لا يختلف اثنان على أنّ التعميم 166 لا يحلّ أزمة، ولا يصلُح حتى ليكون ممراً الى بدء المعالجة. وهو يندرج في اطار استمرار سياسة شراء الوقت، وعلى طريقة بدل من ضائع، بانتظار ان تحسم «الدولة» صاحبة القرار الاول والأخير أمرها، وتمسك بزمام المبادرة، وتعلن عن خطتها للانقاذ، بدلاً من هذه الفوضى القائمة اليوم.
أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية
أزمة صامتة بين مصرف لبنان والدولة
ما أظهرته الموازنة، يتجاوز مسألة السجالات التي دارت تحت قبّة البرلمان بين النواب أنفسهم من جهة، وبين النواب والحكومة، من جهة ثانية. إذ أثبتت «الدولة» مجدداً، بشقيها التنفيذي والتشريعي، انّها أعجز من أن تتخذ أي قرار على طريق الخروج من الانهيار، و متابعة قراءة أزمة صامتة بين مصرف لبنان والدولة
في غياب أي مبادرة حكومية: مصير الودائع بيد المودعين
من الواضح أنّه لا يمكن إنجاز أي إصلاح بمبادرة حكومية. والعقبة مصدرها الحكومة وموقف صندوق النقد، لإصرارهما على شطب الودائع الدولارية، وتحويل جزء منها الى أسهم مصرفية، وإلى ودائع بالليرة بسعر مخفّض أقل من سعر السوق الموازي (صندوق النقد، مشاورات المادة الرابعة- حزيران 2023- المادة 17). أي انّ طرح الصندوق لا يقدّم أي حماية للمودع بخاصة لكبار المودعين. خبرة الصندوق تقتصر في معظم الحالات على حلّ أزمات الديون الثنائية والمتعددة الأطراف من خلال نادي باريس، وليس من المستغرب إصدار طروحات غير واقعية لحل الديون السيادية اللبنانية بيد القطاع الخاص.
فهل يتصور أي من الداعين لشطب الودائع ما سيكون مصير المواطن اللبناني؟ انّ الممارسة الحالية كحسم الوديعة بالدولار بنسبة 80% او 85% هي أفضل بكثير من طرح الحكومة، طرح صندوق النقد، والطروحات الأخرى الداعية لشطب الودائع.
انّ الحل المقترح من قِبل الصندوق بإلغاء الودائع الدولارية الخاصة لم يُطبّق في اي دولة من العالم سابقاً، مع العلم انّ المودع هو الضحية. كما اعترض عدد من أعضاء المجلس التنفيذي لصندوق النقد في اجتماعه الأخير بشأن لبنان في حزيران 2023، على مدى الإجحاف الملحق بحق المودعين لتحميلهم معظم تكلفة الأزمة المزعومة. يجب ان تتراجع عنه الحكومة وكل من يُروّج لهكذا حل تحت شعار انّه الوحيد وسُيعوّض عن الودائع من خلال صناديق او اصدار تعهدات او شهادات وهمية لاسترداد الودائع (على سبيل المثال: اقتراح دراسة ريكاردو هوسمان وزملائه في مركز التنمية الدولي لجامعة هارفارد، استبدال الودائع بشهادات حكومية ليس لها أي قيمة فعلية، او اقتراحات اخرى من محللين لبنانيين بإستبدال الودائع بسندات اجنبية مخصومة، تستحق بعد 30 سنة ببضعة مليارات بكوبون صفر قيمتها الحالية توازي فقط 6% من الودائع من دون معرفة مصدر التمويل). فهي طروحات غير مجدية على الإطلاق.
بند العمل الجماعي
لا يمكن التوصل إلى حل لديون المصارف للمودعين وحَمَلة الأسهم والسندات (أجانب ومواطنين) من دون الاتفاق مع المودعين والمستثمرين حسب بند العمل الجماعي المتبع في الممارسات الدولية (القانون الأميركي لليوروبوند والبريطاني المماثل). فكما اقترح صندوق النقد إعادة هيكلة الدين الخارجي بمشاركة الدائنين الاجانب، يتوجب إشراك الدائنين اللبنانيين (حملة اليوروبوند او السندات والودائع) على المبدأ ذاته، لاحترام مبدأ المساواة في المعاملة.
يجب الاستناد حسب الممارسات الدولية الى بند العمل الجماعي في حالة الدين بالعملات الأجنبية (اليوروبوند والودائع) لمعالجة الديون السيادية في حوزة القطاع الخاص الأجنبي والوطني. ويسري تطبيقه حسب الاتفاق مع أكثرية الدائنين (75%) على أساس الحجم وليس العدد لمعالجة الدين السيادي (بما فيه دين مصرف لبنان للمصارف). وقد يشمل الاتفاق إلغاء جزء من الدين، الاتفاق على فترة السماح، وعلى تكلفة خدمة الدين. بالاتفاق مع الاكثرية يتوجب قبول الأقلية بالاتفاق النهائي.
يتولّى نادي لندن معالجة الدين السيادي بحوزة القطاع الخاص، ولا يتطلّب بالضرورة مشاركة صندوق النقد، بل مشاركة الدائنين اصحاب الحق، للتوصل الى اتفاق بين الدولة المدينة والمصارف الخاصة الدائنة والمؤسسات المالية وممثلين عن المودعين. اذاً، لا يجوز للدولة اللبنانية اقتراح حل مخالف للممارسات الدولية الجيدة ومخالف للدستور(المادة 15).
انّ عدم اعتبار أهمية مشاركة المودعين والدائنين بمعالجة الودائع قد يُعَرّض الحكومة لإجراءات قانونية من قِبل المواطنين والمودعين الأجانب، ما قد يعرقل التوصل الى حل عادل في فترة وجيزة.
توصيات بنك التسويات الدولية
من الافضل اقتراح حلول تلتزم بالممارسات الدولية الجيدة لمعالجة الديون حسب توصيات بنك التسويات الدولي ايضاً. فتوصياته لا تشير إلى أفضلية اعتبار الأموال الخاصة او احتياطي المصارف كخسارة بإسلوب استنسابي يُخوّل للبنوك المركزية شطبها. بل على العكس من ذلك، برهن انّ المصارف المركزية تستطيع ان تمارس سياستها النقدية بفعالية، على الرغم من حيازتها على خسارات (النشرة 68 لبنك التسويات الدولي). لذا فهو يثني المصارف المركزية عن اعتبار الأموال الخاصة كخسارات معرّضة للشطب. وهي أهم نقاط الخلاف بين الكتل النيابية والمودعين من جانب وصندوق النقد والحكومة من الجانب الآخر.
هل يوجد بدائل عن شطب الودائع؟ بالطبع يوجد. من خلال توفير السيولة والثقة. وتشمل الاولوية الإجراءات الضرورية التالية:
*إلغاء مشروع قانون اعادة الانتظام المالي وإصلاح وضع المصارف الصادرين عن الحكومة اللذين يدعوان لإلغاء الودائع الدولارية بالكامل، ولا يخدمان اعادة انتظام القطاع المالي، وانما يؤديان الى تراجعه وانعدام الثقة فيه. يجب إعادة صياغة هذين القانونين مع الحفاظ على الودائع.
*الغاء التعميم 151 كلياً وكذلك 158 اللذين يحدّدان السحب والسعر الاستنسابي.
* تحرير سعر الصرف بالاستناد الى سوق مقاصة يتبع المزادات الدولية (وليس فقط لمعاملات التجارة الخارجية – الواردات) بإشراك جميع المؤسسات المالية في المناقصات. ولا بدّ من التذكير، انّ تثبيت سعر الصرف بأي وسيلة، كان احد اهم أسباب الأزمة. ومع تحرير سعر الصرف تنتهي ضرورة حجز أموال المصارف بالدولار كاحتياط إلزامي، مما يوفر السيولة الكافية للمصارف.
* الاستقرار في سعر الصرف واستعادة الثقة يتطلبان سياسات شفافة مع تحقيق توازن مالي ونقدي.
* جدولة الودائع المصرفية لفئات: حسابات جارية وحسابات آجلة تتناسق مع سيولة المصارف. ويُخوّل استعمال الشيكات لجميع فئات الودائع حسب اجل الحساب. ويُحدّد سعر شيكات الحسابات الآجلة حسب السوق التابع.
* جدولة الدين العام بالتنسيق مع الدائنين اللبنانيين والاجانب (بالاستناد الى التمثيل الجماعي لحلّ الاستحقاقات المالية للقطاع العام).
انّ الحل بديهي لمعالجة الوضع المالي، فيجب ان يُصَوّب الجهد نحو اعادة الثقة بالقطاع المصرفي، ومنها التخلّي عن طروحات شطب الودائع. وعندما تتوفر السيولة والثقة من خلال تحرير الأسواق وتحقيق التوازن المالي، سيعود العمل المصرفي الى وضعه السليم. فمعالجة الديون لا تُمارس حسب رغبة السلطة الاستنسابية فقط، بل بإشراك الدائنين (والمودعون أهمهم).
البروفيسور منير راشد
بديل التعميم 151، «بلومبرغ»… ورفع سعر الصرف
ثلاث قضايا على المستوى النقدي والمالي، تستأثر بالاهتمام الشعبي في هذه الفترة، الاولى تتعلق بالتعميم 151 الذي انتهى مفعوله في نهاية 2023، ولم يتمّ تجديده. الثانية تتعلّق بقرب موعد بدء عمل منصّة «بلومبرغ» وتأثير ذلك على سعر الصرف. والقضية الثالثة، اعتماد سعر منصّة صيرفة الوارد في موازنة 2024، كسعر رسمي موحّد للدولار في كل المعاملات.
منذ اندلاع أزمة الانهيار رسمياً في آذار 2020، مع إعلان الدولة اللبنانية التوقف عن دفع سندات دينها بالدولار (يوروبوند)، كان يُفترض ان تتولّى الدولة زمام الامور، وأن تباشر الإجراءات الآنية المطلوب اتخاذها في حالات من هذا النوع، لكنها لم تفعل وتقاعست، وتركت للمصرف المركزي ان يتصرّف بما يراه مناسباً. وهكذا باشر مصرف لبنان في حينه، اتخاذ الاجراءات التي اعتبر انّها ضرورية لتسيير الامور بالتي هي أحسن، بانتظار خطة الدولة للخروج من الأزمة. وجاءت معظم الإجراءات على شكل تعاميم، او حتى قرارات كانت تتبلّغها المصارف، وتعمل بموجبها.
ومن ضمن هذه التعاميم، صدر التعميم 151 لتنظيم سحب الاموال من الودائع الدولارية في المصارف. وكان الهدف المُعلن منه، تسهيل امور الناس. وللتوضيح فإنّ المركزي هو من قرّر ان يكون السحب بالليرة وليس بالدولار، وهو من حدّد سعر السحب.
اليوم، هناك نقاش في احتمال إصدار تعميم بديل. ويبدو انّ مصرف لبنان يريد ان يتمّ السحب بالدولار، وفق سقف شهري لا يتجاوز الـ150 دولاراً من كل حساب. لكن الإشكالية في هذا الموضوع، تكمن في النقاط التالية:
اولاً- أي قرار بتنظيم سحب الدولارات من دون وجود أفق لخطةٍ توضح المسار المالي، قد يعني ببساطة الاستمرار في النزف وصولاً الى مرحلة نضوب الاموال، وفقدان الامل بأية خطة لضمان حقوق المودعين، او حتى على الاقل صغار المودعين.
ثانياً- انّ تعميم السحب على كل الحسابات المصرفية، المؤهل منها وغير المؤهل، يعني ببساطة انّ كل الذين اشتروا شيكات مصرفية بـ11% من سعرها، سوف يجنون ارباحاً غير مستحقة، مقابل خسائر غير مبرّرة سيتعرّض لها المودع الذي باع الشيك. وهنا لا بدّ من الاشارة، الى انّ البعض كان ينصح في الفترة الاخيرة بشراء شيكات مصرفية، مُلمّحاً الى انّ قراراً ما سيصدُر وسيسمح لهم بتحقيق أرباح كبيرة.
ثالثاً- اصبح اي اجراءٍ ترقيعي خارج إطار الخطة الشاملة، لا يخلو من الاضرار الجانبية الجسيمة، وبالتالي، اذا لم تواكب «الدولة» الإجراءات الاستثنائية الناتجة اصلاً من استمرار غياب دورها، لن تكون النتائج ايجابية في المحصلة.
في موضوع منصّة «بلومبرغ»، لا شيء استثنائياً، ما دامت المنصّة مجرد وسيلة لتنظيم العرض والطلب. ويعمل المركزي حالياً على تجاوز العرقلة التقنية التي ارتبطت بتداعيات حرب غزة. وفي كل الأحوال، لن تكون المنصّة مسؤولة عن ارتفاع او انخفاض سعر الصرف، بل انّها قد تساهم في مزيد من الشفافية في السوق المالي، وقد تخفّف قليلاً من مخاطر الاقتصاد النقدي (cash economy).
في موضوع تغيير سعر الصرف الرسمي للدولار، واعتماد دولار منصّة صيرفة، اصبح واضحاً انّ مصرف لبنان ينتظر صدور موازنة العام 2024، لكي يتبنّى واقع تغيير وتوحيد سعر الصرف. وهذا الامر مطلوب من قِبل صندوق النقد الدولي. لكن الإشكالية هنا تكمن في زيادة الضغط المعيشي على المواطنين، بسبب ارتباط بعض الضرائب والرسوم بسعر الصرف الرسمي. بالاضافة الى ذلك، لا بدّ من اجراءات تمنع حصول ثغرات في ميزانيات الشركات والمؤسسات المالية. وهناك من يسأل عن جدوى رفع سعر الصرف في هذا التوقيت، إذا كان الاتفاق مع صندوق النقد مؤجّلاً، بما يعني انّ الخطة الاقتصادية الشاملة لن ترى النور قريباً. وبالتالي، ليس مفيداً ان تتعرّض المؤسسات لأي خلل بنيوي يعيق استمرارها.
في المحصّلة، لا تكمن المشكلة في الإجراءات التي قد يتخذها مصرف لبنان، بل في تقاعُس الدولة عن القيام بدورها. وبعد 4 سنوات على الانهيار، لم يعد ممكناً اتخاذ اجراءات مجتزأة، بل صار المطلوب صدور سلّة متكاملة تشمل كل الخطوات التي ينبغي ان تواكب الخطة الشاملة. وبعد تقرير «الفاريز» الجنائي، وبعد الدراسة الصادرة عن جامعة «هارفرد»، وبعد البيان الاخير لمصرف لبنان في شأن تبيان وضعه المالي حتى نهاية العام 2023، لم يعد متاحاً صدور اية خطة لا توضح فيها الدولة قرارها في شأن كيفية التعاطي مع ديونها ومع المستحقات المتراكمة عليها لمصرف لبنان، لأنّه في ضوء هذا القرار يمكن تحديد مصير الودائع والمودعين، ومصير الاقتصاد في السنوات المقبلة.
أنطوان فرح
شروط استدامة الدولرة الشاملة: دروس دولية مفيدة للبنان…
صحيح أنّ نظام «الربط الصارم» وتحديد منه الدولرة الشاملة هو خيار يصله البلد المعني يحصل بعد استنزاف فعالية أي نظام آخر قادر على إعادة الاستقرار النقدي، إلا أن الرهان على نجاحه يحتاج سلسلة عناصر:
• المصداقية السياسية
من الممكن أن تستفيد البلدان التي عانى فيها صناع السياسات تاريخياً من الافتقار إلى المصداقية السياسية، وخاصة في المجال النقدي، من الانضباط الذي يفرضه نظام «الربط الصارم» Hard Peg.
نظام نقدي متشدد مثل مجلس النقد أو الدولرة الشاملة يفرض قمة الانضباط للمالية العامة لأنه يمنع اللجوء الى المصرف المركزي وتغطية العجوزات المالية أو تمويل الدين العام عبر طباعة العملة الوطني… فذلك يلتزم صناع السياسات بمصداقية بالاستقرار النقدي والانضباط.
• تجربة التضخم
البلدان التي تتجه نحو الدولرة هي بمعظمها تعاني تجربة تضخّم مفرط يفقد الثقة بالعملة الوطنية.. إنّ دولاً مثل بلغاريا وغيرها اختارت إنشاء مجلس نقد كحل فيما بلدان من الاكوادور اعتمدت الدولرة الشاملة الرسمية بنجاح.
• نظام سعر الصرف الحالي
حتى لو تمكنت دولة ما من الدولرة باستخدام أي نظام لسعر الصرف، فإنّ نجاح مجالس النقد أو أسعار الصرف الثابتة بشكل موثوق تشير إلى أن البلد قد أثبت بالفعل التزامه بعملة مستقرة.
وبالتالي، تكلفة التحول الإضافية من أسعار الصرف الثابتة أو مجالس نقد نحو الدولرة الشاملة أقل من تلك التي يتم الحصول عليها من أنظمة أسعار الصرف الأكثر مرونة.
• تغطية احتياطيات القاعدة النقدية
الحد الأدنى من معايير الدولرة هو أنّ احتياطيات النقد الأجنبي للدولة التي تعتمد على الدولرة يجب أن تغطي على الأقل القاعدة النقدية (أو العملة المتداولة). ومع ذلك، فإنّ بعض البلدان التي قد تكون مرشحة جيدة للدولرة قد لا تحقق هذا الهدف، وفي هذه الحالة قد تفكر في اقتراض الاحتياطيات اللازمة من مصادر رسمية أو دائنين من القطاع الخاص.
• صلابة النظام المصرفي
إنّ وجود نظام مصرفي قوي وتنافسي وخاضع للإشراف والتنظيم الجيد هو شرط مهم لنجاح الدولرة الشاملة. إنّ التواجد الكبير للمصارف الأجنبية في اقتصاد يعتمد على الدولار يمكن أن يساعد لأنه: (أ) سوف يقلّل من مخاطر الأزمات المصرفية؛ (ب) سوف يقدم الدعم الضمني لمقرض الملاذ الأخير.
• مدى الدولرة غير الرسمية
كلما زادت الدرجة الحالية من الدولرة غير الرسمية، زادت فوائد تخفيض قيمة الصرف وزادت الفوائد المحتملة للدولرة الرسمية. وإذا تم استخدام الدولار بالفعل كوحدة حسابية ووسيلة للدفع ومخزن للقيمة، فسيتم تقليل تكاليف التحول إلى الدولرة الرسمية إلى الحد الأدنى. كما انّ دولرة الالتزامات تزيد من فوائد الدولرة الكاملة. وعلى وجه الخصوص، فإنّ البلدان غير القادرة على الاقتراض طويل الأجل بعملاتها الخاصة (بلدان «الخطيئة الأصلية» في المصطلحات الهوسمانية) من الممكن أن تستفيد أيضاً.
• القدرة على العمل كمقرض الملاذ الأخير بعد الدولرة
على الرغم من أنّ الدولة التي تعتمد على الدولار تكون بشكل عام أكثر محدودية في قدرتها على تزويد مُقرضي الملاذ الأخير بالخدمات لنظامها المصرفي، إلّا أن مثل هذه الوظيفة يمكن القيام بها حتى في سياق الدولرة.
أولاً، إذا تجاوزت احتياطيات النقد الأجنبي ما هو مطلوب لتغطية القاعدة النقدية. ثانياً، تستطيع الدولة المعتمدة على الدولار أن تعمل على بناء احتياطيات من السيولة عن طريق الاقتراض من القطاع الخاص (خطوط الائتمان الخاصة الطارئة) أو المؤسسات المالية الدولية.
ثالثاً، يمكن للتغيرات في نسَب متطلبات الاحتياطي أن توفّر المزيد من السيولة للنظام المصرفي.
رابعاً، بموجب اتفاقية تقاسم عائدات رسوم سك العملة، من الممكن استخدام القيمة المخفضة لتدفق مدفوعات رسوم سك العملة في المستقبل كضمان لخطوط الائتمان مع الدائنين من القطاع الخاص و/أو العام.
• تكلفة الإيرادات من فقدان رسوم سك العملات seigneuriage
إنّ الدولرة التي تحدث من دون تقاسم رسوم سك العملات مع الولايات المتحدة ستعني ضمناً خسارة إيرادات هذه الرسوم. وبالنسبة للبلدان حيث تمثّل هذه الرسوم جزءاً كبيراً من الإيرادات العامة، فإنّ مثل هذه الخسارة تخلّف عواقب وخيمة على الميزانية. أما إذا كان البلد أساساً جداً مدولر بأكثر من حوالى 90 % كما هي حال لبنان فهذا يعني أن خسارة سك العملة ضئيلة لأنها تقتصر على 10% من السيولة المتبقية بالعملة الوطنية.
• ملاءة البنوك المركزية في غياب تقاسم رسوم سك العملات
هناك جانب آخر لخسارة رسوم هذا السك يجب مراعاته، وهو كيفية تأثير هذه الخسارة على ملاءة البنك المركزي في الاقتصاد المدولر. القيمة الحالية لرسوم سك العملات المستقبلية هي أحد الأصول للبنوك المركزية التي لا تظهر في الميزانيات العمومية الحالية للبنوك المركزية. ومن المهم المحافظة على وظائف المصارف المركزية (مثل الإشراف/التنظيم، وتأمين الودائع، ومقرض الملاذ الأخير، وتحديد متطلبات الاحتياطي) يجب ضمانها حتى في الاقتصاد المدولر بشكل شامل.
• حالة المالية العامة
كلما انخفض عجز الموازنة وحجم الدين العام، كلما انخفض خطر فشل الدولرة. والواقع أنّ الظروف المالية غير المستدامة من الممكن أن تدفع السّاسة وصنّاع السياسات إلى عكس اتجاه الدولرة، والعودة إلى العملة الوطنية حتى يتمكنوا من استئناف الطباعة (إستعادة القدرة على الوصول إلى ضريبة التضخم). ومن الممكن أن تؤدي المشكلات المالية الخطيرة أيضًا إلى تقويض ثقة الجمهور في السلطات المالية وتؤدي إلى أزمة مالية مرتبطة بأزمة الديون الخارجية (وهي نقطة يتم تناولها بمزيد من التفصيل في القسم التالي). ويمكن أيضا أن تحد من القوة المالية.
• الدين الخارجي واحتياجات التمويل
إنّ رصيد الديون الخارجية للدولة التي تعتمد على الدولرة وخدمة ديونها الخارجية سيؤثران على نجاح الدولرة. وفي حين أنه من الممكن الحد من ظواهر مثل «التوقف المفاجئ» لتدفقات رأس المال والانتكاسات المفاجئة لتدفقاته إذا تخلى بلد ما عن عملته الوطنية، فإنّ احتمال حدوث أزمات مالية مرتبطة بالصرف المفرط لا يمكن استبعادها مع الديون الخارجية.
• القدرة على اتّباع سياسة نقدية لمواجهة التقلبات الدورية بنجاح
إنّ معيار نجاح الدولرة في المساهمة بالاستقرار يَكمن في تقييم ما إذا كانت ستقلّل من القدرة على تهدئة تقلبات الإنتاج. ولذلك فهو معيار مناسب لتقييم الفرصة (إن لم يكن مدى استعداد البلاد) للدولرة. وستعتمد هذه القدرة على عدد من العوامل: درجة الدولرة غير الرسمية للاقتصاد، ومصداقية صانعي السياسات، ودرجة ربط الأجور، ودرجة تأثير أسعار الصرف على الأسعار المحلية.
• إرتباط دورة الأعمال بدورة الأعمال الأميركية
تنخفض الحاجة إلى تعديل سعر الصرف إذا كانت الدورة الاقتصادية لبلد يعتمد على الدولار ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدورة الاقتصادية للولايات المتحدة الأميركية. وتعتمد درجة التزامن الاقتصادي بدورها على عوامل هيكلية، مثل درجة التكامل التجاري والتشابه في هيكل الإنتاج.
• التكامل التجاري مع الولايات المتحدة
إنّ أفضل مرشّح للتبادل التجاري والتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية هو البلد الذي يلجأ إلى الدولرة. إنّ المزيد من التكامل التجاري يعني ضمناً قدراً أعظم من التزامن بين الدورة الاقتصادية للاقتصاد المعتمد على الدولار مع الدولة الرئيسية. علاوة على ذلك، يرتبط التكامل التجاري عمومًا بزيادة النمو المالي ورأس المال.
• التعرّض لصدمات شروط التجارة
تؤدي القابلية للتأثر بصدمات معدلات التبادل التجاري دورًا غامضًا، فمن المُحتمل أن تكون فوائد الدولرة أكبر بالنسبة لتلك الاقتصادات الصغيرة المفتوحة التي تتقبّل الأسعار في الأسواق الدولية. ومن ناحية أخرى، قد تكون هناك حاجة إلى صدمات كبيرة لشروط التبادل التجاري (وسيتم استيعابها بنجاح) من خلال التعديل النقدي إذا كانت الدولة تتمتّع ببعض القوة السوقية عند التصدير (و/أو إذا لم يكتمل انتقال انخفاض الأسعار المحلية).
• الانفتاح على التجارة
إنّ المزيد من الانفتاح على التجارة، قياساً بنسبة الصادرات/الواردات إلى الناتج المحلي الإجمالي، من الممكن أن يؤدي (مع بعض المحاذير) إلى تعزيز حالة الدولرة لعدد من الأسباب. أولاً، الاقتصادات التي تتمتع بحصة كبيرة من التجارة الدولية هي عموماً اقتصادات صغيرة ومفتوحة وليس لديها قدرة تذكر على التأثير على شروط التبادل التجاري. ثانياً، كلما كان الاقتصاد أكثر انفتاحاً، كلما انخفض تأثير انخفاض القيمة الاسمية على الأسعار المحلية، وبالتالي انخفضت الفوائد المترتبة على انخفاض القيمة الاسمية – التعديل النقدي. ثالثاً، كلما زادت حصة القطاع المتداول، زاد التنويع.
• مرونة أسواق العمل
في غياب آلية لسعر الصرف، إنّ الصدمات الخارجية التي تتطلب تغييرا في القيمة الحقيقية للأجور و/أو تنقل العمالة بين القطاعات لن يكون لها آثار دائمة على معدل البطالة إذا كانت أسواق العمل مَرنة بما فيه الكفاية. وقد تحتاج هذه المرونة إلى أن تأخذ شكل مرونة هبوطية في الأجور الاسمية (للحَث على تخفيض الأجور الحقيقية إذا لزم الأمر).
• درجة هجرة اليد العاملة
قد تكون درجة تنقّل العمالة مهمة لأن عددًا من الدول الأميركية لديها أعداد كبيرة من العمّال المهاجرين القانونيين (وغير القانونيين) المؤقتين والدائمين الذين يمكنهم التنقل بين الولايات المتحدة وبلدهم الأصلي.
إنّ انتشار مغتربين للبلد المدولر كلياً يسهم في إدخال تحويلات دولارية إليه تعزز السيولة بالعملة الصعبة.
• درجة حركة رأس المال
من الممكن أن يعوّض الحراك الدولي لرأس المال الحقيقي، جزئياً، عن الافتقار إلى قدرة اليد العاملة على الحركة عبر البلدان. ويمكن تعديل الصدمات التي تتطلب حركة العمالة عبر الحدود جزئياً من خلال تحركات رأس المال الحقيقية.
• العوامل السياسية
يتطلّب نجاح الدولرة الشاملة مستوى عالياً من الدعم الشعبي؛ مساحة واسعة ومفتوحة من النقاش المسبق والشفافية في إعلان آلية وروزنامة الانتقال التدريجي اليها.
في الواقع، يصعب أن يكون الدعم السياسي للدولرة واسع النطاق علناً نظراً لحرص القوى السياسية على إظهار خطاب السياسة النقدية والتمسّك بالعملة الوطنية. لذا، تتجّه البلدان المماثلة الى ترك السوق يفرض الدولرة شبه الشاملة بشكل غير رسمي ويصبح الإقرار بها نوعاً من مواكبة مطلب شعبي لتسهيل التعامل في الاقتصاد…
يبقى القول، انّ نظام «الربط الصارم» إنْ كان عبر «مجلس نقد» أو «دولرة شاملة» يصبح أحياناً ضرورة ملحّة للاستقرار النقدي، إلا انه ليس عصا سحريا بل انّ نجاحه يتطلّب سلة شروط إصلاحية مواكبة مثلما سبق ذكره. في لبنان، اختيار نظام سعر صرف جديد باتَ حاجة ملحّة كما أنّ الاستعداد الى مواكبته بالاصلاحات الضرورية التي من شأنها السماح بنجاحه وفعاليته أمر أكثر إلحاحاً…
د. سهام رزق الله
إبقاء تصنيف لبنان على C مع نظرة مستقرَّة
أعلنت وكالة «موديز» الدولية للتصنيف الإئتماني، مؤخراً، إبقاء تصنيف لبنان عند C، لكنها عدّلت نظرتها المستقبلية إلى «مستقرّة» من «لا نظرة» سابقاً. علماً أنها تحدّثت أيضاً عن مخاطر عدم تنفيذ الإصلاحات، والفراغات الدستورية الداخلية، والمخاطر الأمنية في المنطقة، وخطورة امتداد الأزمة على المدى الطويل.
نذكّر أن التصنيف الدولي للبنان ولأي بلد، مهم جداً، لاستقطاب الإستثمارات، وحماية المستثمرين، وخصوصاً لإعادة الثقة المنخفضة والمعدومة. نذكّر بأسف، أن التصنيف اللبناني كان قد وصل في سنواتنا الذهبية إلى مراتب عالية، أي إلى +B، لكنه تراجع سريعاً إلى -B –B، +C، -C وصولاً إلى أدنى التصنيفات بحسب وكالة موديز وهي C.
أما وكالات التصنيف الدولية الأخرى، مثل «ستاندرد آند بوز» S&P، فقد وضعت لبنان أيضاً في أدنى المستويات في سلّم تصنيفاتها، أي SD (Default)، بعد قرار التعثّر المالي الذي كان بالحقيقة الإعلان عن الإفلاس المبطّن. أما وكالة فيتش (Fitch)، فهي أيضاً صنَّفت لبنان في أقصى ترتيبها وهو RD (Default Restricted) جرّاء «حالة التخلّف عن الدفع المقيّدة».
نذكّر بأسف، أن نقطة التحوّل المهمة في كل هذه التصنيفات، وتاريخنا الأسود الذي كان في 7 آذار 2020، كان قد ارتسم عندما أعلنت رسمياً الدولة اللبنانية ما سُمّي بالتعثّر المالي (Financial Distress) والذي هو بالحقيقة إفلاس البلاد. وهنا إنهارت الثقة نهائياً، وتدهورت أكثر فأكثر العملة الوطنية، وتحوَّلنا سريعاً إلى اقتصاد مدولر، وهُدر ما تبقّى من الإحتياط، وتلاشى الدعم الوهمي، والذي لم ير منه اللبنانون شيئاً، لا بل تبخَّر إلى ما وراء الحدود.
نذكّر أنه حينما أُعلن الإفلاس، كان لدى «المركزي» أكثر من 30 مليار دولار، فيما المتوجّبات لتلك السنة لم تتجاوز أكثر من مليار ونصف المليار. فأبقت وكالة «موديز» Moody›s تصنيف لبنان على C، لكنها حسّنت النظرة المستقبلية إلى مستقرّة جرّاء إستعادة بعض النموّ الخجول، وخصوصاً بعد موسم صيف 2023 الذي أعاد بعض الحركة والسيولة، وشبه الإستقرار. لكنّ التقرير شدّد أيضاً على أن ثمّة مخاطر كبيرة لامتداد الأزمة على المدى الطويل، من دون أي خطة إصلاحية وإنقاذية، ومن دون أي إستراتيجية ورؤية، وفي ظل الفراغات الدستورية وغياب القرارات المصيرية.
فهذه الأزمة الراهنة التي أصبحت من صلب حياة اللبنانيين والإقتصاد اللبناني، والتي طالت على المَديين القصير والمتوسط، يُمكن أن تطول على المدى الطويل، كبلاد أخرى متعثّرة مثل فنزويلا وغيرها.
كما حذّر التقرير أيضاً من مخاطر حرب غزة، ولا سيما تداعياتها على لبنان، وعلى كل القطاعات الإقتصادية، ولا سيما على القطاع السياحي، والذي كان من أهم «عوّامات» الخلاص لإقتصادنا، وأيضاً يمكن أن تجرّنا الى تضخّم مفرط وإنكماش، أي أن توصلنا إلى الركود التضخمي (Stagflation).
لسوء الحظ، إن الذين أوصلونا إلى هذا القعر، هم المسؤولون المباشرون عن تدهور كافة التصنيفات الدولية، والذين لم يرف لهم جفن، بعد هذا التدمير المالي والنقدي، الإقتصادي والإجتماعي المبرمج والممنهج، ولا نستطيع أن ننتظر منهم أيّ خطة أو حتى أي جهد أو نيّة لإعادة بناء النمو، والثقة، أو أيّ خطة لنرتفع مجدداً بهذه التصنيفات الدولية. فالتصنيفات العليا في بعض البلاد تجذب المستثمرين والمبتكرين والرياديين، أما التصنيفات الدنيا فتجذب المهرّبين والمروّجين والمبيّضين.
في المحصّلة، لا شك في أنه رغم أن النظرة الدولية للبنان مستقرة، فإن أهم ركائز إعادة النمو تبدأ بإعادة الثقة المعدومة، وأيضاً بإعادة بناء مؤسسات الدولة المهترئة. لذا إن الرسائل المباشرة وغير المباشرة التي تصلنا من السياسيين جرّاء شعاراتهم الوهمية، ووعودهم الكاذبة، مفادها أن ليس هناك أي نيّة للإنقاذ، لا بل لديهم إستراتيجية لإستكمال هذا المسلسل الإفلاسي والتدهوري. أما رسائل الشعب، والرياديين والقطاع الخاص والإقتصاد فهي واضحة أيضاً، بأننا لم ولن نستسلم، ولن نترك مركبنا يغرق، لا بل سنواصل معركتنا بعزيمة ومثابرة للإنقاذ لإعادة إنماء القطاع الخاص اللبناني.
د. فؤاد زمكحل
أسعار الشيكات ترتفع بانتظار سعر سحب الدولار من المصارف
تشهد سوق الشيكات في الفترة الأخيرة تغييرات في طريقة احتسابها، إذ بعدما أقفل العام 2023 على بيع الشيك بنسبة 11.5% من قيمته الاسمية، سجلت هذه النسبة ارتفاعا هذا الاسبوع الى ما بين 14% للشراء و 15% للبيع. فلماذا هذا التغيير؟ وهل من علاقة بالتعميم 151؟ وما السقف الذي يمكن أن تبلغه؟
يخلق عدم تجديد التعميم 151 الكثير من التكهنات حول مصير دولار المصارف في المرحلة المقبلة، وقد أضيف اليها مؤخراً البيان الاخير للمصرف المركزي والذي يوحي باستئناف التحضيرات لإطلاق منصة بلومبرغ ودعوة المصارف للانضمام اليها. كل هذا يَشي بأنّ شيئاً ما يتحضّر للمرحلة المقبلة تتعلق بسعر الصرف. هذه الاجواء انعكست تبدّلاً في تسعيرة الشيكات في السوق والتي ارتفعت قيمتها مؤخرا الى 15% بما يوحي بارتفاع الطلب عليها تحضيراً للمرحلة المقبلة والتي يتوقع معها ان ترتفع قيمتها. والسؤال المطروح هل ستعود الشيكات الى قيمتها الفعلية؟ ما هو السقف الذي يمكن ان تبلغه؟ هل ستظل تجارة الشيكات قائمة؟ وهل من مصلحة للمودعين اليوم ببيع شيكاتهم؟ وهل من تداعيات اقتصادية لهذا التوجه في ظل عدم إقرار الكابيتال كونترول واي خطة تعافٍ اقتصادي؟
ما حقيقة العلاقة بين ياسمين عبد العزيز وأحمد العوضي اليوم؟
في السياق، شرح المستشار المالي ميشال قزح لـ«الجمهورية» انّ سوق الشيكات هي سوق مواز تتحكّم فيها مجموعة من الصرافين، وهؤلاء يشترون الشيكات لسببين: الاول كخطوة استباقية مراهنين على ان يقدم المصرف المركزي على رفع سعر الصرف من 15 الفاً الى 25 او 35 او ربما 89500 ليرة، لذا يسارعون الى الشراء مراهنين على تحقيق ارباح في المرحلة المقبلة متى ارتفع سعر الصرف. والثاني: شراء الشيكات بهدف بيعها لأفراد يستعملونها بهدف تسديد ديون مستحقة عليهم.
وكشف قزح انّ بعص المصارف عمدت الى رفع سقف السحوبات الى 5000 دولار بدل السقف الذي حدّده المركزي اي 1600 دولار، وذلك بهدف تسريع تخلّص المودعين من لولاراتها قبل ان يتغيّر سعر الدولار في المصارف. وربطَ قزح ما بين هذه الخطوة وبين ارتفاع سعر الشيك قائلاً: بمجرد رفع سقف السحوبات يرتفع سعر الشيك لأنّ هذه الخطوة تتيح تصريف كمية ليرات أكثر، لذا يُقدم بعض الافراد على شراء الشيكات ووضعها في البنوك وسحبها على 15 الفا طالما انّ سقف السحوبات ارتفع او لإبقائها وسحبها لاحقاً عندما يرتفع سعر دولار المصارف.
وتابع قزح: انّ المصارف التي أبقت على نفس سقف السحوبات اي 1600 دولار رفعت من كمية النقدي الممكن للمودع أخذها من 5 او 10 ملايين الى 24 مليون ليرة، وهي بذلك تحاول التخلص من أكبر كمية ممكنة من اللولارات لديها.
ترقب لتغير دولار المصارف
وعن حركة السوق، قال قزح: الحركة ضعيفة جدا والمودعون في حالة انتظار وترقّب لتغيّر سعر دولار المصارف، لا سيما انّ هناك توجهاً لتوحيد سعر الصرف بعد اقرار الكابيتال كونترول، على ان يخفّض تزامناً سقف السحوبات من 1600 دولار راهناً الى 270 دولاراً مع الابقاء على الحصول على نفس كمية النقدي بالليرة اللبنانية.
وردا على سؤال، قال قزح انّ سعر الشيكات يتجه نحو سعر السوق لكن استعمالها لن يعود متاحاً بعد إقرار الكابيتال كونترول، لأنه سيُتاح، بعد هذا الاقرار، سحب 24 مليونا شهريا والتي توازي 270 دولاراً، ومن شأن ذلك ان يلجم حركة الشيكات وان يجمّد الودائع القديمة، فقط ودائع الفريش ستكون قابلة للتحرك.
وتابع: في المرحلة المقبلة لن تبقى الودائع على حالها انما ستتم غربلتها والاتفاق على كيفية رَد جزء منها. ومن الطروحات المتداولة اعطاء سندات على مدة 30 عاما واحتساب الفائدة بـ5.5% (الفائدة المتداولة عالمياً) على سبيل المثال سند قيمته 100 دولار يقسّم على 30 عاماً وتُضاف اليه الفائدة الاسمية تصبح قيمته 20 دولاراً اي بهيركات نحو 80% بما يوازي الهيركات المتّبَع اليوم، لكن السلطة تحاول تمليق المودع بالمراهنة على انخفاض الفائدة العالمية بما يرفع من قيمة السند لاحقاً.
الحل بصندوق النقد
وأكد قزح ان كل حل خارج صندوق النقد ليس بحل إنما هو «ترقيع»، لافتاً الى ان صندوق النقد يقسم المودعين آخر 10 سنوات الى فئات، منهم من هرّب امواله خارج لبنان بعد الثورة في عام 2019، ومنهم من حوّل من ليرة الى دولار بعد الثورة، ومنهم من استفاد من فوائد الهندسات المالية والتي وصلت قيمتها الى 15 مليار دولار، وهناك مصارف استفادت من الهندسات بقيمة تتراوح ما بين 20 الى 30 مليار دولار. هؤلاء يجب غربلتهم والعمل وفق الرأسمال لا الفوائد الوهمية، ولاحقاً التفتيش عن حلول لرد اموالهم.
إرتفاع كبير متوقّع في اسعار الشيكات؟
مصدر مالي مواكب للوضع، استبعد ان تكون بعض المصارف لجأت الى رفع سقف السحب، لا سيما انه تم تجفيف السوق من الليرة، بحيث كانت فائدة الانتربنك ترتفع الى مستويات قياسية، بسبب حاجة المصارف الى السيولة بالليرة. وقال المصدر لـ«الجمهورية» انّ ارتفاع سعر الشيكات يرتبط حصراً بالرهان على ارتفاع سعر سحب دولار المصارف في الفترة المقبلة. ووفق السعر الجديد الذي سيتم تحديده، قد ترتفع من جديد اسعار الشيكات. واذا ما تم رفع سعر دولار المصارف الى سعر منصة صيرفة اي 89،500 ليرة، فهذا سيؤدي حتما الى ارتفاع اكبر في اسعار الشيكات، لا سيما ذات القيمة الصغيرة منها.
إيفا ابي حيدر
محطات اقتصادية لافتة شهدها الاقتصاد اللبناني في 2023
لا تشبه سنة 2023 سابقاتها من السنوات الثلاث الماضية التي عانى فيها لبنان من أسوأ أزمة اقتصادية ونقدية ومصرفية في تاريخه، فعلى الرغم من المشهد السوداوي الذي شهده في نهاية العام 2022 إلا أن العام الحالي جاء أقل وطأة على كاهل المواطنين وبخاصة العاملين في القطاع الخاص الذين ساهموا مع أموال المغتربين التي تقدر بـ 8 مليارات دولار والموسم السياحي الذي فاقت إيراداته الـ 4 مليارات دولار بنمو يقدر بنحو 0.5% كمؤشر إيجابي للاقتصاد اللبناني.
إلا أن العجز عن إقرار أي خطة حكومية للتعافي يبقى حتى الآن هو العائق الأساسي لعدم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
محطات عديدة رسمت العام 2023 لربما أبرزها انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة وتسلم الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، الذي أدار السياسة المالية محافظاً على استقرار سعر الصرف وامتنع عن تمويل الدولة من أموال مصرف لبنان بالعملات الأجنبية لتغطية عجز الموازنة، هذه الموازنة التي خرجت بعجز معلن قدره 46 تريليون ليرة أو ما يقارب 500 مليون دولار ولم تقر حتى اللحظة فيما مشروع موازنة 2024 مثقل بالضرائب والرسوم ويواجه اعتراضات باللجان النيابية.
ومع عدم إيجاد أي حلول لأموال المودعين تبقى القوانين الإصلاحية كالكابيتول كونترول وإعادة هيكلة المصارف وقانون التوازن المالي معلقة بانتظار الحلول السياسية العامة في ظل فراغ رئاسي وتشريعي وحكومة تصريف أعمال غير مكتملة الصلاحيات.
أما على المستوى الاجتماعي فقد أظهرت البيانات الحديثة لإدارة الإحصاء المركزي أن مؤشر أسعار الاستهلاك في لبنان سجل ارتفاعاً نسبته 208% في شهر سبتمبر أيلول 2023، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022، وهو ما يعود إلى ارتفاع أسعار مختلف المواد والخدمات الأساسية بحيث حل لبنان في المرتبة الثانية من بين الدول العشرة الأكثر تضرراً من تضخم الغذاء في العالم بحسب البنك الدولي.
ووفقاً لتقرير المرصد الاقتصادي للبنان فإن علامات التطبيعأو التكيف الحاصل حالياً مع الأزمة والتباطؤ في انكماش النشاط الاقتصادي لا يعني تحقيق الاستقرار كما إن تنامي الاقتصاد النقدي الذي يقدر بنحو نصف إجمالي الناتج المحلي هو نقطة سوداء في الاقتصاد المحلي والمطلوب خطة إصلاحية شاملة تكون بارقة أمل للعام.
أهم التحدّيات الاقتصادية للعام 24
أضحت العوامل الاقتصاديّة العالمية وتأثيراتها الجانبية الحدث الأبرز في جزء كبير من العالم، ولبنان من الدول الواقعة تحت المجهر الاقتصادي، بخاصة بعد دخوله في نفق الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في 17 تشرين الأول 2019.
ومع انقضاء أكثر من أربع سنوات على هذه الأزمة التي أطاحت باقتصاد البلاد وأموال المودعين والعملة المحلية، وتسببت بأزمة معيشية خانقة وارتفاع معدلات الفقر وزيادة حجم التضخّم، يبدو أنّ العام 2024 سيحمل معه تحدّيات اقتصادية بارزة، منها القديمة وأخرى مستجدة، فما هي هذه التحدّيات؟
1- انتخاب رئيس للجمهورية: قد يرى البعض أنّ انتخاب رئيس للبلاد هو عنوان سياسي محض، إلا أنّ هذا الاعتقاد ليس دقيقاً، فلهذا الاستحقاق أبعاد عدّة مرتبطة حكماً بنوع الاقتصاد المستقبلي والدور المقبل للبنان. وبهذا لن تكون أهمية الانتخاب محصورة بانتظام المؤسسات، خصوصاً أنّه يأتي بعد انهيار العام 2019 وانفجار المرفأ وانتهاء الدور الذي كان منوطاً للبنان منذ العام 1945 إلى بداية الألفية الثانية.
2- إقرار موازنة 2024: التحدّي هنا يكمن في تمكّن الحكومة والمجلس النيابي من إقرار موازنة عادلة في ظلّ فراغ رئاسي قد يعقّد الأمور. إنّ هذا الأمر بالغ الأهميّة وفقاً للمنطق العلمي والاجتماعي، وهو يمهّد لاستعادة الدولة هيبتها وقرارها المالي ودورها في الخدمات، ويجب إقرار الضرائب الجريئة والمفيدة، على أن يكون الاقتصاد المحلّي في الوقت نفسه قادراً على تقبّل الموازنة والتكيّف معها.
3- سعر الصرف: التعامل مع سعر صرف، وطريقة توحيده في الموازنة وتأقلم القطاع العام وتقبّل الاقتصاد يعدّ معضلة أساسية، بحيث أنّ ثبات سعر صرف الدولار عند عتبة الـ 89500 ليرة لبنانية حتى الآن يمثّل تحدّياً للمصرف المركزي، وإيقاف طبع الليرة هو التحدّي الأكبر لحماية الاقتصاد ومعالجة التضخم، كذلك إيقاف الاستنزاف لاحتياطي العملات الأجنبيّة وحقوق المودعين.
4- قانون هيكلة المصارف: السنة المقبلة هي «سنة المصارف» بامتياز، وستكون مفصليّة بالنسبة لهذه المؤسسات المالية، إذ أنّ اقتصاد البلاد يحتاج إلى بناء نظام مصرفي جديد يلتزم بالقوانين ويأخذ في الاعتبار دعم القطاعات التي تساعد في تكبير الاقتصاد خارج التحاصص السياسي. والسؤال الأهم: هل تريد المصارف العودة إلى الأسواق في لبنان؟ حيث سنشهد في هذا الإطار نزاع شروط بين صندوق النقد الدولي والمصارف، على أمل ألّا يدفع المودع ثمن هذا الخلاف.
5- الكابيتال كونترول: أصبح عنواناً أساسيّاً للمرحلة، لكنّ التحدي الأكبر يكمن في طريقة إقرار قانون «الكابيتال الكونترول» في ظلّ اقتصاد نقدي وحسابات نقديّة جديدة. وبعد سنوات من الأزمة الطويلة أصبح هذا القانون لزوم ما لا يلزم، إلاّ في حالة اعتماده لحماية المتبقي من الاحتياطات في المصرف المركزي، والتي تبلغ 9 مليارات دولار.
6- الكهرباء: أزمة قطاع الكهرباء يمكن وصفها بالتحدّي الدائم والعبء الاقتصادي والمخرج في الوقت عينه، فهل سنستطيع بناء مصانع حديثة واستجرار الطاقة؟ هذا ملف في ظاهره تقني وفي باطنه الكثير من السياسة والمنافع.
7- الانتظام المالي العام: مصطلح اقتصادي فضفاض وحديث في اللغة العربيّة، والمقصود به كيفية توزيع الخسائر بالنسب بين الدولة والمصارف ومصرف لبنان المركزي، ومن سيتحمّل الجزء الأكبر منها.
8- حماية أصول الدولة: عنوان سيتصدّر المرحلة في ظلّ صراع داخلي بينّ مؤيّد لبيع أصول الدولة وممانع لذلك، مع بروز طرف ثالث يؤيّد تأجير هذه الأصول واستثمارها. لكنّ المشكلة أنّ التجارب السابقة في لبنان أثبتت أنّ «مالنا لنا ومالكم لنا ولكم» على مبدأ «الشراكة الحلبية» الاقتصادية.
9- النفط والغاز: تحدّي النفط والغاز والاستكشاف مستمرّ، مع إصرار بعض الجهات على تسييس هذا الملف، إذ أصبح من الواضح أنّ العراقيل ليست تقنيّة بل مرتبطة بشروط سياسيّة.
10- النزوح السوري: الملف الذي يستنزف الاقتصاد اللبناني بعدما فاقت كلفة النزوح الـ28 مليار دولار منذ العام 2011، كما يُستخدم كورقة ضغط سياسية على سوريا ولبنان، ويدخل ضمن إطار الحلّ الشامل للصراع في المنطقة.
ختاماً، لا يمكن اعتبار لبنان جزيرة معزولة عن العالم، خصوصاً في ظلّ العدوان الإسرائيلي على غزّة وما له من تداعيات لن يكون بلدنا في بمنأى عنها. وحتى لا يكون اقتصاد سنة 2024 امتداداً للسنة الجارية لا بدّ من عقد مؤتمر إنقاذ اقتصادي يحدّد دور لبنان في المستقبل القريب والبعيد، بدلاً من أن يُفرض عليه دور معروف النتائج مسبقاً.
زياد ناصرالدين
كاتب وباحث في الشؤون الاقتصادية
2023… والتأقلم مع الوضع الراهن
شارف العام 2023 على نهايته، ولم يتغيّر المشهد اللبنانيّ إلى الأفضل، لكنّه ما زال يتأقلم، ويجاهد، ويقاوم بطريقةٍ إعجازيّة في وجه جميع العوامل الّتي تحطّ من عزيمته الاقتصاديّة، وتأخذ بانهياره الماليّ إلى مستويات أدنى، فنرى اللبنانيّ قادرًا على الابتكار والفرح طورًا بما هو قليل، والتهكّم على الفشل الإداريّ، والضحك على حاله المأساويّ كنوع من تخطّي المصاعب ولو إلى حين.
فعلى الصعيد المصرفيّ، تأقلم المواطن إلى حدٍّ بعيد مع حقيقة تلاشي مدخّراته، ولم يعُد يطالب بها إلّا في مرّاتٍ اضطرّ فيها إلى استعمال القوّة للحصول على مستحقّاته، وأصبح مثل هذا الخبر يمرّ مرور الكرام، كأيّ خبرٍ رياضيّ فيه فائز وخاسر في جولة من لقاءات عديدة، على أمل تغيير قواعد اللعبة بحيث يستطيع المودِع سحب مبالغ «أكبر».
من ناحية أُخرى، تمّ إغلاق منصّة صيرفة بعد أن رفعت الراية البيضاء أمام السوق السوداء، وكانت خطوة «ناقصة» من مصرف لبنان كبّدت الدولة خسائر كبيرة في احتياطيّ النقد الأجنبيّ. وأكّدت على أنّ لا خطط مدروسة تُنفّذ، إنّما مجموعة من التعميمات تفيد مجموعة على حساب غيرها، ولا تُرسي أي حلول مستدامة للنهوض بالأزمة الاقتصاديّة.
وفي الحديث عن الاستدامة، ارتفع الطلب على الطاقة البديلة وخصوصًا على تركيب الخلايا الكهروضوئيّة، واختفى معه السجال على مشاريع الطاقة التقليديّة ومعامل الكهرباء، فلربّما وجدت الأطراف المتصارعة مصدرًا آخر للكسب عن طريق تسهيل ترخيص تركيب أجهزة الطاقة الشمسيّة والعاملة بالرياح، من دون ضوابط أو شروط. فاكتسى لبنان حلّة خضراء في اعتماده على الطاقة النظيفة «مجبرٌ لا بطلٌ»، تؤمِّن معظم تكلفة تركيبها الباهظ أموال المغتربين، رغبةً منهم أن يعيش أهلهم في ظروف أفضل. بالطبع، من دون أن ننسى مسلسل رفع الدعم عن المشتقّات النفطيّة، وغياب الحديث عن أزمة استيراد الوقود أو تهريبه.
وفي الحديث عن البدائل، لم يجد لبنان بديلًا عن الطبقة المستقيلة الّتي كانت تمسك بزمام الأمور، فكرسي الرئاسة ما زال فارغًا، وحاكم مصرف لبنان انتهت مدّة حاكميّته، وكان الاكتفاء بنائب يسيّر الأعمال… ينطبق الأمر كذلك على مراكز حيويّة كثيرة، منها قيادة الجيش، ورئاسة الحكومة، وتطبيق الحلول المؤقّتة بتمديدٍ من هنا، ومماطلة من هناك…
فالبلد «ماشي» بالعناية الإلهيّة، إذ أصبح عبارة عن «أعجوبة» يعيش مواطنوه مبدأ «كلّ يوم بيومه» من دون خطط اقتصاديّة تُعنى بالشؤون الجيوسياسيّة للمنطقة وتغييراتها الجذريّة، ولا يوجد رأس ينظّم السياسات النقديّة الّتي تضمن الاستقرار الاقتصاديّ وتعزيز النموّ المستدام.
من جهة أُخرى، نجد أنّ الحوكمة في لبنان لم تتقدّم، فلا خطوات واضحة نحو اندماج ماليّ شامل، ولا تسهيل في الوصول إلى الخدمات الرسميّة الأساسيّة للمواطنين مع اتّساع رقعة الحرمان، ولا تحديث في البُنى التحتيّة، وخصوصًا في مجالات تكنولوجيا المعلومات مع انتشار الذكاء الاصطناعيّ في الفترة الحالية في جميع دول العالم، والخدمات الحيويّة بأجمعها.
هذه الأمور الّتي ذكرناها، أدّت إلى انكماش اقتصاديّ حادّ، أفضى إلى تقلّص كبير في الناتج المحليّ الإجماليّ، وارتفاع معدّلات البطالة، ممّا فاقم المصاعب الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وقاد من جديد إلى فتح أبواب الهجرة لدى اللبنانيّين على مصراعيها، في ظلّ انخفاض الاستثمارات الأجنبيّة وهروب رؤوس الأموال إلى أماكن أكثر أمانًا من «سويسرا الشرق»، وغابت عن المشهد المطالبات المدنيّة المحقّة، وتلاشت الرغبة في التظاهر، أو حتّى إبداء الامتعاض «أقلّ الإيمان».
بالإضافة إلى الأمن الاقتصاديّ المتزعزع في لبنان، برز خطر تضعضُع القطاع التربويّ في البلد، وخصوصًا الحكوميّ منه. فيعيش اليوم النظام التعليميّ بسياسة «جود بالموجود»، واختفت معه حدّة الصراع بين لجان الأهل، والمدرّسين، والإداريّين… فاقتنع كثيرون أنّ الاستسلام للواقع هو الحكمة، واللجوء إلى الهجرة والبحث عن فرص بديلة هو الوسيلة «الأشرف» من الاحتدام على «شي فاضي»… فلم تعُد الرسالة التربويّة قضيّة لدى الكثيرين، لأنّها لم تضمن لهم قوتهم اليوميّ، وحياتهم الكريمة، وبقيت دروس المواطنة والتربية المدنيّة مجرّد حصص في البرامج الأسبوعيّة، مجرّد حبر على ورق، أسوة بكثير من القرارات والقوانين في هذا «الوطن».
بالطبع، مع غياب القضايا المحقّة والجوهريّة، ظهرت على الساحة قضايا سخيفة، «تُختَرع» لضمان جوّ من التوتّر الطائفيّ والاحتقان الحزبيّ، كان أحدها أنّ لبنان في العام 2023 عرف لبضعة أيّام منطقتين زمنيّتين. وكان هذا الواقع الهزليّ يعكس ما سبق أن رصدناه من حوكمة غير رشيدة لمنظومة قادت لبنان عبر سنين طويلة إلى حالة الفوضى غير الخلّاقة الّتي تفرض وزرها عليه اليوم، ولم تعرف من معنى الحوكمة سوى الحكم الديكتاتوريّ المقنّع، بدل أن تسعى إلى خدمة الدولة ومواطنيها بأسمى درجاتها، وتقود لبنان إلى الأمام، بدل أن ترجعه عقودًا إلى الوراء.
في العودة إلى المشهد الجيوسياسيّ، لا يمكننا أن نغضّ الطرف عن تحرّك عالميّ نحو إيجاد قطبٍ اقتصاديّ عالميّ جديد، مع استمرار الحرب الأوكرانيّة -الروسيّة «المنسيّة» وبروز قوّة البريكس، وتهافت دول المنطقة للانضمام إليها. بالطبع، لم يؤدِّ لبنان أيّ دور فاعل، فهو خارج هذه اللعبة في وضعه الحالي، وما زال يرزح تحت وطأة تبعات اقتصاديّة ضيّقة، يكون فيها منفعلاً وحسب. ولم يعُد لبنان يقدّم أيّ ثقل ديبلوماسيّ، لشلله السياسيّ الداخليّ، وتشتت القوى بين مكوّناته الداخليّة، وارتهانها لمصالح غير لبنانيّة.
كذلك، لا يمكن أن نعيد قراءة هذا العام من دون المرور على الحدث الأبرز إقليميًّا وعالميًّا، أي حرب غزّة الّتي غيّرت الصورة التقليديّة للصراع العربيّ-الإسرائيليّ، والّتي رسَخت في العقود المنصرمة. بالطبع، كشف هذا الصراع مدى حساسيّة الموقع الجغرافيّ والاقتصاديّ للبنان في المنطقة، وتعرّت معه خطط لتهميشه اقتصاديًّا وسياحيًّا، بعد أن خُطِّط لسلبه ثرواته الطبيعيّة، المائيّة والنفطيّة… لا يعرف لبنان اليوم أيّ موقفٍ يخدم مصالحه الداخليّة، وتبقى جبهة الجنوب مشتعلة، مع تأثيرها النفسيّ والاقتصاديّ أكبر بكثير من تأثيرها السياسيّ على حياة اللبنانيّين.
أخيرًا، شهد العام 2023 في بداياته هزّة أرضيّة شديدة ضربت المنطقة، وكان مركزها في أنطاكيا (هاتاي) في تركيا. وقد تأثّر اللبنانيّ بها، أقلّه أنّها أرجعت إليه شعوره بعدم الاستقرار بعد ضربات الكورونا، وتفجير مرفأ بيروت، وغيرها من الضربات الّتي جعلت من المواطن في كثير من الأحيان فاقدًا للحسّ، وقصير الذاكرة، في حين أنّ آثارها تنخر في كيانه وتهلكه في مسيرته اليوميّة لكسب قوت عيشه.
ختامًا، نجد أنّ السنة المنصرمة غيّبت الكثير من الصراعات الداخليّة «الكلاسيكيّة» كما ذكرنا، وأصبح المشهد العامّ أكثر «رواقًا»، لا لأنّ الأمور تحسّنت، والأموال استُرجعت، والكهرباء عادت، والسياحة ازدهرت، والحركة الاقتصاديّة توسّعت، والحروب تلاشت، والأجيال كبرت، والمصالحات نجحت… بل لأنّ اللبنانيّ على حافّة الاستسلام لسياسة الأمر الواقع، والبحث عن الحلول البديلة خارج البلد… وهذا ما نرغب في أن يُعاد إغلاقه في العام الجديد 2024، ونفتح معًا حلولًا خارج الصندوق… صندوق التحزّبات، والأمر الواقع، والمصالح الضيّقة…
البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ
آخر ما تبقى لاقتصاد لبنان: تصدير المغتربين ومساعدات اللاجئين
العودة إلى أرقام 2023، سرعان ما تُظهر التوازنات النقديّة والماليّة الهشّة التي يقوم عليها الاقتصاد اللبناني. إذ باتت التدفّقات الواردة من تحويلات المغتربين، وزياراتهم الموسميّة إلى لبنان، تحوز على حصّة متزايدة من حجم الناتج المحلّي، بفعل تقلّص حجم الاقتصاد الوطني وتضاؤل أنشطته. فشلل المؤسسات العامّة، وتدهور أوضاع البنية التحتيّة، ما زالا يحولان دون استفادة القطاعات الإنتاجيّة من التراجع الذي طرأ على سعر صرف الليرة خلال السنوات الماضية، والذي كان يفترض أن يزيد من تنافسيّة الإنتاج المحلّي مقابل الإنتاج الأجنبي داخل السوق اللبناني وخارجه.
هكذا، بات لبنان يكرّس –كجزء من نموذجه الاقتصادي- ظاهرة تصدير المغتربين بفعل الأزمة القائمة، ومن ثم الاعتماد عليهم لتأمين التدفّقات اللازمة للحفاظ على هذا النموذج الهش، ما يضع الاقتصاد المحلّي في الدوّامة ذاتها التي قادت البلاد نحو الكارثة الماليّة التي ضربتها عام 2019. المشكلة الأساسيّة، هي أن تزايد الاعتماد على أموال الاغتراب لم يرتبط بتزايد الفرص الاستثماريّة الجاذبة لهذه الأموال، إذ أنّ حجم هذه التدفقّات تراجع مقارنة بمستويات ما قبل الأزمة. بل ارتفعت نسبة التدفّقات من الناتج المحلّي، بعدما خسر الناتج المحلّي 65% من قيمته بين 2019 و2023. بمعنى أوضح: هشاشتنا زادت من الإدمان على أموال المغتربين، من دون أن تزداد تحويلاتهم.
تدفّقات المغتربين تتضاءل لكن تزداد أهميّة!
آخر أرقام البنك الدولي، تشير أنّ لبنان تلقى خلال العام 2023 ما يقارب 6.37 مليار دولار أميركي من تحويلات المغتربين من الخارج، وهو ما يقل بنحو 1% عن تحويلات العام السابق 2022، والتي بلغت 6.44 مليار دولار. الأهم، هو أن حجم هذه التحويلات ما زال يقل عن 86% فقط عن حجم التحويلات السنويّة التي كان يتلقّاها لبنان عام 2019، أي قبيل حصول الانهيار المالي. إذ بلغ حجم هذه التحويلات في ذلك العام بالتحديد 7.41 مليار دولار أميركي.
خلال عامي 2020 و2021، تم تفسير هذا التراجع بتفشّي وباء كورونا، وما طرأ من تراجع اقتصادي في بلدان الاغتراب. إلا أنّ عدم استعادة هذه التحويلات عافيتها حتّى اللحظة يدل على وجود عوامل داخليّة لبنانيّة خلف هذا التراجع، وفي طليعتها عدم توفّر الفرص الاستثماريّة والنظام المالي المستقر، لجذب هذه التدفّقات.
الملفت للنظر، هو أنّ لبنان شهد بين عامي 2017 و2022 موجة هجرة عظيمة، غادر خلالها أكثر من 275 ألف لبناني البلاد باتجاه بلدان الاغتراب. وبينما كان يفترض أن يؤدّي ذلك إلى زيادة التدفّقات النقديّة الواردة من هذه الفئة، التي مازالت تحتفظ بروابط عائليّة وثيقة داخل لبنان، حصل العكس تمامًا، وهو ما يعيد التأكيد على وجود عوامل طاردة للتحويلات الواردة، وعلى فقدان لبنان لجاذبيّته اتجاه رؤوس الأموال، ومنها أموال المغتربين.
رغم تراجع قيمة هذه التحويلات بشكل ملحوظ، منذ العام 2019، ارتفعت أهميّتها بالنسبة للبنان، بعد أن تزايدت حصتها من النشاط الاقتصادي المحلّي. فخلال العام 2019، كان حجم الناتج المحلّي اللبناني يناهز حدود 51 مليار دولار، ما جعل تحويلات المغتربين توازي نحو 14.5% فقط من حجم الناتج المحلّي الإجمالي. أمّا خلال 2023، ورغم تراجع حجم هذه التحويلات، باتت هذه التحويلات تمثّل 36% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي، وذلك ببساطة لأن حجم الناتج المحلّي تضاءل ليلامس حدود 18 مليار دولار فقط هذه السنة.
تقلّص حجم الاقتصاد الحقيقي
البحث عن أسباب تقلّص حجم الاقتصاد الحقيقي يقودنا إلى النظر في الميزان التجاري اللبناني، إذ لم تسجّل الصادرات اللبنانيّة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام 2023 سوى نمو ضئيل بنسبة 1.46%، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي، ليقتصر حجمها على نحو 2.38 مليار دولار. في المقابل، وخلال الفترة نفسها، تجاوزت قيمة السلع المستوردة حدود 10.69 مليار دولار، ما أنتج عجزًا في الميزان التجاري بقيمة 8.32 مليار دولار. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ قيمة هذا العجز تتجاوز حدود 1.78 أضعاف مثيله في الفترة نفسها من العام 2020، ما يشير إلى أنّ اعتماد البلاد على السلع المستوردة تزايد خلال سنوات الأزمة لا العكس.
ببساطة، فشلت البلاد خلال الأزمة الراهنة في الانتقال إلى نموذج أكثر إنتاجيّة، بالرغم من تخلّصها من سياسة تثبيت سعر الصرف التي اعتمدها مصرف لبنان قبل العام 2019، والتي ضخّمت قيمة الليرة أمام الدولار. فتضخّم قيمة الليرة مقابل الدولار قبل العام 2019، ساهم في تخفيض أسعار السلع المستوردة مقابل المنتجات المحليّة داخل السوق اللبناني، وفي رفع أسعار الصادرات اللبنانيّة في الأسواق الأجنبيّة، ما ضرب تنافسيّة الإنتاج المحلّي. أمّا اليوم، وحتّى بعد التخلّص من هذه السياسة النقديّة، لم يتمكن لبنان من تنمية القطاعات الإنتاجيّة، بسبب ضمور دور الدولة في تأمين البنية التحتيّة وأبسط مستلزمات الإنتاج، وخصوصًا الطاقة ذات الكلفة المنخفضة.
القطاع السياحي يعتمد على الاغتراب أيضًا
أمام هذا المشهد، يشير البعض إلى تمكّن لبنان من تسجيل موسم اصطياف ناجح خلال فصل صيف الماضي، ما يمثّل انتعاشة في أداء القطاع السياحي. لكن من المهم الإشارة هنا إلى أنّ هذه الانتعاشة ظلّت محكومة بالاعتماد على الاغتراب اللبناني، وخصوصًا الجيل الأخير منه، الذي غادر البلاد خلال السنوات الماضية، واحتفظ بصلات عائليّة واجتماعيّة مع الداخل اللبناني. وهذا لا يقلّل طبعًا من أهميّة التدفّقات النقديّة الناتجة عن هذا النشاط، ولكنّه يؤشّر إلى اتصال هذه التدفّقات –مجددًا- بظاهرة تصدير الاغتراب إلى الخارج.
فأرقام وزارة السياحة للأشهر العشرة الأولى من العام تشير إلى أنّ 61.4% من الزوّار الوافدين إلى البلاد كانوا من اللبنانيين المغتربين، في حين أن الزوّار العرب والأجانب مثّلوا 38.6% من هؤلاء الزوّار. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ جزءاً كبيراً من الزوّار الأجانب هم عمليًا من ذوي الأصول اللبنانيّة، أو مزدوجي الجنسيّة، الذين يقومون بالاعتماد على جوازات سفر أجنبيّة للتنقّل ودخول لبنان، ما يضعهم إحصائيًا في خانة الأجانب.
مساعدات بإسم اللاجئين
أخيرًا، وعند مقاربة التوازنات النقديّة والماليّة التي تحكم السوق حاليًا، لا يمكن التغاضي عن حصول لبنان على مساعدات تقارب قيمتها 1.1 مليار دولار أميركي خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، كجزء من “خطّة الاستجابة للأزمة في لبنان”. وهذه المبالغ، التي تقارب قيمتها 6.1% من حجم الاقتصاد اللبناني، تأتي من أكثر من 118 منظّمة ودولة في إطار متناسق، بهدف التخفيف من تداعيات أزمة النزوح السوري في لبنان، ومساعدة الفئات الهشّة السوريّة والفلسطينيّة واللبنانيّة المقيمة على الأراضي اللبنانيّة. ومن المعلوم أنّ جزءاً كبيراً من هذه المساعدات ذهب لتمويل مشاريع البنية التحتيّة التي يستفيد منها اللبنانيّون والسوريون والفلسطينيون على حدٍ سواء، مثل المشاريع المتصلة بقطاعات المياه والكهرباء والطرقات والصرف الصحيّة وغيرها.
في النتيجة، وأمام تدهور أوضاع الاقتصاد الحقيقي، لم يتبق للاقتصاد اللبناني سوى هذا النوع من مقوّمات البقاء، أي التدفّقات الناتجة عن تحويلات وزيارات المغتربين، وبعض المساعدات الخارجيّة. أمّا تحقيق التدفقات النقديّة بفعل الإنتاج والتصدير، أو استقطاب الاستثمارات ورؤوس الأموال، فما زال بعيد المنال، طالما أنّ الدولة اللبنانيّة لا تملك بالفعل رؤية اقتصاديّة تستهدف النهوض بقطاعاتها الإنتاجيّة.
علي نور الدين
شركات التحويل توسّع خدماتها: ما مخاطر المحافظ المالية؟
تشهد شركات التحويل المالي نشاطاً بارزاً في الآونة الأخيرة بالتزامن مع استمرار هجرة العملاء من القطاع المصرفي، فشركات التحويل بعد توسيع نطاق خدماتها وتنويعها، باتت الجاذب الأبرز لعملاء المصارف الباحثين عن بدائل للقطاع المصرفي.
وإذا كان عدد الحسابات المصرفية في المصارف اللبنانية تراجع من 2.81 مليون حساب إلى 1.41 مليون حساب خلال فترة ما بين نهاية العام 2019 ونهاية عام 2022، فإن عدد الحسابات المصرفية تلك تراجعت كذلك خلال العام الـ2023 الذي شارف على نهايته، إلى محيط المليون و200 ألف حساب.
هجرة الحسابات المصرفية باتجاه شركات التحويل المالي بدأت منذ قرابة العام لكنها اقتصرت في الفترة الماضية على طلب خدمات معينة، بخلاف الواقع اليوم. فبعض شركات التحويل المالي اتسعت خدماتها لتشمل توطين الرواتب وخدمات عديدة على غرار ما كانت تقدّمه المصارف، منها ما يشبه إلى حد ما عمليات الإدخار.
وعلى الرغم من الهجمة الملحوظة للعملاء إلى مكاتب شركات تحويل الأموال والإقبال البارز على خدماتها، يبقى السؤال الأبرز الذي يشغل الجميع لاسيما منهم الموظفون، هل التعامل عبر هذه الشركات آمن؟ وهل تقف المصارف وراء شركات التحويل تلك وتنسق معها أم أن الأخيرة مستقلة تماماً عن القطاع المصرفي؟
خدمات مالية شاملة
بالنظر إلى أن لبنان يُعد من بين الدول الأكثر تلقياً للأموال من المغتربين في دول العالم، وهو الذي تبوّأ المركز الأوّل في المنطقة والمرتبة الثانية عالمياً من حيث مساهمة تحويلات المغتربين في الناتج المحلّي الإجمالي بحسب تقديرات البنك الدولي، اتسعت سوق شركات تحويل الأموال وتزايدت تراخيصها خلال السنوات الأربع الماضية، لاسيما أن معظم المغتربين يعتمدون على مكاتب تحويل الأموال لتنفيذ تحويلاتهم بدلاً من الاعتماد على المصارف.
ومن بين شركات تحويل الأموال التي ازدهرت أعمالها بشكل ملحوظ في السنوات القليلة الماضية، OMT،BOB ،Western Union ،Whish ،MoneyGram وغيرها. فقد زادت فروعها وخدماتها ولم تعد تقتصر على تلقي الحوالات المالية، بل تعدّتها إلى توفير خدمات دفع الرسوم والضرائب والفواتير والتشريج، وتأمين أوراق رسمية وتخليص معاملات والدفع عبر الانترنت، وخدمة صرف الأموال، وقوائم هدايا الأعراس وغيرها.
لكن البعض من تلك الشركات إلى جانب شركات أخرى دخلت حديثاً إلى سوق الخدمات المالية في لبنان، لم يقف توسعها عند هذا الحد. فقد دخلت سوق البطاقات الممغنطة كالـ”فيزا” والحسابات عبر الإنترنت وأدوات مالية بسيطة وسريعة تؤمن للعميل جميع أنواع الخدمات المالية عبر هاتفه الجوال وصولاً إلى التصرف براتبه الشهري.
سد فراغ المصارف!
مع توقف المصارف اللبنانية عن دفع الرواتب أكثر من مرة ورفع رسومها وعمولاتها على السحوبات لاسيما على الحوالات المالية الواردة من الخارج التي تخضع لعمولات باهظة، بالإضافة إلى التعقيدات الإدارية التي وضعتها المصارف أمام الموظفين وعموم العملاء لسحب الأموال من حساباتهم، دخلت شركات تحويل أموال وشركات محافظ مالية على خط الأزمة منها Suyool بالتعاون مع BOB وOMT بالتعاون مع بنك لبنان والمهجر، وغيرها فأصدرت بطاقات ممغنطة وفتحت حسابات لعملاء جدد من خلال تأمينها كافة خدمات المصارف بما فيها توطين الرواتب.
ويوضح الخبير المصرفي خالد شاهين بأنه لا يحق لكافة شركات التحويل المالي إصدار البطاقات إنما فقط الشركات الحاصلة على تراخيص شركات مالية من فئة محافظ الكترونية، وبموجب الترخيص يمكن قبول الايداعات المالية، شرط ألا تتعدى قيمة الايداع 10 آلاف دولار فقط بالإضافة إلى شروط أخرى تراعي الإمتثال والآليات الرقابية.
وإذ يعترف شاهين بأن الشركات المذكورة حلّت محل جانب من المصارف فقط، يؤكد أنها لا تعمل وفق آلية عمل المصارف، “إذ ليس لدى الشركات حسابات توفير أو حسابات مجمدة إنما هي عبارة عن حسابات جارية للتحويل والاستقبال وتنفيذ عمليات محددة فقط”. ويلفت في حديثه إلى “المدن” الى أن شركات المحافظ الالكترونية لديها شرط بالترخيص أن يكون في خلفيتها شركة تأمين، للتأمين على الأموال، وعقد مع مصرف لاستقبال الأموال. ما يعني أن الشركة من خلال المصرف تستخدم تلك الأموال.
وعند طلب العميل تتحول الأموال من حساب الشركة في محفظة الكترونية إلى حسابه، عملياً وبحسب شاهين لا علاقة فعلية للمصرف. أما شرط الارتباط بمصرف فيعود لتمكين مصرف لبنان من ممارسة الرقابة على الشركات وليس لتنفيذ العمليات. فالعمليات أي التحاويل الآنية يتم تنفيذها عبر منصات عالمية مختلفة عن المصارف. وهي لا تعتمد على نظام سويفت.
مع التشديد على أن الأموال ليست ودائع، إنما هي أموال جاهزة للاستعمال، أي أنها لا تدخل في حساب الشركة، بل تبقى في حساب الشخص الذي يحق له التصرف بها بأي لحظة، على ما يقول شاهين.
التفاف المصارف على الزبائن
القطاع المصرفي خسر عملاءه وكل من يجد بديلاً كشركات المحافظ الإلكترونية سيتّجه إليها، وبحسب شاهين لا علاقة مباشرة للمصارف بتلك الشركات. لكن بخلاف شاهين يرى مصدر من إحدى الشركات المذكورة بأن “المصارف خرجت من الباب لتدخل من الشباك” فهناك تعاون وطيد بين الطرفين. فالمصارف تحاول من خلال تلك الشركات جذب العملاء من جديد وإن من خلال واجهة جديدة. وعلى الرغم من تشجيع المصدر على التعامل مع شركات المحافظ الإلكترونية لسرعة خدماتها، وتدني عمولاتها، إلا أنه لا ينفي وجود مخاطر في إدارة السيولة النقدية، بالإضافة إلى تحديات على مستوى التأمين والحراسة لحماية الأموال وعدم السقوط في مخاطر الأموال غير النظيفة.
ولا ينفي شاهين التعاون بين الطرفين. ففي العام الماضي أصدر مصرف لبنان قراراً يسمح بموجبه للمصارف بفتح محافظ الكترونية، لكن المصارف لم تفتح بل اعتمدت على الشركات المتواجدة في السوق مثل OMT وWhish وBOB وغيرها. ولأن تلك الشركات مشروطة بموجود مصرف في خلفيتها رخصت بعض الشركات المحافظ الالكترونية بالتعاون مع المصارف. لكنه يشدد على أن الأموال التي يتم التعامل بها عبر الشركات لا تدخل الى حساباتها في المصارف.
عوائق قضائية
قد يكون التعامل بالبطاقات العائدة الى شركات التحويل المالي آمنة بالنظر إلى كل ما شهده العملاء من المصارف اللبنانية، لكن ثمة عوائق قضائية أمام التعاملات الإلكترونية، لعل أخطرها أن القوانين اللبنانية لا تعترف بالعقود الالكترونية ولا حتى بالتوقيع الالكتروني ولا بالمحافظ الالكترونية. وقد أصدرت الدولة عام 2018 القانون 81/2018 الذي اعترفت فيه بالبيانات الالكترونية وبالإثبات الالكتروني في محاولة منها لمواكبة القوانين الحديثة، حينها تم إقرار القانون. لكن لم تصدر المراسيم التطبيقية له حتى اليوم، وبقي حبراً على ورق.
تأخر لبنان في هذا المجال يشكّل عائقاً في التعاملات الإلكترونية. ففي حال وقوع إشكال أو خلل بالعلاقة بين مستهلك لبناني وأحد المواقع الالكترونية التسويقية على سبيل المثال، فالقانون اللبناني لا يغطي المستهلك بخلاف الكثير من الدول. والأمر عينه ينطبق على التعاملات المالية الإلكترونية.
مع التذكير بأنه مع تعاظم الأزمة في لبنان، أصدر مصرف لبنان قراراً يسمح فيه بالتعاملات الالكترونية المالية والتوقيع الالكتروني، للتخفيف من المخاطر والإبقاء على المتعاملين، أي الجمهور، بالقطاع المالي، لأن وجود العملاء بالقطاع المالي يحافظ على أرباح مصرف لبنان، وخروجهم يلحق الضرر بالقطاع المصرفي ومصرف لبنان على السواء.
مخاطر التعامل مع تلك الشركات غير عالية على الرغم من ترابط تراخيصها برخصة المصرف. لكن في حال إغلاق الشركة أو إفلاسها وعجزها عن الاستمرار كمحفظة الكترونية، حينها على العملاء مقاضاتها أمام المحاكم في ظل غياب مظلة قانونية. وهنا تكمن المشكلة. فالقضاء اللبناني لم يتعاط مع المحافظ الالكترونية إلا بحالات ضئيلة جداً. أما الأمر الأقل سوءاً فهو أن المبالغ المتواجدة في حسابات الزبائن متدنية، وتقل عن 10 آلاف دولار في الحساب الواحد.
عزة الحاج حسن
ما بعد (بعد) التعميم 151
نقترب يوماً بعد يوم إلى نهاية تعميم 151، فما وراء هذا القرار؟ وماذا بعد هذا التعميم للبنانيين والمودعين والإقتصاد؟
نتذكّر بألم وأسف، أنه حين بدأ تنفيذ تعميم 151 في العام 2020، كان الهدف منه تأمين بعض السيولة للمودعين بالليرة اللبنانية، لكن في الوقت عينه، صرف وإهدار مدّخراتهم. فكان هناك دائماً فجوة كبيرة، بين سعر صرف هذا التعميم المظلم والسوق السوداء. وهنا بدأت عملية «هيركات» المبطّن، حيث بدأت الخسائر بنحو 50% ومن ثم إنسحبت إلى 60% و70%، وانتهت إلى خسارة بـ 85% و90%، من الخسائر المباشرة من أموال المودعين.
نذكّر أن سعر صرف التعميم 151 بدأ بـ 3900 ليرة، ومن ثم بـ 5 آلاف، إلى 8 آلاف، و12 ألفاً، حتى ثُبّت على 15 ألفاً في شباط 2023. بينما كانت السوق السوداء تحلّق إلى الـ 100 ألف، وحتى وصلت إلى الـ 140 ألفاً. فتجاوزت الخسائر جرّاء السحوبات الـ 85%، إضافة إلى خسائر بنحو 20% للإستحصال على أوراق نقدية.
من جهة أخرى، لدينا حتى اليوم سِعرا صرف رسميّان: سعر صرف تعميم 151 والذي هو الهيركات المبطّن، مع خسائر فادحة لما تبقّى من الودائع. وسعر الصرف الرسمي الثاني، وهو سعر صيرفة أو قريباً بلومبورغ، المُستعمل للمدفوعات اليومية، والضرائب والرسوم والسلع المعيشية. إضافة إلى سعر صرف السوق السوداء والشيكات بالليرة وغيرها من قائمة أسعار الصرف.
فعند انتهاء هذا التعميم ودفنه، ما هو مصير ما تبقّى من الودائع بالدولار الأميركي اللبناني (اللولار)؟ إنّ المشروع المقترح المبطّن في موازنة 2024 هو تحويل كل الودائع بالدولار الاميركي اللبناني (اللولار)، إلى الليرة اللبنانية بضربة واحدة، بحسب سعر صيرفة الـ 79 الفاً، أو سعر بلومبورغ الجديد. في هذ العملية، ستكون نهاية الدولارات القديمة، وتحويلها مصرفياً إلى الليرة اللبنانية.
على المدى القصير، يُمكن أن يشعر اللبنانيون بأنه حتى لو تحوّلت ودائعهم إلى الليرة، فسيُحافظون على قيمتها، لأنّ سعر الصرف المُستعمل سيكون قريباً من سعر صرف السوق السوداء. لكن ما لا يعلمونه أنّ هذه الودائع بالليرة سيكون لها قيود صارمة للسحوبات وللاستحصال على الأوراق النقدية. وهنا ستُبصر النور سوق سوداء جديدة، لتحويل هذه الودائع المصرفية إلى أوراق نقدية، بخسائر جديدة.
أما القيود على السحوبات المصرفية، فهناك ضبابية على الأرقام التي ستكون معتمدة، لكن ننتظر ألاّ تتجاوز الـ 24 مليون ليرة في الشهر الواحد كما هي اليوم، للإحتفاظ بالكتلة النقدية، وتَجنُّب التضخّم المفرط.
فهناك أفخاخ عدة، وهدايا ملغومة في هذه القرارات، والوعود الوهمية. فعلى المدى القصير، تُعاد الودائع إلى قيمتها، لكن بالليرة اللبنانية، إنما فقط على الشاشات والسجلاّت، بعيداً عن الأيادي والجيوب.
وعلى المدى المتوسط والبعيد، ستُستكمل أكبر عملية نهب في تاريخ العالم، لأنّ سعر الصرف لن يكون مثبَّتاً، لكنه عائم بحسب منصّة بلومبورغ الدولية، ويُمكن أن تصل إلى قمم جديدة، لتُعاد الخسائر مرة أخرى إلى النسَب القديمة عينها.
في المحصّلة، إن الأهداف المبطّنة في نهاية تعميم 151، وما بعد (بعد) هذا التعميم، هي مستقبل مظلم للمودعين، حيث ستتحوّل ودائعهم إلى الليرة اللبنانية، من دون أيّ ضوابط لسعر الصرف، وقيود صارمة لسحوباتهم النقدية، لتأمين لقمة العيش الكريم في هذه المزرعة المتوحشة. فالمسؤولون المباشرون عن أكبر أزمة اقتصادية واجتماعية ومالية ونقدية في تاريخ العالم لن يكونوا جزءاً من الحل، إنما سيُتابعون عملية النهب بطرق مختلفة، ويدفع ثمنها الشعب المظلوم والمذلول والمنكوب.
د. فؤاد زمكحل
الحرب طويلة… 4 خطوات حتى منتصف 2024
بدأت مؤشرات الحرب في غزة تميل أكثر فأكثر نحو ترجيح فرضية استمرار القتال لبضعة اشهر، بما يعني انّ الرهانات على انتهاء الحرب قريباً باتت في غير محلها، وصار لزاماً على السلطات اللبنانية اتخاذ إجراءات تتماهى مع احتمال امتداد الوضع القائم حالياً حتى منتصف العام 2024.
منذ ان اندلعت الحرب في السابع من تشرين الاول في غزة، وتلاها بدء تحريك جبهة الجنوب في الثامن منه، تبدّل المشهد الاقتصادي في البلد، وساد جمود قاتل معظم القطاعات. في الموازاة، جمّدت المؤسسات الدولية، وفي مقدمها صندوق النقد الدولي، نشاطاتها. كما أوقفت بلومبرغ، التي كانت تتحضّر للقدوم الى السوق اللبناني، تحركاتها في هذا الاتجاه.
اليوم، بدأت تبرز مؤشرات تساعد على الاعتقاد انه في الامكان التكيُّف النسبي مع الوضع القائم، لتخفيف الاضرار الناتجة عن تداعيات استمرار الحرب، وانخراط جزء من لبنان الجنوبي فيها. ومن هذه المؤشرات حركة قدوم اللبنانيين خلال فترة الاعياد من الخارج، بما يؤكد ان مرحلة من التأقلم بدأت تتكوّن، قائمة على نظرية ان الحرب التي اندلعت قبل شهرين ونصف تقريباً، لن تتطوّر اكثر على المستوى اللبناني، وستبقى محصورة في الاطار المرسوم لها.
هذا الواقع يستدعي من السلطات التنفيذية والتشريعية اتخاذ اجراءات استثنائية تكون بمثابة تحضيرات لفترة ما بعد الحرب، ومن أهمها:
اولاً – الانتهاء من ملف خطة التعافي الشاملة، على أن تضمّ، وبالتتابع الزمني والمنهجي، معالجة ازمة الانتظام المالي في القطاع العام من خلال تحديد الدولة لموقفها من ديونها والتزاماتها تجاه مصرفها المركزي، تحديد مصير الودائع وكيفية اعادتها الى اصحابها، اعادة الانتظام الى العمل المصرفي. وبالمناسبة، قد يكون ردّ قانون الكابيتال كونترول الى الحكومة هذه المرة يقع في موقعه الصحيح، لأن مفاعيل هذا القانون كانت مهمة في بداية الأزمة، لأنه بمثابة دَوس على المكابح لوقف السيارة ومحاولة منع وقوع الحادث، او تخفيف السرعة لتقليص الاضرار في حال وقع الارتطام. اما اليوم، وبعد حصول الارتطام، فإنّ وظيفة الكابيتال كونترول صارت مختلفة عقب مرور 4 سنوات ونيف على الانهيار، وصار يُستحسن تكييف مضمون القانون مع الخطة الشاملة، لكي يكون واقعياً وقابلاً للتنفيذ.
ثانياً – اعادة فتح التواصل مع صندوق النقد الدولي للاطلاع على امكانية استئناف العمل في الملفات التحضيرية للاتفاق، او تلك التي يمكن انجازها رغم استمرار الحرب في غزة وجزء من الجنوب. صحيح انّ الحكومة في الوضع القائم لن تستطيع إقناع الصندوق بإعادة موظفيه الى بيروت وفتح مكاتبه للعمل بشكل طبيعي، لكنها قد تنجح في إقناع ادارة الصندوق باستكمال انجاز ملفات يمكن انجازها عن بُعد (on line) ومن ضمنها على سبيل المثال، تقرير البند الرابع، أو استكمال دراسات لها علاقة بالحوكمة والشفافية، مثل تلك التي أصبحت شبه جاهزة لدى الصندوق، والتي تتناول قطاع الكهرباء. وسبق للصندوق ان تابع الدعم التقني للبنان عن بعد، بما يعني انفتاحه على العمل بهذا الاسلوب في مرحلة انتظار انتهاء الحرب.
ثالثاً – مواصلة العمل عن بُعد أيضاً مع بلومبرغ لانجاز التدريبات والاجراءات اللوجستية لبدء العمل في السوق اللبناني مطلع العام المقبل.
رابعاً – إقرار موازنة 2024 بعد الانتهاء من تشذيبها وتنقيتها من الشوائب، لأنها جزء من السلة المطلوبة لاحقاً في لائحة «الاصلاحات»، كما انها ضرورية لتحاشي فوضى الانفاق وفق القاعدة الاثني عشرية، وعلى اساس موازنة 2022، والتي أصبح الفارق شاسعاً بين الارقام الواردة فيها وبين حاجات الانفاق في العام المقبل.
تبقى بعض المسائل الاخرى، والتي كان يُفترض ان تواكب الخطة الشاملة، في حاجة الى مزيد من النقاشات والدرس، لتحاشي القيام بخطوة ناقصة، ومنها على سبيل المثال، توحيد وتحرير سعر الصرف. ورغم الثبات في سعر صرف الليرة حتى الآن، ورغم ان بعض الاصوات باتت تطالب بخفض اضافي في سعر الدولار، معتبرة انّ الظرف يسمح بذلك، إلا ان هذا النوع من التفاؤل قد ينطوي على تسرّع غير مُستحَب. وبالتالي، ورغم ان مصرف لبنان يقول انه سيعمد الى تحرير سعر الصرف بدءا من مطلع العام 2024، قد يكون من الافضل التريّث في هذا الموضوع، واتخاذ المزيد من الخطوات التمهيدية، بانتظار ان تصبح الظروف مؤاتية اكثر للاقدام على هذه الخطوة، لأن مخاطر تعرُّض الليرة الى الضغط، وعودة الدولار الى الارتفاع قائمة رغم كل المظاهر المطمئنة السائدة اليوم.
في النتيجة، ينبغي ان تستفيد «الدولة» من مرحلة الجمود المرتبط بالحرب، لتحضير الملفات والأرضية للانطلاق نحو التعافي، فورَ سكوت المدفع.
انطوان فرح