أرشيف التصنيف: المقالات العامة

«البريكس» وأفريقيا والتخلي المرحلي عن الدولار

توقع «البنك الأفريقي للتصدير والاستيراد» أن ينضم ما يتراوح بين 15 و20 دولة إلى نظام الدفع والتسوية الأفريقي، مما يسمح لها بالتخلي عن الدولار في معاملاتها الأفريقية، حيث إن نظام الدفع والتسوية الأفريقي يسمح للدول الأفريقية بالتداول فيما بينها باستخدام عملاتها المحلية، إذ أعلن رئيس البنك الأفريقي للتصدير والاستيراد أن المنصة الجديدة بدأت عملياتها التجارية مع تسجيل أكثر من 9 دول، علماً بأن نظام الدفع والتسوية يستخدم أسعار صرف الدولار حالياً، في وقت تعمل فيه البنوك المركزية لتطوير آلية لسعر الصرف من شأنها أن تسمح للعملات الأفريقية البالغ عددها 42 عملة بأن تكون قابلة للتحويل فيما بينها.

والنظام الجديد للدفع والتسوية، الذي اعتمده الاتحاد الأفريقي باعتباره منصة الدفع والتسوية في أفريقيا، يدعم تنفيذ منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، إذ ينضم عدد كبير من الدول الأفريقية للنظام الجديد، نظراً للصعوبات التي تواجه الدول الأفريقية في توفير الدولار، مما زاد الزخم للانضمام لنظام الدفع الجديد، من أجل أن تقل الضغوطات المالية بالتحول للتداول بالعملات المحلية فيما بينها.

إن ارتفاع الدولار يزيد أسعار السلع والخدمات المقومة به على كل الدول من حائزي العملات الأخرى، ويخلق أزمات تمويلية للدول التي تعتمد على الاستيراد بشكل كبير، وهو ما انعكس على الدول الأفريقية بشكل واضح يصعب معه الاستمرار، ورغم توقف ارتفاع مؤشر الدولار، وتوقف الفيدرالي الأميركي في آخر اجتماعاته عن رفع الفائدة، فإن القوة الشرائية للدولار ما زالت مرتفعة وسط أزمة في طرق توفير الدولار للدول الأفريقية، مع شح السيولة في الأسواق الدولية.

أمام هذه التداعيات، تسعى جميع الدول لتقليل الضغوط المالية عليها من خلال التخلي عن جزء من معاملاتها التجارية بالدولار، في الوقت الذي تسعى فيه الصين وروسيا وفرنسا ومعهم دول «البريكس» والدول العربية والأفريقية والدول النامية، لتأسيس نظام مالي دولي جديد، لا يعتمد بالضرورة على الدولار الأميركي عملة رئيسية في التبادلات التجارية والمالية، إذ إن تراجع هيمنة الدولار الأميركي قريب مع صعود اليوان الصيني، فيما أعلن بنك جيه بي مورغان أن علامات تراجع الدولار تتكشف في الاقتصاد العالمي.

كما تدرك الصين أنها لن تصبح القوة الاقتصادية العالمية المنافسة لأميركا إذا احتفظت باليوان عملة غير قابلة للتحويل، إذ إنه من الخطر على الصين مواصلة الاستثمار باحتياطات في السندات السيادية الأميركية، حيث إن هناك بنوكاً كبيرة تراقب تراجع هيمنة الدولار على الصين وروسيا و«البريكس»، فيما يحذر الخبراء الاقتصاديون من المخاطر التي يتعرض لها الدولار، ومكانته كعملة احتياطية عالمية، فضلاً عن الآثار المحتملة على الاقتصاد الأميركي، إذ إن استمرار السياسة المالية الحالية سيؤدي في النهاية إلى تراجع سوق السندات، وسيتم تداول عدد أقل من المعاملات الدولية بالدولار، وستزيد البنوك المركزية الأجنبية من خفض حيازاتها من الأوراق المالية المقومة بالدولار، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة بشكل كبير وفقدان هيمنة الدولار في التجارة الدولية.

تجدر الإشارة إلى أن العالم يترقب استعدادات عقد قمة منظمة «البريكس» المقبلة في جنوب أفريقيا، حيث من المتوقع إنشاء عملة مشتركة، وهو أحد أهم الموضوعات الرئيسية على جدول الأعمال، حيث ناقش وزراء خارجية دول «البريكس» في كيب تاون بجنوب أفريقيا نهاية الشهر الماضي، الأدوات التي تمتلكها المجموعة لإقامة النظام الاقتصادي الدولي الجديد، ومناقشة الاستخدام المحتمل للعملات البديلة لحماية بنك التنمية الجديد التابع للكتلة من العقوبات، وإزالة الدولرة في التجارة على نطاق أوسع، وطرح مفهوم عملة «بريكس» الموحدة، لأول مرة، مع أفكار تشمل ربطها بالذهب أو بسلة من السلع أو بعملات دول «البريكس».

في الختام، هناك عدد من العقبات تقف في طريق إنشاء مثل هذه العملة، وأعتقد أنه سيتم التغلب عليها في الفترة المقبلة، إذ يجب تسوية اللوجيستيات أو الجوانب الفنية المتعلقة بعملة «بريكس» أو المجموعة الأفريقية، حيث إن ذلك يتطلب التزاماً جاداً للغاية، ليس فقط من هذه الدول، ولكن من الدول التي تقدمت بطلبات الانضمام، إذ إن هذه الدول ترى العملة المشتركة ليس كأداة رد فعل للعقوبات، ولكن كعملة لتنمية التجارة داخل المجموعة، وبمجرد قيام «البريكس» بذلك أو المجموعة الأفريقية، ستجد العملة قاعدتها الطبيعية إلى حد كبير مثل اليورو.

ماذا عن الزخم الصاعد في أسواق الذهب والفضة؟

بدأت أسعار المعادن النفيسة (خاصة الفضة) مساراً صاعداً قصيرًا في 12 يوليو تموز قبل أن تتراجع مرة أخرى ليُطرح سؤالاً، هل سيستمر هذا الزخم لمزيد من الوقت أم لا؟

لا يزال الكثيرون متفائلون بأن أسعار الذهب ستستمر في الارتفاع حتى نهاية عام 2023، ومع ذلك، تلوح في الأفق ضغوط متزايدة تدفع الذهب والمعادن النفيسة الأخرى نحو التراجع.

ومع انخفاض الدولار الأميركي، أصبحت المعادن الثمينة ميسورة التكلفة بصورة أكبر للمستثمرين، وهو ما يدفعهم نحو الشراء، لكن في ظل التوقعات بمزيد من الارتفاعات الأخرى في أسعار الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفدرالي من خلال سياسة نقدية مشددة، فإن تفاؤل المضاربين على ارتفاع الذهب يتضاءل.

وفي الفترة بين الأول من يونيو حزيران وحتى الأول من يوليو تموز، انخفضت أسعار المعادن النفيسة إلى حد ما، مما أدى في النهاية إلى انخفاض مؤشر المعادن الثمينة MMI (مؤشر المعادن الشهري) بنسبة 6.71% على أساس شهري.

البلاديوم يخالف الاتجاهات

على عكس المعادن الثمينة الأخرى، كانت أسعار البلاديوم في انخفاض مستمر خلال العام الماضي، وعلى الرغم من ارتفاع الأسعار بشكل طفيف في يوليو تموز مقارنة بالاتجاه الهبوطي العام في 2023، لكن المتوقع أن هذا الزخم الصعودي سيدعم البلاديوم.

البلاتين في ارتفاع قصير الأجل

على غرار أسعار الذهب والفضة والمعادن النفيسة الأخرى (باستثناء البلاديوم)، ارتفعت أسعار البلاتين منذ بداية يوليو تموز، مع ذلك، من غير الواضح ما إذا كان الزخم الصعودي سيستمر أم لا.

قد تحدث انخفاضات طفيفة، وفي نفس الوقت، لا يوجد دليل كاف لتأكيد انعكاس حقيقي نحو الانخفاض.

الفضة تتفوق

تمكنت الفضة من الارتفاع بشكل يفوق ارتفاعات أي من المعادن النفيسة الأخرى خلال أوائل ومنتصف يوليو تموز.

وعلى غرار الذهب، تعرضت الفضة لزخم صعودي على المدى القصير، ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الفضة ستستمر في حركة الصعود من عدمه.

ثيران الذهب يتدخلون

على الرغم من أن أسعار الذهب كانت في ارتفاع منذ بداية يوليو تموز، ما يدل على قوة صعودية وزخم صعودي ثابت، إلا أن هناك شبه تردد من الثيران في ظل ارتفاع الدولار وتوقعات استمرار الفدرالي الأميركي في تشديد سياسته النقدية مما قد يؤدي إلى تراجع الأسعار مرة أخرى.

مناخ الاستثمار والأداء الاقتصادي

يعد المناخ الاستثماري نتاج تفاعل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي تؤثر على ثقة المستثمر وتعمل على تشجيعه وتحفيزه على استثمار أمواله في دولة ما دون الأخرى، إلا أن نصيب أي دولة من الاستثمارات يعتمد على عوامل كثيرة، أهمها المناخ الاستثماري للدولة الجاذبة للاستثمارات والمحفزة للاستثمار، حيث تعرف البيئة الاقتصادية المستقرة والمحفزة والجاذبة للاستثمار بأنها في تلك الدولة التي تتميز بعدم وجود عجز في الميزانية العامة ويقابله عجز مقبول في ميزان المدفوعات، ومعدلات متدنية للتضخم وسعر صرف غير مغالى فيه وبنية سياسية ومؤسسية مستقرة وشفافة.

إن خلق البیئة الاستثماریة المناسبة، التي تساهم في استقطاب الاستثمارات الأجنبیة المباشرة، يعد غایة تسعى إلیها الدول، حیث یتطلب منها إجراء الكثير من الإصلاحات وتقدیم الحوافز والضمانات للمستثمرین وتطویر البنیة التحتیة وتحسین مناخ وبیئة الأعمال، وإجراء الإصلاحات الاقتصادیة المناسبة، إضافة إلى قیامها بعقد الاتفاقات مع الدول، بما يساهم في حریة حركة التجارة الدولیة، واتخاذ كل التدابیر التي تعمل على تحفیز المستثمرین للقیام بالمشاریع الاقتصادیة.

ويعد حجم السوق أحد أهم العوامل في جذب الاستثمارات الأجنبیة، حیث یتم تعریف حجم السوق في الأدبیات الاقتصادیة، إما بالناتج المحلي الإجمالي أو بحجم السكان أو بنصیب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. ویلعب كُبر حجم السوق دورا هاما في زیادة الطلب على المنتجات السلعیة والخدمیة، وكذلك إمكانیة البیع والربح في تصریف السلع والخدمات التي یتم تقدیمها، إضافة إلى توفیر وخلق الكثير من فرص العمل، وبالتالي یساعد كبر حجم السوق على استقطاب المستثمرین الأجانب لإقامة مشاریعهم الاستثماریة سواءً التجاریة والصناعیة والزراعیة والخدمیة، وهذا یعني أن اقتصادیات السوق الكبیرة تجذب المستثمرین، إضافة إلى أن الأسواق الكبیرة لدیها القدرة على تصریف المنتجات السلعیة، وبالتالي إمكانیة توفر المزید من فرص الربح.

وتكمن أهمية مناخ الاستثمار وبيئة أداء الأعمال في الاقتصاديات الوطنية، في كونه المسؤول عن معدل تراكم رأس المال، ومن ثم فهو يلعب دورا هاما في توسيع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد، والتي لا يمكن بلوغها إلا من خلال الاعتماد على الاستثمار المحلي والمباشر العربي والأجنبي.

واعتمادا على تقرير مناخ الاستثمار في الدول العربية لعام 2022، واستنادا إلى 14 مؤشراً اقتصادياً ومالياً خلال عام 2021، استقر المتوسط العام لترتيب الدول العربية عالميا في تلك المؤشرات عند المركز 89 خلال عام 2021، وحلت 9 دول عربية في مستوى أفضل من المتوسط العام العربي لهذه المؤشرات، إذ جاء أفضل متوسط ترتيب للدول العربية في مؤشر صافي الإقراض والاقتراض كنسبة من الناتج، ومؤشر خدمة الدين كنسبة من صادرات السلع والخدمات والدخل الأولي، ومؤشر الناتج المحلي الإجمالي وفق تعادل القوة الشرائية.

كما تصدرت كل من الإمارات والسعودية المرتبة الأولى عربيا بمتوسط ترتيب بلغ 46 في أهم مؤشرات الأداء الاقتصادي الداخلي والخارجي الأربعة عشر لعام 2021، تلاهما كل من الكويت وقطر، ثم ليبيا والعراق والبحرين والمغرب، وصولا إلى الجزائر بمتوسط ترتيب 86.

وعلى صعيد الدول العربية التي حلت في مراكز متقدمة في المؤشرات الاقتصادية، حلت ليبيا في المرتبة الأولى عالميا وعربيا في مؤشري معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي وإجمالي الاستثمارات كنسبة من الناتج، والثانية عالميا (الأولى عربيا) في مؤشري صافي الإقراض، ورصيد الحساب الجاري من الناتج.

كما تصدرت الجزائر المرتبة الأولى عالميا وعربيا في مؤشر إجمالي خدمة الدين كنسبة من صادرات السلع والخدمات والدخل الأولي، والعاشرة عالميا (الثانية عربيا)، في مؤشر إجمالي الاستثمارات كنسبة من الناتج. وجاءت البحرين في المرتبة الثالثة عالميا والأولى عربيا في مؤشر معدل التضخم، كما حلت قطر في المرتبة الرابعة عالميا والأولى عربيا في مؤشر نصيب الفرد من الناتج وفق تعادل القوة الشرائية، وفي المرتبة السابعة عالميا في مؤشر صافي الإقراض كنسبة من الناتج، كما حلت جيبوتي في المرتبة الخامسة عالميا في مؤشر إجمالي خدمة الدين كنسبة من صادرات السلع والخدمات والدخل الأولي.

في الختام، يشكل مناخ الاستثمار والأداء الاقتصادي، مصدراً هاماً لتدفق رؤوس الأموال وزيادة الاحتياطيات من العملات الأجنبية، التي تلعب دوراً كبيراً في دفع عجلة التنمية الاقتصادية، والمساهمة في النمو الاقتصادي بشكل عام في الدول العربية.

 

د. ثامر محمود العاني

التضحية بالنفط من أجل المناخ

أصدرت إحدى الجهات الحكومية في كندا يوم الثلاثاء سيناريوهات متوقعة لإنتاج البلاد في ظل تطبيق سياسات المناخ، كانت نوعاً ما صادمة، بل مخيفة.

فبحسب «CER»، وهي الجهة المسؤولة عن تنظيم قطاع الطاقة في كندا، فإن إنتاج البلاد سينخفض بنسبة 76 في المائة خلال 30 عاماً لو تمسك العالم بسيناريو الحفاظ على الزيادة في حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية، وهو السيناريو الرئيسي في اتفاقية باريس للتغير المناخي.

طبعاً، لماذا لا نستغرب مثل هذه السيناريوهات؟! لأن الجهة الكندية قالت إنها استخدمت مدخلات السيناريوهات بناءً على دراسات وأرقام وكالة الطاقة الدولية، وهنا لا أريد أن أكون أحد الأصوات ضد الوكالة والتي أحترم وجودها حتى وإن كانت الكثير من آرائها لا تبدو منطقية، ولكني أوردت هذا لأبيّن خطورة التقارير والدراسات التي تصدر عن الوكالة وأي جهة أخرى مماثلة لها.

المكتب الكندي كان واضحاً، وقال إن هذه ليست توقعات وليست مقترحات للسياسة النفطية الكندية، أي أنها لا تعدو عن كونها سيناريوهات، ولكنها سيناريوهات مقلقة كما ذكرت في البداية.

الآن، لنتخيل صدق هذه السيناريوهات فهذا معناه أن كندا التي رفعت إنتاجها إلى 5 ملايين برميل يومياً العام الماضي لن تستطيع الحفاظ على هذا المستوى بعد عقد أو عقدين من الزمن، وهنا نتكلم عن انخفاض كبير في دخل كندا من النفط.

في نظري، سواء أرادت كندا تقليص نفطها والامتثال للاتفاقيات الدولية والمعاهدات أم لا، فإن الواقع يقول إن كندا التي تنتج أحد أسوأ أنواع النفط ملاءمة للبيئة، وهو النفط الكندي الثقيل، لن تستطيع زيادة إنتاجها مهما فعلت خلال هذه الفترة؛ ولهذا فإن التضحية التي يحاول الكل رسم سيناريوهات حولها هي في الواقع ليست تضحية، ولكنها تراجع طبيعي للإنتاج.

ليست كندا وحدها التي ستشهد تراجعاً في الإنتاج، بل الولايات المتحدة وروسيا والكثير من الدول التي نراها اليوم في قوتها النفطية. ولعل روسيا هي أكثر الدول التي تتحدث عن خفض الإنتاج الطوعي، بينما في الحقيقة فإن روسيا كذلك تواجه مشاكل فنية في إنتاجها، وهذه المشاكل ستتفاقم مع الزمن، خاصة مع خروج العديد من شركات خدمات الحقول النفطية من روسيا مثل «شلمبرجير» و«بيكر هيوز» وغيرهما.

هناك واقع مؤلم ينتظر العالم، وهو مرتبط بصورة كبيرة بعدم قدرة الشركات على ضخ المزيد من النفط من الحقول القديمة، ولن ينقذ العالم سوى تقنية أخرى وثورة أخرى مثل النفط الصخري، ولكن حتى ثورة النفط الصخري لم تعد قادرة على إنقاذ العالم. فهل نعدّ كل ما نسمعه عن التضحية بالنفط من أجل المناخ حقيقة؟

الخلاصة هنا، ما لم يحدث هبوط كبير في الطلب خلال العقود الثلاثة المقبلة، فإن العالم عليه أن يتعامل مع أسعار طاقة مرتفعة، وستظل دول «أوبك» هي التي تضخ النفط لباقي العالم.

وائل مهدي

عن سياسة لا تُسمى… وعالم شديد التغيّر

 

شرعت الولايات المتحدة ودول أوروبية وبلدان متقدمة أخرى في اتباع سياسة اقتصادية جديدة تلاحقت خطوات تطبيقها مهرولة في أعقاب أزمات متعددة متلاحقة، وستكون لها تداعيات مهمة على اقتصادات بلداننا النامية واستثماراتها وتجارتها ودور الدولة فيها.

وقبل تحميل الأزمات المترتبة على جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا بما لا تحتمل، أشير إلى أن الإجراءات المشكّلة لهذه السياسة الجديدة قد رصدتها تقارير دولية ودراسات، منها بحث في «عودة السياسة التي لن تسمى: مبادئ السياسة الصناعية» أعدّه خبراء من صندوق النقد الدولي في عام 2019، مسترشدين بنجاحات التجربة الآسيوية التي ساندت المنتجين المحليين في الصناعات المتقدمة، وتوجهها التصديري، ودفع المنافسة مع تفعيل قواعد المحاسبة بالإثابة والجزاء. وفي عام 2020 عُقد مؤتمر لخبراء في الاقتصاد حول احتمالات عودة السياسة الصناعية بشكل جديد بما يشمل، ولا يقتصر على، تحقيق قفزات نوعية في الصناعات التحويلية التكنولوجية المتقدمة؛ وهو ما لخصت نتائجه الاقتصادية ماريانا مازوكاتو في كتاب عنونته «عودة السياسة الصناعية ودور الحكومة في تحقيق ازدهار مشترك».

وتشمل السياسة الصناعية الجديدة ما يصفه الاقتصادي روتشير أجراوال بـ«جهود الدولة لتشكيل الاقتصاد باستهداف أنشطة اقتصادية وصناعات ومشروعات محددة من خلال حزمة متنوعة كالدعم والحوافز الضريبية وتطوير البنية الأساسية وقواعد رقابية حامية ومساندة البحث والتطوير».

وعلى مدار الأعوام الثلاثة الماضية تبارى النقاش بين رفض قاطع للسياسات الصناعية كفكرة سيئة أهدرت موارد الاقتصاد في السابق في مشروعات حبذتها بيروقراطية الدولة بخسائر فادحة للقطاع العام وزيادة الديون وتراجع التنافسية والاستثمار والتصدير وتفشي البطالة المقنعة، إلى نهج جديد يعتمد على مفهوم المشاركة بين الاستثمارات العامة والخاصة، وتحديد «مهام طموحة» على غرار ما قام به الرئيس الأميركي السابق جون كينيدي منذ أكثر من 60 عاماً.

وقد عرضت هذا النهج خلال كلمتي في القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية التي عُقدت في بيروت في عام 2019، موضحاً أن «العالم يشهد تغيرات في موازين القوى الاقتصادية العالمية والإقليمية، تستوجب الاستفادة من منهج عملي واقعي لتحقيق التقدم. وبمناسبة الاحتفاء بهبوط أول إنسان على سطح القمر لنا فيما فعله الرئيس كينيدي، مع وكالة الفضاء الأميركية مثلاً. فقد أُسست هذه الوكالة، المشهورة بـ(ناسا)، في عام 1958 لتحقيق أهداف متعددة كغزو الفضاء وتطوير التكنولوجيا في مجال عملها، إلى غير ذلك، وحُشد للوكالة من الموارد ما حُشد، وجُمع لها من العلماء ما جُمع. لكن كينيدي أنقذها من مصير بيروقراطي محتوم بأن جعل لها هدفاً محدداً، ومن دونه لظلت هائمة تطلع إلى المجهول من دون هدى أو دليل». فما فعله كينيدي هو تحديد الهدف بوصول أول إنسان إلى سطح القمر والعودة به سالماً إلى الأرض. وبهذا حوّل غموض تعدد الأغراض، هدفاً طموحاً، محدد الزمن، سهل التخيل، يمكن الحكم عليه بالنجاح والفشل. وقد تحقق هذا الهدف فعلاً في عام 1969 بالخطوة الأولى التي خطاها رائد الفضاء نيل أرمسترونغ، وكان ذلك الإنجاز الهائل نتيجة لتوجه نطلق عليه اليوم «رمية نحو القمر».

وحالياً تجد دعماً في الولايات المتحدة على سبيل في مجال أشباه الموصلات بعد اعتماد صناعتها على استيراد 90 في المائة من احتياجاتها منها من تايوان، فوجّهت لها دعماً يبلغ 39 مليار دولار من جملة دعم مالي وفّره قانون أقرّه الكونغرس الأميركي بتحفيز مالي بمقدار 280 مليار دولار لهذه الصناعات ومثيلاتها التي تعتمد على البحث والتطوير ومشاركة الاستثمارات الخاصة والتي ستكون محظورة عليها المشاركة في تطوير هذه الصناعات في الصين لمدة 10 سنوات. كما يوفّر قانون آخر ذو توجه داخلي وحمائي، والمسمى قانون تخفيض التضخم، 370 مليار دولار معونات للاستثمارات في الطاقة النظيفة. وقد حاولت ما استطاعت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، في زيارتها الأخيرة للصين تخفيف أثر مثل هذه السياسات على العلاقة بين البلدين بأنه سيتم تحديد نطاق القطاعات ذات الطبيعة الخاصة للأمن القومي لأضيق الحدود.

وفي الاتحاد الأوروبي تشهد بين أعضائه تعالياً للنداءات لمواجهة السياسة الصناعية الأميركية بحماية تنافسية الأنشطة الاقتصادية الأوروبية، فيُخصص لها من صندوق التعافي من الجائحة 160 مليار يورو لمشروعات الابتكارات والتحول الرقمي وصناعة البطاريات وأنشطة العمل المناخي. وعبر المحيط الهادي ستجد 57 شركة متميزة في اليابان تحظى بدعم 500 مليار دولار من الحكومة لحثهم على الاستثمار المحلي وتخفيف الاعتماد على الصين.

على بلداننا النامية أن تدرك عاجلاً خصائص هذا الواقع الجديد وألا تضيع الزمن النفيس في التحسر على تبدل توجهات وتغير الأساليب الاقتصادية؛ فليست هذه المرة الأولى في العصر الحديث التي يشهد فيها العالم تحولاً بندولياً في إدارة الاقتصاد من النقيض إلى النقيض! ولخّص المؤرخ الاقتصادي ماكس هارتويل حركة بندولية للتيارات السائدة في حكم الاقتصاد بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين، تراوحت بين تدخل سافر للدولة بسيطرة أفكار مدرسة الميركانتيليين أو التجاريين حتى ثبتت عدم كفاءتها؛ أعقبها تبنٍ لحرية التجارة والاقتصاد فحسنت الكفاءة ولكنها أضرت بالعدالة؛ كما شهدت العقود التالية للحرب العالمية الثانية تبدلاً بين تدخل الدولة والاعتماد على السوق في تخصيص الموارد؛ فكلما ظهر فشل في أحدهما كان اللجوء للبديل. وما تغير اليوم هو سرعة انتقال هذا البندول بين مزيج منهما.

هناك اعتبار آخر أوضحتُه في دراسة مشتركة اعتمدت على مسح تطبيقي، وهو تراجع أهمية المذاهب الاقتصادية كالرأسمالية والاشتراكية، وما بينهما من مدارس اقتصادية، في تشكيل أولويات السياسات العامة وطرق تحقيقها. فنحن عالم يطبّق براغماتية القط الأسود والقط الأبيض؛ وفقاً لمقولة الزعيم الصيني دينغ جياو بينغ بأنه لا يهم لون القط ما دام يُصيد الفئران.

د. محمود محيي الدين

ما أغنى 5 دول في العالم في 2023؟

يفاجأ الكثير من الناس عندما يجدون أن العديد من أغنى دول العالم هي أيضًا من بين أصغر الدول مساحة، حيث تستفيد بعض البلدان الصغيرة جدًا والغنية جدًا – مثل سان مارينو ولوكسمبورغ وسويسرا وسنغافورة – من وجود قطاعات مالية وأنظمة ضريبية متطورة تجذب الاستثمار الأجنبي والمواهب المهنية والودائع المصرفية الكبيرة.

بينما تمتلك دول أخرى مثل قطر والإمارات العربية المتحدة احتياطيات كبيرة من النفط والغاز أو غيرها من الموارد الطبيعية المربحة.

ولكن ماذا نقصد عندما نقول إن بلدًا ما “غني”، خاصة في عصر يتزايد فيه التفاوت في الدخل بين فاحشي الثراء وباقي المواطنين؟ بينما يقيس الناتج المحلي الإجمالي قيمة جميع السلع والخدمات المنتجة في دولة ما، فإن تقسيم هذا الناتج على عدد المواطنين هو طريقة أفضل لتحديد مدى ثراء أو فقر بلد ما بالنسبة لسكان دولة أخرى.

ومع ذلك، فقط عند الأخذ في الاعتبار معدلات التضخم وتكلفة السلع والخدمات المحلية، يمكننا الحصول على صورة أكثر دقة لمتوسط مستوى المعيشة في الدولة: الرقم الناتج هو ما يسمى تعادل القوة الشرائية (PPP)، وغالبًا ما يتم التعبير عنه بالدولار الدولي للسماح بإجراء مقارنات بين الدول المختلفة.

5. منطقة ماكاو الإدارية الخاصة

الناتج المحلي الإجمالي (وفقاً لتعادل القوة الشرائية بالدولار) : 89558

قبل بضع سنوات فقط، كان الكثيرون يراهنون على أن ماكاو- لاس فيغاس آسيا – في طريقها لتصبح أغنى دولة في العالم. في السابق كانت مستعمرة للإمبراطورية البرتغالية، وشهدت ثروة هذه المنطقة الإدارية الخاصة لجمهورية الصين الشعبية نمواً بوتيرة مذهلة.

يبلغ عدد سكانها حوالي 700 ألف نسمة، وأكثر من 40 كازينو منتشر على مساحة تبلغ حوالي 30 كيلومترًا مربعًا، أصبحت شبه الجزيرة الصغيرة هذه الواقعة جنوب هونغ كونغ مباشرة آلة لكسب المال.

استمر ذلك حتى بدأت الآلة في خسارة الأموال بدلاً من صنعها. عندما ضرب كوفيد-19 العالم، توقف السفر العالمي، وتراجعت ماكاو لبعض الوقت من ترتيب أغنى دول العالم.

اليوم، بعد أكثر من 3 سنوات منذ بداية الوباء، تعود ماكاو ببطء إلى العمل كالمعتاد. ومع ذلك، فهي أيضًا الدولة الوحيدة في القائمة التي يكون القوة الشرائية للفرد أقل مما كان عليه قبل حالة الطوارئ الصحية العالمية – فقد كان حوالي 125 ألف دولار في عام 2019، بانخفاض بأكثر من 35 ألف دولار اليوم.

4. قطر

الناتج المحلي الإجمالي (وفقاً لتعادل القوة الشرائية بالدولار): 124834

على الرغم من الارتفاع الأخير، انخفضت أسعار النفط منذ منتصف عام 2010. في عام 2014، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للمواطن القطري أكثر من 143.222 ألف دولارًا أميركيًا.

بعد عام واحد، انخفض بشكل كبير وظل أقل من 100 ألف دولار للسنوات الخمس التالية. ومع ذلك، فقد نما هذا الرقم تدريجياً، حيث زاد بنحو 10 ألف دولار كل عام.

ومع ذلك، فإن احتياطيات قطر من النفط والغاز والبتروكيماويات كبيرة جدًا وعدد سكانها صغير جدًا بنحو 3 ملايين فقط.

ورغم الوباء، أثبت الاقتصاد قدرته على الصمود، وانكمش بنسبة متواضعة نسبياً 3.5% في عام 2020، وبنحو 1.5% في عام 2021، وبنسبة 4.2% في عام 2022 بفضل زيادة عائدات الغاز والنفط والسائحين القادمين لمشاهدة كأس العالم.

3. سنغافورة

الناتج المحلي الإجمالي (وفقاً لتعادل القوة الشرائية بالدولار): 133895

استطاعت سنغافورة استقطاب عدد كبير من الأثرياء، وبدأ ذلك عندما نالت الدولة استقلالها عام 1965، كان نصف سكانها أميين.

مع عدم وجود موارد طبيعية تقريبًا، نجحت سنغافورة في تطوير نفسها من خلال العمل الجاد والسياسة الذكية، لتصبح واحدة من أكثر الأماكن الصديقة للأعمال في العالم.

اليوم، تعد سنغافورة مركزًا تجاريًا وتصنيعيًا وماليًا مزدهرًا، وأصبح 98% من السكان البالغين الآن متعلمين.

لسوء الحظ، لم يجعلها ذلك في مأمن من التباطؤ الاقتصادي العالمي الناجم عن الوباء: في عام 2020، انكمش الاقتصاد بنسبة 3.9%، مما دفع البلاد إلى الركود للمرة الأولى منذ أكثر من عقد.

في عام 2021، انتعش الاقتصاد السنغافوري مع نمو بنسبة 8.8%، ولكن أثرت المشاكل الاقتصادية في الصين على قطاع التصنيع في سنغافورة – ما يعادل 21.6% من إجمالي الناتج المحلي لسنغافورة، حيث تقلص بنسبة 6% في الربع الأول من عام 2023.

وهذا بدوره يضعف ثروات سنغافورة حيث من المتوقع أن يتوسع اقتصادها بنسبة 1.5% فقط في عام 2023 .

2. لوكسمبورغ

الناتج المحلي الإجمالي (وفقاً لتعادل القوة الشرائية بالدولار): 131580

يبلغ تعداد سكانها 650 ألف نسمة، وتستخدم لوكسمبورغ حصة كبيرة من ثروتها لتقديم مساكن ورعاية صحية وتعليم أفضل لشعبها، الذين يتمتعون إلى حد بعيد بأعلى مستوى من المعيشة في منطقة اليورو.

في حين أن الأزمة المالية العالمية والضغط من الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للحد من السرية المصرفية قد يكون لهما تأثير ضئيل على اقتصاد لوكسمبورغ، فقد أجبر تفشي فيروس كورونا العديد من الشركات على الإغلاق وتسريح الموظفين.

لكن البلاد نجت من الوباء بشكل أفضل من معظم جيرانها الأوروبيين. انتعش اقتصادها من -0.8% نمو في 2020 إلى 5.1% نمو في 2021.

لسوء الحظ، لم يدم هذا الانتعاش طويلاً: نما الاقتصاد بنسبة 1.5% فقط في عام 2022 ومن المرجح أن يصل إلى 1.1% فقط هذا العام بفضل انخفاض ثقة الأعمال والمستهلكين وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.

1. أيرلندا

الناتج المحلي الإجمالي (وفقاً لتعادل القوة الشرائية بالدولار): 140694

كانت جمهورية أيرلندا – التي يبلغ عدد سكانها 5 ملايين نسمة فقط – واحدة من أكثر الدول تضرراً من الأزمة المالية لعام 2008.

بعد إجراءات الإصلاح الصعبة سياسياً مثل التخفيضات الكبيرة في أجور القطاع العام وإعادة هيكلة الصناعة المصرفية، استعادت الدولة صحتها المالية، وعززت معدلات التوظيف وشهدت نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير.

ومع ذلك، تعد أيرلندا واحدة من أكبر الملاذات الضريبية للشركات في العالم، والتي تفيد الشركات متعددة الجنسيات أكثر بكثير مما تعود بالفائدة على الفرد الأيرلندي العادي.

في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نقلت العديد من الشركات الأميركية الكبرى – Apple و Google و Microsoft و Meta و Pfizer على سبيل المثال لا الحصر – مكان إقامتهم المالي إلى أيرلندا للاستفادة من معدل ضرائب الشركات المنخفض البالغ 12.5%.

في عام 2022، شكلت هذه الشركات متعددة الجنسيات حوالي 56% من إجمالي القيمة المضافة للاقتصاد الأيرلندي، ارتفاعًا من 53% في عام 2021، وفقًا للأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء المركزي.

 ومع ذلك، تخطط أيرلندا لمواءمة الحد الأدنى لمعدل الضريبة على الشركات مع المعيار العالمي البالغ 15% في عام 2024.

على الرغم من أن العائلات الأيرلندية أفضل بلا شك مما كانت عليه من قبل، إلا أن الدخل المتاح للفرد أقل قليلاً من المتوسط العام في الاتحاد الأوروبي وفقًا لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

الطاقات المستدامة وتغير موازين القوى

تقود الصين بقية دول العالم في كل من الاستثمارات والتقنية لتصنيع الطاقات المستدامة. ومن جهتها شرَّعت الولايات المتحدة مؤخراً «قانون تخفيض التضخم» الذي يقدم مساعدات حكومية بقيمة 300 مليار دولار خلال العقدين المقبلين، لدعم تخفيض الانبعاثات الكربونية بتشييد الطاقات المستدامة.

أثار هذا القانون، رغم مئات المليارات من الدولارات المخصصة له، كثيراً من النقاش في معاهد البحوث الأميركية؛ خصوصاً حول إمكانية تحقيق دور ريادي للولايات المتحدة في صناعة الطاقات المستدامة.

ناقش معهد «بروكينغز» في واشنطن هذا الأمر في ندوة تم نشر مداولاتها مؤخراً. شكَّلت إمكانية تعاون الدولتين في صناعة تخفيض انبعاثات الكربون مستقبلاً محوراً مهماً في الندوة.

أثارت حقيقة النمو العالي لإمكانات الصين في تصنيع الطاقات المستدامة حفيظة العواصم الغربية؛ لأن إمكانات الصين لإنتاج الطاقة تفوق إمكانات الأقطار الثلاثة عشر في منظمة «أوبك» التي لديها نحو 40 في المائة من الطاقة النفطية العالمية. ومما يضيف إلى مخاوف الدول الغربية هو أن لدى الصين الطاقة لإنتاج نحو 50 في المائة من كل من معدن الليثيوم والنيكل، ونحو 70 في المائة من الكوبالت، الضرورية في إنتاج الطاقات المستدامة.

هذا يعني أن الصين تتفوق على الدول الصناعية الغربية في مجالات طاقوية مستقبلية متعددة في الوقت نفسه، وفي كل من إنتاج المعادن النادرة لتصنيع آلات الطاقات المستدامة، وتصنيع وتسويق الآلات والسلع للصناعة. هذا، ناهيك عن التنافس السعري والتسويقي للسلع الصينية.

استراتيجياً، هيمنت الصين على كل من إنتاج المواد الأولية والتقنيات والمنافسة السعرية لصناعات الطاقة المستدامة منذ وقت مبكر. هذا بينما سيطرت أقطار «أوبك» في العصر الهيدروكربوني على إنتاج النفط، وليس تصنيع المعدات والآلات لصناعة النفط.

في الوقت نفسه، هناك فروق واضحة بين الصناعة النفطية وصناعة الطاقات المستدامة؛ إذ تعتمد الصناعة النفطية إلى حد كبير على توفر احتياطات الثروة النفطية في دولة أو منطقة ما. بينما تعتمد صناعة الطاقات المستدامة على التقنية لتصنيعها، وهي تقنية منتشرة عالمياً. كما أن استعمال الطاقات المستدامة متاح تقريباً في معظم أنحاء العالم (بدرجات مختلفة). ولا تعتمد الطاقات المستدامة إلى حد كبير على ثروة معدنية متمركزة في دولة أو منطقة معينة من العالم. ومن ثم، تعتبر بعض الدول الغربية أن هذا سيقلص من التهديدات الحالية لأمن الطاقة.

لكن، كأي صناعة عالمية، تواجه الطاقات المستدامة تحديات وتهديدات بسبب التنافس الاقتصادي ما بين الدول والتشريعات المحلية التي تحاول حماية الصناعة الوطنية. فعلى سبيل المثال، أثار اتفاق شراكة بين شركة «فورد» وشركة «الصين أمبركس للتقنية- كاتل» بقيمة 3.5 مليار دولار، لتصنيع البطاريات الكهربائية في ولاية ميشيغان، اهتمام الكونغرس الأميركي، وبعد نقاش طويل تخللته معارضة مشتركة من قبل بعض أعضاء الحزبين، وافق الكونغرس على مساندة الاتفاقية ما بين الشركتين (التي تشمل مصانع عدة) ودعم الاتفاق بنحو 9 مليارات دولار، لمساندة وتسريع صناعات الطاقات المستدامة الأميركية.

تخوف الكونغرس في بادئ الأمر من أن الاتفاق ما هو إلا بداية لسلسلة من الاتفاقات التجارية- التكنولوجية ما بين الولايات المتحدة والصين في قطاع الطاقات المستدامة. كما أبدت الصين نفسها وفي الوقت ذاته المخاوف من استعمال تقنيتها لدعم صناعة الطاقات المستدامة الأميركية؛ خصوصاً في الجو المضطرب ما بين الدولتين الكبريين.

هناك شعور عام عند المسؤولين عن قطاع تخفيض الانبعاثات الكربونية في الولايات المتحدة، بأنه من دون التعاون الوثيق ما بين الولايات المتحدة والصين في هذا المجال الصناعي- العلمي، فإن الصناعة الأميركية هذه ستتأخر في النمو، وتكاليفها ستكون أعلى من غيرها.

لكن رغم الخلافات الاستراتيجية ما بين الدول الكبرى، نمت صناعة الطاقات المستدامة عالمياً، لتزداد الاستثمارات فيها خلال 2022، أكثر من تريليون دولار.

شكلت الطاقة تاريخياً دوراً محورياً في العلاقات ما بين الدول. وهذا ليس بالأمر الجديد، فكان هناك الصراع والتنافس على الفحم الحجري، ودوره في توسع وتحسن سرعة النقل بالسكك الحديدية. ثم النفط الذي شاع استعماله في القرن العشرين في توليد الكهرباء وتغذية المصانع، الوقود المفضل لجميع وسائل النقل الحديثة، كما أنه الوقود لآلات الحرب المختلفة. والآن الطاقات المستدامة لتخفيض الانبعاثات أحد أهم أولويات العالم المعاصر، لإنقاذ الكرة الأرضية من التلوث البيئي والتغير المناخي.

ورغم اختلاف العوامل الذاتية لكل فترة، يستمر التباين في المصالح الاقتصادية والاستراتيجية ما بين الدول؛ خصوصاً ما بين الدول الكبرى والأقطار المنتجة والمستهلكة للطاقة، والدول الصناعية الحديثة، مثل كوريا الجنوبية والهند والبرازيل. وهذا هو صلب النقاش الدائر حالياً.

لا نحصر النقاش اليوم في الطاقات المستدامة. إذ تستمر الدول والشركات المنتجة للنفط والغاز، وتصر على موقفها بضرورة التوسع والاستثمار في الصناعة النفطية والغازية. فقد طالب رئيس شركة «بتروبراس» البرازيلية بضرورة الاهتمام بتأمين احتياطات نفطية وافية من أجل استقرار «المرحلة الانتقالية».

ومن جانبه، صرح الرئيس التنفيذي لشركة «شل» وائل صوان، بأهمية استمرار الاستثمار في الصناعة الغازية؛ خصوصاً صناعة الغاز المسال. والهدف المشترك للشركتين، ومعهما الدول المنتجة، هو تأمين استقرار مرحلة «تحول الطاقة»، والعقود المستقبلية؛ حيث من المتوقع استمرار أهمية دور النفط والغاز في سلة الطاقة المستقبلية؛ خصوصاً مع تخفيض الانبعاثات الكربونية منهما.

وليد خدوري

هذا «النظام» المالي العالمي…

انتهت منذ أيام قمة باريس التي عُقدت بمشاركة نحو 50 من قادة الدول، ومشاركين من المنظمات والمؤسسات الدولية ومسؤولي القطاع الخاص والمجتمع المدني، من أجل ميثاق مالي عالمي جديد. وطرحت فكرة هذه القمة في شرم الشيخ أثناء انعقاد قمة المناخ السابعة والعشرين التي رأستها مصر في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، في الجلسة التي شاركت فيها رئيسة وزراء بربادوس ميل موتلي، مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وبعد 6 شهور من الإعداد والأخذ والجذب حول الترتيبات والأولويات لقمة باريس، سلطت أنظار المتابعين على الجلسة الختامية التي أدارها الرئيس ماكرون، مؤكداً فيها أكثر من مرة أنه يعرض نقاط توافق ككاتب للجلسة، مستدعياً إلى الأذهان الصورة الشهيرة للكاتب المصري الجالس القرفصاء. وهي صورة ليست بعيدة عن دلالة لتاريخ تطور العمل الدولي المشترك، ومدى نجاح -أو إخفاق- دبلوماسية القمم في تحقيقها لما تهدف إليه.

وهناك مبالغة في وصف مجموعة الترتيبات المختلفة المعمول بها، والتي تشكل المعاملات المالية الدولية، بأن نعتبرها نظاماً أصلاً. وهي الملاحظة ذاتها التي ساقها أندرو كروكيت في عام 2009، بعد الأزمة المالية العالمية -أثناء شغله لمنصب المدير العام لبنك التسويات الدولية- مطالباً بإصلاحات، ولكنه توقع أن النموذج المتبع سيستمر مع زيادة نسبية في دور القواعد الرقابية، وهو ما حدث بالفعل، رغم مطالبات لم تكن الأولى من نوعها، لإحداث تغيير جذري سعياً لنظام مالي مكتمل الأركان.

ولكن، هل يمكننا افتراض الاستفادة من دروس الأزمات السابقة، وأنه ستترتب على هذه القمة تغيرات ملموسة في «نظام» التمويل الدولي الراهن؛ ناهيك من إجابة العنوان ذي الدلالة الذي طرحه موقع «بروجكت سينديكيت»: «هل ثمة ثورة تمويل في باريس؟» وإجابتي: لا! وأرجو مخلصاً أن تثبت الأيام القادمة خطأ هذا التقدير. فالثورة بما تعنيه من انتقال النظام المالي العالمي الراهن إلى نظام جديد أكثر كفاءة وعدلاً، أو على الأقل تحقيق نقلة نوعية في إطار النظام المالي العالمي الراهن، تتطلب مزيداً من الطموح والإجراءات العملية لتحقيقها، مساندة بمناخ سياسي مواتٍ.

بعض الرسائل الإيجابية من باريس

كانت أولويات التمويل تعاني من غموض غير مبرر، بسبب ما تم إقحامه عمداً من جدل بأن العمل المناخي يتعارض مع تحقيق التنمية المستدامة، والعكس. وقد أكدت قمة شرم الشيخ أن العمل المناخي ينبغي إدراجه وفقاً لنهج شامل لتحقيق الاستدامة. وقد ذكرت في إطارها أن «لا خير في عمل مناخي يزيد الفقر ويسبب البطالة ويعوّق النمو». ويبدو أن هذا النهج الذي تبنته بداية البلدان النامية وجد صدى قد انعكس في المقال الذي صدر بتوقيع الرئيس الفرنسي ومعه 12 من قادة دول العالم المشاركين، ممثلين لاقتصادات نامية ومتقدمة، أكدوا في مقالهم المعنون «انتقال أخضر لا يستثني أحداً»، تشابك الأزمات والصدمات التي سببت زيادة الفقر والديون وتفاوت الدخول وتدهور المناخ… واتفقوا على العمل معاً للتصدي لها.

ومن الإيجابيات التي جرت على هامش الاجتماعات، ما تم إعلانه من تمويل للسنغال بمبلغ 2.5 مليار يورو، من خلال مبادرة الانتقال العادل للطاقة التابعة لمجموعة الدول السبع، على مدار 3 إلى 5 سنوات. وإن كان المطلوب أيضاً لعموم أفريقيا الاستثمار في صناعات تتطلب تخفيض الكربون فيها، مثل الصلب والأسمدة والإسمنت وغيرها، وهو مطلب لم تتحرك مجموعة الدول السبع قدماً في تنفيذه أو حتى دراسته بموضوعية، رغم نتائجه الواعدة.

وقد تم الإعلان أيضاً عن نجاح زامبيا في التوصل لاتفاق لمعالجة ديونها الخارجية، وفقاً لآلية مجموعة العشرين، بعد جهد مضنٍ استمر لسنوات، تقوم بمقتضاه بإعادة هيكلة نصف مديونيتها البالغة 13 مليار دولار.

وكانت هناك فاعليات تعكس تطوراً لدور المشاركات مع القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، في العمل المناخي والتنمية، شملت أسواق الكربون، والهيدروجين الأخضر، ومبادلة الديون باستثمارات في مجالات التخفيف والتكيف والطبيعة، فضلاً عن استعراض أدوات جديدة للتمويل والائتمان الميسر، ومخاطر الاستثمار، وزيادة عوائده، قدمتها المؤسسات المالية الدولية.

مطالب تستدعي العزم في متابعتها

ظهر جلياً التنسيق بين قادة البلدان النامية، وخصوصاً الأفريقية، في مطالبهم المحددة فيما يتعلق بتخفيض الديون وزيادة التمويل والتعاون التكنولوجي وزيادة فرص التجارة، مع أهمية التزام الدول المتقدمة بتعهداتها، خصوصاً بالنسبة لتمويل التنمية والعمل المناخي، مع توضيح تفصيلي لما تحقق من التزام فعلي بالتعهدات. وقد انعكس ذلك بالتأكيد في تلخيص الجلسة الأخيرة على إصدار تقرير أداء نصف سنوي.

رغم شمول قمة باريس خطوات في الاتجاه الصحيح؛ لكن تحديات وفرص عالم اليوم تتطلب ثباتاً لتجاوز عقبات التنمية المستدامة؛ فقد تجاوزنا منتصف الطريق زمناً لتحقيقها، فإذا بالعالم ينجز فقط أقل من 15 في المائة من الأهداف، بينما أكثر من 50 في المائة من الأهداف بعيد عن المسار المطلوب، و30 في المائة منها أسوأ مما كان عليه الوضع في عام 2015، عندما دشنت هذه الأهداف ومعها اتفاق باريس للمناخ الذي يعاني من بطء التنفيذ رغم كثرة التعهدات.

هذه الأهداف تستلزم علاجاً فورياً لأزمة الديون التي تعاني من حدتها البلدان النامية، بما فيها من يلتهم خدمة الديون ومخصصات التعليم والصحة، فضلاً عن التصدي لتداعيات تغيرات المناخ على عموم الناس وحياتهم وأسباب معيشتهم.

ولن يتصدى لهذه التحديات عالم تعاني مؤسساته المالية الدولية من انخفاض لرؤوس أموالها، تعجز معه عن تلبية احتياجات تمويل المناخ والتنمية، ما يجعل كثيراً من الافتراضات المطروحة في باريس عن قدرة هذه المؤسسات للقطاع الخاص، وتخفيض المخاطر، واستخدام أساليب الابتكار المالي، إلى غير ذلك، ضرباً من الخيال. ففي عالم المال؛ الصغيرُ ليس جميلاً دائماً، وفجوات التمويل التريليونية لن تجسرها وعود بمليارات محدودة، وهي إنْ أتت تأتي متناثرة وعادة متأخرة.

د. محمود محيي الدين