأداة الوحيدة في هذه المرحلة الاستثنائية لتأمين السيولة بالعملات الأجنبية لتمويل المستوردات من المواد الغذائية المدعومة وغير المدعومة على السواء.

وأوضح بحصلي انّ نحو 50 في المئة من المشتريات في السوبرماركت تتمّ بالبطاقات الإئتمانية والنصف الآخر نقداً بالليرة اللبنانية، ووفقاً لتدبير مصرف لبنان، فإنّ المبالغ النقدية بالليرة فقط هي التي يمكن استخدامها لشراء الدولار من المصرف المركزي ومن السوق الموازية، لتمويل المستوردات الغذائية، في حين انّ النصف الآخر، اي مبالغ البطاقات الإئتمانية ليس بالإمكان استخدامها، لأنّ هذه العمليات تابعة للمصارف، وبالتالي فإنّ المصارف ترفض تسييلها إن كان بالدولار أو بالليرة، ما يعني انّ هذه المبالغ ستبقى محتجزة بالمصارف، ولا قدرة لنا على استخدامها في عمليات الاستيراد.

وقال بحصلي: «هذا يعني انّه في كل دورة تجارية، سيفقد المستوردون نصف قدرتهم الشرائية (حجم السيولة التي بإمكانهم إستعمالها) لتمويل مشترياتهم المقبلة جراء حجزها في المصارف، ما سيؤدي الى خفض كميات المستوردات الى النصف، وهكذا دواليك»، محذّراً من انّ «الطريق واضح، إما تمكين المستوردين من سحب أموالهم بالليرة اللبنانية الناتجة من بيع البضائع عبر البطاقات الإئتمانية، وإما سنصل الى مرحلة سيكون لدينا نقص حاد بالمواد الغذائية، ما يعني انّ الأمن الغذائي للبنانيين بات مهدّداً».

وطالب بحصلي مصرف لبنان والمصارف اللبنانية الأخذ بالاعتبار هذه المعطيات الهامة المتعلقة بأمر استراتيجي وحيوي، وإجراء مراجعة سريعة لهذا التدبير، وإتخاذ الاجراءات اللازمة التي من شأنها حماية ديمومة الامدادات الغذائية للبنانيين.

رنى يعرتي.

هل تعود الى المستنقع من نَفَذت بِريشِها؟

نجح ملف الدعم في خطف الاضواء من ملف التدقيق الجنائي الذي كان نجم «الساحة» لأسابيع طويلة. كنا ننام على تدقيق ونستفيق على تدقيق. ونسمع باستمرار معزوفة انّ الاصلاح لا يمكن ان يبدأ من دون التدقيق الجنائي. اليوم، صرنا ننام على دعم ونستفيق على دعم. وباتت مصطلحات الترشيد والاحتياطي الإلزامي خبزنا اليومي.

في الواقع، لا التدقيق الجنائي جدّي ويمكن أن يوصل الى نتيجة في ظل التوازنات السياسية القائمة، ولا وقف أو استمرار أو ترشيد الدعم يساهم في حلحلة الأزمة الخانقة التي تسيطر على البلد، وتدفع به نحو مسار انحداري مستمر وسريع، وسيصبح أسرع وأوضح وأقسى بنتائجه مع مرور المزيد من الوقت.

في ملف التدقيق الجنائي، عدنا الى المربّع الأول. وبانتظار الإجابة الرسمية لشركة Alvarez and Marsal لا بدّ من إيراد الملاحظات التالية:

اولاً- الإيجابية الوحيدة في عودة المُراسلة مع الشركة المنسحبة، انّها لم ترفض فوراً المقترح اللبناني الرسمي للعودة الى مهمة التدقيق الجنائي، استناداً الى المتغيّرات التي طرأت في القرار الذي اتخذه مجلس النواب، لكن ذلك لا يكفي للاعتقاد انّ الشركة التي تخلّت عن اتعابها لتهرب من المستنقع اللبناني ستوافق، بمجرد الاطلاع على قرار مجلس النواب واعتباره عنصراً مستجداً في القضية، على العودة الى المستنقع.

ثانياً – اذا سلّمنا جدلاً بأنّ الجواب الرسمي للشركة، والذي يتوقّع المسؤولون وصوله في الـ48 ساعة المقبلة، سيكون ايجابياً، بمعنى الموافقة على مبدأ العودة، إلّا أنّ ذلك ليس نهاية المطاف، بل بداية الطريق، لأنّ «ألفاريز» ستطلب توقيع عقدٍ جديد وبشروط جديدة. وهذه المرة ستكون الشروط قاسية، ومن المستبعد ان تتمكّن الحكومة من السير بها.

ثالثاً – بصرف النظر عن عودة «الفاريز» أو التوجّه نحو شركة عالمية أخرى لمنحها عقد التدقيق الجنائي، من حق الناس ان يسألوا، لماذا علينا ان نجري تدقيقاً جنائياً. هل نبحث فعلاً عن متهمين في جرائم هدر المال والفساد؟ ألا يشكّل ما يجري في تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، وردود الفعل على ما بلغه المحقق العدلي في الجريمة، وما هو متوقّع في الأيام المقبلة، مؤشراً يُقنع من لم يقتنع بعد، بأنّ كل ادعاءات المحاسبة هي مجرد حفلات زجل ودجل سياسي، ولن تصل الى نتيجة؟

رابعاً – في زمن الغرق، الأولوية دائماً لإنقاذ الركاب والسفينة، وكل ما عدا ذلك يأتي لاحقاً. وهنا لا بدّ من توضيح حقيقة ينبغي أن يعرفها الجميع: ليس صحيحاً انّ التدقيق الجنائي ممر إلزامي للحصول على مساعدات صندوق النقد الدولي، بل أنّ المطلوب هنا تدقيق مالي يوضح حقيقة الأرقام والوضع في مصرف لبنان، لكي يتمكّن صندوق النقد من إقرار خطة انقاذ تتماهى وهذا الواقع.

في هذا السياق، تشير المعلومات المتوفرة الى أنّ شركتي Oliver Wyman وKPMG أحرزتا حتى الآن تقدّماً ملموساً في التدقيق المالي في أوضاع مصرف لبنان. وقد تبلّغت وزارة المال ارتياح الشركتين لتعاون المركزي مع متطلباتهما. وبالتالي، فإنّ التقرير النهائي الذي سيحدّد حقيقة الوضع المالي في مصرف لبنان لن يتأخّر في الصدور قريباً. هذا التقرير سيشكّل مستنداً كافياً لصندوق النقد أو لأية جهة دولية أخرى، لكي تتعاطى مع أي خطة انقاذ بناء على أرقامه. وهذا هو الأهم اليوم بالنسبة الى البلد. بعد ذلك، ليتسلّى أرباب المنظومة السياسية بالتدقيقات الجنائية التي باتت ستشمل كل المؤسسات والادارات العامة، بقدر ما يرغبون.

في ملف ترشيد الدعم، كل الخيارات مريرة، لكن أخطرها على الاطلاق تمييع مسألة اتخاذ قرار، وابقاء الوضع على ما هو عليه بذريعة عدم الوصول الى توافق. وفي المعلومات، انّ التوجّه العام لدى حكومة تصريف الاعمال يقضي بإقرار خطة تقوم على ركيزتين:

اولاً – تأمين دعم مالي مباشر الى الأكثر حاجة، عبر ما بات يُعرف بالبطاقات التمويلية.

ثانياً – رفع تدريجي للدعم، بحيث سيستغرق الأمر بضعة أشهر قبل الوصول الى مسار ثابت، سيكون معه الدعم للسلع (محروقات وأدوية وطحين ومواد أولية) ضئيلاً.

هذه الخطة تشوبها ثغرة اساسية تتعلق بالتوجّه نحو بطاقات تمويلية بالليرة من الخزينة، وستوزّع على لوائح محدّدة. وهنا قد يحصل التالي: ينهار سعر صرف الليرة بسرعة اكبر من الوضع الحالي، ويلتهم التضخّم المبلغ الذي سيتقاضاه من سيتمّ تصنيفه محتاجاً، ويزداد الضغط المعيشي على كل الطبقة الوسطى، ويدخل البلد في دائرة مُفرغة. كما أنّ تحديد لوائح المحتاجين قد يخضع لحسابات تنفيع الأزلام والمحاسيب.

لذلك، من المجدي أكثر إصدار بطاقات تمويلية لكل العائلات بقيمة 100 دولار شهرياً، بحيث لن يتجاوز الدعم عتبة الـ100 مليون دولار شهرياً، على أساس مليون عائلة. هذا الامر يضمن عدم انهيار قيمة المبلغ الذي سيجري تقديمه للناس، ويساهم في تخفيف الضغط عن سعر صرف الليرة في السوق السوداء.

لكن مثل هذا القرار لا يستطيع ان يتخذه مصرف لبنان، بل يحتاج الى قرار سياسي متوافق عليه. وهذا ما ينبغي ان يحصل الآن، بانتظار هبوط الوحي على أهل المنظومة السياسية، لاتخاذ قرار تشكيل «حكومة مهمّة» تبدأ تنفيذ خطة للإنقاذ.

انطوان فرح

أزمة لبنان المالية: “النقاش ماشي والصرف ماشي”… والنتيجة معروفة

لا يبدو انّ المنظومة السياسية ستنجح في تجاوز قطوع معالجة الدعم، ومن المرجّح أن تستمرّ الأمور على حالها، وسيبقى «الصرف ماشي» على حاله، الى حين استنزاف آخر ما تبقّى من احتياطي بالعملات الاجنبية، بانتظار أعجوبة إلهية.

على غرار مختلف الاستحقاقات السياسية والمالية والمعيشية التي مرّت على لبنان، لن تتوصل المنظومة الحاكمة في الوقت المناسب الى قرار جدّي لرفع الدعم أو ترشيده، او وضع آلية واضحة لتوفير دعم مباشر للأسر الاكثر حاجة، بل ستطول الاجتماعات والاقتراحات والاعتراضات بالنهج نفسه المتّبع عند تأليف وتشكيل الحكومات، لدى مفاوضة صندوق النقد الدولي، لدى وضع خطة إنقاذ مالية اقتصادية، عندما جرى إقرار سلسلة الرتب والرواتب، لدى تعيين مسؤولين اداريين، وغيرها من الاستحقاقات التي واجهتها المنظومة بحلول «ترقيعية» مستوحاة من سياسة شراء الوقت التي تحترفها.

بين رفع الدعم بالكامل وتوزيع بطاقات تمويلية لكافة اللبنانيين، وبين ترشيد الدعم وتأمين بطاقات تموينية للأسر الاكثر حاجة، تكثر الاقتراحات والتحليلات والاعتراضات، في حين لا تتوفّر الاموال لتمويل أي من تلك الخيارات، من دون المسّ بما تبقّى من اموال المودعين او عبر طباعة العملة. أي خيار سيمكّن السلطة من شراء الفترة الاطول من الوقت بالكلفة الاقل؟

في هذا الاطار، اعرب مسؤول سابق في صندوق النقد الدولي، عن صدمته مما يحصل على صعيد النقاش الدائر حول الترشيد، معتبراً انّ السلطة لا تملك خيارات في هذا الموضوع في ظلّ فقدانها للعملة الاجنبية الكافية. واشار الى انّ الدولة اللبنانية لا تستطيع الاستدانة من اجل مواصلة الدعم، كما انّ احتياطي البنك المركزي لم يعد يخوّله مواصلة الدعم سوى لمدّة شهرين.

واعتبر انّه في ظلّ الوضع الراهن، لا يمكن الحديث عن ترشيد الدعم بل يجب رفعه بالكامل واعتماد الدعم الموجّه للأسر الأكثر حاجة، لأنّ الاستمرار بدعم السلع يعني الاستمرار بدعم الميسورين على حساب الفقراء. ورأى انّ لجوء الحكومة الى خيار ترشيد الدعم على السلع، مردّه لعدم قدرتها على الانتقال الى الدعم الموجّه للافراد، بسبب عدم وجود البنية التحتية اللازمة، أي شبكة الأمان الاجتماعي.

وشدّد على انّ الدعم من خلال سعر الصرف هو إجراء أدّى الى تعدّد اسعار الصرف في السوق وخلق تشوهات عدّة في الاقتصاد وساهم في هدر الاموال، من خلال عمليات الفساد والتلاعب بالفواتير او تهريب السلع او اعادة تصديرها، موضحاً انّه يجب ان يكون الدعم جزءاً من موازنة الدولة عبر تخصيص مبلغ معيّن بالموازنة بشكل سنوي للدعم.

وقال الخبير الدولي، انّ الطبقة الحاكمة أضاعت عاماً من الوقت منذ انتفاضة تشرين، وبدل وضع خطة شاملة يتمّ من ضمنها توجيه الدعم، اعتمدت تدبيراً خاصاً وبشكل عشوائي لدعم السلع، علماً انّها كانت على دراية بأنّ هذه الخطوة ستكون على حساب احتياطات البنك المركزي وخصوصاً المودعين، واصفاً تلك القرارات بالسياسية وليس الاقتصادية، مما يؤكّد انّ السلطة الحاكمة غير مؤهّلة لاتخاذ قرارات اقتصادية.

واشار الى انّ الدعم الاجمالي والعشوائي استُخدم لتهريب الاموال الى الخارج، والدليل على ذلك، تراجع احتياطات مصرف لبنان بعد اندلاع الثورة حوالى 14 مليار دولار، علماً انّ 5 مليارات منها فقط استُخدمت للدعم، «وهذا ما يفسّر عدم رغبة السلطة بإقرار قانون «الكابيتال كونترول» من اجل الاستمرار بتهريب اموال السياسيين واصحاب النفوذ الى الخارج».

وكرّر انّ لبنان لا يملك اليوم القدرة والامكانيات للاستمرار بالدعم الاجمالي، وتوجيهه بات ضرورة ملحّة «إلّا انّه للأسف ليس هناك بيانات وارقام دقيقة حول عدد المستفيدين من الدعم، من اجل تقدير كلفة الدعم الموجّه، بسبب عدم توفر شبكة امان اجتماعي».

وسأل: «كيف تنوي السلطة الحاكمة تمويل الدعم الموجّه بعد نفاد احتياطي مصرف لبنان المتبقي (650 مليون دولار)؟».

وذكّر بأنّ الاعتراضات على برنامج صندوق النقد الدولي كانت في السابق بسبب توجّهه لرفع الدعم، «علماً انّ الصندوق لا يعمد الى رفع الدعم بل الى توجيهه، ولو تمّ التوصل الى اتفاق معه، لما كانت احتياطات مصرف لبنان قد هُدرت على غرار ما حصل».

وشدّد الخبير الدولي على انّ لبنان لا يملك في نهاية المطاف سوى خيار ومخرج اللجوء الى صندوق النقد الدولي، «ولكن موقف لبنان سيكون هذه المرّة أضعف بكثير مما كان عليه في آذار ونيسان الماضيين»، محذّراً من انّ برامج صندوق النقد الدولي ليست عصا سحرية، ولا يمكن ان تنجح من دون وجود توافق سياسي على عملية الاصلاح، «كلّما تأخّر لبنان باللجوء الى الصندوق كلّما زاد الفقر وكلّما تفاقمت صعوبة الخروج من الأزمة».​

رنى سعرتي.

مشهد جديد: قيود مالية إضافية… و8 حقائق

مع اقتراب العام 2020 من نهايته، يرتسم في الأذهان حالياً سؤال يتعلق بالمشهد المالي والاقتصادي في العام 2021. هل سيكون «جهنم الموعود» أصعب بكثير من الوضع الحالي؟ وما هي التغييرات التي قد يواجهها البلد وناسه في المرحلة المقبلة؟

من خلال المؤشرات المتوفرة حتى الآن، والتي قد تنقلب رأساً على عقب من دون سابق إنذار، يمكن القول انّ المشهد الاقتصادي والمالي سوف يمضي في الهبوط وبوتيرة أسرع وأشدّ تعقيداً في العام 2021. وهناك فرضيتان سيئتان بارزتان حتى الآن: الفرضية الاولى، تقول باستمرار الوضع السياسي على ما هو عليه، أي في ظلّ حكومة تصريف أعمال، الى جانب رئيس مُكلّف عاجز عن التشكيل أو عن الاعتذار. الفرضية الثانية، تقضي بتأليف حكومة محاصصة، لا تختلف في مضمونها عن حكومة تصريف الاعمال القائمة حالياً. وفي ظلّ هذين السيناريوهين، سيشهد الوضع المالي والاقتصادي الاحتمالات والوقائع التالية:

اولاً- سيضطر القطاع المالي، وبإدارة مصرف لبنان، الى وضع قيود اضافية على كل انواع السحب النقدي من المصارف بالليرة. وبالتالي، سيُصار الى تضييق اضافي على المودع. وليس مستبعداً ان ترتفع قيمة المال النقدي بالليرة، كما هي عليه قيمة الدولار النقدي، ولكن وفق نسب مختلفة. اذ انّ شيك الدولار يُباع اليوم بحوالى 33% بالدولار الطازج (fresh)، في حين انّ شيك الليرة في 2021 قد يُباع بين 70 أو 80% من قيمته الاسمية.

ثانياً- ستتراجع أكثر قدرة اللبنانيين على الاستهلاك، بسبب القيود الاضافية على السحب النقدي. وبالتالي، قد يستمر الانكماش في حجم الاقتصاد (GDP) بحيث سيصبح حجم الدين العام بالدولار على الناتج شاسعاً، وتصعُب معالجته بلا كلفة باهظة على حاملي السندات قد تتجاوز الـ85%.

ثالثاً- سيؤدّي الانكماش الاقتصادي الى انكماش في عدد المؤسسات القادرة على الاستمرار. وهذا يعني بطبيعة الحال، المزيد من العاطلين من العمل المحتاجين الى دعم عاجل. وتشير تقديرات الى نسبة قد تصل الى 60% في القطاع الخاص.

رابعاً- بصرف النظر عن الآلية التي سيتمّ اعتمادها لاستمرار الدعم، سيؤدي التراجع الكبير في بيئة الاعمال الى توسّع رقعة المُصنفين في خانة الفقر. وسينضمّ الموظفون في غالبيتهم الى لوائح الفقراء. مع التذكير بأنّ البنك الدولي حدّد مبلغ 93 دولاراً شهرياً، كحدٍ أدنى لمستوى الفقر. أي أنّ كل فرد يقلّ مدخوله الشهري عن هذا الرقم يُصنّف من الفقراء. وعليه، ستكون لائحة الفقراء في لبنان طويلة، وطويلة جداً، وستكون مرتبطة بطبيعة الحال، بتطورات سعر صرف الليرة.

خامساً- رغم القيود التي ستوضع لتخفيف سرعة تضخّم الكتلة النقدية، إلّا أنّ الحاجة الى ضخ كميات اضافية من الليرة في السوق ستكون حتمية، وبالتالي، سيصعب منع استمرار انخفاض قيمة الليرة، بما يعني انّ سعر صرف الدولار في هذا الوضع سيرتفع اكثر، ولن يكون مستوى الـ10 آلاف ليرة للدولار هو السقف الذي قد يتوقّف عنده هذا الارتفاع. وهذا يعني انّ الحدّ الأدنى للرواتب قد يتراجع من 450 دولاراً، كما كان في ظل دولار الـ1500 ليرة، الى 60 أو 50 دولاراً، وربما أقل من ذلك. وهذا يعطي فكرة كم سيبلغ عدد الفقراء في البلد.

سادساً- سنشهد في العام 2021 عملية تطهير للقطاع المصرفي، بحيث سيضطر مصرف لبنان الى التدخّل لمعالجة ملفات مصارف غير قابلة للحياة. وفي المعلومات، انّ عدداً من المصارف تعمل بجهد كبير في الوقت الراهن لتأمين زيادة الرأسمال الذي طلبه المركزي. كما أنّ مفاوضات بيع المصارف لوحداتها العاملة في الخارج قطعت شوطاً كبيراً، وبات بعضها على قاب قوسين أو أدنى من الإنجاز. هذه الصفقات ستؤمّن للمصارف المصنّفة كبيرة، القدرة على الصمود والاستمرار. لكن المشكلة ستظهر بوضوح لدى مصارف أخرى عاجزة عن تلبية شروط البقاء. وهنا، يبرز تخوّف من قدرة المركزي على وضع يده عليها وضمان استمراريتها، ضماناً لحقوق المودعين. وهنا يسأل البعض، اذا ما كان مصرف لبنان قادراً بعد على لعب دور المُنقذ في ظلّ تراجع قدراته المالية الى مستويات مُقلقة. وفي المقابل، اعتاد المركزي تقديم الإغراءات لمصارف أخرى لتستحوذ على مصارف صغيرة تعاني صعوبات، لكنه اليوم عاجز عن تقديم الإغراءات. كما أنّ المصارف الكبيرة عاجزة عن أخذ المبادرات لإنقاذ مصارف صغيرة متعثرة. في كل الاحوال، سنشهد عملية تقليص للكلفة التشغيلية لدى كل المصارف، بما يعني الاستغناء عن عدد كبير من موظفي القطاع المالي.

سابعاً- سيترافق الانكماش المستمر، مع انحسار اضافي في الاستيراد، بحيث انّ مشهد السوق سيصبح مختلفاً عمّا عرفه اللبناني في الماضي. وستزداد مشاكل الاستشفاء والدواء والتعليم تعقيداً.

ثامناً- ستشهد السوق العقارية المزيد من الانهيار، وقد تتهاوى الاسعار بنسب اضافية عمّا شهدته في 2020، قد تصل الى 30% عمّا هي عليه اليوم. هذا التطور سيزيد الضغوطات على محفظة قروض القطاع الخاص لدى المصارف، والتي تقارب الـ50 مليار دولار.

هل هذه المؤشرات مجرد توقعات قد لا تحدث؟
من البديهي انّ بعض هذه المؤشرات أقرب الى الحقائق التي لا بدّ منها. لكن الفرق الذي قد يحصل على المستوى السياسي في حال حصول اعجوبة ما، من شأنه أن يخفّف من وطأة هذه التداعيات، بمعنى انّ تراجع سعر صرف الليرة الى مستوى 10 آلاف ليرة للدولار، يختلف بطبيعة الحال عن تراجعه الى 20 الف ليرة للدولار،على سبيل المثال لا الحصر.

في كل الأحوال، وبصرف النظر عن الاجراءات التي قد تُتخذ لمواجهة الأزمة ومعالجة تداعياتها، فإنّ الفرق لا تصنعه نوعية الإجراءات فحسب، بل توقيتها. كل اجراء في غير توقيته يفقد القسم الاكبر من قيمته وفعاليته.

الوقت هو معيار النجاح أو الفشل. وحتى الآن، أثبتت المنظومة السياسية، الى تمتٌّعها بمزايا الاستهتار والجهل وقلة الضمير، انّها تمتلك أيضاً، وعن جدارة، ميزة هدر الوقت، واتخاذ القرارات في توقيتها الخاطئ.

انكوان فرح.

2021 عودة الى العصر الحجري ما لم…

بتمهل وإنكار ولامبالاة يواجه السياسيون الانهيار الاقتصادي، لا حلول لا خطط لا برنامج عمل حتى الآن، فيما عدّاد الوقت يسير بلبنان بسرعة نحو مزيد من الفقر والجوع. هي مسألة أسابيع قبل ان تتغيّر الصورة مجدداً نحو الاسوأ. فكيف يستعد لبنان لمواجهة تحدّيات العام 2021 التي تنطلق بصفر فائض عن الاحتياطي الالزامي؟

يقول الاقتصادي روي بدارو، انّ ما تبقّى لنا من الاحتياطي هو في حدود 850 مليون دولار، بما يوازي مصروف شهر. أي من المتوقع ان ينتهي الاحتياطي في منتصف الشهر المقبل، او كأبعد تقدير نهاية العام 2020. فكيف تستعد الدولة لمواجهة العام 2021؟ للأسف نحن غير محضّرين بعد لمواجهة العام المقبل لا مالياً ولا فكرياً، لا سيما في ظلّ الترابط العضوي والوثيق بين المشهد السياسي والمشهد الاقتصادي، الذي يأتي نتيجة لسوء تصرف في معالجة الأزمات المتلاحقة.

واعتبر بدارو، انّ «الفشل الحاصل هو فشل جماعي، ولا تتحمّل مسؤوليته جهة واحدة، «كلن يعني كلن « مسؤول، وفي ظلّ الحوكمة الحالية نحن غير قادرين على التقدّم على الساحة الاقتصادية. فالوصفات الاقتصادية واضحة للجميع باستثناء البعض، الذي يتنكر للواقع. للأسف، نحن ندفع ثمن صراعات اجنحة ومصالح كبيرة على حساب الوطن».

وأكّد انّه لا يمكن تغيير المنحى الاقتصادي اذا لم نغيّر المنحى السياسي، «الّا اننا عاجزون عن تغيير المنحى السياسي في ظلّ وجود حزب يستقوي بالسلاح».

ولفت الى انّ «لبنان دخل الى جهنم ويعيش فيه. لكن اذا لم نمسّ بالاحتياطي الالزامي، وأصلاً لا يجوز المسّ به، فنحن نتجّه الى «ما بعد جهنم»، بما يعني انّ جهنم الذي نعيشه اليوم سيكون الجنة مقابل «ما بعد جهنم» الذي ينتظرنا، حيث لا كهرباء ولا ماء ولا انترنت… اي عودة الى العصر الحجري.

اما المسّ بالاحتياطي الالزامي للهروب مما ينتظرنا، فيعني سرقة اللبنانيين مجدّداً. لذا يجب ان يُقابل بحركة اعتراضية، لأنّ هذه الخطوة تعني إطالة عمر المنظومة السياسية الحالية». مشدّداً على انّ «عدم السماح باستعمال الاحتياطي الالزامي او بيع الذهب او الخصخصة، هو الطريقة الوحيدة لعدم تمديد حياة هذه الطبقة السياسية».

ودعا بدارو الى تغيير شامل وكامل بحكومة جديدة، لا يكون مارس أحد من أعضائها العمل السياسي من قبل، لكنه يملك في الوقت نفسه نفَساً سياسياً سيادياً، أي يلتزم بالسياسة والحياد.

خطة الحكومة

وبالانتقال الى الحديث عن خطة الحكومة، قال بدارو: «انّ اهم ميزات الخطة الانقاذية التي أعدّتها الحكومة انّها لم تغط عيوب الاقتصاد وعوراته، وعلى عكس ما قيل في المجلس النيابي بأنّ الأرقام التي تضمنتها غير دقيقة، نحن نرى انّ الخطة اعتمدت أرقاماً علمية ودقيقة ايّدها صندوق النقد الدولي خلافاً لما يُسوّق». وأوضح انّ «ارقام الحكومة قريبة جداً من ارقام الصندوق، بحيث يمكن ان تصلح كبداية لنقاش جدّي مع صندوق النقد، شرط ان يقودها فريق من الخبراء يملكون الحنكة في طريقة التعاطي مع الفريق المفاوض». وأكّد انّه «ليس بالضرورة ان يوافق الجانب اللبناني على كل ما يطرحه وفد صندوق النقد، انما يجب ان نقدّم البراهين والحجج والمنطق خلال التفاوض. لكن في الوقت نفسه يجب التنبّه الى انّه يجب اقناع العالم الغربي وخصوصاً الجانب الأميركي، والذي يملك ما نسبته 16% من حق التصويت، بأنّ لبنان سيتمكن من الالتزام بتنفيذ الخطة، وانّ كل الأطراف السياسية ستتعاون على إنجاحها».

ورأى بدارو انّ «أهمية خطة الحكومة تكمن في المنطق الذي اتبعته وليس في الارقام التي تضمنتها، لأنّ الزمن تخطّاها وباتت كلفة تطبيق أي خطة اغلى. فلو دفعنا استحقاق «اليوروبوندز» في آذار كان تناقص ديننا مليارين، وما كنا لندعم التهريب الى سوريا بالقيمة نفسها تقريباً. ليبرز هنا مدى الغباء في قرار التخلّف عن الدفع».

واعتبر بدارو انّ مآخذه على خطة الحكومة تكمن في عدم تركيزها على عنصر النمو، «الذي كان يجب ان يكون هاجس الحكومة الأول. فالمداخيل التي خُطّط لها لن تأتي. ونلاحظ كيف انّ المؤسسات الخاصة تموت واحدة تلو الأخرى. في السابق، كانت تجبي الدولة نحو 20% ضرائب عن الناتج القومي، اما اليوم، لا يُتوقع ان تزيد النسبة عن 5 الى 6%، ما يعني انّ العجز تفاقم بسبب الهبوط الحاد في المداخيل وغياب أي نمو. وإذا لم يتغيّر النظام يُتوقع ان يغيب النمو أيضاً في العام 2021، وفي غياب النمو يغيب أي تصحيح مالي ونقدي». ورداً على سؤال، قال: «اذا طُبقت الإصلاحات كلها وفق أفضل نموذج، لا يمكن للبلد ان يقلع قبل 6 سنوات، فكيف اذا لم تُطبق الإصلاحات او طُبقت على الطريقة اللبنانية».

واسف بدارو لأنّ الانهيار الاقتصادي الذي نعيشه يُقابل بمماطلة وجمود سياسي أدّيا الى افقار الشعب وتهجيره، وقال: «توقعت قبل أحداث 4 آب هجرة نحو 500 الف لبناني. اما اليوم أتوقع هجرة فوق المليون لبناني، والاسوأ من هذه الهجرة وبغض النظر عن الخسائر التي مُني بها لبنان واللبنانيون، انّهم قتلوا الامل بالبقاء. وهذا سيرتّب هجرة جماعية ستتفاقم في العام 2021 فور ان تلتقط دول العالم أنفاسها بانتهاء كورونا، وعندها نكون امام مشروع وطن مختلف عن الذي نعيشه اليوم، يقطنه العجائز ومن لا يملك المؤهلات للعمل في الخارج».

ايفا ابي حيدر.

كيف يمكنك أن تُنقذ وديعتك في العام 2021؟

على أبواب عام جديد، يبحث المودِع عن مخرج لوديعته المصرفية ضمن الحلول المتاحة، وقد أحصَينا منها 9 حلول أساسية، بعضها رائِج ويرتكز على خسارة جزء من الوديعة، والبعض الآخر يساعد على التعويض عن هذه الخسارة.
فما هي هذه الحلول وما كلفتها؟

-1 سحب الوديعة بالليرة: وفيها انتظار لِما يمكن للقطاع المصرفي أن يوفّره شهرياً من سحوبات بالليرة بهدف، إمّا استبدالها من عند صرافي السوق السوداء، أو استعمالها للمشتريات اليومية. وهنا تبرز نقطتان يجب الأخذ بهما: الأولى، فقدان الأمل في إمكانية سحب الدولار نقداً من المصارف لأسباب يعرفها الجميع. والثانية، الأمل بأن يُبقي مصرف لبنان على سعر السحب بحسب المنصة ما بين 40% و60% من سعر السوق السوداء. وبالتالي، في حال ارتفاع الدولار في السوق السوداء الى ما بين 13000 و20000 ليرة في 2021، يؤمل أن يقوم مصرف لبنان برفع سعر سحب الدولار الى 7000 أو 8000 ليرة كي لا يغيّر بذلك شيئاً عن الوضع الحالي، إذ تبقى نسبة فقدان الوديعة (Haircut غير مباشر) تدور حول 50%. أما إذا امتنع مصرف لبنان عن رفع سعر السحوبات في حال ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء فمِنَ المتوقّع أن يضرب الجوع في كل مكان، إذ انّ الفارق بين سعر المنصة والسوق السوداء سيكون أكثر مما يمكن للبناني أن يتحمله، وستعود حينها ثورة الجياع الى الشارع.

2- شراء العقار: هذه الطريقة تعتبر آمنة ولكن يجب على من يرغب بالدفع بواسطة شيك مصرفي أن يعرف أنّ الفرَص الأهم كانت موجودة في النصف الأول من العام 2020، حين قام العديد من مالكي العقارات ببيعها مقابل شيكات مصرفية بغية تسديد ديون تراكَمت عليهم بالدولار. معظم هذه الديون قد تم تسديدها، وأضحى البائع يشترط تسديد قسم من ثمن العقار بالدولار نقداً. الحَسنة الأبرز في شراء العقار هي تفادي أية عملية Haircut مباشرة على الودائع. أمّا في ما يختَصّ بما تقدمه بعض الشركات العقارية من إمكانية شراء شقة في الخارج مقابل الدفع في لبنان، فيجب الأخذ بالاعتبار أنّ هذه الشركات ليست جمعيات خيرية، ويجب التنبّه بقوة لـ3 نقاط وهي: طريقة الدفع، نسبة تجاوز السعر لقيمة الشقة في البلد المعني، وأهمية الموقع الجغرافي للشقة.

3- شراء أسهم سوليدير: وهي عملية غير معقدة توفّرها المصارف اللبنانية لصالح زبائنها. يجدر الذكر أنّ سهم سوليدير ارتفع خلال عام من 5 دولارات الى 16 دولاراً، وبالتالي ليس واضحاً لأحد إذا كان هذا السهم قابِلاً لمزيد من الارتفاع أو التقلّب حول سعره الحالي. إنّ الفائدة من شراء هذا السهم هي مماثلة لشراء العقارات مع بعض الفوارق:

أولاً: يمكن شراء الأسهم بالدولار المصرفي من دون الحاجة الى الدولار النقدي.

ثانياً: يمكن تَسييل الاستثمار جزئياً وفي أية لحظة للمبالغ المتوسطة والصغيرة من دون الحاجة الى بيع كامل المحفظة.

ثالثاً: لا يتطلّب رأس مال كبير، إذ يمكن الشراء ببضعة آلاف من الدولارات من الحساب المصرفي.

رابعاً: لا يوجد حاجة الى التسجيل في الدوائر العقارية ولا مصاريف صيانة أو ضرائب.

في المقابل، في حال شراء العقار يكون الشاري مسيطراً كلياً على عقاره، في حين تخضع تقلبات سعر الأسهم بشكل عام الى حسن او سوء ادارة الشركة المعنية.

4- إستبدال الشيكات بالدولار النقدي: رغم أنّ هذه الطريقة للحصول على الدولار محظورة، إلّا أنّ العديد من الذين يَئِسوا من الحلول المطروحة يلجأون إليها. في هذه الحال تكون الخسارة بحوالى ثلثي الوديعة المصرفية وهي تُدمِي الكثير من القلوب، بالاضافة الى حالات النصب والاحتيال التي يتعرّض لها البعض من قبل تجار الدولار المزوّر. ولكن في جميع الأحوال توجد طرق للتخفيف من خسارة الثلثين عبر الآليّات التي سنوردها في الفقرات التالية.

5 – شراء الذهب: من البديهي أن يُصِرّ تاجر الذهب على بيع الليرات الذهبية أو الأونصات بالدولار النقدي كونه ابتاعَها بالدولار النقدي هو ايضاً. ولكن لماذا شراء الذهب؟ لأنّ التوقعات بمتابعة الذهب ارتفاعاته في السنين القادمة قد تعيد جزءاً من الخسارة المحققة أثناء تحويل الوديعة المصرفية الى دولار نقدي. لم يعد معلوماً مقدار الارتفاعات المتبقية للذهب بعدما ارتفع سعره بشكل كبير خلال 2020. ولكن في حال ضاعَف سعره في السنوات القادمة، يكون قد أعاد لِمَن خسر نصف وديعته كامل أمواله، ولمَن خسر الثلثين نصف خسارته.

6- شراء الفضة: وهي أفضل من الذهب من ناحية الارتفاعات المتوقعة، لكنّ شراءها بكميات كبيرة صعب عبر تجّار المعادن الثمينة في لبنان نظراً لكلفة شحنها وتخزينها. وبالتالي، يجب في هذه الحال أن نشتريها بواسطة عقود في الأسواق المالية العالمية عبر المصارف الاستثمارية اللبنانية وبواسطة الدولار النقدي. هذه الطريقة ممكنة لمن تعوّد على الاستثمار في الأسواق العالمية.

7- شراء البتكوين: هذه العملة المشفّرة عادت الى الارتفاع من جديد، ويتوقّع المحللون العالميون ان يتضاعف سعرها أو أكثر خلال العام 2021 بشكل يسمح لِمن مُنِي بالخسارة جرّاء تحويل وديعته المصرفية الى دولار نقدي أن يعوّض خسارته، لا بل قد ينتقل من الخسارة الى الربح، شرط أن يكون مَن اشتراها مُدركاً للتقلبات الهائلة التي عُرِفَت بها وللمخاطر التي ترافقها. كما يجب عليه أن يشتريها طالما انّ سعرها يتقلّب دون العشرين ألف دولار، لأنّ شراءها على أعلى من هذا السعر قد يكون متأخراً. من المهم أن يدرك من يرغب بشراء هذه العملة المشفرة أنّ مصرف لبنان يحظّر التداول بها في لبنان أو اجراء أية تحويلات الى البورصات التي تتعامل بها. والطريقة الأمثل لشرائها هي من خلال تحويل Fresh Dollar عبر المصارف اللبنانية الى شركات مالية (وليس بورصات) في الخارج وشرائها إمّا مباشرة كعملة مشفَّرة، أو عبر صناديق استثمار تمتلك هذه العملات مثل صندوقي GRAYSCALE وBitcoin Tacker One. والجدير بالذكر أنّ بعض الأشخاص يعرضون بيع البتكوين في لبنان مقابل الليرة أو الدولار وذلك مُتاح تقنياً كون هذه العملة عابرة للقارات، لكننا لا نملك أية معلومات عمّا يقوم به هؤلاء الأشخاص من عمليات، قد يكون بعضها صحيحاً والبعض الآخر احتيالياً.

8- شراء ETHEREUM: وهي العملة المشفّرة المفضلة لدينا، والتي تلي البتكوين حجماً. يتوقَّع المحللون لها مستقبلاً باهراً، خاصة انها تُعتَمَد في العقود الذكية Smart Contracts. إنّ آمال الربح عليها في 2021 تفوق تلك المتوقعة على البتكوين ومردودها قد يتجاوز أي استثمار آخر خلال العام القادم، كما انّ طريقة شرائها مماثلة للبتكوين.

9- شراء أسهم الشركات التي تستثمر بالعملات المشفرة: وذلك ممكن بكل سهولة عبر فتح حساب لدى المصارف الاستثمارية في لبنان والاستثمار في أسهم شركات تستثمر احتياطاتها المالية في العملات المشفرة، وهذه ظاهرة بدأت تلاقي رواجاً عالمياً خلال العام 2020. نذكر منها على سبيل المثال شركة MICROSTRATEGY التي تضاعف سعر سهمها خلال شهر تشرين الأول مع ارتفاع سعر البتكوين، إضافة الى شركتي SQUARE و OVERSTOCK اللتين حققتا أداءً هائلاً بالطريقة نفسها.

في الخلاصة، أمّا وقد ضرب من ضرب «وهرَّب من هرَّب»، فلقد عَدّدنا أعلاه بعض الطرق المتاحة لتفادي Haircut مباشر قد يحصل على الودائع، أو للتعويض عن خسائر غير مباشرة أصبحت واقعاً. الخيارات متعددة أما القرارات فتعود لكل مودع بحسب أولوياته.

ملاحظة هامة: تمثّل الآراء الموجودة في هذا المقال تقييماً للسوق والبيئة الاقتصادية في نقطة زمنية محددة، ولا يُقصد بها أن تكون توقعّاً للأحداث المستقبلية أو ضماناً للنتائج المستقبلية. التحليلات التطلعية تخضع لبعض المخاطر والشكوك، وقد تختلف النتائج الفعلية أو الأداء أو الإنجازات مادياً بحسب طريقة الاستثمار وتاريخه. لا يجب أن يُستخدم هذا المقال بأيّ حال من الأحوال كأساس لقرارات الاستثمار، ولا ينبغي أن يُفسَّر مضمونه على أنه نصيحة تلبّي الاحتياجات الاستثمارية الخاصة لأيّ مودع أو مستثمر.

د. فادي خلف.

عن ازمة لبنان المالية: ما قيمة الودائع؟ وهل العملة الرقمية هي الحل؟

لوحظ في السنوات الأخيرة ما قبل الانهيار أنّ مصرف لبنان كان يعمل على التأسيس لعملة رقمية، وإطلاقها في السوق اللبنانية. وقد أفصَح عن هذه العملة، في أكثر من مناسبة، وعن أهميتها في السوق المحلية، باعتبارها المَمر الآمن لانتقال الاقتصاد اللبناني من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد الرقمي، ومجاراتها للاقتصادات المتطورة، القائمة على تكنولوجيا المعلومات.

اختلف المشهد اليوم واختلفت الإستراتيجيات وانهار الإقتصاد وانحَنت البلاد. لذا، نسأل أنفسنا في الأولوية: ما هو مصير العملة اللبنانية، والعملات الأجنبية المتداولة في السوق المالية اللبنانية؟ لا شك في أنّ قيمة الليرة اللبنانية تتدهور يوماً بعد يوم، نتيجة خسارة الثقة بالإقتصاد اللبناني والثقة بلبنان.

لكن، يجب أن يعرف الجميع أن قيمة ما كان يُسمّى بالدولار الأميركي الموجود في المصارف، هي بدورها تتدهور بشكل كبير جداً، باعتبار أنّ قيمة هذه الودائع في حد ذاتها لم يعد في الإمكان مقارنتها مع القيمة الحقيقية للدولار الحقيقي. والسبب يعود إلى أنّ المودعين لم يعد في مقدورهم الحصول على هذه العملات الاجنبية، وحتى لو استطاعوا ذلك فإنهم سيحصلون عليها بأسعار مرتفعة جداً، ويخسرون قسماً كبيراً من قيمتها الاساسية.

لذا، ما هي قيمة هذه الودائع بالعملات الأجنبية المجمّدة في المصارف اللبنانية؟ نُسارع إلى القول: إنّ القيمة والمعادلة واضحة جداً، إذ إنّ قيمة الدولار تعني كم نستطيع أن نحصل عليه في السوق المحلية السوداء المسمّاة «بنك نوت».

– (Bank Notes) في حال أراد المودع صَرفه في السوق السوداء (بنك نوت)، وعليه أن يعرف ويقبل بأنّ هذه هي قيمته الحقيقية، علماً أنّ المساعدات الدولية من قبل صندوق النقد الدولي أو مؤتمر «سيدر»، في حال تم ضَخها الى لبنان في يوم من الأيام، فإنها ستُضَخ لمساعدة المشاريع الإنمائية والبنية التحتية، ولم ولن تُضخ في السوق المصرفية او لمصلحة المودعين المغبونين من قبل الدولة التي صرفت مدّخراتهم.

واقع الحال، ما هي قيمة الليرة اللبنانية التي لدينا، باعتبار أنّ طباعة المزيد من العملة الوطنية وضَخّها في السوق المحلية سيُعرّضها إلى المزيد من فقدان قيمتها على نحو أسرع من المتوقع؟ إنّ قيمة الليرة اللبنانية تتدهور على نحو أكثر من السوق الحقيقية. لذا، من أجل أن يدرس صندوق النقد الدولي والبلدان المانحة خطته الاقتصادية للبنان، عليه أن يعلم ما هي القيمة الحقيقية لسعر الصرف في السوق السوداء بالتوازي مع السعر الوهمي. كما أنّ المودعين في المصارف اللبنانية لم يعد في مقدورهم الحصول على العملات الاجنبية المجمّدة فيها، الّا بمبالغ محدّدة وبحسب سعر الصرف الوارد في التعميم 151، وفي الوقت عينه، حتى انهم لا يستطيعون الحصول على العملة الوطنية الورقية إلّا بمبالغ محددة، حيث خَلّفت هذه التدابير سوقاً سوداء جديدة بالشيكات بالعملة الوطنية، وحَسمها بمبالغ تُراوح بين 5% و10%.

في هذا المناخ المظلم والتشاؤمي، كيف يُمكن أن نتحدث عن إطلاق العملة الرقمية أو أن نطمح بالانتقال من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد الرقمي، باعتبار أنّ أركان الاقتصاد لم تعد موجودة.

علينا الحذر والتفكير بأنّ العملة الرقمية اللبنانية، المُنتظر إطلاقها، تختلف تماماً عن العملات الرقمية المتداولة في بعض دول العالم مثل «بيتكوين»، التي يُمكن تداولها عالمياً وليس محلياً، إذ إنّ الأخيرة وتوابعها تُعتبر بنظر الحكومات مجرّد سلعة لا عملة، باعتبار أنّ العملة الرقمية ترتبط باقتصاد البلد وتشحن قوتها من قوة الاقتصاد. وعليه، لا بد من السؤال: أيّ اقتصاد سيدعم العملة الرقمية في لبنان؟ وهل الوقت الراهن يسمح لنا بالحديث عن إطلاق العملات الرقمية الوهمية؟

وإذا أردنا الخَوض عشوائياً في هذا المجال، فمَن سيتعامل مع العملات الرقمية؟ ومَن سيحملها؟ ومَن سيُسدد بها الاحتياجات والمتطلبات؟ ومن سيدّخر بها؟ يتخوّف البعض من أنّ هذا المشروع المُبطّن يهدف الى استبدال جزء من دولاراتنا في السوق المحلية المجمّدة بالعملة الرقمية، علماً أنّ المودع لا يستطيع الحصول على ودائعه بالعملات الاجنبية غير الموجودة، وحتى بالعملة الوطنية التي يخفُ ضخّها. فهل الهدف من طرح العملة الرقمية في السوق المحلية اليوم في صلب الانهيار، يعني تحويل ما تبقّى لدى المودعين من ودائعهم بالدولارات، وهي كمية كبيرة، إلى العملة الرقمية، علماً أنّ هذه العملة الوهمية لا يجوز أن يثق بها أحد في هذا الجو من انعدام الثقة؟
نحن اليوم لسنا في وضعٍ يسمح لنا باختراع عملات افتراضية (رقمية وغيرها) لأننا نفتقد للثقة في السوق المحلية، ولا نعلم حقيقة الأمور والأهداف المختبئة. فالسوق الاقتصادية الحقيقية في لبنان تمرّ في فترة من أصعب الفترات في تاريخه، وأن اقتصاد البلد يتحوّل من الاقتصاد الحقيقي والمصرفي الذي كان يتميّز به إلى اقتصاد الكاش (Cash Economy) والعملات الورقية Bank Notes، وهو اقتصاد خطر جداً جداً في بلد مِثل لبنان.
نخشى أن يُصبح اقتصاد «الكاش» مقراً للتهريب وغسل الأموال وتمويل الإرهاب، وفتح المجال لترويج المخدّرات، وهو أمر مخيف جداً في بلد صغير مثل لبنان بُني على الفساد وغياب المحاسبة والملاحقة. من هنا يجب القول: إنّ الحديث عن العملات الرقمية في هذا الوقت الصعب جداً يخضع لتجاذبات سلبية أكثر منها إيجابية، ونحن في غِنى عنها اليوم، علماً أنّ العملة الرقمية اللبنانية سيكون استعمالها محلياً حَصراً، والمُرتقَب ألّا يقبل أحد بتداولها والتعامل بها في سوقنا المحلية. فلا العملة الرقمية ولا سواها من الإجراءات ستُشكّل مدخلاً ثابتاً لصَوغ الحلول للأزمة المالية والنقدية، ما لم نتمكّن من استعادة الثقة كركن أساسي وتنفيذ الاصلاحات المَرجوّة منذ سنوات عدة، ورسم خطة اقتصادية واجتماعية متكاملة على المدى القصير والمتوسط والبعيد.

في المحصّلة، إنّ القرارات العشوائية والمنفردة، ومنها العملة الرقمية، يجب ألّا تُبصر النور في هذا الجو من الانهيار.

د. فؤاد زمكحل.

مالية لبنان: إنتحار مُبكر… شطب 80 % من الودائع منذ اليوم

«أفكار» المستشارين والمُنظّرين التي أنجزت خطة التعافي التي تبنّتها حكومة تصريف الاعمال، لا تزال تجد من يَتماهى مع فلسفتها. وهناك حالياً «أفكار» جديدة يجري التداول بها لا تقل خطورة عن الخطة القديمة، بل تتجاوزها، لأنّ الظروف أصبحت أشد تعقيداً ممّا كانت عليه قبل 7 أشهر.

لا تزال تداعيات خطة التعافي التي اقترحتها حكومة تصريف الاعمال ماثلة في الأذهان بسبب رعونتها في مقاربة أسلوب معالجة الأزمة على حساب المودعين، وتحييد الدولة من أية مسؤولية تفرض عليها المشاركة الحقيقية في الحل.

اليوم، وبعد مرور حوالى 7 أشهر على «خطة التعافي»، تبرز في كواليس المستشارين وغير المستشارين، اقتراحات هي أقرب الى الثرثرة لكنها تثير الرعب، لأنّ مسار التطورات يوحي بأنّ هذه الافكار الشيطانية قد تجد من يتبنّاها بذريعة انها أفضل الشرور.

تستند هذه الافكار الى ما تسمّيه هذه الشريحة فن الممكن، من خلال طرح سيناريوهات وبدائل في حال استمر الوضع في البلد على ما هو عليه، واضطر اللبنانيون الى الانتظار لأشهرٍ طويلة، قد تمتد الى نهاية العهد بعد حوالى سنتين. ويتساءل هؤلاء ما هو الاجراء الافضل الذي يمكن اتخاذه في هذا الوضع؟

يتحدث المنظّرون الجدد انّ البلد سيكون محكوماً بالسيناريوهات التالية:

أولاً – الاستمرار في الانفاق من الاحتياطي الالزامي، وبالوتيرة نفسها تقريباً التي تمّ فيها الانفاق منذ تشرين الاول 2019 حتى اليوم. وهذا يعني انّ الـ17 مليار دولار (اذا كانت موجودة فعلياً) تكفي تقريباً حتى نهاية العهد. وبعد ذلك لكل حادث حديث…

ثانياً – وقف الدعم أو خفضه الى مستويات كبيرة. وهذا يعني الاستعانة بنسبة أقل بالاحتياطي الالزامي، بحيث يصبح في الامكان إصدار تعميم من مصرف لبنان يقضي بخفض نسبة الاحتياطي من 15 الى 7%. وبذلك، يتم تحرير حوالى 8 مليارات دولار يمكن استخدامها. لكنّ هذا الخيار يبقى ناقصاً، لأنّ الاشكالية ستكون في شأن الاموال التي سيجري تحريرها، إذ ينبغي أن تتم إعادتها الى المصارف. وبالتالي، هناك من يقترح في هذه الحالة أن يتم الدفع الى المصارف بواسطة الـ»لولار» (الدولار الدفتري الذي يُدفع حالياً على سعر 3900 ليرة)، وأن تبقى الدولارات الفعلية في تصرّف المركزي.

ثالثاً – الاستعانة بالذهب الموجود في المركزي وليس في الخارج، وكميته الحقيقية غير مُعلنة، لرَهنه أو بيعه في سبيل الاستمرار في الانفاق وتسيير شؤون الدولة.

هذه السيناريوهات متوقعة، اذا تعذّر الانتقال سياسياً الى وضع يسمح بالعودة الى أحضان المجتمع الدولي، ومعاودة التفاوض مع صندوق النقد الدولي على خطة إنقاذ.

إنطلاقاً من هذه السيناريوهات السيئة كلها، تنبري أفكار يقول المروّجون لها إنها تستند الى فلسفة التفكير من خارج الإطار القائم (out of the box).

تقوم النظرية على المبدأ التالي: المحاذير التي تحول دون اعتماد مبدأ الاقتطاع من الودائع لمعالجة الأزمة هي التالية:

اولاً – عدم المَس بقدسية الملكية الخاصة التي يحميها الدستور والقانون.

ثانياً – الحفاظ على سمعة القطاع المصرفي وقدراته للإقلاع بالاقتصاد مجدداً بعد انتهاء مفاعيل الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالبلد.

ثالثاً – الحفاظ على أموال المودعين كاملة، سواء لحماية قدراتهم المعيشية (مدّخرات)، أو للحفاظ على قدراتهم الاستثمارية في المستقبل.

هذه الاعتبارات الثلاثة التي تقطع الطريق مبدئياً على فكرة الاقتطاع من الودائع، فقدت قيمتها في قسم كبير منها، برأي البعض، الذي يعتبر انّ مبدأ قدسية الملكية انتهى لأنّ أصحاب الملكية فقدوا قسماً منها من خلال سحب الدولار على غير سعره الحقيقي، وفقدوا الحق بالتصرّف بها من خلال حجزها من دون قانون «كابيتال كونترول». كذلك سقط مبدأ الحفاظ على سمعة المصارف، لأنّ هذه السمعة انهارت مبدئياً، واذا استمر الوضع كما هو لفترة أطول لن يبقى منها ما يسمح بإعادة بناء الثقة. كذلك سقط المبدأ الثالث لأنّ الاموال غير موجودة اليوم، وإعادة تكوينها أو تكوين قسم منها يبقى ممكناً لوقت محدّد. لكنّ المراهنة على بقاء هذه القدرة قائمة بعد سنتين مثلاً، ومن دون إجراءات معالجة، هو ضرب من خيال.

إنطلاقاً من هذا التشريح، يسري في أوساط المُنظّرين اقتراح يقضي باعتماد الاقتطاع الشامل من الودائع بنسبة 80% منذ اليوم. والسماح لمَن يرغب بعد هذا الاقتطاع بسحب وديعته بالليرة (ربما الرقمية) على سعر المنصة، أو الاحتفاظ بما تبقّى من وديعة، مع وعدٍ بإمكانية الحصول عليها لاحقاً بالعملة الصعبة!

أما بالنسبة الى اليوروبوندز، فيقترح أصحاب هذه النظرية الاتفاق مع حملة السندات الاجانب على نسبة مئوية مقبولة والتسديد من الاحتياطي، لإغلاق هذا الملف.

ويعتبر أصحاب هذه النظرية انّ الاقتطاع المُبكر من الودائع يوفّر فرصة استخدام الاحتياطي المتبقي بطريقة مُجدية أكثر، ويسمح للدولة بأن تصبح ماليتها في حال أفضل. والأهم، كما يقولون، انّ من يعتبر انّ مثل هذا الاقتراح كارثة وفاجعة لأنه يخرب البلد، ويسلب أموال الناس، ويضع الجميع في مواجهة مصير أسود، لا يفقهون ربما أنّ هذا المصير سيصلون إليه بعد فترة، لكنّ التداعيات ستكون أقسى وأخطر من تداعيات إعلان الهيركات منذ اليوم.

لكن ما يفوت أصحاب هذه النظرية انّ الوضع قد ينقلب رأساً على عقب بين ليلة وضحاها، إذ يمتلك لبنان أوراقاً كثيرة رابحة، من ضمنها القوى العاملة في الخارج والقادرة وحدها على تمويل السوق بكمية لا يُستهان بها من العملات الصعبة. كل ما هو مطلوب أن يتغيّر المشهد السياسي، وهذا المشهد قد يتغيّر بكبسة زر، ومن دون سابق إنذار. وبالتالي، لا مبرّر للانتحار المُبكر، ولو أنّ الوضع يدعو فعلاً الى الاحباط واليأس.

انطوان فرح.

ماليات لبنان: المجازفة بورقة الخليج تأشيرة سريعة نحو الثقب الأسود

يبدو التدقيق الجنائي في القاموس السياسي كأنّه العصا السحرية التي ستحلّ المشاكل. لكن التراكمات التي يشهدها البلد حالياً، تُنذر بالوصول الى أمكنة قاتمة، حيث التعتير الحقيقي الذي لم يتعرّف اللبناني عليه بعد.

يطيب لأحد المستثمرين في القطاع السياحي، في معرض وصفه للوضع الحالي، أن يروي قصة ذلك الرجل الذي عجز عن تحصيل دينٍ له في ذمّة رجل آخر، ووافق في النتيجة أن يأخذ كتعويضٍ عن الدين إحدى ساعتين يملكهما المقترض المتعثّر. ولكي يختار أية ساعة هي الأفضل، قصد احد الاخصائيين، وروى له قصته وأعطاه الساعتين ليفحصهما له. فتح الأخصائي الساعة الاولى، فحصها ثم نظر الى الرجل قائلاً: خُذ الساعة الأخرى. ذُهل الرجل وقال: لكنك لم تفحص الساعة الأخرى بعد. أجابه الاخصائي: لا يوجد ما هو اسوأ من الساعة التي فحصتها، لذلك نصحتك بالساعة الأخرى من دون أن أفحصها.

ويخلُص المستثمر الى الاستنتاج، بعد سرد الرواية، أنّ من «يفحصنا» اليوم، سيكتشف انّه لا يمكن ان نصل الى وضع اسوأ، لأنّه لا يوجد ما هو اسوأ…

رغم سوداوية الرواية، فإنّها لا تعبّر عن الواقع، لأنّ ما هو اسوأ موجود فعلاً، وكلما أوغلنا في الاستسلام، كلما تعرّفنا على الاسوأ الذي ينتظرنا، والذي يكمن اليوم في الاستمرار بالنهج القائم المُستند الى فكرة «تسير والرب راعيها».

وفيما تتبارى القوى السياسية في إظهار حماستها للتدقيق الجنائي في كل وزارات ومؤسسات وادارات وصناديق ومجالس الدولة، في معرض التأكيد على براءتها من تهمة الفساد وسرقة المال العام، يمضي الوضع المالي والاقتصادي نحو المزيد من التعقيدات. وسيواجه اللبناني ظروفاً أقسى من الظروف الحالية، وفق الحقائق والمؤشرات التالية:

اولاً- لم ولن تتوصّل المنظومة الحاكمة الى حلّ يعالج مسألة وقف استنزاف ما تبقّى من احتياطي العملات في مصرف لبنان. والمشكلة هنا، انّ البعض يدّعي أنّ الدفاع عن فكرة عدم المسّ بالاحتياطي الالزامي هو دفاع عن كبار المودعين في وجه الفقراء المحتاجين الى الدعم لتأمين لقمة العيش وتحاشي المجاعة. في حين انّ تبذير الاحتياطي سيكون بمثابة الضربة القاضية على الطبقة الوسطى والفقراء، وسيضع حداً لأي أملٍ في المستقبل، بما يعني نقل البلد الى مكان آخر، لا يشبه، ولا علاقة له بلبنان الذي نعرفه. وبالتالي، فإنّ الحرص على الاحتياطي هو من باب الحرص على الاحتفاظ بالذخيرة الضرورية للإقلاع مجدداً، بدلاً من الغوص الى أعماق فارغة يصبح معها الخروج شبه مستحيل، أو يحتاج الى عقود من الزمن، وليس الى سنوات.

ثانياً- يتهاوى القطاع الخاص تباعاً، والمؤسسات تسقط الواحدة تلو الأخرى. وسيستمر هذا المسلسل طالما انّ المنظومة الحاكمة لم تحسم مسألة تشكيل «حكومة مهمّة»، والبدء في تنفيذ خطة إنقاذ بالتعاون مع المجتمع الدولي. هذا السقوط المدوي للمؤسسات يُراكم أمرين: عاطلون جدد من العمل، ينضمون تباعاً الى من سبقهم منذ سنة حتى اليوم. وقروض قائمة ستنضمّ الى لائحة القروض الهالكة. وللتذكير، فإنّ حوالى 30% من محفظة القروض المصرفية تعود الى الافراد (حوالى 19 مليار دولار)، بما يعني انّ سقوط المؤسسات وارتفاع حجم البطالة سيؤدّيان الى ديون اضافية هالكة، والى خسائر متراكمة في المصارف. مع الاشارة الى انّ هذا النوع من القروض (الافراد) يتمّ تسديده بالليرة وفق السعر الرسمي، وقسم كبير من الضمانات يرتبط براتب المقترض ليس إلّا، بما يعني انتفاء امكانية التعويض من خلال الضمانات.

ثالثاً- لطالما كان سوق الخليج المدى الحيوي للاقتصاد اللبناني. وفي الاحصاءات غير الرسمية المتوفرة، انّ بين 15 الى 20% من القوى العاملة اللبنانية تتواجد في الخليج، أو تستفيد منه في أعمالها. هذه النسبة لا توجد في أي دولة عربية أخرى، وهي تعطي لبنان امتيازاً اقتصادياً استثمره بقوة، سواء قبل الحرب في العام 1975، أو خلالها، أو بعد الطائف وبدء مرحلة جديدة في العام 1990. في كل المراحل، كان الخليج بمثابة الحديقة الخلفية للاقتصاد الوطني. ومن دونه، لما عرف لبنان حقبات ازدهار جعلت معدل الدخل الفردي فيه الأعلى بين كل الدول العربية غير النفطية. وهكذا كان لبنان الطفل المُدلّل للدول الخليجية النفطية. هذا الواقع بدأ يتغيّر تباعاً مع السيطرة على القرار اللبناني، وإلحاق البلد عنوةً بالمحور الايراني. وفي التقديرات، انّ حوالى 3 الى 4 مليارات دولار دخلت الى لبنان في خلال العام 2020، من القوى اللبنانية العاملة في الخليج. هذا الرقم يعطي فكرة لماذا لا تزال أسعار الدولار في السوق السوداء «مقبولة»، لأنّه من دون هذا الضخ لكان انهيار سعر صرف الليرة أكبر وأسرع بكثير.

لا شك في أن تجميد، أو التأنّي في منح تأشيرات للبنانيين الى دول الخليج سيكون بمثابة «رصاصة الرحمة»، خصوصاً اذا واكبتها وقائع أدّت الى عودة بعض اللبنانيين العاملين في الخليج حالياً، سواء بفعل الظروف الاقتصادية القائمة هناك بسبب تداعيات كورونا، وتراجُع أسعار النفط، الأمر الذي أدّى الى تقلّص حجم سوق العمل الخليجي عموماً، أو لأسباب سياسية ترتبط بالإجراءات التي تتخذها بعض هذه البلدان لضمان عدم وجود عناصر غير مُطمئنة أمنياً.

بالاضافة الى ذلك، يُشكّل الخليج السوق الأول للصادرات اللبنانية، واذا فقدنا هذا السوق سيتلقّى اقتصادنا المنتج ضربة قاسية أيضاً.

الوقت هو العملة النادرة التي لا نملكها، اذا أهدرناه أكثر، لن ينفعنا لا تدقيق جنائي في مصرف لبنان، ولا تدقيق جنائي في كل ادارات الدولة، لأنّ الثقب الاسود الذي نتّجه نحوه بسرعة سيبتلعنا ولن يلفظنا سوى مجرد عظام.

انطوان فرح

ما الخيارات المُتاحة بعد 9 أشهر على الإفلاس؟

بعد حوالى 9 أشهر على اعلان حكومة تصريف الاعمال اللبنانبة التوقّف عن دفع «ليوروبوند»، أين أصبح الوضع المالي؟ ما هي فرص إنقاذ الودائع؟ ما هو الثمن الذي لا بدّ منه للخروج من النفق، وكم قد تستغرق عملية الخروج؟

مع إقتراب العام 2020 من نهايته، سوف تبدأ الارقام في الظهور تباعاً، والتي على أساسها يمكن إطلاق تقديرات في شأن الوضع المالي، وفرص الإنقاذ المُتاحة انطلاقاً من الحقائق الجديدة.

رغم أنّ الأجهزة الرسمية عاجزة عن اعطاء أرقام دقيقة للقطاعات وفي مجالات كثيرة، إلّا أنّ بعض المعطيات التي فرضت نفسها حتى الآن، تؤكّد أنّ الاقتصاد يعاني نكسة تُعتبر خطيرة في ميزان الدول التي تواجه أزمات تعثّر وإفلاس. ويمكن هنا إيراد مؤشرين خطيرين يمكن البناء عليهما لتقدير خطورة الوضع.

المؤشر الاول، يتعلق بحجم الاقتصاد (GDP) الذي تراجع بنسبة قاربت الـ70% في غضون بضعة أشهر. وانخفض من حوالى 52 مليار دولار، الى حوالى 18 مليار دولار. هذه النسبة تُعتبر قاسية جداً. وعلى سبيل المثال، ومن خلال المقارنة مع اليونان والارجنتين، يتبين انّ الاولى لم تشهد في أزمة الافلاس، هذه النسبة من الانخفاض في حجم اقتصادها. وسجّل الاقتصاد اليوناني التراجع الأكبر بين 2014 و2015، حيث انخفض من 237 مليار دولار الى 196 ملياراً، أي ما نسبته حوالى 18%. في المقابل، سجّل الاقتصاد الارجنتيني أسرع انخفاض له في العام 2001، حيث تراجع بنسبة تقارب الـ70%، (من 268 مليار دولار الى 98 ملياراً) وهي شبيهة بالنسبة التي سجّلها الاقتصاد اللبناني.

وهنا تنبغي الاشارة، الى أنّ الاقتصاد الارجنتيني استعاد زخمه من حيث الحجم بسرعة اكبر من الاقتصاد اليوناني. وفي تفسير هذه الظاهرة، إنّ الارجنتين عمدت الى تجميد سحب الودائع من المصارف في قرار أُطلق عليه مصطلح «كوراليتو» Corralito . وكان ذلك بمثابة تمهيد لتعويم سعر صرف البيزو. وخسر المودعون من خلال هذه العملية نسبة مرتفعة من ودائعهم.

في مقارنة النموذجين اليوناني والارجنتيني، يتبين انّ المودعين دفعوا الثمن في الارجنتين على عكس اليونان. لكن هذا الوضع ساهم لاحقاً في مساعدة الاقتصاد الارجنتيني في النمو بسرعة اكبر. في حين انّ اليونان حافظت على الودائع، مع «هيركات» بسيط واختياري على طريقة الـBail-in. وبطبيعة الحال، لم تلجأ أثينا الى تعويم عملتها، لأنّها تستخدم اليورو المحمي من البنك المركزي الاوروبي. وهذا ما يفسّر لماذا استغرقت اليونان وقتاً أطول لإعادة تكبير حجم اقتصادها، على عكس الارجنتين، التي نما اقتصادها بسرعة. لكن الفرق ايضاً، انّ اليونان نجحت في فترة زمنية قصيرة نسبياً في العودة الى الاسواق العالمية للاقتراض، في حين انّ الارجنتين، ورغم نمو اقتصادها النسبي، ظلت تعاني من عزلة على مستوى الاسواق، وظلت تعاني من هبوط وصعود، بحيث يمكن القول، انّ أزمتها المالية امتدت لثلاثين أو اربعين سنة، ولا تزال.

خلاصة القول، في هذا الموضوع بالنسبة الى لبنان، انّ هبوط حجم الاقتصاد بهذه النسبة الكبيرة يجعل الامل في الإقلاع مجدداً، من دون «هيركات» أشد تعقيداً. وسيكون الخيار، اذا وصلنا الى مرحلة بدء تنفيذ خطةٍ للانقاذ بالتعاون مع صندوق النقد، بين الانتظار لسنوات طويلة، قبل استعادة حجم الاقتصاد الحالي، أو التضحية بقسم من الودائع لإعادة حجم الاقتصاد الى ما هو عليه في غضون 3 أو 4 سنوات.

المؤشر الثاني، يتعلق بوضع المصارف التي ستكون الركيزة التي سيتمّ الاعتماد عليها في تنفيذ أية خطة للتعافي. وهنا يُطرح السؤال حول التعميم الذي أصدره مصرف لبنان، وأعطى فيه المصارف مهلة حتى شباط 2021 لزيادة رساميلها، واستعادة قسم من الاموال التي خرجت من النظام المصرفي منذ العام 2017. واذا اعتبرنا انّ القسم المتعلق باستعادة نسبة من الاموال التي خرجت لن ينجح، كما تفيد المعلومات المتوفرة حتى الآن، فإنّ السؤال سيكون حول جدوى تنفيذ الشق المتعلق بزيادة الرساميل، اذا كان الوضع باقياً على ما هو عليه اليوم؟ وكيف سيتمّ تحفيز المستثمرين على ضخ اموال اضافية في قطاع يتعرّض لأزمة غير مسبوقة؟ وهل يمكن جذب أي قرش اضافي، الى مصارف وصلت اسعار اسهمها (GDR) في بورصة لندن الى مستويات مُرعبة، بحيث هبطت الى ما دون الـ20 سنتاً، (كانت قبل الأزمة فوق الـ6 دولارات)، في مؤشر يؤكّد انّ الوقت الضائع يلتهم الثقة يوماً بعد يوم، وكلما أفرطت الدولة في تبذير الوقت، كلما ساهمت في ضرب القطاع المصرفي وقضت عليه. وهي بذلك تقضي على أي أمل باستعادة الودائع، أو بالاقلاع والخروج من الأزمة في فترة منطقية.

هذا الواقع يعني انّ الثمن الذي سيدفعه اللبنانيون، اذا هبط الوحي وبدأ الانقاذ غداً، سيكون باهظاً. اما اذا لم يهبط الوحي، وهذا هو المرجّح، واستمر الوضع على ما هو عليه لفترة أطول، فهذا يعني انّ الخيارات ستصبح محصورة بين مصيبةٍ ومصيبةٍ أكبر، ولا شيء غير ذلك.

انطوان فرح