أرشيف التصنيف: المقالات العامة

أين يحتفظ المليارديرات بأموالهم؟

استثمارات المليارديرات دائماً ما كانت محط اهتمام الجميع، فثرواتهم التي بنوها مع الأيام دليل على استراتيجياتهم الاستثمارية الناجحة.

تستعرض هذه القائمة بعض الاستثمارات الأكثر شيوعًا التي يعتمد عليها المليارديرات عند البحث عن نمو مستدام لأموالهم.

ومع ذلك، يجب الوضع في الاعتبار أن المليارديرات لا يديرون عادةً أموالهم الخاصة ويختارون بدلاً من ذلك العمل مع مستشار مالي للمساعدة في تخصيص أصولهم.

 

  1. النقد

النقد من الأماكن الشائعة حيث يحتفظ المليارديرات ببعض أموالهم، على الرغم من عدم التفكير في كثير من الأحيان على أنه استثمار، فإن النقد هو أحد الأصول السائلة، مما يعني أنه يمكنك استخدامه بعدة طرق حسب الاحتياجات أو الرغبات.

في وقت الأزمات، يمنحك وجود نقود في متناول اليد المرونة في التعامل، لهذا السبب يحتفظ المليارديرات بجزء كبير من أموالهم نقدًا.

ولكن مع معدلات التضخم الحالية التي تتسبب في انخفاض قيمة المال، فإن وجود الكثير منه في متناول اليد خلال فترة تضخم قد يعني أنك تخسر بشكل كبير.

 

  1. السلع

غالبًا ما تكون السلع جزءًا آخر من محفظة الملياردير، ويمكن أن يساعد امتلاك مثل هذه الأصول في التحوط ضد المخاطر والتضخم والتقلبات.

على سبيل المثال، في السيناريو الذي يسبب فيه التضخم صعوبة لبقية السوق، فإن وجود استثمارات في المواد الخام التي يرتفع سعرها يمكن أن يساعد في حمايتك إذا كانت استثمارات أخرى ضمن محفظتك تحقق خسائر.

حيث يعتمد الناس والاقتصادات على السلع الأساسية، والتضخم يجعلها تكلف المزيد من المال.

المواد الخام والمنتجات الزراعية – مثل المعادن الثمينة والمعادن الصناعية مثل النحاس والنفط والغاز الطبيعي والبن والذرة وفول الصويا – هي أنواع شائعة من السلع التي يحتفظ بها ويتداولها المليارديرات أو وكلائهم.

 

  1. العملات الأجنبية

يوفر الاحتفاظ بالعملات الأجنبية للمليارديرات إمكانية الاستفادة من تقلبات القيمة بعملات مختلفة. إنه ببساطة شكل من أشكال التنويع: فبدلاً من أن تكون جميع أصولهم مقومة بعملة واحدة، فإنهم يوزعون بعض ثرواتهم على أصول مقومة بعملات أخرى. يوفر ذلك الحماية ضد انخفاض إحدى العملات وزيادة رأس المال إذا ارتفعت قيمة عملة أخرى.

 

  1. الأوراق المالية

تعتبر الأوراق المالية مكان آخر شائع يفضل المليارديرات الاحتفاظ بأموالهم فيه، وهي استثمارات وأدوات مالية لها بعض القيمة التي يمكن تداولها في كثير من الأحيان في الأسواق العامة. تشمل الأنواع الشائعة من الأوراق المالية السندات والأسهم والصناديق المتداولة في البورصة.

يستخدم المليارديرات هذه الاستثمارات لضمان نمو أموالهم بشكل مطرد، ويعتمدون على النمو الصعودي طويل الأجل للسوق لمنحهم عائدًا.

 

  1. الأسهم الخاصة وصناديق التحوط

تقع الأسهم الخاصة وصناديق التحوط بجوار الأوراق المالية وأسواق التداول. في حين أنهما ليسا نفس الشيء، فإن هذين النوعين من أدوات الاستثمار يحظيان بشعبية كبيرة بين المليارديرات.

فهي تجذب الأشخاص ذوي الثروات العالية والذين يمكنهم تحمل استثمارات كبيرة ومخاطر أعلى، وتستخدم صناديق التحوط مجموعات كبيرة من الأموال والاستثمارات الإستراتيجية في مجموعة متنوعة من الأصول لتحقيق عوائد مرتفعة.

من ناحية أخرى، تتداول الأسهم الخاصة في الشركات المملوكة للقطاع الخاص بهدف إدارة الأعمال لتحقيق أرباح أعلى. كلاهما يتطلب مبلغًا كبيرًا من المال للاستثمار، مما يمنعهما من أن يكونا خيارًا للعديد من المستثمرين.

 

  1. العقارات

واحدة من أكثر الطرق شيوعًا للاستثمار هي وضع أموالك في صناديق الاستثمار العقاري (REITs)، ويمكن أن يوفر لك هذا عائدًا قويًا بينما يتولى شخص آخر إدارة الاستثمارات والممتلكات المادية.

يمكن أن توفر الاستثمارات العقارية التجارية والصناعية والسكنية أيضًا تدفقًا ثابتًا للدخل من المستأجرين، وإلى جانب ارتفاع أسعار العقارات هناك ميزة أخرى لامتلاك العقارات وهي الضرائب.

على سبيل المثال، إذا انخفضت قيمة الممتلكات الخاصة بك، يتم خصمها من الضرائب المستحقة عليك.

 

  1. المقتنيات

عندما يبحث المليارديرات عن أماكن غير الاستثمارات التقليدية للاحتفاظ بأموالهم، فقد يتجهون إلى استثمارات ملموسة وقابلة للتحصيل.

غالبًا ما تشتمل على مقتنيات باهظة الثمن مثل السيارات القديمة والفنون الجميلة والآلات الموسيقية النادرة أو العتيقة والمخطوطات الأصلية للكتب الشهيرة.

 

  1. العملات المشفرة

تعتبر العملات المشفرة – مثل بيتكوين ودوغ كوين وإيثيريوم – متقلبة ومخيفة للكثيرين، بما في ذلك المليارديرات، لكن بعضهم اختاروا الاستثمار فيها مع زيادة شرعيتها وقيمتها.

العملات المشفرة – وتقنية بلوك تشين التي بنيت عليها – هي تقنية ثورية يمكن أن تغير العديد من الصناعات، وجزء من جاذبية العملة المشفرة لأصحاب المليارات هو أنها تسمح بتخزين آمن للقيمة.

بسبب العملات المشفرة، لا يمكن فرض ضرائب على الأموال أو سرقتها أو مصادرتها، بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدامها عالميًا دون الحاجة إلى القلق بشأن تغيير أسعار الصرف.

ويرى البعض في العملات المشفرة فرصة لتنمية ثروتهم، أو على الأقل حمايتها من الضرائب، وتعمل هذه العملات أيضًا على تسهيل نقل الأموال أو دفع ثمن الأشياء في البلدان الأخرى.

جيه بي مورغان .. قصة المصرفي الذي أنقذ البورصة الأميركية من الانهيار

عندما وصل جون بيربونت مورغان إلى وول ستريت، كان يجول في خاطره ‏مزيج من المصالح والتنافس في أحد أهم المراكز المالية في بلد لا يزال يكافح مع ‏آثار الاستعمار، لكن عندما رحل عن السوق، صار هناك مجموعة قوية من ‏الشركات الكبرى التي تقود الاقتصاد الأميركي – أحد أسرع الاقتصادات نمواً على ‏مستوى العالم في ذلك الوقت.‏

ويرى البعض أن الكثير من التقدم والنجاحات المحققة في وول ستريت أواخر ‏القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين ينسب فضله إلى تأثير جيه بي ‏مورغان، فمن هو؟ ‏

الحياة المبكرة والتعليم

ولد مورغان في 17 أبريل نيسان عام 1837 في هارتفورد بولاية كونيتيكت، ولم ‏يكن هناك شك كبير في أن مستقبله سيكمن في القطاع المصرفي، فقد كان والده، ‏جونيوس سبنسر مورغان ، شريكًا في بنك يديره أميركي آخر، وهو جورج ‏بيبودي.‏

نشأ مورغان وهو يعلم أنه سيحل محل والده، حيث يسافر من الولايات المتحدة إلى ‏بريطانيا لبيع السندات الأميركية إلى مستثمري لندن، وكانت معظم هذه السندات ‏عبارة عن عروض حكومية وفدرالية، وفي هذه الفترة من التاريخ ، كانت مخاطرة ‏أعلى بكثير من السندات الحكومية من الدول الأوروبية.

 

ذعر عام 1907‏

كان مورغان من الشخصيات الجديرة بالاحترام في عالم المال والأعمال في ‏الولايات المتحدة، وكان أيضاً شخصية مكروهة من البعض بنفس القدر في أوائل ‏القرن العشرين.‏

ورغم ذلك، في عام 1907 عندما حدثت أزمة مالية عرفت باسم (ذعر 1907)، مد ‏مورغان يده وساعد الحكومة الفدرالية ليقف الاقتصاد على قدميه.‏

بدأ الأمر في 25 مارس آذار من عام 1907 حيث بدأت بورصة نيويورك في ‏الانهيار على خلفية موجة غير مسبوقة من البيع بسبب الهلع والخوف، وبدا للجميع ‏أن كل شيء لم يكن على ما يرام في البورصة.‏

كان مورغان يبلغ من العمر وقتها 70 عامًا، شبه متقاعد وفي إجازة، وبحلول ‏أكتوبر تشرين الأول 1907، كان من الواضح أن الأزمة تتفاقم، وفي 19 أكتوبر ‏تشرين الأول، سافر مورغان إلى نيويورك لمحاولة تجنب الكارثة المالية.‏

واستخدم مورغان كافة اتصالاته برواد الأعمال والمصرفيين ذوي الصلة بالاقتصاد ‏الأميركي، وقدم تمويلاتً لوزارة الخزانة الأميركية لضخها في وول ستريت ‏والحفاظ على السيولة في السوق

من مكتبه، أرسل مورغان أشخاصاً حاملين رسائل إلى البورصات والبنوك للتنسيق ‏والعمل على حل الأزمة بشكل عاجل، وبلغ الأمر إلى أن رجال الدين تمت دعوتهم ‏لتهدئة الناس.‏

وبعد ذلك، عقد مورغان لقاءً في غرفة مغلقة مع جميع رؤساء الشركات ‏والمصرفيين في مكتبه، وتمكن من إجبار جميع المعنيين بالاقتصاد الأميركي على ‏الموافقة على خطة عاجلة.‏

بناء على تلك الخطة، سيضخ المشاركون في الاجتماع سيولة لدعم النظام المالي، ‏مثلما تفعل الحكومة الفدرالية الآن في مواقف مماثلة، وحصلت هذه الخطة على ‏موافقة رئاسية، وبموجبها، هدأ الخوف والهلع في السوق وعادت الأمور إلى ‏طبيعتها.‏

وإدراكًا منها بأنه لا يصح أن يقوم مصرفي متقاعد بمفرده بإنقاذ النظام المالي ‏ومعالجة كارثة مالية في الولايات المتحدة، تحركت الحكومة بسرعة لإصلاح ‏الصناعة المصرفية وأنشأت نظام الاحتياطي الفدرالي لتجنب مثل هذه الأزمات في ‏المستقبل، وقيل إن مورغان كان من بين من ضغطوا على الحكومة لإنشاء منظومة الفدرالي الأميركي.

لجنة ‏Pujo

 

كان ذعر عام 1907 أفضل لحظات مورغان، وتلقى المديح بسبب جهوده ‏ومساعدته للاقتصاد، لكن لاحقاً أدى تلاعبه الواضح بالاقتصاد إلى تفاقم رأي ‏الجمهور العام عنه باعتباره ولقبوه بـ”ملك اللصوص في وول ستريت”‏.

وبدلاً من تقاعده، تم استدعاء مورغان إلى لجنة ‏Pujo، وهي تحقيق حكومي في ‏صناديق الأموال، وخلال الإدلاء بشهادته، أعطى مورغان لمحة عما يكون عليه ‏المصرفي كما عزز مفاهيم العالم القديم عن الشخصية والمسؤولية الأخلاقية ‏باعتبارها مبادئ توجيهية للمصرفي. ‏

بعد جلسات الاستماع، بدأت صحة مورغان في التدهور. ومع تدهور صحته، يرى ‏محللون أن عصر أباطرة عالم المال في وول ستريت قد انتهى وقتها.‏

وفي 31 مارس آذار من عام 1913، توفي بطل أزمة ذعر 1907، والملك ‏المزعوم لوول ستريت في غرفة فندقية في العاصمة الإيطالية روما.‏

أشهر أعماله وثروته

رغم أن صيته قد ذاع في القطاع المصرفي، إلا أن اهتمامات مورغان كمستثمر ‏ورجل أعمال امتدت إلى صناعات مثل السكك الحديدية المزدهرة والصلب ‏والمعدات الزراعية.‏

 

ورغم أن مورغان سوف يظل يرى بنظرة سلبية لأنه حاول احتكار صناعة ‏الصلب من خلال شركة ‏U.S. Steel، إلا أن أعماله ومساهماته في شركات كبرى ‏أخرى تشفع له، ومنها شركات لا تزال قائمة حتى الآن مثل ‏General Electric‏ ‏وNavistar International‏. ‏

وقد مرت سمعة مورغان بمراحل صعود وهبوط على مدار حياته الشخصية ‏والمهنية. في بعض الأحيان، كان يُعتبر “ملك اللصوص لوول ستريت”، واتُهم بقمع ‏الاقتصاد، وفي أوقات أخرى، كان يعتبر البطل الاقتصادي لفزع 1907 وركيزة ‏الشخصية والمسؤولية الأخلاقية.‏

وعند وفاته في روما، قدرت ثروة جيه بي مورغان بحوالي 80 مليون دولار، وهو ‏ما يعادل في عام 2022 حوالي 2.3 مليار دولار، وذلك على الرغم من أن البعض ‏يتوقع أن تكون ثروته في ذروة حياته المهنية تصل إلى 60 مليار دولار في عام ‏‏2022.‏

إعادة رسم طريق الحرير الجديدة

علينا أن نتوقف ونحاول أن نُحلّل الزيارة الأخيرة للرئيس الصيني «شي جي بينغ»، للمملكة العربية السعودية، منذ نحو أسبوع، والتي استمرت ثلاثة أيام، وقد أدّت إلى توقيع إتفاقات عدة، بمبالغ هائلة، والتي كانت تُمثل الخطوة الأولى لإعادة التحالفات والإتفاقات والتبادلات الدولية.

جاءت هذه الزيارة بعد سنوات من التقارب الخجول، وقد بلغت قيمة هذه الإتفاقات الموقعة بين الجانبين بنحو 30 مليار يورو، مع أكثر من 36 إتفاقاً في مجالات الطاقة والتكنولوجيا، والإعمار، والذكاء الإصطناعي، والنفط، وتبادل الخبرات، والزراعة وغيرها. بالإضافة إلى أنه سينجم عن هذا التبادل والتحالف، إتفاقات أخرى.

 

تضمّنت المحادثات بين الوفدين الصيني والسعودي، سُبل تحضير العالم الإقتصادي الجديد نحو الإقتصاد الرقمي في أوسع مفاهيمه. لا شك في أن وراء هذه الإتفاقات الإقتصادية والتجارية أبعاداً سياسية، تقع في صلب التنافس لقيادة العالم الإقتصادي الجديد، والإستعداد لأي عزلة أو ضغوط جديدة.

 

فهذا يُذكّرنا ببناء ورسم طريق الحرير القديمة، التي أُبرمت منذ قرون عدة. فطريق الحرير الشهيرة كان مصدرها ولولبها الصين، وقد كان أساس بنائها الخلافات والحروب، وخشية العزل التجاري والإقتصادي والإنمائي. فهذه الطريق كانت لمواجهة العمالقة الدولية، والبناء بعد الإكتفاء التجاري والإقتصادي والصناعي، بين بعض الدول والقارات المعزولة أو التي كانت تبحث عن إستقلال إقتصادي وتجاري وتبادلي.

 

من هنا يُمكن التحليل، أنّ هناك إستراتيجية غير معلنة وهدفا واضحا لإعادة رسم طريق حرير جديدة «موديل» القرن الحادي والعشرين، من بعد كل التغيّرات العالمية، ومواجهة الوباء الذي أعاد كل العقارب إلى الصفر، وإعادة النظر في كل الإتفاقات والتحالفات والسباق والتنافس لقيادة العالم الجديد، وخصوصاً الإقتصاد الذي عليه إعادة البناء من جديد على أسس حديثة.

 

فالصين تُعتبر العملاق الصناعي والتصديري إلى العالم، ولا سيما المستورد الأول للنفط وكل المشتقات النفطية في العالم. أما السعودية فهي اليوم عملاق التصدير النفطي، في ظل إرتفاع أسعار المواد الأولية، والتضخّم العالمي القائم والذي يتفاقم.

 

فالمملكة العربية السعودية لديها، وسيكون بين يديها، سيولة هائلة عائدة إلى تصدير النفط بأسعار متزايدة. أما الصين فسيزداد الطلب على إرتفاعها، والنمو في صناعتها وإقتصادها. هذا الإتفاق بين العرض والطلب، والعارض والطالب، سيبني تآزراً وتكاملاً بنّاء، لكن أيضاً قيادياً للعالم.

 

من جهة أخرى، لا شك في أن الولايات المتحدة لم ولن تُبارك هذا التقارب الذي يُمكن أن يهزّ عرشها، فلقد إستبق الأمور الرئيس جو بادين، وقام بزيارة المملكة العربية السعودية، في آب 2020، لكن لم تكن النتائج مرجوة وفق المنتظر منها. إضافة إلى ذلك، فقد وقع خلاف بين العملاقين، عندما ضغطت الولايات المتحدة وطالبت بزيادة إستخراج وتصدير النفط، ولم تلبّ «الأوبك» هذا الطلب.

 

فيُمكن أن نقرأ بين السطور والأهداف المختبئة والإستراتيجيات التي تُحضّر وراء الستار، بأن ثمة رغبة ببناء ورسم طريق حرير جديدة، التي يُمكن أن تؤدي إلى حرب باردة جديدة. فالتنافس على قيادة العالم الجديد قائم في أعلى الحدود، وسيكون مبنياً على تحالفات وإتفاقات وتقارب جديد، وأيضاً خلافات وحروب باردة، ويُمكن حتى حروب ساخنة، في بعض البلدان التي ستُستعمل كصندوق بريد برسائل مباشرة وغير مباشرة.

 

فعلى لبنان أن يكون حيادياً في ظل هذه الخلافات والتحالفات الجديدة. إننا كبلد صغير، علينا أن نكون على مسافة واحدة من الجميع، وألاّ نقع في فخ أن نكون صندوق بريد لخلافات ليس لدينا فيها مصالح كما حصل سابقاً. فعلينا أن نستقطب الفرص من خلال إرتفاع أسعار النفط في الخليج، ونستقطب جزءاً من هذه الإستثمارات لإعادة بناء اقتصادنا.

 

في الوقت عينه، علينا أن نبني تحالفات مع البلدان المجاورة لتحضير عمليات تنقيب الغاز، واستخراجه وتصديره عبر الأنابيب الموصولة وبناء تحالفات جديدة.

 

أما علاقتنا مع الصين، فنريدها ممتازة، لأننا نحتاج إلى سلعها، وسوقها الكبيرة، حتى إستثماراتها.

 

في موضوع الولايات المتحدة، لا شك في أننا نريد أفضل العلاقات ولا سيما في القطاع المالي والنقدي، لإعادة بناء قطاع مصرفي متين، تحت المراقبة الدولية.

 

فبالنسبة إلى الدول ولا سيما العملاقة منها، فكلمة رئيس وزراء بريطانيا الراحل ونستون تشرشل تُطبّق تماماً في هذا العالم الجديد: «لا يوجد أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، إنما مصالح دائمة». أما بالنسبة إلى لبنان، فلا نريد أعداء، بل أن نكون أصدقاء مع الجميع، وهذه مصلحة بلادنا وشعبنا واقتصادنا.

د. فؤاد زمكحل

تسريع وتيرة التكامل المتوسطي بالطاقة

مع تطلُّع بلدان البحر المتوسط إلى رسم مسار للمضي قدماً في أعقاب العديد من الأزمات التي عصفت باقتصاداتها، أصبح تسريع خطى التكامل الإقليمي أكثر أهميةً من أي وقت مضى. وتُعد زيادة التدفقات التجارية، والاستثمارات المتبادلة، والتنقل بين بلدان شمال البحر المتوسط وجنوبه وشرقه، من العوامل الرئيسية لتحقيق تعافٍ مستدام. ويوجد العديد من المنطلقات لتحقيق هذه الغاية، ولكن في هذه المرحلة الفارقة لا شيء يفوق الطاقة في أهميتها.
وفي الوقت الحالي، تُقدَّر قيمة التبادل التجاري داخل منطقة البحر المتوسط بأقل من تريليون دولار سنوياً، وهي تمثل بالكاد ثلثَ قيمة التجارة بين المنطقة وبقية العالم.
ويتناقض هذا مع المناطق المزدهرة الأخرى، حيث غالباً ما يكون أكبر الشركاء التجاريين للبلدان هي البلدان المجاورة في المنطقة.
وضمن هذا الإطار المحدود، ينحصر نحو ثلث التجارة الإقليمية في الوقت الحالي في مجال الطاقة. وقد يكون استغلال الإمكانيات المتاحة لتحقيق مزيد من التكامل الاقتصادي بين الساحل الجنوبي للبحر المتوسط والكتلة الأوروبية عاملَ تغيير ونقطةَ تحوُّل حينما يتعلق الأمر بالطاقة. ومن شأن هذا التحوُّل أن يساعد أوروبا على التخلص من اعتمادها الكبير على إمدادات الطاقة الروسية، وفي الوقت نفسه الإسهام في تحقيق الأهداف المناخية. وسيساعد أيضاً على زيادة الفرص وتحقيق الرخاء لشعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وما لذلك من تداعيات أوسع على عامل الاستقرار في المنطقة.
ولا تزال أنواع الوقود الأحفوري هي المصدر الرئيسي للطاقة في أوروبا.
فالمنتجات البترولية تمثل تقريباً ثلث إجمالي إمدادات الطاقة، يليها الغاز الطبيعي بنسبةٍ تُقارب 24 في المائة، ثم الفحم وأنواع الوقود الأحفوري الصلب الأخرى بنسبة 10 في المائة. وكانت الحرب في أوكرانيا صدمة لأسواق الطاقة الأوروبية والعالمية، وفرضت إعادة تقييم جذرية لأمن الطاقة في أوروبا. في الأمد القصير، قد تساعد زيادة صادرات النفط والغاز من جنوب البحر المتوسط وشرقه أوروبا على تنويع إمداداتها من الطاقة بعيداً عن روسيا، وخاصة أنه يجري تقليص إمدادات الغاز الروسية. وتمثل الجزائر بالفعل ثالث أكبر مصدر لتوريد الغاز الطبيعي إلى أوروبا، وهناك إمكانية لزيادة هذه الإمدادات سواء من خلال الأنابيب أو الغاز الطبيعي المسال الآتي من جنوب البحر المتوسط وشرقه.
وفي الأمدين المتوسط والأطول، يمكن أن يكون تحول أوروبا إلى الطاقة المتجددة مرتبطاً بشكل متزايد بما يشهده إنتاج الطاقة النظيفة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من تنمية قوية. ولقد وضع الاتحاد الأوروبي أهدافاً طموحة لسياساته المتصلة بالمناخ والطاقة ومنها: تقليص انبعاثات الغازات الدفيئة بأكثر من النصف بحلول عام 2030 بالمقارنة بمستوياتها في عام 1990، وتحييد أثر الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2050.
ويشكِّل هذا النمو في الطلب على الطاقة النظيفة حافزاً مهماً للاستفادة من الإمكانيات غير المستغلة لمصادر الطاقة المتجددة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وكذلك الهيدروجين، وهي المصادر التي يمتلك فيها الجانب الجنوبي من البحر المتوسط ميزةَ تنافسية نظراً لتميزه بوفرة أشعة الشمس على مدار العام. والواقع أن الهيدروجين منخفض الكربون ينظر إليه الآن باعتباره مكوناً مهما في خطط الاتحاد الأوروبي للحد من الانبعاثات الكربونية.
وكما أشرنا آنفاً، فإنه يكمل سياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية الراسخة في مجال الطاقة، ومن خلال قربها، يمكن لمنطقة شرق البحر المتوسط أن تجعل نفسها مورداً موثوقاً به للهيدروجين منخفض الكربون في أوروبا. وقد ركز التعاون في مجال الطاقة في هذه المنطقة على تنمية الغاز الطبيعي في السنوات الأخيرة، لكن يمكن مؤازرة هذا التعاون إذا امتدت مظلته لتشمل تنمية الهيدروجين، سواء بالنسبة لصادراته أو لاستخدامه في الحد من الانبعاثات الكربونية محلياً. لقد أدرك الكثير من البلدان هذه الإمكانات متعددة المصادر وتعمل على تطويرها. وفي عام 2021، بدأت اليونان وإسرائيل وقبرص تعاوناً رسمياً حول إنشاء «خطوط الربط البيني» الأوروبية الآسيوية من الكابلات البحرية والتي تهدف إلى تصدير الكهرباء المتجددة من إسرائيل في وقت مبكر من عام 2025. وتستكشف مصر واليونان مشروعاً مماثلاً، كما تعكف إيطاليا حالياً على وضع خطط مماثلة مع كل من تونس والجزائر. فمشروع «إلميد» للربط البيني بين تونس وإيطاليا في مرحلة إعداد متقدمة.
وفي غرب البحر المتوسط، يتاجر المغرب وإسبانيا بالفعل بالطاقة (الغاز والكهرباء). أما توقيع المغرب وإسبانيا والبرتغال وفرنسا وألمانيا مؤخراً خلال المؤتمر السابع والعشرين لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ على مذكرة تفاهم بشأن التجارة المستدامة للكهرباء، فيلقي المزيد من الضوء على الوتيرة المتسارعة لأنشطة التكامل المتوسطي في قطاع الطاقة. وتتسارع خطى التحوُّل نحو استغلال مصادر الطاقة المتجددة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
فعلى سبيل المثال، يهدف المغرب إلى إنتاج 80 في المائة من إجمالي احتياجاته من الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2050. وهذا الاتجاه، الذي تعززه صفقات الاستثمار الأوروبية لإنتاج الطاقة النظيفة في المنطقة، لا ينطوي على إمكانية زيادة إجمالي الناتج المحلي في بلدان المنطقة فحسب، بل أيضاً على توفير فرص عمل تشتد الحاجة إليها. ويتيح التحدي الحالي لتزويد أوروبا بإمدادات طاقة كافية ونظيفة على نحو متزايد فرصةً فريدةً لإقامة علاقة متداخلة للتجارة والنمو والسلام بين بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي الوقت نفسه المضي قدماً نحو خفض الانبعاثات الكربونية. إنها فرصة تعود بالنفع على الجميع ويجب أن نغتنمها وألا نضيِّعها.

فريد بلحاج
*نائب رئيس البنك الدولي
لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

1 في المائة من أجل 1.5 درجة مئوية!

في الجلسة الافتتاحية رفيعة المستوى للعمل المناخي طرحت سؤالاً: «ما الأمر الذي يمكن وصفه بأنه غير كاف وغير كفء وغير عادل؟»؛ وأجبت بأنه النظام الراهن للتمويل الدولي للمناخ والتنمية. أما عن عدم كفاية التمويل فهكذا تخبرنا الأدلة بأن ما هو متاح لتمويل التنمية المستدامة من المصادر الموعودة من الدول المتقدمة بما يعادل 0.7 في المائة من إجمالي الدخل القومي للدول المتقدمة لم يصل بكامله أبداً إلى البلدان النامية رغم بلوغه 179 مليار دولار في عام 2021 وهو أعلى رقم تصل إليه المساعدات الإنمائية الرسمية، ولكنه لم يتجاوز نصف ما تم التعهد به، وبافتراض التزام التعهد بكامله، فإنه لن يجسِّر أكثر من 15 في المائة من متوسط فجوة تمويل التنمية، قبل أزمة جائحة كورونا البالغة 2.5 تريليون دولار.
أما عن فجوة تمويل العمل المناخي بالتركيز على احتياجات التحول إلى طاقة نظيفة، فتقدر بتريليون دولار سنوياً حتى عام 2030، وفقاً لتقرير تمويل العمل المناخي والتنمية الذي تم تدشينه في أثناء قمة المناخ من فريق عمل تم تكليفه من رئاستَي قمتَي غلاسكو وشرم الشيخ. والمبالغ الموعودة منذ مؤتمر كوبنهاغن كانت بحد أدنى 100 مليار دولار، وهو رقم متواضع قياساً بحجم التمويل المطلوب، ومع ذلك لم تفِ الدول الثلاث والعشرون المتعهدة بالتمويل بتعهداتها إلا سبعاً منها. ولا يوجد اتفاق على معيار احتساب تدفقاتها لذا تجد الرسمي الذي يدور حول 80 في المائة وفاءً بالتعهدات مقابَلاً بتحدٍّ من جهات لها اعتبارها مثل منظمة «أوكسفام» التي تقدِّر أن هذه التدفقات تقترب من 20 في المائة فقط.
وفي أي حال، فشأن تمويل العمل المناخي ليس أفضل حالاً من تمويل التنمية فكلاهما لا يجسِّر فجوة تمويل مشروعاته ولا يفي بمستلزمات التنمية أو حماية المناخ، وبذلك تستمر مشكلات الفقر المدقع والتعليم والصحة والبنية الأساسية، وتتفاقم أزمات التفاوت بين الدول وداخلها وتدهور المناخ والطبيعة دون حل يحقق أهداف 2030 للتنمية المستدامة التي تتضمن العمل المناخي في طياتها وهو الهدف الثالث عشر منها.
ولقد اجتهدتْ الدول النامية ومنظمات من المجتمع المدني ومراكز أبحاث في حث البلدان المتقدمة على الوفاء بالتزاماتها، من دون جدوى، إلا قليلاً. ومن المحاولات المبذولة من أجل تتبع الالتزامات، فصل تمويل التنمية عن تمويل العمل المناخي بدعوى ضمان الإضافة وليس ازدواج الحساب أو تعدده. ولكن في تقديري أن هذا الأمر قد أدى إلى فصل غير مبرر بين مسارات التنمية والعمل المناخي، وأدى كذلك إلى انعزال غير محمود بين جزر مصطنعة بعضها للعمل المناخي وبعضها الآخر للتنمية، وهو ما أدى إلى انشطار مفتعل وخادع بين العمل التنموي والمناخي. وقد كرس ذلك الانشطارَ نهجٌ بائسٌ اختزل العمل المناخي في تخفيض انبعاثات الكربون رغم أهميته، فضيَّع أهمية التعامل مع انبعاثات ضارة أخرى كغاز الميثان، وقلل من أهمية العمل المناخي في مجالات التكيف، وغضَّ الطرف عن ملف الخسائر والأضرار برمّته، وهو الذي نجحت قمة شرم الشيخ مؤخراً في وضعه على قائمة العمل الدولي، وتمويله من خلال صندوق جارٍ تأسيسه بما يعد انتصاراً تاريخياً محققاً. كما أكدت أعمال هذه القمة أهمية التحرك في إطار التنمية المستدامة الذي يجب أن يأتي العمل المناخي كأحد مكوناته، فالعمل المناخي في مجالات الطاقة الجديدة والمتجددة وتدعيم البنية الأساسية ونظم المياه والزراعة وحماية الشواطئ والتصدي للتصحر… هي كلها مجالات للاستثمار من أجل التنمية المستدامة التي يجب ألا تغفل الاستثمار في البشر في المقام الأول. وبالتالي فإن التمويل للتنمية والعمل المناخي يجب أن يتحقق في إطار متكامل وشامل في نطاق الدولة وأولوياتها.
فإذا كانت هذه أسباباً كافية تبرر وصف التمويل الدولي بعدم الكفاية، فإن سبب وصفي إياه بعدم الكفاءة أيضاً هو ما تستغرقه عملية التمويل من فترات طوال منذ بدء الاتفاق بين الحكومات المعنية بالتمويل إلى اليوم الذي يصل فيه التمويل فعلاً على المشروعات والمجالات التي تترقب وصوله بعد طول انتظار يصل إلى عدة سنوات. وهناك حالات لبلدان نامية خصوصاً من الجزر الصغيرة طالت فيها فترات الانتظار إلى أربع سنوات منذ بداية طلب التمويل، وبعض طلبات التمويل كانت لاحتياجات عاجلة خصوصاً في مجالات تدعيم البنية الأساسية والتكيف مع آثار المناخ الخطرة على الحياة وأسباب المعيشة معاً.
ويرجع هذا بالأساس إلى قصور إداري وبيروقراطية نظم التمويل تتحملها مؤسسات التمويل بالأساس، وإن تعللت بضعف القدرة المؤسسية للبلدان المقترضة، فجانب من عمل هذه المؤسسات وسبب وجودها أصلاً هو تدعيم قدرات البلدان النامية.
ويبقى الوصف الثالث والأخير لنظام التمويل الدولي بعدم العدالة، ومرجع هذا الوصف هي تكلفة التمويل الباهظة التي يجب أن تتحملها البلدان النامية خصوصاً متوسطة الدخل منها في سبيل الحصول على التمويل المطلوب للعمل المناخي. وهنا أفرِّق بين تمويل إجراءات التخفيف من خلال مشروعات الطاقة الجديدة والمتجددة التي يمكن قيام القطاع الخاص بها خصوصاً من خلال الاستثمارات في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين الأخضر، وما هو مطلوب من مؤسسات التنمية الدولية هو المشاركة لمساندة القطاع الخاص وتخفيف مخاطر المشروعات والتأمين ضد المخاطر السياسية المتعلقة بالذات بحقوق الملكية. وهي كلها مشروعات ضرورية للحفاظ على درجة حرارة الأرض بما لا يتجاوز درجة مئوية فوق متوسطاتها قبل الثورة الصناعية الأولى. أما مجالات التكيف فتجد الاستثمارات الخاصة فيها محدودة لا تتجاوز 3 في المائة، إذ يقوم التمويل العام من موازنات الدول أو بالاقتراض من خلالها وتحميلها بأعبائها بمهمة تمويل حماية البنية الأساسية ومرافقها ونظم الري والزراعة والتعامل مع مخاطر التصحر ونحر الشواطئ، وهي جميعاً مهدَّدة بسبب تدهورٍ في المناخ سبّبته الدول الصناعية، وليس من باب العدل أن تستدين الدول النامية خصوصاً الأفقر منها لتصلح ما أفسدته الدول الأغنى.
أعلم أنه من المستحيل تطوير البناء المالي العالمي على النحو المنشود مع التشوه القائم في النظام الاقتصادي الذي يستند إليه ويموله، كما أن النظام الاقتصادي العالمي هو ظل النظام السياسي العالمي الأعوج، الجارية شؤونه بترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، بما رسمته البلدان المنتصرة في حرب لم يكن للبلدان النامية فيها ناقة أو جمل إلا بما تحملته وكان أغلبها مستعمراً ومستغَلاً من أطراف هذه الحرب. وحتى يعاد تشكيل النظام العالمي الجديد ليعكس تغير موازين القوى منذ الحرب العامية الثانية وتصاعد الدور الاقتصادي للبلدان ذات الأسواق الناشئة عالية النمو، وحتى يكتمل البناء على عُمُده الجديدة يمكن فقط اقتراح ترتيبات جديدة للتمويل تتسق مع مقترحات لإصلاح البناء المالي العالمي.
وبهذا أسوق مجدداً مقترح تمويل العمل المناخي في إطار التنمية المستدامة ليكون على أساس فترة سماح لا تقل عن عشر سنوات وفترة سداد بعدها تمتد لعشرين عاماً، وبتكلفة لهذا التمويل، الذي يمكن أن يصنَّف كقرض حسن، لا تزيد على 1 في المائة تشمل الإسهام في العون الفني. على أن يقدم هذا التمويل من خلال المؤسسات المالية وصناديق التمويل المتخصصة القائمة ومن خلال التعهدات المالية التي التزمت البلدان النامية بالوفاء بها في السابق يمكن تخفيض تكلفة التمويل، على أن يزاد رأسمال هذه المؤسسات التنموية الدولية بما يسهم في توفير تمويل إضافي للعمل المناخي يعادل التريليون دولار المطلوبة لتجسير فجوة التمويل كما تَقدم؛ وهذا المبلغ بالمناسبة يعادل 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
والسؤال البدهيّ: وما الذي سيدفع البلدان الغنية للإسهام في التمويل بعد عهود التقاعس؟ الدافع هو إدراك المصلحة القومية لهذه البلدان، فحتى إذا هي أغفلت فوائد التضامن الدولي، فإن خطر تدهور المناخ لا يفرّق بين غني وفقير من البلدان، كما أن تهديده للأمن الدولي غير خافٍ عن العيان بما في ذلك تداعيات النزوح الجماعي وتزايد ظاهرة اللجوء المناخي.

د. محمود محيي الدين

مأزق الشركات التقنية

ماذا يحدث للشركات التقنية في عام 2022؟ فالخسائر تتوالى عليها، وتخفيض التكاليف مستمر، ما بين فصل للموظفين وإيقاف للمشروعات. فمنذ عام 2008، وأرباح هذه الشركات مستمرة، ونموّها قياسي مقارنة بنمو الشركات التقليدية، حتى إن شركة «تيسلا» خلال أقل من 15 عاماً تفوقت بقيمتها السوقية على «فورد» ذات المائة عام! ولكن ما يحدث الآن أمر مختلف، فالشركات التقنية تعاني، وقد تكالبت عليها ظروف كثيرة، بدأ بعدها البعض بالتفكير فيما لم يكن متوقعاً على الإطلاق من قبل، وهو أن هذه الشركات يمكن بالفعل أن تفشل وتسقط.
وما يحدث للشركات التقنية ليس بالأمر البسيط، ففي الشهر الماضي، أصدرت «فوربس» تقريراً وضّحت فيه أن مجموع خسائر 7 شركات تقنية في السوق الأميركية بلغ أكثر من 4 تريليون دولار، هذه خسائر القيمة السوقية لشركات «ميتا» و«نتفليكس» و«مايكروسوفت» و«أبل» و«تيسلا» و«أمازون» و«ألفابت». كانت «ميتا» هي أكبر الخاسرين خلال هذا العام، حيث خسرت نحو 70 في المائة من قيمتها السوقية، وجاءت بعدها «نتفليكس» بخسارة نصف قيمتها السوقية، وكان أقل الخاسرين «من ناحية النسبة» هي «أبل» بنحو 15 في المائة من قيمتها السوقية، وهو رقم ضخم لشركة هي الأكبر في العالم من ناحية القيمة السوقية!
أبرز ما حدث للشركات التقنية هذا العام هو انخفاض الإعلانات، وهو مدفوع بعدة عوامل، أولها ما حدث من تنظيم القطاع التقني في أوروبا وغيرها، مثل نظام الخدمات الرقمية، وهي أنظمة تهدف إلى زيادة حماية بيانات المستهلكين. بسبب هذه الأنظمة، خسر كثير من الشركات إعلاناتها الموجّهة التي كانت تستهدف مستهلكين ذوي سلوكيات محددة. وفي صيف العام الماضي، بدأت شركة «أبل» تقييد قدرة المعلنين على تتبع سلوك المستخدمين بتقديم ميزات خصوصية جديدة لمستخدمي نظامها التشغيلي. وقد تأثرت شركتا «ميتا» و«سناب» بشكل كبير بسبب اعتمادهما هذه الأدوات، وقد أعلنت «ميتا» أن العوائد في الربع الرابع من نفس العام انخفضت بنحو 10 مليارات دولار بسبب هذه التغييرات! وقد بدأت «غوغل» بعدها بتغيير نظامها الإعلاني، المعتمد على ملفات الارتباط، حتى لا تتأثر هي في المستقبل.
كذلك تأثرت الشركات التقنية بدخول المنافسين في السوق، ولعل أكبر هؤلاء المنافسين «تيك توك»؛ حيث بدأت الشركات الأميركية بتقليد أنظمة الفيديو التي يتبعها «تيك توك» بسبب ما لاقته من رواج هائل بين المستخدمين، مثل فيديو «الإنستغرام» و«يوتيوب شورتس» حتى «تويتر» بدأت في تقليد هذا النموذج مؤخراً. ولكن هذه النماذج تحتاج إلى وقت حتى تنضج ويلتفت لها المستخدمون بشكل يجعلها جذابة للمعلنين، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
والإعلانات هي قوت الشركات التقنية؛ حيث تشكل الإعلانات 81 في المائة من دخل «ألفابت» وحدها، أي أن أي انخفاض في الإعلانات قد يؤثر عليها. وما حدث أن خيارات المعلنين أصبحت متعددة، وكثير من الشركات التي كانت تعلن لدى الشركات التقنية أنشأت قنوات خاصة بها للإعلانات. ويتوقع أن يكون الإنفاق على الإعلانات على شبكات التواصل الاجتماعي نحو 65 مليار دولار، بزيادة سنوية قدرها 3.6 في المائة، وهو نمو أقل 10 مرات على الأقل من نمو العام الماضي، بل إنه نمو يقارب نمو الإعلانات في وسائل الإعلام التقليدية مثل التلفاز والإذاعة، ولا يبدو أن الشركات التقنية تحبذ أن توصم بأنها شبيهة بوسائل الإعلام التقليدية.
ولا يخفى أن الشركات تأثرت بالعوامل الاقتصادية خلال الفترة الماضية؛ حيث توقعت الشركات أثناء الجائحة أن الجميع سيهجر العالم الحقيقي إلى العالم الافتراضي، فاستثمرت كثيراً بناء على هذا التوقع، لكن العالم لم يتصرف كما كان متوقعاً، فعاد إلى العالم الحقيقي. كما أن الشركات التقنية تعودت خلال العقد الماضي على الديون منخفضة التكلفة، ومع زيادة الفائدة لم يعد بمقدورها الاعتماد على النقد الرخيص كما كان الوضع بالسابق.
إن الشركات التقنية، التي بُنيت أصلاً على الابتكار، تبدو مستكينة لنموذج الأعمال الذي وصلت إليه دون ابتكارات جديدة، ما جعل شركات أخرى تتفوق عليها. فأصبحت الشركات تعتمد بشكل كبير على الإعلانات التي تستند إلى ضعف في حماية المستخدمين، وهو أمر لم يكن غائباً عن أحد طيلة السنوات الماضية، والجميع كان على علم أن الحكومات تحاول تنظيم هذه الصناعة، بما فيه مصلحة للمستخدمين، سواء من حماية الخصوصية، أو منع خطابات الكراهية والمحتويات المسمومة المؤذية نفسياً. وحلّ هذه الشركات هو الابتكار نفسه، إن نظرت هذه الشركات إلى مشكلاتها الحالية على أنها فرصة لتغيير نماذج أعمالها، التي اتضح جدياً أنها لن تؤدى بنفس «رتمها» خلال العقد الماضي.

د. عبدالله الردادي

بين السعودية والصين… رؤية وحزام وطريق

أنظار العالم تتجه إلى العاصمة السعودية الرياض، حيث يحل الرئيس الصيني شي جينبينغ ضيفاً على السعوديين، في زيارة رسمية تستمر 3 أيام يعقد خلالها 3 قمم وليست قمة واحدة، بمشاركة 30 رئيس دولة ومنظمة، فما هو سر كل هذا الاهتمام؟ هل ذلك يعود إلى أهمية الضيف أو أهمية المضيف أو كليهما معاً؛ أم أن له أسباباً أخرى؟
الكثير من التحليلات صاحبت هذه الزيارة حتى قبل أن تبدأ بأسابيع. هناك من نظر إليها على أنها من باب المناكفة السياسية، وهناك من يراها على أنها هرولة من دول المنطقة تجاه الشرق على حساب الغرب، وهناك من يعتقد بأن السعوديين يريدون إعادة ضبط علاقاتهم مع الأميركيين عبر التقارب مع الصين.
وبين كل ذلك يبدو أن جميع من يقف خلف تلك التحليلات لديه إما نظرة قاصرة أو نوع من اللاعقلانية؛ فالعلاقات بين الدول تحكمها المصالح المشتركة فقط، مهما كان حجم التباين كبيراً في المواقف السياسية.
صحيح أن الولايات المتحدة الأميركية في عهد إدارة بايدن أشاحت بوجهها عن المنطقة، وتراجع الاهتمام بها بدرجات متفاوتة، ولكن ذلك لا يعني الكثير، لكون أن أي فراغ قد يملأه الآخرون.
وهنا من المفيد إعادة التذكير بما ذكره ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مجلة ذا أتلانتيك الأميركية حينما سئل عن العلاقة مع الصين، حيث قال ما نصه: «إن السعودية واحدة من أسرع البلدان نموًا في المنطقة، وستصبح قريباً جدًا البلد الأسرع نموًا في العالم.
لدينا اثنان من أكبر عشرة صناديق في العالم، والمملكة تمتلك واحدة من أكبر الاحتياطيات بالعملة الأجنبية في العالم، والسعودية لديها القدرة على تلبية 12 في المائة من الطلب على البترول في العالم، والسعودية تقع بين ثلاثة مضائق بحرية: مضيق السويس ومضيق باب المندب ومضيق هرمز، وتطل على البحر الأحمر والخليج العربي، ويمر من خلالها 27 في المائة تقريباً من التجارة العالمية، وإجمالي الاستثمارات السعودية في أميركا هو 800 مليار دولار، وفي الصين، حتى هذا الوقت، استثمرنا أقل من 100 مليار دولار، ولكن يبدو أنها تنمو هناك بسرعة كبيرة، كما أن لدى الشركات الأميركية تركيزا كبيرا على المملكة العربية السعودية إذ لدينا أكثر من 300 ألف أميركي في السعودية، وبعضهم يحملون كلتا الجنسيتين، ويقيمون فيها، والعدد يزداد كل يوم، لذا فالمصالح واضحة، والأمر يعود لكم سواء كنت تريد الفوز بالسعودية أو الخسارة».
العلاقة السعودية الصينية اليوم تشهد تطوراً كبيراً في جميع جوانبها، فالبلدان عضوان فإعلان في إطار مجموعة العشرين التي تضم أقوى وأضخم اقتصادات العالم، وبكين تعتبر أكبر عميل للنفط السعودي حيث تستورد ربع الصادرات النفطية السعودية، وتجمع البلدين رؤيتان اقتصاديتان متماثلتان في الطموح (رؤية 2030 السعودية ومبادرة الحزام والطريق الصينية)، كما تعمل الدولتان من خلال لجنة مشتركة رفيعة المستوى على زيادة التنسيق في الشأنين السياسي والأمني، وتعزيز أوجه التعاون في الجوانب التجارية والاستثمارية، والطاقة، والثقافة، والتقنية، فضلاً عما شهدته القمة السعودية الصينية على هامشها من توقيع على أكثر 20 اتفاقية أولية بقيمة تتجاوز 110 مليارات ريال، وتوقيع وثيقة الشراكة الاستراتيجية بين البلدين وخطة المواءمة بين رؤية المملكة 2030، ومبادرة الحزام والطريق، وكل ذلك يدشن مرحلة جديدة وهامة من هذا التحالف الاستراتيجي الوثيق.
عالم اليوم، تحكمه المصالح فقط؛ والأكيد والثابت في السياسة السعودية أنها تنأى بنفسها عن معارك المحاور والاستقطابات أو تقوية تحالفات على حساب أخرى. ولكن قدرها دوماً بما تمتلكه من مكانة استراتيجية في العالمين العربي والإسلامي وثقل اقتصادي في المنطقة والعالم أن تكون البوابة الرئيسية لمد جسور التعاون مع الشرق كما الغرب. ومثلما ساهمت بالأمس بفتح صفحة مهمة في تصحيح العلاقة بين أميركا ودول العالم الإسلامي في وقت مرت فيه العلاقات بين الجانبين بأدنى مستوياتها، فها هي اليوم تفعل الأمر نفسه بين الصين والمنطقة العربية.

سلمان الدوسري

الشركات الصناعيّة تهرب من الصين: إلى الهند وفيتنام در!

تتسارع خطوات شركة آبل الأميركيّة الرامية إلى نقل كل ما يمكن نقله من سلاسل إنتاجها وتوريدها، من الصين باتجاه أماكن أخرى في آسيا، وتحديدًا الهند وفيتنام. قبل يومين، أعلنت آبل إجراء مباحثات لنقل جزء من إنتاج جهاز “آيباد” من الصين إلى الهند، بعدما كانت الشركة قد نقلت بالفعل أجزاء أخرى من عمليّة الإنتاج هذه باتجاه فيتنام. أمّا بالنسبة لإنتاج هواتف آيفون، قررت آبل منذ أسابيع البدء بإنتاج أجهزة هواتف “آيفون 14” في مراكز التصنيع في الهند، في سابقة تحصل للمرّة الأولى على الإطلاق. فآيفون 14، سيكون عمليًّا نسخة آيفون الأولى التي تبدأ آبل بتصنيعه خارج الصين منذ البداية، إذ كانت الشركة تعمد سابقًا إلى البدء بإنتاج جميع نسخ آيفون الجديدة في الصين، قبل الانتقال إلى تصنيع جزء صغير من الإنتاج في الهند، بعد أشهر طويلة من طرحها في السوق.

آبل تبتعد عن شريكها التاريخي
ببساطة، تبتعد آبل شيئًا فشيئًا عن الصين، شريكتها التي رافقت صعودها في عالم شركات التكنولوجيا. وما جرى على مستوى علاقة آبل بالصين، لم يكن مجرّد قرارات متقطعة وغير مترابطة، بل مثّل سياسة متكاملة ومتعمّدة، ومن ضمن خطّة طويلة الأمد لتقليل الاعتماد على الصين كمركز للإنتاج.

فعلى المدى الطويل، تسعى آبل إلى نقل أكثر من 45% من إنتاج أجهزة آيفون إلى الهند، بعدما اعتمدت خلال السنوات الماضية على الصين لإنتاج أكثر من 98% من هذه الهواتف الذكيّة. كما تسعى الشركة إلى نقل كامل عمليّات تصنيع سائر منتجاتها، كأجهزة الكومبيوتر والساعات الذكيّة وال”Air Pods” إلى فيتنام.

وفي شهر آذار المقبل، تتوقّع الشركة أن يبلغ حجم إنتاجها السنوي في الهند ما يقارب الـ2.5 مليار دولار، مقارنة ب1.3 مليار دولار قبل سنة واحدة بالظبط، ما يمثّل زيادة بنسبة 92% في حجم عمليّات الشركة داخل الهند. مع الإشارة إلى أنّ شركة آبل كانت قد بدأت بإنتاجها في الهند منذ العام 2017، إلا أنّها حافظت على حجم عمليّات متواضع جدًّا هناك، قبل أن تتسارع خطواتها باتجاه نقل أجزاء من إنتاجها الصيني إلى الهند خلال الأشهر الماضية.

آبل ليست وحدها: الشركات تهرب من الصين
ما تقوم به آبل، ليس سوى جزء من حالة عامّة تعيشها كبرى الشركات الصناعيّة وقطاع التكنولوجيا، حيث تسعى اليوم نسبة كبيرة من هذه الشركات إلى الانسحاب بشكل متدرّج من الصين، واستحداث جزء من سلاسل التوريد والإنتاج التي تحتاجها في دول مجاورة، وتحديدًا الهند وفيتنام. مع الإشارة إلى أنّ نزوح صناعي من هذا النوع غالبًا ما يحتاج إلى سنوات لإنجازه على مراحل، بالنظر إلى ارتباط عمل الشركات الكبرى بسلاسل توريد معقّدة ومتشعّبة، وبتفاهمات طويلة الأمد مع الدول التي تحتضن سلاسل التوريد.

فعلى سبيل المثال، بدأت شركة غوغل بنقل نشاطها التصنيعي من جنوب الصين إلى فيتنام، بداية من عمليّات إنتاج هاتف بيكسل 7، حيث تقدّر الشركة بأن نصف هواتفها الذكيّة ستكون مصنّعة في معاملها الفيتناميّة بحلول العام المقبل. مع الإشارة إلى أنّ معامل جنوب الصين كانت تستأثر في السابق بكل إنتاج الشركة، قبل أن تبدأ غوغل بتوزيع إنتاجها ما بين الصين وفيتنام خلال الأشهر الماضية. ومن الناحية العمليّة، لم تتمكن الشركة من نقل كل إنتاجها من الهواتف الذكيّة إلى فيتنام دفعة واحدة، بسبب ارتباط بعض الأصناف المصنّعة بسلاسل توريد صينيّة، وبمورّدين موجودين داخل السوق الصيني، إلا أنّ الشركة تسعى لاستحداث بدائل معقولة لهذه السلاسل خارج الصين.

وعلى النحو نفسه، نقلت شركة مايكروسوفت عمليّات تصنيع أجهزة ألعاب “إكس بوكس” إلى فيتنام، كما بدأت شركة أمازون بتصنيع أجهزة “فاير تي في” في مدينة تشيناي الهنديّة، فيما كانت جميع هذه المنتجات تخرج إلى العالم من المصانع الصينيّة حصرًا في السابق. أمّا شركة ديل، فكانت السبّاقة في هذا المجال، حين قامت بالفعل بنقل معظم مصانعها تدريجيًّا إلى خارج الصين خلال الأعوام الماضية، قبل أن تلحق سائر شركات التكنولوجيا خلال هذا العام.

عوامل طاردة للشركات من الصين
تتنوّع العوامل التي تقاطعت خلال السنتين الماضيتين، بما أدّى إلى تحويل الصين إلى بيئة اقتصاديّة طاردة لبعض الشركات الصناعيّة الكبرى، بعد أن تمكنت خلال العقود الماضية من جذب هذه الشركات باتجاهها. أمّا أبرز هذه العوامل الطاردة، فيمكن تلخيصها على النحو التالي:

– الحرب التجاريّة بين الولايات المتحدة والصين، والتي أدّت في مراحل سابقة إلى فرض رسوم جمركيّة تصل إلى حدود الـ 15% على المنتجات التي يجري تصنيعها في الصين، وهو ما يقلّص تنافسيّة هذه السلع المشمولة بالرسوم. كما أدّت هذه الحرب إلى ارتفاع كلفة توريد المكوّنات التي تحتاجها المصانع في الصين، ما قلّص من هامش ربح الشركات من عمليّاتها هناك.

– العقوبات والقيود التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركيّة على الصين في ما يخص وارداتها التكنولوجيّة، وخصوصًا أشباه الموصلات والشرائح الإلكترونيّة، والتي تحتاجها بشكل أساسي صناعات الحواسيب والهواتف الذكيّة. ورغم لجوء بعض الشركات إلى محاولة الحصول على إعفاءات من بعض هذه القيود، باتت الشركات الكبرى تخشى من التورّط داخل الصين –ولو من غير قصد- في عمليّات يمكن أن تُعد خرقًا لهذه العقوبات.

– النزاع الصيني مع تايوان، وتنامي مخاطر هذا النزاع على الشركات العاملة داخل الصين، خصوصًا أن تايوان تُعد المورّد الأساسي في سوق أشباه الموصلات والشرائح الإلكترونيّة. مع الإشارة إلى انّ واردات مصانع شركة آبل داخل الصين عانت في مراحل سابقة من عرقلة وارداتها التايوانيّة، نتيجة هذا النزاع بالتحديد، وهو ما أثار خشية الشركة من توقّف نشاطها الصناعي داخل الصين نتيجة هذا النوع من المخاطر.

– استمرار الصين باعتماد سياسة “صفر كوفيد” المتشددة، التي أدّت إلى استمرار إقفال المعامل في أجزاء واسعة من البلاد، في مقابل عودة الحركة الصناعيّة والتجاريّة في الغالبيّة الساحقة من أنحاء العالم الأخرى.

في نتيجة تقاطع كل هذه العوامل، باتت جميع الشركات الصناعيّة الكبرى ترى في عمليّاتها داخل الصين مصدر لمخاطر يصعب حصرها أو تلافيها، وهو ما دفعها مؤخرًا للعمل على تنويع سلاسل إنتاجها، واستحداث مراكز تصنيع جديدة في الهند وفيتنام.

سعي الهند وفيتنام للحلول مكان الصين
في هذا المشهد، تبدع كل من الهند وفيتنام في وضع الأسس الكفيلة بوضع البلدين مكان الصين، كمركز أساسي لاستقطاب النشاط الصناعي في آسيا، بالاستفادة من كل الظروف القاسية التي تمر بها الصين اليوم. ولهذه الغاية، عملت الدولتان على وضع رزم كبيرة من الحوافز الضريبيّة، والسياسات الداعمة للنشاط الصناعي.

ومن هذه السياسات مثلًا، اعتماد الهند على خطط تقوم على تمويل الدولة لنصف كلفة مصانع أشباه الموصلات والشرائح الإلكترونيّة، في محاولة لاستقطاب استثمارات كبرى الشركات العاملة في هذا المجال، كـ TSMC وإنتل وسامسونغ، بالإضافة إلى تمويل 30% من كلفة مصانع الشاشات الذكيّة.

ومن خلال تحفيز نشوء هذا النوع من النشاطات الصناعيّة، تكون الهند قد وضعت الركيزة الأولى لسلاسل توريد الصناعات الذكيّة، التي تحتاج إلى هذا النوع من المكوّنات الأساسيّة. مع الإشارة إلى أنّ الشركات الأجنبيّة تأخذ بعين الاعتبار مدى توفّر هذا النوع من المكونات المحليّة الصنع، عند اتخاذ قرار إنشاء المعامل في أي سوق، في محاولة لتخفيض كلفة نشاطها الصناعي.

بالتأكيد، لا تعني كل هذه التطوّرات أن الصين في طريقها إلى خسارة موقعها الصناعي المتقدّم خلال الأشهر أو حتّى السنوات القليلة المقبلة، خصوصًا أن هذا الموقع جاء نتيجة تراكمات وإنجازات تحققت على مدى عقود من الزمن. إلا أنّ جميع هذه المؤشرات تدل على أن الصين لن تكون خلال المرحلة المقبلة القطب الأكثر قدرة على استقطاب الاستثمارات الأجنبيّة في منطقة جنوب آسيا، خصوصًا أن الإحصاءات تشير إلى أنّ أكثر من نصف الشركات الصناعيّة العاملة في الصين قررت بالفعل تجميد كل خططها الاستثماريّة داخل السوق الصيني. باختصار، بات هناك منافسة شرسة من قبل لاعبين آخرين جدد وأقوياء، وبات هناك عوامل ضاعطة تُضعف من قدرة الصين على منافسة هؤلاء اللاعبين.

علي نور الدين

عيون الغرب على إندونيسيا

مع نمو الطلب على البطاريات حول العالم، لاستخدامها لتخزين الكهرباء المولدة من الطاقة المتجددة أو في السيارات الكهربائية، زاد الطلب على المعادن المستخدمة في تصنيع هذه البطاريات، ومنها الليثيوم والنيكل والكوبالت. الارتفاع في الطلب أعطى أهمية استراتيجية إضافية للدول ذات الموارد الطبيعية من المعادن. ومن هذه الدول إندونيسيا التي ينظر لها العالم الغربي نظرة مختلفة الآن لأهميتها الشديدة في إحدى أهم الصناعات الاستراتيجية في العالم، وهي السيارات الكهربائية، والتي يدخل النيكل كأحد أهم العناصر المكوّنة لبطارياتها.
وإندونيسيا هي الدولة الخامسة عالميا في احتياطي النيكل، وهي أكبر مورد لهذا المعدن عالميا، حيث تملك 32 في المائة من السعة التعدينية في العالم. وتبلغ الحصة السوقية العالمية لإندونيسيا من النيكل المعالج نحو 12 في المائة، ولكن الحكومة ترغب في زيادة هذه النسبة، وذلك لزيادة القيمة المضافة لمواردها الطبيعية، ولذلك فقد أصدرت الحكومة قرارا جريئا في عام 2020، منعت بموجبه تصدير النيكل الخام غير المعالج، وذلك لدعم القدرات المحلية لمعالج النيكل، وجذب الشركات الأجنبية للاستثمار في إندونيسيا بدل تصدير المعدن الخام ومعالجته والاستفادة منه خارج إندونيسيا. ويتوقع بعد هذا القرار أن تزيد حصة البلاد من النيكل المعالج لتصير 23 في المائة بحلول عام 2025. وقد بدأت العديد من الشركات الاستثمار بالفعل في إندونيسيا، فتم تأمين استثمارات بقيمة 20 مليار دولار، منها 6 مليارات دولار من شركة كاتل الصينية، كما أعلن عدد من الشركات مثل (فوكسكون) و(إل جي) عن خطط لبناء مصانع بطاريات في إندونيسيا.
واهتمام العالم الغربي بإندونيسيا يأتي لعدة أسباب، أولها أن إندونيسيا دولة محايدة سياسياً، فرئيس إندونيسيا قد يكون هو الوحيد الذي قابل رؤساء أمريكا وروسيا وأوكرانيا والصين هذا العام! وعلى الرغم من استنكار إندونيسيا للعقوبات المفروضة على روسيا، فإنها لم تتصادم مع دول الغرب بهذا الشأن. كما أن موقع إندونيسيا الجغرافي المتميز يدعم موقفها كلاعب قوي في سلاسل إمداد السيارات الكهربائية، وذلك لقربها من الصين واليابان، وسهولة شحن المنتجات منها إلى الولايات المتحدة عبر المحيط. إضافة إلى ذلك، فإن إندونيسيا تبدو كذلك بديلاً مناسباً للغرب عن الصين التي تحتكر صناعة البطاريات بنسبة تبلغ 44 في المائة، ويتوقع أن تزيد خلال السنوات القادمة إلى 52 في المائة، مع انخفاض لحصص بريطانيا واليابان وفنلندا السوقية.
إذن فالغرب يريد أن تتفوق إندونيسيا في صناعات البطاريات حتى لا تكون الصين اللاعب الوحيد في صناعة تبلغ نسبة نموها السنوي 25 في المائة! ولكن الأمر ليس بهذه البساطة ، فالنيكل الموجود في إندونيسيا ليس عالي النقاوة، ولذلك فهو بحاجة إلى معالجة أكثر، هذه المعالجة تأتي من طاقة مولّدة من الفحم، عدو المناخ من وجهة النظر الغربية على الأقل. وعلى الرغم من أن نصف إنتاج النيكل المعالج عالمياً يأتي من هذا النوع من الطاقة، فإن العالم الغربي لا يريد دعم هذا التوجه بطريقة مباشرة، وهذا ما يجعل الشركات والحكومات الغربية مترددة في الاستثمار في البطاريات في إندونيسيا.
على الجانب المقابل فإن الصين تضخ الاستثمارات بشكل مستمر في إندونيسيا دون الدخول في التفاصيل التي تهم الغرب، وتشير الإحصاءات إلى أنه مقابل كل دولار تضخّه الشركات الأمريكية في السوق الإندونيسية، تضخ الشركات الصينية أربعة دولارات! وهذا يعني أن الصين بالفعل بدأت السباق نحو الثروة المعدنية الإندونيسية، بينما لا يزال الغرب متردداً بهذا الشأن محاولا دعم الطاقة النظيفة في إندونيسيا، ثالث أكبر منتج للفحم على مستوى العالم!
إن معرفة إندونيسيا بأهمية مواردها الطبيعية يعطيها قوة لا يستهان بها، فلا غنى للعالم عن النيكل إذا أراد الاعتماد على السيارات الكهربائية في المستقبل، ولذلك اتخذت القرار بمنع تصدير النيكل الخام، على الرغم من اتهام هذا القرار بالشعوبية. ولو استمرت إندونيسيا بهذه الاستراتيجية فإن الاستثمارات الأجنبية ستنهال عليها بكل تأكيد، مما قد يجعلها أحد أكبر عشر اقتصادات بالعالم. أما العالم الغربي فإنه يواجه معضلة في الوقت الحالي بشأن الاستثمار فيها، فهو إن استثمر اتهم بازدواجية المعايير لتصنيع بطاريات للسيارات الكهربائية الصديقة للبيئة باستخدام الفحم الملوث لها، وإن لم يستثمر فإن الصين ستسبقه بلا شك لهذه الصناعة الاستراتيجية، وقد تتضح نتيجة هذا القرار في المستقبل القريب، بعد أن أظهرت الحكومة الإندونيسية رغبتها في أن تنشئ شركة (تيسلا) الأمريكية مصنعا للبطاريات في البلاد.

 

د. عبد الله الردادي

عقوبات «كسر القواعد» تطيح الاقتصاد الدولي

بين يومٍ وآخر، تتراكم علاماتُ تغير النظام الدولي، بطيئاً نعم، ولكنَّه يحدث فعلاً. قد يبدو هيكل القوة الراهن مستقراً بعض الوقت، في حين تتبدَّل القواعد الحاكمة له. مثل هذا الانفصال من شأنه أن يُنشئ هيكلَ قوة جديداً، يدفع إلى وضع قواعد مختلفة عن التي اعتاد عليها النظام الدولي في العقود السبعة الماضية. سياسة العقوبات الغربية المفرطة التي صارت عبئاً كبيراً على العالم بأسره، وعملية كسر القواعد والانفلات من مبادئ تحقق مصالح جماعية كبرى، والتعامل بأنانية مع قضايا ذات صلة مباشرة باستقرار الاقتصاد الدولي، تؤدي جميعها إلى إنهاء تدريجي للنظام الدولي الراهن.
في 8 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، سيتم تطبيق خطة مجموعة الدول السبع الأغنى بفرض سقف سعري محدد لصادرات النفط والغاز الروسيين، مع استثناءات محدودة لدول معينة. الخطة مُكون مهم من حزمة ثامنة من العقوبات الغربية ضد روسيا. التبرير المعلن هو التأثير على قدرات روسيا الاقتصادية التي تساعدها على الاستمرار في الحرب الأوكرانية. التبرير على هذا النحو سياسي بالدرجة الأولى. إخضاع النفط والغاز، سواء أكانا روسيين أم من أي مصدر آخر ذي صلة مباشرة باستقرار الاقتصاد الدولي كله، لدوافع انتقامية، يتناقض مع الأسس الذي تُبنى عليها التجارة الدولية.
تحديد الأسعار للنفط والغاز مرتبط بعوامل تقنية واقتصادية متداخلة، أهمها حالة العرض والطلب، والاستثمارات الجاري تنفيذها والاكتشافات الجديدة، وبدائل الطاقة من مصادر أخرى متجددة وغيرها، وكلها عوامل تخضع لحسابات معقدة بحيث يتحدد سعر مناسب لكل من المنتجين والمستهلكين، ومعهما استقرار الاقتصاد الدولي وإبعاده عن الهزات الكبرى.
حين يتم تجاهل كل تلك العوامل يصبح أي قرار بخلفياته السياسية، ولا سيما الانتقامية والمفرطة في العداء، لغرض التأثير على سعر المنتج النفطي أو الغازي لأحد أكبر منتجي الغاز والنفط العالميين، هو نوع من العبث الاستراتيجي بكل المقاييس. قد يقوم قائل إن هذا الأمر خاص بوضع استثنائي وحرب شرسة وهمجية، حسب أوصاف مسؤولي الاتحاد الأوروبي، كسرت القواعد المعمول بها في النظام الدولي، كما كرر ذلك الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن، ما يوفر مبررات كثيرة لاستخدام كل الوسائل للتأثير على الخصم الروسي ومنعه من تحقيق أي انتصار، ومساعدة الطرف الآخر على الانتصار. التبرير قد يبدو مقبولاً شكلاً لمن يضع نفسه في خضم الحرب كما هو حال الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والولايات المتحدة وكندا وشركاء الغرب الآسيويين كاليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، لكنه غير مقبول بالنسبة لباقي الدول، وهي الأكثر عدداً، التي تدرك الحرب بمنظور مختلف، وأنها حرب بالوكالة، لأغراض خاصة، بصراعات القوى الكبرى، ولا شأن لباقي العالم بالحرب وتكاليفها المدمرة.
مبدأ الاستثناء والضرورة، الذي يبرر به الغرب موقفه ينطوي عملياً على مخاطر كبرى اقتصادية وغير اقتصادية، فالتاريخ يعلمنا أن كثيراً من الاستثناءات تحولت مع مرور الزمن إلى سوابق قابلة للتكرار في مناسبات عادية مع أطراف أخرى، خاصة إن حقق التطبيق الأول أهدافه، وهو هنا إخضاع روسيا وإجبارها على الانسحاب من الأراضي الأوكرانية، الذي يبدو عملياً متعذراً حتى وفق التقييمات العسكرية الأميركية. وهكذا يتحول الاستثناء إلى قواعد جديدة يفرضها تكتل معين في مواجهة باقي العالم.
صناعة النفط والغاز تقوم بالأساس على تكتلات للمنتجين تراقب احتياجات السوق ومستويات الطلب المتوقعة، استناداً إلى احتياجات القوى الصناعية الكبرى على المدى المتوسط. فضلاً عن قدر مهم ورئيس من الشعور بالمسؤولية تجاه الاقتصاد الدولي واستقرار السوق بشكل عام، ومراعاة تحقيق فوائد متبادلة بين المنتج والمستهلك.
في المقابل، هناك تكتلات للمستهلكين، ولا سيما الكبار، تحرص على تطبيق مبدأ العرض والطلب من جانب، والتأثير على الأسعار، ولو نسبياً، من خلال الاحتفاظ بكميات كبيرة من الاحتياطيات يتم اللجوء إليها في حال ارتفعت الأسعار من قبل المنتجين، وبالتالي ينخفض الطلب ومعه ينخفض السعر. هذه العملية تتم بصورة تكاملية ومن ثم تقلل من حدوث الانقلابات السعرية الحادة وتؤدي إلى حالة من الاستقرار لفترات مناسبة.
لجوء الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلفائهما عبر القارات المختلفة إلى تحديد سقف سعري للنفط والغاز الروسي، يعني ببساطة كسراً لمعاملات سوقي النفط والغاز الدوليين كافة، وليس ما يتعلق بروسيا فقط. التبريرات التي تقال بشأن التأثير على العوائد، التي تحصلها موسكو، لا علاقة لها بقواعد منظمة التجارة العالمية. هي شكل آخر من أشكال الاحتكار في صنع قرار يمس استقرار العالم بأسره. وسابقة يمكن تطبيقها على السلع الاستراتيجية كافة، سواء في الغذاء أو في الطاقة أو في المعادن أو في منتجات التكنولوجيا المختلفة، وبما سيخل بمنظومة الاقتصاد العالمي كلها.
حين تكسر القواعد التي يرتضيها الجميع لتحقيق مكاسب لطرف بعينه، فأنت تفتح الباب أمام قواعد جديدة ليست محل توافق، ما يثير الفوضى والتوترات. ردود الأفعال لن تكون تحت السيطرة، هذا باب يقود لانقلابات كبرى في الاقتصاد الدولي. الإفراط في العقوبات بلا نهاية يقود بالضرورة إلى ردود أفعال غير متوقعة، قرار روسيا الرئاسي بمنع النفط الروسي على من يفرض سقفاً سعرياً، بداية لتقلبات كبرى، ستصيب الدول الأوروبية بالدرجة الأولى. العقوبات المتتالية لا تقود بالضرورة إلى تحقيق أهدافها التي طبّقت من أجلها. إيران وفنزويلا وكوبا نماذج شهيرة استمرت لسنوات، تكيفت معها النظم الحاكمة وأصابت الشعوب وحدها. العقوبات على الصين لم تلفح في تغيير الصين ولم تؤدِ إلى تراجع اقتصادها أو انصياعها التام للمطالب الأميركية. المستهلكون الأميركيون أصيبوا بالعقوبات التجارية، وليس المنتجون الصينيون فقط.
العقوبات على روسيا لم تصبها وحدها، بل أصابت الذين فرضوها، وأصابت العالم بأسره غذائياً على الأقل. هناك معاناة وانكماش اقتصادي في روسيا بمعدل يدور حول 3 في المائة، ومحتمل أن يرتفع قليلاً، لكن تأثيره على قرار الحرب لن يؤدي إلى وقفها أو استسلام روسيا في القريب العاجل. الانكماش في أوروبا وأميركا قائم بالفعل، الحديث عن ركود بات أقرب إلى واقع يصعب صده. الغضب في بلدان أوروبا وصل إلى العنان، وهناك صراخ وعويل في أميركا وكثير من دول العالم نظراً لارتفاع فاتورة الطاقة، إنجلترا 16 ملياراً، ألمانيا 25 ملياراً، وفرنسا 12 ملياراً، وهكذا دواليك، تغير نمط الصناعات والحياة اليومية تكلفة أخرى أبعد كثيراً من مجرد تعويضات فاتورة الكهرباء للمنازل التي أقرتها بعض الحكومات الأوروبية كدعم اجتماعي. والمنتظر أن ترتفع الفاتورة أكثر وأكثر إذا ما انخفضت صادرات النفط الروسي.
من يكسر القواعد عليه أن يدفع الثمن حالياً ومستقبلاً. إدارة الاقتصاد الدولي وفق منطق المشاعر الغاضبة ستزيد الأمور تعقيداً، وستُفقد الجميع ثقتهم بما يقال عن احترام القواعد، التي لم تحترم من قِبل الأكثر حديثاً عنها!

د. حسن أبو طالب

درس اقتصادي من حديقة الحيوانات

الحيوانات في الحديقة كائنات استهلاكية. تأكل وتشرب وتراعى صحياً. لكنها في الوقت نفسه مصدر الدخل، يدفع الزوار أموالاً لكي يشاهدوها على الطبيعة، وبالتالي ما ينفق على إطعامها ورعايتها ينفق بمنطق استثماري، على أمل أن يعود بربح أكثر.
الحيوانات في الحديقة لا وعي لديها بفكرة المدخلات الثنائية، الوارد والمنصرف، المدين والدائن. لن نستطيع أن نحث الأسد على أن يكون أكثر تسلية للزبائن كي يجذب عدداً أكبر، ولا أن نطلب من الثعابين أن تؤدي حركات بهلوانية، لكي تزيد المدخلات. كما لن تستطيع الحيوانات أن تخفض الاستهلاك – من تلقاء نفسها – لكي تتوازن الأرقام. ناهيك عن أنها لا تتدخل في مقولات مثل «دخول الحديقة يجب أن يكون في متناول الجميع». هذا النوع من الهراء المخرب للقرارات الإدارية غريب عليها. وإدارة المال في الحديقة مسؤولية بشرية.
لو فكرنا أن نوفر من نفقاتها بأن نقلل الطعام، أو ننفق الكفاف على وسائل الرعاية الأخرى، أو نختصر من بند نظافة المكان المحيط، سيتراجع مستوى المعيشة في الحديقة، وسيبدو على الحيوانات الهزال، وربما تموت سريعاً، وتقل جاذبية الحديقة ومواردها.
لكي نحافظ على توازن الجداول إما أن ننفق على الحديقة من مصدر خارجي، كأن نستدين من مخصصات التعليم والصحة والمرافق العامة، أو حتى الحدائق الأخرى. في هذه الحالة ستزدهر الحديقة كما نحب، ولكن سيخرب ما حولها. يمكن أيضاً أن نرفع ثمن التذكرة، بشرط ألا ينخفض الطلب عليها فتقل حصيلتها لقلة عدد المقبلين. ويمكن أن نتبرع بالحيوانات العاطلة، التي لا يقبل الزوار عليها، ولا تحقق الجدوى الاستثمارية، إلى حديقة أخرى، تقليصاً للنفقات.
إن لم نفعل لا هذه ولا تلك، وفي الوقت نفسه أردنا الإبقاء على حديقة الحيوان، فليس لذلك إلا نتيجة واحدة هي عجز الميزانية. لا شيء يتحقق رغم أنف معادلته الاقتصادية. والعجز يعني الخسارة. عاماً بعد عام. وصولاً إلى التدهور. وقتها سنتعجب «أين الحديقة التي نافست يوماً حدائق أوروبا». لا يا شيخ!!
الفكرة الأساسية الحاكمة لمنطق إدارة المال واحدة. يستوي في ذلك ما يخص حديقة حيوان، أو ما يخص شركة طيران. أو ما يخص ملف جودة التعليم، أو البنايات ذات الإيجارات القديمة.
انظر إلى معمار الحقبة الخديوية في مصر، كيف تدهور لقلة عائداته وتشوه معادلته الاقتصادية. لم يتحسن من تلقاء نفسه لمجرد أننا نأسف على حاله في النهار، أو نوبخه كلما وقعت أعيننا عليه. لم يستحِ ويدخل إلى غرفة لينفرد بنفسه ويعاتبها ومن ثم يخرج معماراً جديداً. الإدارة المالية للبناية هي الأخرى مسؤولية بشرية. نحن الذين نشرع قوانين إيجارية تبقي على معادلة تدهور العقار. ونحن الذين نمنح تلك التشريعات المبرر «الأخلاقي» الذي يخرب البنايات براحة ضمير كما خرب المعادلة الحسابية. المعادلات لا تنحني أمام إنسانية دافعك المعلن. لن تضيف لك مدخلاً في أحد طرفيها على سبيل التحفيز لأن لك غرضاً نبيلاً. الأرقام – كالعدل القسطاس الصارم – معصوبة العينين.
من الملاحظات الجديرة بالنظر في شأنك كله، أن تدهور مشروع نديره يتناسب طردياً مع كمية المشاعر التي نقحمها في معادلة اتخاذ القرار. حديقة الحيوان في موقع وسط. لا هي محملة بالمشاعر كما الحال مع إدارة ملفات تتعلق مباشرة بالبشر، ولا هي مجردة منها كالتعامل مع منتجات بلاستيكية مثلاً. وهي في الوقت نفسه مجتمع من الكائنات الحية، تأكل وتشرب وتنمو وتمرض، مثل البشر.
هذا يجعل حديقة الحيوان فرصة مثالية للتدرب على النظر إلى الموضوع الاقتصادي نظرة اقتصادية عقلانية. فرصة، بعد الألف السابقة، للتدرب على اختبار الواقع المجرد. وفرصة لتجربة الشيء الصحيح في الإدارة، وهو الملكية الخاصة التي تجعل القائمين على المشروع يحرصون على الربح ويخشون من الخسارة.
لكن التملك الخاص أكبر من مجرد استقرار ملكية المشروع – حديقة الحيوان أو غيرها – في يد مالك. تملك أصحاب العقارات القديمة لعقاراتهم ليس إلا تملكاً صورياً، تأميماً مُقَنعاً، إذا فقدوا القدرة على إدارته بما يحقق مصلحتهم، وتحولوا إلى مستهدف لتحصيل ما عليه من فواتير.
امتلاك القدرة على تعطيل المتنافسين، أو إغلاق باب التنافس عند نقطة معينة، احتكار أيضاً. التنافسية هي ضابط الأسعار، وضمانة ألا يستغل صاحب مشروع ندرة منتجه، واضطرار المستخدمين إليه، لكي يرفع ثمنه. هذا لصالح المستهلك. على الجانب الآخر، تضمن التنافسية لصاحب المشروع أن لا يشارك في مباراة صورية، يملك فيها منافسه صفارة الحكم والار والكروت الصفراء والحمراء، وكل تذاكر المباراة، ويمنح نفسه من المزايا ما يحبط منافسيه، يمهد الملعب في مساراته، ويعرقله في مسارات منافسيه.
الاحتكار لا يأتي أبداً بخير اقتصادي. محفوف بالشهوات كالجحيم، يمكنك بلا رادع من اقتراف النزوات الإدارية جميعها، مع القدرة على إرجاء عواقبها إلى من يأتي بعدك. تظن أنك نجوت، بينما غرقنا جميعاً. وعكسه تماماً التنافسية. تجبرك على تحسين مهاراتك، وتضعك في مكانك الصحيح بمعيار تلك المهارات. تحرم أحلامنا من أن تصير أوامر، وهذا أعظم منافعها، إذ على المرء دائماً أن يحذر من أحلامه إن تعلق الأمر بإدارة ثروته.

خالد البري

الصين… هل هي دولة نامية أم دولة ناشئة؟

فجر نائب فرنسي من حزب الجمهوريين تساؤلاً مزلزلاً عند مناقشة مجلس النواب مشروع القانون المالي لعام 2022 عما إذا كان من الطبيعي أن تستمر الصين في الحصول على دعم مالي من فرنسا، وكأنها واحدة من الدول النامية؟ حيث حصلت في السنة المالية 2020 على مبلغ 140 مليون يورو. صحيح أن هذا المبلغ بسيط مقارنة بإجمالي المساعدات الفرنسية للعالم الثالث 3.9 مليار يورو لعام 2021، ومع ذلك تحتل الصين المرتبة التاسعة بين الدول التي تحصل على الدعم التنموي من فرنسا؟ فالدخل القومي للعملاق الصيني يصنف الصين من بين الدول ذات الاقتصادات المتقدمة أعلى من موقع فرنسا ذاتها؟
وفي الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، طلب في تغريدة له من منظمة التجارة الدولية في 26 يوليو (تموز) 2019 بقوله حين تكون الدول الأكثر ثراءً تؤكد أنها من بين الدول النامية لتفلت من تطبيق قواعد منظمة التجارة الدولية عليها لكي تحظى بمعاملة تفضيلية، يجب أن ينتهي هذا الأمر الآن. وجاء الرد الصيني على تغريدة ترمب بالقول إن تلك التغريدة هي نوع من التكتيك الأميركي الذي سيكون مصيره الفشل، خصوصاً أن المفاوضات التجارية بين البلدين كان مقرراً لها أن تبدأ في شنغهاي في 30 يوليو في العام نفسه.
الصين كدولة نامية تريد عبر تصنيفها هكذا الاستفادة من عدة مزايا، حيث يعني ذلك، وفق قواعد منظمة التجارة الدولية، من ناحية، تخفيض القيود المفروضة على تدفق السلع والخدمات في التجارة الدولية. والاستفادة من إمكان حصولها على قروض من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ولهذا حرصت الصين على عدم إضاعة تلك المزايا التي حصلت عليها منذ عام 2001.
السؤال المطروح هنا حول معايير تصنيف «الدول النامية»، هناك اختلاف حول التسمية ذاتها هل مصطلح الدول النامية، أم دول العالم الثالث أم الدول الأقل تقدماً أو الدول الناشئة؟ كما هو واضح التسميات نفسها متعددة. ومعايير التصنيف بينهما متعددة. أحد المعايير يعتمد على معدل الدخل القومي. وعن طريق معدل الدخل القومي يمكن استشراق ومعرفة الدخل الفردي للدولة. وهذا المعيار بذاته لا يمكن الاعتماد عليه، حيث دخل الفرد في دول الخليج النفطية العربية مرتفع جداً كقطر والإمارات، والسعودية، والكويت، وتحتل ضمن أعلى دخل للفرد في العالم. ولكن هذا الدخل في جوهره ناتج عن موارد النفط، وليس عن اقتصاد يعتمد على القطاع الصناعي. وهناك معايير أخرى في تصنيف الدول النامية حول نظامها الصحي، والتعليمي، وحجم التجارة، إلى آخر ذلك.
حين هاجم ترمب الصين في سنة 2019، علق بعض الاقتصاديين على مطلب ترمب، وقالوا إنه كان على حق بعدم اعتبار الصين دولة نامية، لأن حجم ناتجها المحلي حينها كان يحتل المرتبة الثانية على المستوى الدولي، حيث بلغ 14217 مليار دولار، أي بمثابة ثلاثة أضعاف الناتج المحلي لليابان، التي كانت تحتل المرتبة الثالثة على المستوى العالمي، وخمسة أضعاف فرنسا.
والبنك الدولي يعترف أن نحو 40 دولة يمكن تصنيفها بأنها دول الأقل نمواً. ولهذا فقد تخلى البنك الدولي عن تبني معايير التصنيف بين الدول وذلك منذ عام 2016… وبخصوص الخلاف بين الولايات المتحدة والصين، أشارت منظمة التجارة الدولية إلى أن ليس لديها معايير لتصنيف الدول، فهي تعتمد ما تصف به الدول نفسها كدول نامية أو دول متقدمة.
ومن حاول الدفاع عن موقف الصين، أشار إلى الناتج المحلي الصيني، صحيح أنه مرتفع وعالٍ، ولكن يجب الأخذ بعين الاعتبار حجم الكثافة السكانية في الصين الأعلى دولياً، ما يجعل نصيب الفرد يصل في عام 2018 وفق البنك الدولي إلى 18 140 دولاراً بعيداً عن نصيب الفرد في دول مجموعة السبعة «G7»، حيث يبلغ نصيب الفرد فيها نحو الضعف والنصف.
وعلى الرغم من كل ما سبق ذكره، أشار أحد الكتاب الأميركيين جوزيف ناي، الأستاذ في جامعة هارفارد، في مقال له مترجم في هذه الصحيفة، إلى أن الاعتماد المتبادل عميق بين الولايات المتحدة والصين. فقد كان للولايات المتحدة أكثر من نصف تريليون دولار في التجارة مع الصين في عام 2020، مضيفاً أنه في حين تتحدث بعض الأصوات في واشنطن عن «الانفصال»، فمن الحماقة أن نتصور أننا قادرون على فصل اقتصادنا بالكامل عن الصين من دون تكبد التكاليف الباهظة. ولا ينبغي أن نتوقع من بلدان أخرى أن تفعل الشيء نفسه. لأن الصين تعد الآن وفقاً لبعض التقارير أكبر شريك تجاري لعدد من البلدان يفوق عدد بلدان الاتحاد الأوروبي مجتمعة.
وأولت الصين اهتماماً خاصاً بتطوير علاقاتها مع دول الجنوب النامي بواسطة مشروعها الاقتصادي، الذي أطلق عليه «حزام واحد، طريق واحد»، واستثمار عشرات المليارات من الدولارات في هذا المشروع.
لا يمكن لأي مراقب تهميش مكانة الصين الدولية، وهي العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، فهي من بين أكبر دول العالم مساحة بعد روسيا، وكندا، والولايات المتحدة. ويبلغ عدد سكانها نحو مليار وأربعمائة مليون نسمة.
ولا شك أن التحدي الأكبر الذي يواجهه الغرب ليس فقط بسبب تلك المعطيات الأخيرة، وإنما بسبب أن الصين، حسب تعبير زعيم الحزب السابق الراحل دينغ زياوبنيغ، في إخفائها قدراتها والوقوف، متأهبة في هدوء، «واليوم تتفاخر الصين بثمار العقود التي قضتها في بناء ذاتها متحدية محاولة الغرب احتواءها تكنولوجياً وعسكرياً، لو بعث ماو زعيمها السابق المؤسس في عام 1949 لن يصدق التقدم السريع الذي أنجزته بلاده من بعده بفضل قوة شخصية قادتها آخرهم الرئيس الحالي شي!

د. محمد علي السقاف

البارونات اللصوص وإيلون ماسك

إيلون ماسك هو الآن مالك «تويتر» الفخور والمزهو بنفسه. ولكن المشكلة هي أن هذا الشخص سيكون مسيطراً على ما أشار إليه بعبارة «ساحة مدينتنا الرقمية». ماسك هو وجه الرأسمالية القائمة على التكنولوجيا في القرن الحادي والعشرين، تماماً مثل البارونات اللصوص الذين بنوا خطوط السكك الحديدية لدينا، وأندرو كارنيغي، الذي زود تلك السكك الحديدية وبناة المدن الأميركية الحديثة بالصلب، وجسدوا التوسع في الرأسمالية الصناعية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
استغل ماسك الفرص السانحة في جهاز تنظيمي للدولة سريع التفكك وحصل على جيش صغير من المستثمرين، وأسطول من جماعات الضغط والمحامين والفرسان المعجبين به. فقد عمد إلى تصوير نفسه على أنه تقني عبقري قادر على كسر القواعد، واستغلال واستهلاك من يعملون لديه، والسخرية من أولئك الذين يقفون في طريقه، ويفعل ما يشاء بثروته ما دام أنها تفيد البشرية. سينقذ ماسك الكوكب بسياراته الكهربائية وينقذ أوكرانيا بأنظمة أقماره الصناعية – ولذلك يجب تحريره من تدخل الحكومة للقيام بهذه الأعمال الصالحة. لأكثر من قرنين من الزمان، غيّر أباطرة أميركا اقتصادنا وحياتنا اليومية (وأثروا أنفسهم) من خلال خوض لعبة الفوز مع الحكومات. فقد سعوا وحصلوا من تلك الحكومات على إعانات وحماية هائلة، وطالبوا بتركهم وحدهم للقيام بأعمالهم كما يحلو لهم. بنى بارونات السطو على السكك الحديدية ثرواتهم على الأرض التي وفرتها الحكومة والتي وضعوا عليها مساراتهم ثم جمعوا الإعانات الحكومية لكل ميل منها. انتخب كارنيغي وبارونات الصلب مشرعين ورؤساء جمهورية ملتزمين حماية أرباح شركاتهم من خلال فرض رسوم جمركية عالية على المنافسين الأجانب. بُنيت شركات ماسك وتكونت ثروته بمليارات الدولارات من الإعانات المالية لشركته «تسلا» للسيارات الكهربائية، وبمليارات أخرى على هيئة عقود وكالة «ناسا» لنقل رواد الفضاء الأميركيين إلى الفضاء، وإطلاق الأقمار الصناعية وتوفير خدمات الإنترنت عالية السرعة المتصلة بأسطوله المكون من نحو 3 آلاف قمر صناعي. ما يجعل ماسك قوياً وربما أكثر تأثيراً من أباطرة العصر الصناعي هو قدرته على الترويج لأعماله ومفاهيمه السياسية بتغريدة واحدة. يجري تعزيز تأثير هذه الاتصالات الفورية من خلال فهمه الراسخ لوسائل الإعلام وديناميكيات السوق في هذا العصر من خلال ما يعرف بـ«أسهم الميم» (سهم الميم هو سهم اكتسب شعبية بين مستثمري التجزئة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي) والتداول اليومي والاتصالات الفورية والمعلومات المضللة.
أبقى كارنيغي على شركاته ككيانات خاصة لأنه لم يكن يريد أن يكون مديناً للمستثمرين الخارجيين والتأثير وظروف السوق. لكن ماسك فعل العكس: ثروته لا تعتمد على المصانع التي قام ببنائها أو المنتجات التي يبيعها أو العقارات التي حصل عليها، ولكن على مليارات الدولارات من الأسهم التي يمتلكها في «تسلا» و«سبيس إكس» وشركات العملة المشفرة و«تويتر».
في أغسطس (آب) 2018، قام بالتغريد بأنه يفكر في الحصول على «تسلا» بسعر 420 دولاراً للسهم. وقالت لجنة الأوراق المالية والبورصات إن «هذه التغريدات المضللة» تسببت في ارتفاع سعر سهم «تسلا» بنسبة تزيد على 6 في المائة ووجهت إليه تهمة الاحتيال في الأوراق المالية. ثم وافق على التنحي كرئيس لشركة «تسلا» ودفع غرامة قدرها 20 مليون دولار، ودفعت «تسلا» 20 مليون دولار أخرى. كان عميد عائلة كيندي، جوزيف كيندي، بارعاً دوماً في التلاعب بأسعار الأسهم، ولكن بصفته أول رئيس لمجلس إدارة «هيئة الأوراق المالية والبورصات» الأميركية، كان يخشى ألا تتعافى الرأسمالية أبداً من الكساد العظيم طالما بقي المتلاعبون والمحتالون أحراراً في فعل ما يحلو لهم.
عرّف ماسك على نفسه على أنه «مطلق لحرية التعبير»، وكرر عدة مرات أنه يعارض الرقابة وسيحد من الرقابة، ومن المحتمل أن يخفف قواعد الإشراف على المحتوى. ليس من الغريب أن نتوقع أن «تويتر» سيسمح، باسم حرية التعبير، بالتغريد بلا حدود ما دام أنها لا تخدم الخصوم السياسيين وتحتفل وتثريه هو وحلفاءه. ماسك محق في أن «حرية التعبير» يجب احترامها وحمايتها. ولكن لم يحن الوقت لأن ننخرط، كشعب وأمة، في نقاش عام واسع النطاق وشامل حول متى وكيف تتسبب حرية التعبير في «خطر واضح وقائم» – بحسب ما كتب القاضي أوليفر ويندل هولمز جونيور منذ قرن مضى – وهل نحتاج إلى الحكومة لإيجاد طريقة، من خلال القانون أو اللوائح أو الإقناع، لمنع حدوث ذلك؟ إيلون ماسك هو نتاج عصره وعصرنا أيضاً. وبدلاً من النقاش أو السخرية من تأثيره، يجب أن ندرك أنه ليس رجل الأعمال العبقري العصامي الذي يظهر في وسائل الإعلام. فقد كان نجاحه مدفوع الأجر، ودفع ثمنه دافعو الضرائب، وحرضه في ذلك المسؤولون الحكوميون الذين سمحوا له ولرجال الأعمال المليارديرات الآخرين بممارسة مزيد ومزيد من السيطرة على الاقتصاد والسياسة.

ديفيد ناسو