أرشيف التصنيف: المقالات العامة

عقلانية العقوبات الغربية

العقوبات الاقتصادية أداة للدبلوماسية القسرية، وهي أحد أقسى التحركات غير العسكرية التي تُمارَس على الدول لتغيير سلوكياتها. والأمثلة على العقوبات الاقتصادية في العصر الحديث تمتد من كوبا إلى فنزويلا وكوريا الشمالية وإيران، وغيرها من الدول التي طُبقت العقوبات الاقتصادية في حقها بمستويات مختلفة.
والعقوبات الحالية على روسيا هي الأقوى من نوعها، فهي على دولة من دول مجموعة العشرين، وعلى اقتصاد يحتل الترتيب الحادي عشر في العالم، لدولة هي الثالثة في إنتاج النفط. فما هي تبعات هذه العقوبات؟ وهل صُممت لهدف استراتيجي محدد؟
أول ما سيتأثر من هذه العقوبات هي تجارة السلع؛ سواء كانت السلع نفطية أو أغذية أو غيرها. هذا التأثر قد يكون على إنتاجية السلع نفسها، كحصاد القمح أو عمليات التعدين واستخراج الموارد الطبيعية، أو غيرها من الأنشطة الاقتصادية التي ستتأثر في روسيا بفعل الحرب نفسها، ناهيك عن العقوبات الاقتصادية. كما أن السلع ستتأثر في نقلها بفعل التعثر الحاصل في الشحن؛ سواء بسبب عدم رغبة شركات الشحن في الدخول في غمار العقوبات، أو عدم القدرة على دفع أو تسلُّم المبالغ بفعل العقوبات على النظام المالي الروسي.
وقد تأثرت السلع فعلياً بسبب تعثر القطاع اللوجستي وسلاسل الإمداد بفعل الجائحة، والذي اصطدم بالحرب قبل أن يفيق من أثر الجائحة التي تناساها العالم بفعل هذه الحرب الدامية.
وبالحديث عن النظام المالي، فروسيا الآن تعاني من هذه العقوبات بسبب تجميد أصولها الخارجية، وفرض العقوبات على بنكها المركزي، إضافة إلى إيقاف خدمات نظام «سويفت» عنها. هذه العقوبات أثَّرت سلباً على العملة الروسية، وأعاقت الحكومة الروسية عن تسييل احتياطياتها وأصولها الخارجية التي استثمرت فيها طويلاً استعداداً لأزمات شبيهة.
ولكن تجب الإشارة هنا إلى أن هذه العقوبات –على الرغم من خطورتها على الاقتصاد الروسي– فإنها قد لا تتسبب في انهيار للاقتصاد الروسي؛ ذلك أن روسيا منذ اجتياحها لجزيرة القرم عام 2014، أدركت مدى قدرة الدول الغربية على التأثير في اقتصادها عند تكاملها مع الاقتصاد العالمي. ولذلك فإن روسيا وبشكل تدريجي تمكنت من عزل اقتصادها ونظامها المالي عن الاقتصاد العالمي والاعتماد على الدولار منذ ذلك الحين. فعلى سبيل المثال، انخفض التبادل التجاري بالدولار بين روسيا والصين من 97 في المائة في عام 2014 إلى أقل من 33 في المائة في الوقت الحالي.
وللدول الغربية سلاح إضافي ضد روسيا، وهو سلاح التقنية، فالصناعات الروسية تعتمد على أشباه الموصلات التي تُصنع في الدول الغربية أو في دول حليفة لها، وفي حال مُنعت هذه المنتجات عن روسيا فسوف تتأثر صناعاتها. وقد تطبق الحكومة الأميركية عقوبات على شركات التقنية الروسية، تماماً كما فعلت مع شركة «هواوي» الصينية إبان رئاسة دونالد ترمب؛ حيث منعت عنها خدمات «غوغل» والمعالجات الحاسوبية، وغيرها.
من هذه العقوبات ما يؤثر على روسيا وحدها، مثل العقوبات على الشركات التقنية، إلا أن بعض العقوبات قد تتعدى روسيا إلى دول لا ناقة لها ولا جمل في هذه الحرب. فلو تأثر الإنتاج الروسي للقمح فستتأثر دول عديدة، وقد تواجه دول خطراً فعلياً على أمنها الغذائي على المدى القصير. كما ستتأثر بعض الدول الأوروبية بسبب استيرادها لمعادن من روسيا تدخل في صلب صناعاتها. وقد وصل أثر هذه العقوبات إلى أستراليا التي تعتمد على روسيا في الشحن الجوي؛ حيث تستأجر الدول الغربية وأستراليا الطائرات من شركة «فولغا-دبز» الروسية، ومن هذه الطائرات طائرة «أنتونوف-24» وهي إحدى أكبر طائرات الشحن العسكرية والتي يمكنها نقل الطائرات المروحية. اعتماد الشركات على الطائرات الروسية يعني ارتفاعاً في تكلفة النقل الجوي، والذي سوف يؤثر بلا شك على دول عديدة.
إن تدافع الدول الغربية على فرض عقوبات على روسيا قد لا يبدو مدروساً بشكل شامل، فكل دولة تفرض عقوبات لا تؤثر على اقتصادها، دون النظر بشكل متأنٍّ إلى الآثار غير المباشرة التي قد تترتب عليها، وفي حُمّى العقوبات والاستنكارات التي يشهدها العالم الآن، قد يكون من الصعب على أي دولة الاحتجاج على العقوبات التي قد تضر باقتصادها المحلي.
والمتأمل في العقوبات الغربية على روسيا، قد يصعب عليه إيجاد منطق عقلاني لبعضها، فبعضها امتد ليضر أندية محلية لأن مالكها روسي، والآخر بدأ في مصادرة القصور والأملاك واليخوت لأن ملاكها أثرياء روس. والعذر الغربي هو عدم تمويل «آلة الحرب» الروسية، فكيف لمصادرة يخت في حوض البحر الأبيض المتوسط أن تضر بتمويل الجيش الروسي؟ أما النكتة الحقيقية فهي معاقبة القطط الروسية، فما هو الهدف الاستراتيجي من ذلك؟ وهل يجعل ذلك السلوك الغربي أقرب إلى ما يصفه عمرو بن كلثوم، بقوله في المعلَّقة: ألا لا يجهلنَّ أحد علينا… فنجهل فوق جهل الجاهلينا؟

د. عبد الله الردادي

الأهداف المتوقعة والنتائج المترتبة على حظر النفط الروسي

أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، إثر الغزو الروسي لأوكرٌانيا، حظراً مباشراً على استيراد النفط الخام، والمنتجات البترولية، والغاز المسال، والفحم من روسيا. لكن تستمر السوق الأوروبية المشتركة حذرة من الآثار الاقتصادية المترتبة على مقاطعة الأعضاء في السوق المشتركة للبترول الروسي.
تهدف العقوبات إلى تقليص الطاقة الإنتاجية البترولية الروسية لحرمان موسكو من أهم مصادرها للحصول على العملات الصعبة؛ وتقليص النفوذ الذي تستمده موسكو من كونها أهم مصدر بترولي لأوروبا (تزود روسيا 2.7 مليون برميل يومياً من النفط الخام ونحو مليون برميل يومياً من المنتجات البترولية لأوروبا، ما يشكل 30 في المائة من الاستهلاك النفطي الأوروبي. كما تزود أوروبا 40 في المائة من إمدادات الغاز الطبيعي عبر مجموعة من أنابيب البترول)؛ حظر العمل المشترك للشركات النفطية الغربية مع الشركات الروسية لمنع إيصال التقنيات الحديثة للصناعة النفطية الروسية وإيقاف المساهمات المالية التي تقدمها الشركات الغربية للصناعة الروسية، كما في حال مشروع «نورد ستريم – 2» حيث أقرضت الشركات الغربية المشتركة في المشروع قرضا بنحو 11 مليار دولار لشركة «غازبروم» المسؤولة عن تشييد وتشغيل الأنبوب الغازي.
هناك ثلاث أسواق نفطية كبرى عالمياً: الولايات المتحدة وأوروبا والصين. تختلف كل سوق عن الأخرى.
أصبحت الولايات المتحدة بعد عام 2015 مع إنتاج النفط والغاز الصخري دولة نفطية مصدرة. كما أنها تستورد كميات ضئيلة جداً من النفط الروسي، نحو 1.5 في المائة من مجمل استيرادها النفطي. وبإمكانها الطلب من الشركات زيادة الإنتاج الصخري الأميركي والسحب من المخزون الاستراتيجي لتعويض النفط الروسي. كما أصبحت الولايات المتحدة واحدة من ضمن مجموعة أكبر الدول المصدرة للغاز المسال. فهي لا تستورد الغاز.
يختلف الوضع كلياً مع أقطار السوق الأوروبية المشتركة، حيث إن النروج المنتج النفطي الأكبر. لكن طاقتها الإنتاجية الفائضة محدودة نسبياً، فإمكان زيادة إنتاجها بسرعة أمر صعب. من جهة، ركزت الأقطار الأوروبية مؤخراً على تطوير الطاقات المستدامة وقلصت كثيراً استثماراتها الهيدروكربونية كجزء من سياستها لتصفير الانبعاثات. من جهة أخرى، بدأت أوروبا منذ منتصف عقد الثمانينات تستورد كميات ضخمة من الغاز الروسي. اعترضت واشنطن منذ عقد الثمانينات على الاعتماد الأوروبي الكبير على الغاز الروسي. وما اعتراضها الآن إلا جزء من هذه الاعتراضات الجيوسياسية. لكن لم تتوفر الإمكانية عندئذ لتعويض الغاز الروسي. أما الآن، فقد أصبح هذا ممكناً: الولايات المتحدة، قطر، النرويج، الجزائر، ونيجيريا.
تكمن المشكلة في محاولة أقطار السوق تنويع مصادر الغاز؛ والفترة الزمنية المتطلبة والاستثمارات اللازمة للتحويل لمصادر متعددة.
الأمر يختلف بالنسبة لاستيراد النفط؛ فمعظم الطاقات الإنتاجية الفائضة هي في دول الخليج العربي، السعودية والإمارات. السؤال: هل ستقاطع السوق الأوروبية البترول الروسي؟ هل هذا عملي، وممكن؟ وماذا عن السياسة الأوروبية للمضي قدماً بتطوير الطاقات المستدامة على حساب الوقود الهيدروكربوني؟ هل ستستمر هذه السياسة بنفس الاندفاع ما قبل حرب أوكرانيا؟ أم هل ستتغير الأولويات الآن؟
تصدر روسيا النفط للصين والهند ودول آسيوية أخرى. وهناك خط أنابيب بطاقة 1.50 مليون برميل يومياً من روسيا إلى الصين. تشكل آسيا السوق النفطية الأكثر توسعاً، على عكس السوق الأوروبية حيث تراجع الاستهلاك النفطي.
من ثم، من المحتمل أن تتوجه الشركات الروسية إلى الأسواق الآسيوية لإمكانية استيعاب نفطها. لكن يطرح هذا الافتراض أسئلة عدة: من يزود أوروبا في حال المقاطعة؟ هل ستتحول الصادرات من آسيا إلى أوروبا لاستيعاب النفط الروسي. هذه قرارات مهمة للصناعة النفطية العالمية، بالذات بعد سنوات من الجهود للتواجد في السوق الآسيوية. والسؤال للمصدرين إلى آسيا حالياً، هو لماذا التحول من سوق نفطية متصاعدة النمو والانتقال إلى السوق النفطية الأوروبية المتقلصة؟
إن القرارات التي ستتخذ بهذا الصدد ستصب في صلب مستقبل الصناعة النفطية؛ إذ إن الشركات النفطية الخليجية تعمل منذ سنوات على تطوير علاقاتها البترولية في الأسواق الآسيوية، كبديل عن تقلص الأسواق النفطية الأوروبية والاكتفاء الذاتي للسوق الأميركية. وبعض الشركات النفطية الخليجية لها عقود طويلة المدى لإمداد المصانع البتروكيماوية والمصافي الآسيوية.
ستكمن النتائج المترتبة على حظر النفط الروسي في محاولة الإسراع في إعادة استيعابه في الأسواق الدولية، نظراً لمكانته في السوق النفطية الدولية (10 في المائة من الإنتاج النفطي العالمي). وهذا سيعني مراعاة الاعتبارات الجيوسياسية والدبلوماسية لمختلف الأطراف من الدول المنتجة والمستهلكة. فبدون النفط الروسي، سيستمر ارتفاع الأسعار والتضخم العالمي ومن ثم الاضطرابات الاجتماعية، بالذات مع الصعوبات في إمدادات القمح. ستؤدي الاتفاقات النفطية الجديدة ما بين الدول المنتجة والمستهلكة والتبعات اللوجيستية لهذه القرارات إلى تحولات كبرى في الصناعة النفطية مستقبلاً.
تدل تجارب المقاطعات النفطية السابقة، على أن تبعات الحظر النفطي تستمر لسنوات. ويتبعها مشاكل عودة الإمدادات النفطية إلى الأسواق بكامل طاقتها، كما أن هناك تساؤلات عن دور روسيا الهام في مجموعة «أوبك بلس» واستقرار الأسواق خلال فترة الحظر.

وليد خدوري

التمويل والبحث عن نظام دولي جديد

يبدو أنه في ظل حالة اللايقين المتزامنة مع الجائحة الصحية والتهديدات بالحرب واحتدام أزمة المناخ، تتجه الرؤى إلى احتواء هذه الكوارث وتحويلها إلى أزمات يمكن إدارتها. فهناك أمل تصحبه جهود صحية من خلال نشر اللقاحات لكي تنخفض حدة الجائحة المنتشرة لتصل لمرحلة الوباء محدود الانتشار، ثم لحالة مرض مُعدٍ يمكن السيطرة عليه. وهناك آمال، تتضاءل فرصها، في أن يخفّ قرع طبول التهديد بالحرب، التي تتعالى عبر قنوات الأثير في أثناء كتابة هذه الكلمات، وأن تبقى التطورات في حدود التوترات الجيوسياسية دون أن تتفاقم شراً، ولكن هيهات. كما أن هناك أهدافاً طموحة لحماية العالم من تغيرات المناخ، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة والقضاء على الفقر المدقع، عوّقت مسارات التقدم فيها مربكات متوالية ليس أقلها شراً الجائحة وأشباح الحرب.
وبينما ينشغل العالم في التصدي لتبعات الجائحة الصحية، ومحاولة التعافي من آثارها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، لا يمكن تجاهل تأثيراتها المؤقتة منها والمستمرة على أوضاع الديون، المحلية منها والدولية. فقد أتت الجائحة على عالم يعاني أصلاً من تزايد الديون شجّع على تراكمها انخفاض شديد في أسعار الفائدة العالمية في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008 فتبارى كل من لديه، أو ظن أن لديه، قدرة على الاقتراض فتزايدت الديون المستحقة على الحكومات والشركات والأفراد فيما يعرف بالموجة الرابعة للديون. وللذكرى فإن الموجات الثلاث السابقة لتراكم الديون لم تنتهِ أي منها إلا بأزمة، فكانت الأولى في أميركا اللاتينية في الثمانينات والثانية في جنوب شرقي آسيا في التسعينات والثالثة عالمية نبعت من أزمة الرهون العقارية. على النحو الذي ناقشتُه في هذه الصحيفة الغراء، ونشرتُه في كتاب صدر حديثاً تحت عنوان «في التقدم: مربكات ومسارات».
وقد صدر منذ أيام تقرير من مجموعة البنك الدولي عن التنمية في العالم، مركّزاً في تحليله على أربع رسائل عن المخاطر المالية لعالم ما بعد الجائحة:
أولاً، أن زيادة القروض المتعثرة للأفراد والشركات تستوجب زيادة الشفافية والإفصاح والعمل على تخفيض نسبة هذه القروض المتعثرة في مَحافظ البنوك للإبقاء على سلامتها وقدرتها على الاستمرار في مهامها في منح الائتمان.
ثانياً، أن إرجاء وتسويف علاج القروض السيئة والمتعثرة له عواقب اقتصادية ومالية واجتماعية ويعقّد من إمكانية الحصول على التمويل للمشروعات ويهدر جهود الشمول المالي ويطيل الفترة المطلوبة للتعافي الاقتصادي.
ثالثاً، أن القيود المانعة من الحصول على الائتمان يمكن التغلب عليها من خلال الابتكار والتطور في التقنية المالية والحلول الرقمية التي يمكن الاستعانة بها في إدارة مخاطر الائتمان بكفاءة. وفي إطار سياسة متكاملة للنمو والتنمية من الممكن أن تسهم إجراءات تيسير الائتمان وإدارة مخاطره في مساندة استهلاك الأفراد والقطاع العائلي، وتحفيز جهود قطاع الأعمال في الاستثمار والإنتاج والتشغيل والتصدير.
رابعاً، أن المستويات غير المسبوقة ارتفاعاً للقروض العامة المحلية والخارجية، تستلزم إدارة استباقية لإتاحة الموارد المالية العامة المطلوبة للتعافي. ويحذر تقرير البنك الدولي في هذه الرسالة الأخيرة من عواقب التأخير في إدارة الديون العامة وإبقائها في النطاق الآمن لما في ذلك من آثار ضارة على تراجع الأداء الاقتصادي والركود وارتفاع معدلات التضخم والاضطرار إلى تخفيض الإنفاق العام على التعليم والصحة وشبكة الضمان الاجتماعي.
انتهت الرسائل الأربع لتقرير البنك الدولي الذي صدر تحت عنوان «التمويل من أجل تعافٍ مُنصف». ويجدر بالذكر أن المخاطر المالية شديدة الارتباط رغم تنوعها، ففي وقت الأزمة قد تتحول مديونية القطاع الخاص إلى عبء عام إذا كانت مستحقة لدائنين أجانب. كما تَحول أزمة المديونية العامة دون قدرة الدولة على القيام بالتزاماتها حيث تستغرق تكاليف الأزمة إمكاناتها الاقتصادية وتنهك تبعاتُها قدراتِها السياسية، وبالتالي فإن تجنب الأزمة وتقليل احتمال حدوثها أمر بدهيّ، ولكنه يتطلب تنسيقاً عالياً بين السياسات النقدية والمالية العامة، وتعاوناً دولياً بين جهات التمويل والإقراض.
يتطلب منع أزمات المديونية تعافياً للاقتصاد وعودة ناتجه لمستويات ما قبل الأزمة، وفي هذا تجد أن 40% من الاقتصادات عالية الدخل قد تجاوزت متوسطات دخولها في عام 2019، أي قبل الجائحة، وذلك بما تيسر لها من إنفاق عام رخيص للتصدي للجائحة، وسرعة في توفير اللقاح لأكثر من 70% من سكانها. أما الدول متوسطة الدخل فلم تفلح إلا 27% منذ الأزمة في الارتفاع عن متوسطات دخولها قبلها، أما الدول النامية الأقل دخلاً فلم ينجح منها إلا 20% فقط في تجاوز مستويات ناتج ما قبل الجائحة. وسيكون للأداء الاقتصادي المتراجع في الدول النامية عواقبه، ليس فقط في مدى تحقيق التقارب بينها وبين الدول المتقدمة والأعلى دخلاً، ولكن على مدى قدرتها أيضاً على الوفاء بالتزاماتها تجاه خدمة ديونها الدولية خصوصاً مع ارتفاع معدلات التضخم العالمية والارتفاعات الجارية والمتوقعة في أسعار الفائدة العالمية، وأثر ذلك كله على تكلفة الاقتراض الجديد وكذلك على التدفقات المالية إلى الدول النامية.
من السيئ حقاً أنه لا يوجد حتى الآن إطار دولي سريع وكفء وعادل يمكن الاعتماد عليه في إعادة هيكلة الديون السيادية. فما تم تقديمه بعد الأزمة من تيسيرات لا يمكن احتسابها نظاماً متكاملاً. فمبادرة مجموعة العشرين لعام 2020 لإيقاف دفع خدمة الديون التي استفادت منها الدول الأقل دخلاً، ورغم أهميتها في تيسير التعامل مع متطلبات الجائحة على هذه الدول، تم إيقاف العمل بها في نهاية 2021، بما يعني أن هذه الدول ستكون مطالَبة بدفع المستحقات السابقة والجارية لخدمة ديونها.
من الاختزال المخلّ تصور إمكانية تطوير نظام متكامل وفعال لمعالجة الديون وإعادة هيكلتها بمعزل عن نظام نقدي ومالي عالمي أكثر كفاءة وعدالة. فبعد كل أزمة دولية يتكرر الحديث عن أهمية إصلاح النظام المالي، وتنتهي الأزمة على ما تنتهي إليه دون تغيُّر يُذكَر في القواعد والترتيبات القائمة، ذلك لارتباطها بنظام اقتصادي وسياسي عالمي وبترتيبات جرى أكثرها في أعقاب الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة.
كما أن ما يُعرف بالإطار الشامل للتعامل مع الديون، والذي دشنته مجموعة العشرين بعد الجائحة للتعامل مع آثارها، لا يمكن وصفه بالشمول فعلاً، فهو لا يتضمن الديون المستحقة على الدول متوسطة الدخل، كما لا يُدخل القطاع الخاص الدائن في التسويات إلزاماً؛ مكتفياً بالدعوة للتعاون، وتتسم إجراءاته مع ذلك بالبطء حتى الآن مثلما حدث مع الدول الأفريقية الثلاث التي طلبت الدخول في إطارها، وهي تشاد وإثيوبيا وزامبيا.
لا أعتقد أن الظروف السياسية الدولية الراهنة تتيح مناخاً مناسباً لتحقيق وثبات في النظام المالي الدولي للتعامل مع الديون أو استحداث آليات أكثر فاعلية وإنصافاً. فهذا يتطلب تعاوناً دولياً وإرادة سياسية. فلم يكن الإخفاق في هذا المضمار لعجزٍ في الحلول الفنية والقانونية، حتى إذا ما أخذنا في الاعتبار أن المديونية الدولية أصبحت أكثر تعقيداً وتشابكاً عمّا كانت عليه في موجاتها الثلاث السابقة. فدور القطاع الخاص ومؤسساته أصبح أكثر أهمية من ذي قبل، خصوصاً مع زيادة نصيب مقرضي السندات الدولية، كما أن هناك نسبة متزايدة للمقرضين السياديين من غير الدول الأعضاء في نادي باريس، بما يعقّد إجراءات عمليات التفاوض لإعادة هيكلة الديون.
وفي عالم شديد التغير بما يشهده من تبدل سريع للأوزان الاقتصادية بين القوى التقليدية وقوى صاعدة، يجدر الاستعداد لمستجدات ستسفر في النهاية عن ملامح نظام جديد؛ عسى أن يكون وهو في طور تكوينه أكثر سلماً مما رأينا مع نظم سابقة من قبل. وفي التعامل مع هذه المستجدات مبادئ محددة نستعرضها في مقال قادم.

د. محمود محي الدين

110 دولارات البداية فقط للنفط

لكل من كان يظن قبل عام من الآن أن وصول النفط إلى 110 دولارات هو ضرب من الخيال، أود أخبارهم بأن هذا ليس إلا البداية فقط. إذا كان هناك أمر اكتشفته خلال الأزمة الحالية، فهو أن أوروبا وباقي الاقتصادات القوية في آسيا، ليس أمامها الكثير من الخيارات.
إن تعطل منتج واحد مثل روسيا أو مقاطعة صادراته من النفط والغاز ليس بالأمر السهل، إذ إن أوروبا ليست كما تدعي، ليست قادرة على الاستغناء عن النفط والغاز، على الأقل خلال السنوات الثلاث إلى الخمس القادمة.
أمام هذا الأمر، ممكن أن نسأل لماذا لم تتخذ أوبك+ بالأمس قراراً يساعد في خفض أسعار النفط التي وصلت إلى مستويات حرجة للدول المستهلكة واكتفى التحالف بالإبقاء على زيادة الإنتاج حسب ما هو متفق عليه سابقاً؟
أولاً: الأزمة الحالية سياسية وليس على أوبك+ تحملها. ثانياً: الإبقاء على روسيا في الاتفاق أهم من إرضاء الدول الغربية، لأن الاتفاق يهدف إلى استقرار السوق وبدون روسيا لن يكون هناك اتفاق ولا استقرار.
ثالثاً: إذا ما ضحت أوبك+ بروسيا وانتهت الأزمة، هل هناك ضمان بأن الدول الغربية ستحفظ الجميل لباقي دول التحالف؟ لا أظن، ولهذا فإن الحفاظ على روسيا كشريك أفضل من الحفاظ على الدول الغربية التي تغير رأيها كل يوم.
رابعاً: حتى لو أرادت دول تحالف أوبك+ زيادة الإنتاج وتغطية النفط الروسي فما الضمان أن روسيا لن تحاربهم بكل أشكال الحروب مستقبلاً بعد انتهاء الأزمة مع أوكرانيا التي لا يعلم أحد إلى متى ستطول.
خامساً: حتى لو أرادت دول التحالف زيادة إنتاجها فمن هم المشترون الذين سيشترون نفطها؟ هل يتوقع أحد أن الصين ستتخلى عن حليفتها روسيا وتقبل بشراء النفط من الخليج لتعويض النفط الروسي؟ وهل يتمكن المنتجون في الخليج من الوصول إلى أعماق هذه الدول كما تصل روسيا من خلال خطوط الأنابيب؟!
ونعود إلى أسعار النفط ونسأل لماذا إذن لم ترتفع الأسعار قبل هذه الأزمة؟ أولاً إن أسعار النفط لم ترتفع بسبب أزمة روسيا وأوكرانيا، بل إن الأسعار أخذت منحى الصعود منذ العام الماضي، بعد أن اكتشف العالم حقيقة أساسيات السوق.
الطلب على النفط ينمو بشكل مستمر ولكن الإمدادات في العالم لا تنمو بهذا الشكل السريع، وعلى الأرجح لن تنمو بعد انتهاء فورة النفط الصخري الذي كان سبباً لخفض الأسعار خلال السنوات الماضية.
إن العالم يواجه أزمة طاقة بسبب السياسات غير الواقعية تجاه الوقود الأحفوري الذي تتخذها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وغيرها من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
هذه الدول هي من دفعت الأسعار نحو ما هي عليه الآن، وإذا ما أضفنا إلى المعادلة انقطاع النفط الروسي فهذا سيزيد الأمر سوءاً.
ماذا سوف يكون مصير العالم عندما يصل السكان إلى 8 مليارات نسمة، ناهيكم عن 9 مليارات؟ نعم المصادر البديلة سوف تنمو وتستمر في الزيادة، ولكن الوقود الأحفوري سيظل مهماً، وفي ظل هذا العالم الذي فقد بوصلته السياسية وكذلك الطاقوية، لا يمكن التكهن سوى بمواصلة الأسعار الارتفاع.

وائل مهدي

هل روسيا قادرة على أن تستند على العملة المشفرة؟!

العالم اليوم يخوض أحداثاً متسلسلة سياسية واقتصادية، حيث إنه من الصعب تفادي أخبار اليوم من الأحداث العالمية لتبعات حرب روسيا وأوكرانيا، والاقتصاد والمال ليس بمعزل عن ذلك.
هذه الأحداث بدأت بالتسارع، حيث اتخذت الدول الكبرى ممثلة بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وعدد من حلفائهما قراراً صارماً بعزل عدد من البنوك الروسية عن نظام الدفع الدولي الرئيسي «سويفت»، وكما سيتم تجميد أصول البنك المركزي الروسي، مما يحد من قدرة روسيا على الوصول إلى احتياطياتها الخارجية، وهذا العزل يعد من أشد العقوبات التي فرضت على روسيا، حيث إنه في بيان مشترك تم التصريح بالنية إلى عزل روسيا عن النظام الدولي المالي، وهذا ما تم عمله الآن.
روسيا من جهة أخرى لديها بديل عن نظام «سويفت»، وهو «SPFS»، حيث يُمكن للمتعاملين داخلياً وخارجياً استعماله مما لا يؤثر على البنية التحتية المالية الروسية، وقد تم إنشاؤه في عام 2014 بعد تهديدات أميركا بطرد روسيا من نظام «سويفت» المالي أثناء اندلاع أزمة شبه جزيرة القرم مع أوكرانيا.
سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الخارجية، على مدار الأشهر القليلة الماضية قامت على قرارات حاسمة مما سيترتب عليه آثار اقتصادية دائمة على العالم بأسره، حيث بدأت في يناير (كانون الثاني) الماضي في التحالف الصيني الروسي من خلال دعوة بكين الغرب بأخذ مخاوف موسكو الأمنية المعقولة بعين الاعتبار، وتبعها حرب أوكرانيا حالياً والقادم مجهول؟!
هناك أيضاً مخاوف من أن تستخدم روسيا العملات المشفرة للحد من آثار العقوبات الغربية، حيث ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أنه «في وقت تشن قوات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، غزواً على أوكرانيا، فإن هذا هو أول صراع كبير في عصر التشفير، وهو ما يعني أيضاً، ولأول مرة على الإطلاق، أنه توجد أداة يمكنها نقل مليارات الدولارات بسهولة عبر الحدود وهي متاحة ليتم استخدامها».
والسؤال الآن هل روسيا قادرة على أن تستند على العملة المشفرة؟ الجواب نعم، ولكن لفترة محدودة لا تتجاوز عدة أشهر، حيث أفضل مما ذكر في هذا الصدد هو ما قاله المحلل السياسي الإيطالي دانييلي روفينيتي، في أحد لقاءاته، إنه «يمكن أن توفر العملات المشفرة طريقة لتجاوز القنوات المالية التقليدية، إذ تستند على محفظة مجهولة الهوية دون الحاجة إلى مؤسسة، كالبنك، مما يعني تجنب متطلبات معرفة العميل (KYC)، والوصول إلى السلطات الاقتصادية المركزية، وعليه لا يمكن للدول التي فرضت العقوبات أن توقف تدفق العملات المشفرة بالقوة». وتابع: «في حين أن العملات المشفرة ليست بديلاً مثالياً، إلا أنها بالتأكيد تساعد الأفراد الخاضعين للعقوبات على تلقي الأموال».
ومن المثير للدهشة أن البنك المركزي الروسي أراد، مؤخراً، حظر العملات المشفرة مثل الصين، لكن فلاديمير بوتين أجبره على إعادة التفكير، ووضعه في مسار نحو التنظيم – مما يجعل التحويل من التشفير إلى العملات الرقمية عملية أكثر أماناً.
ولكن لا بد أن نعي بأن الحكومة الروسية شرعت على تطوير عملتها الرقمية (الروبل الرقمي) لتسهيل عملية استخدامه في التجارة المباشرة مع الدول الأخرى التي تقبل به، مما يسمح بإجراء المعاملات خارج النظام المصرفي الدولي مع أي دولة ترغب في التجارة في العملات الرقمية.
في الجهة المقابلة، علق رئيس الفيدرالي الأميركي جيروم باول، أثناء شهادته أمام الكونغرس الأميركي، أنه يرى أن العملات الرقمية وسيلة لخرق القانون، وأنه لا يجب على الجهات الرسمية أن تتسامح معها. أخيراً، روسيا تتميز بقوتها في المجال السيبراني (تقنية المعلومات) مما يساعد على استمرار تلك الحلول التي وضعتها السياسة الروسية في دعم العملات المشفرة (الروبل الرقمي أو غيره) ما قد يجعلها تصمد لفترة زمنية قصيرة في ظل تواصل العقوبات الدولية المفروضة عليها.

باسل الشملان – مستشار مالي وإداري

عن سعر فائدة أعلى و{تضخم أخضر}

حسمت الأدلة المتوالية جدلاً دار بين معسكرين من الاقتصاديين والبنوك المركزية انقسما حول طبيعة زيادات الأسعار بعد الجائحة، هل هي تعكس تضخماً مؤقتاً أم مستمراً، فلم يعد هناك مجال للشك أن التضخم ليس عارضاً مؤقتاً. وأن البنوك المركزية الرئيسية بما في ذلك البنك الفيدرالي الأميركي قد تأخرت في إجراءات التصدي المفروضة، بما أثر على ثقة الأسواق في أدائها، بما في ذلك من تبعات حالية ومستقبلية. فالاقتصاد لا يتسامح مع مروجي «فن عمل لا شيء» خاصة في فترات الأزمات، حيث يكون «عمل كل شيء ممكن» واجباً ملزماً على صانع القرار.
فهناك تكلفة عالية للتباطؤ في اتخاذ القرار؛ إذ سيستمر التضخم لمدد أطول مما كان واجباً، إذا ما تم احتواؤه مبكراً من خلال سحب إجراءات التيسير النقدي، ثم الشروع في رفع أسعار الفائدة. والأسوأ سيكون إذا ما اضطرت البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة بمعدلات أسرع وأعلى إذا لم تجد الاستجابة التي تتوقعها، وهي بذلك كقائد سيارة تأخر في تخفيف سرعة مركبته في حينه، فيضطر إلى ضغط الكوابح بعنف بما في ذلك من تداعيات.
والسؤال المتكرر عن أسعار الفائدة يتركب من شقين؛ الأول ما مدى الارتفاعات المتوقعة في أسعار الفائدة؟ والآخر إلى متى ستستمر هذه الارتفاعات؟ وتشير توقعات السوق بعد تصريحات رئيس البنك الفيدرالي جيروم باول إلى ارتفاعات متوالية على مدار هذا العام والعام المقبل تبلغ كل واحدة منها 25 نقطة أساس لترتفع بمتوسطات أسعار الفائدة من متوسطاتها الحالية، التي تتراوح بين الصفر و0.25 في المائة ليصل سعر الفائدة إلى ما يتراوح بين 1.75 في المائة و2 في المائة مع بداية عام 2024. ويبرر هذه الزيادات ما وصل إليه الارتفاع في أسعار السلع الاستهلاكية في الولايات المتحدة بالغاً رقم 7 في المائة، وهو أعلى من معدل التضخم العالمي الذي وصل إلى 6 في المائة. ويدعم الموجة التضخمية وتوقعاتها ارتفاع الأجور في الولايات المتحدة بمقدار 5 في المائة، كما أنه بسؤال الناس عن توقعاتهم عن التضخم على مدار الاثني عشر شهراً المقبلة تأتي إجاباتهم، وفقاً لمجلة «الإكونوميست» البريطانية، لتحوم حول 6 في المائة. هذا سيحتم الاستمرار في رفع أسعار الفائدة، كما تقدم، مع العمل على استعادة الثقة في قرارات البنك الفيدرالي، فمجرد رفع سعر الفائدة وحده لا يكفي للسيطرة على التضخم وتوقعاته، كما أن هناك حدوداً لرفع سعر الفائدة لن تتجاوزها حتى لا تؤثر سلباً على إجراءات التعافي الاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بالاستثمار وأثره على النمو والتشغيل. هذا فضلاً عن مخاطر هذه الزيادات على الديون العامة والخاصة والعائلية التي بلغت مستويات عليا فيما يعرف بالموجة الرابعة للديون التي يرجى ألا تنتهي بأزمة كالثلاث السابقات عليها، وكان آخرها الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
وفي هذه الأثناء، تسبب سوء الإدارة الاقتصادية في التعامل مع تغيرات المناخ إلى ما يسمى «التضخم الأخضر»، بالانحراف عن أسس التحول الآمن والعادل والكفء إلى طاقة نظيفة لتخفيف الانبعاثات الضارة بالبيئة والمناخ. فما شهدناه من انسحاب مرتجل من الاستثمار في مصادر الطاقة التقليدية مع هرولة منفعلة إلى مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار الطاقة، وزيادة نسبة إسهامها في التضخم، هذا مع الأخذ في الاعتبار عزل الأثر السلبي للتوترات الجيوسياسية على أسعار الطاقة. وينبغي إيضاح أن عملية التحول من نظام للطاقة إلى نظام بديل ستكون مكلفة وأن لها أثراً على الأسعار. ولوضع النقاط على الحروف، أوضح ما يأتي:
– من الصحيح علمياً أن العالم ينبغي أن يخفف حدة الانبعاثات الضارة بمقدار 7.6 في المائة سنوياً حتى 2030 حتى يتوافق مع تعهدات اتفاق باريس، وهو أمر ليس يسيراً إذا علمنا أن العالم، حتى مع توقف نشاطه المفاجئ في أعقاب الجائحة عام 2020، لم تنخفض فيه معدل زيادة الانبعاثات الضارة عن 6 في المائة.
– أن مقترحات التعجيل بتسعير الكربون لكي تصل إلى 75 دولاراً كحد أدنى حتى عام 2030، على النحو الذي اقترحه، على سبيل المثال، الاقتصاديان فيتور جاسبار وإيان بري لا يمكن تجاهل أثرها التضخمي، خاصة إذا ما علمنا أن أربعة أخماس من الانبعاثات الضارة لا يوجد حالياً أي تسعير لها وأن ما يتم تسعيره فعلياً لا يتجاوز 3 دولارات كمتوسط عالمي.
– أن الإجراءات المقترحة لتخفيض الانبعاثات تتضمن أيضاً تسعيراً للكربون في إطار نظام التجارة في الانبعاثات، كما في حالة أوروبا، وهو ما وصل إلى 90 يورو للطن في نهاية عام 2012، أي ثلاثة أمثال سعره في بداية العام وفقاً للاقتصادية الألمانية إزابل شنابل، عضو المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، في كلمة لها في الجمعية الأميركية للتمويل في مطلع هذا العام.
إن هذا المزيج من الإجراءات التي رفعت، وسترفع، تكلفة الحصول على مزيج الوقود من المصادر التقليدية، عن مستوياتها السعرية من دونها، مع الاندفاع الذي تسبب في رفع تكلفة مكونات مصادر الطاقة البديلة كما شهدنا في العام الماضي في أسواق الليثيوم والجرافايت والكوبالت والمنجنيز وغيرها، فضلاً عن إجراءات مقترحة لتسعير الكربون في مراحل الإنتاج والتجارة والاستخدام، لا يمكن تجاهلها عند حساب معدلات التضخم والتحسب له. فلا يمكن التهوين من الأثر السعري لهذه التحولات، على النحو الذي اعتادت عليه نماذج قياسية معمول بها في بعض البنوك المركزية عند اعتبارها التغيرات في أسعار الطاقة كتطور عارض في جانب العرض يندثر بعد حين.
فعلى سبيل المثال، تجد ارتفاعات أسعار الوقود وقد أصبحت مكوناً مهماً في ارتفاع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين في أوروبا في الربع الأخير من العام الماضي، حيث وصل لأعلى مستوياته تاريخياً منذ العمل باليورو من عشرين عاماً مضت. كما أن هناك ما يلزم فعله من جانب السياسات المالية ونظم الضمان الاجتماعي لمساندة الفئات الأفقر في المجتمع. فحتي الاقتصادات الغنية بات فقراؤها يعانون من ارتفاع أسعار الطاقة، حيث أشار 8 في المائة من مواطني الاتحاد الأوروبي، نحو 35 مليوناً، من عدم قدرة دخولهم على ملاحقة ارتفاع تكلفة الوقود اللازم لتدفئة منازلهم وفقاً لما ذكرته إزابل شنابل في مداخلتها المشار إليها.
القصد هنا هو وضع الإجراءات الحيوية اللازمة للتصدي لتغيرات المناخ في إطارها المطلوب للإدارة الحصيفة للتحول نحو الحياد الكربوني. وستلزم هذا التعامل مع آثار هذه الإجراءات على الأسعار، خاصة في ظل الارتفاعات العالمية الراهنة للتضخم. ومن المهم التذكرة مجدداً بأهمية تنفيذ إجراءات التصدي لتغيرات المناخ كمكون رئيسي غير منفصل عن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، حتى يتم تحجيم آثارها السلبية على الفقر والتفاوت في توزيع الدخل والثروة والنمو وفرص العمل. وتؤكد تبعات ما بعد الجائحة خطورة ترك عملية اتخاذ القرارات لتتبع نهج الجزر المنعزلة، فكل جزيرة منها تنبري بإجراءات ومواقف منفردة، وكأن العالم قاصر عليها ومن فيها غير مدركة أن أهل الجزر الأخرى ليسوا أفضل حالاً بعزلتهم، وأن في هذه التصرفات والقرارات المتنافرة ما يهددهم جميعاً. وهناك من يدرك مبكراً الخطر على مصلحته في استمرار الغفلة عن التعاون والتنسيق، ولكن هناك من لا يستبين نصح اليوم إلا ضحى الغد!

د. محمود محيي الدين

اقتصادي مصري

سلاح سويفت النووي

«دماء الأوكرانيين الأبرياء تلطخ أيدي من يشككون في حتمية طرد روسيا من شبكة سويفت»، هذه هي كلمات الرئيس الأوكراني (فولوديمير زيلينسكي) والتي غرد بها على موقع تويتر. حاول الرئيس الأوكراني المنكوب باجتياح روسيا لبلده أن يضغط على المجتمع الدولي بشكل عام وعلى الدول الغربية تحديدا لإبعاد روسيا من جمعية الاتصالات المالية العالمية بين المصارف والمعروفة باسم (سويفت)، والتي توفر للبنوك مراسلات آمنة ومنخفضة التكلفة. وهذه ليست المرة الأولى التي يقوم بها العالم الغربي بـ«تسليح التمويل»، والضغط على الدول المناهضة لسياساته باستخدام النظام المالي العالمي، فقد سبق له القيام بذلك مع كوريا الشمالية وإيران وفنزويلا، ولكنه لم يقم بذلك قط مع دولة من مجموعة العشرين بحجم وإمكانيات روسيا.
وقبل الخوض في تبعات إبعاد روسيا من سويفت، يجب النظر في ماهية شبكة سويفت وهي المؤسسة في بروكسل ببلجيكا سنة 1973، والتي تعرف نفسها بأنها (مجموعة تعاونية محايدة، تم إنشاؤها وتشغيلها لتحقيق منفعة جماعية لمجتمعها المكون من 11 ألف مؤسسة من 200 دولة). وبعيدا عن وصفها بالحيادية وهو أمر قابل للأخذ والرد، فإن لسويفت دورا رائدا في القطاع المالي، فمنذ السبعينات الميلادية أصبحت بديلا لخدمة (التيليكس) في إرسال الرسائل وأوامر الدفع بين أطراف الحوالات المالية. ويقوم نظامها بمطابقة الأوامر بين الجهات المتداخلة بالعمليات لمصادقتها وتسويتها بين الأطراف المشتركة.
وتعتمد روسيا على هذا النظام بشكل مباشر، ويبلغ عدد الأعضاء الروس في سويفت 291 عضوا، يمثلون ما نسبته 1.5 في المائة من مجموع التدفقات المالية. وتحتل روسيا المرتبة السادسة عالميا في رسائل الدفعات في سويفت، ويتراوح متوسط الدفعات السنوية لها بين 600 و800 مليار دولار (وهو رقم مرتفع بالنظر إلى أن الناتج الإجمالي لروسيا بلغ 1.5 تريليون دولار عام 2020)، وتستخدم روسيا هذا النظام عند تصديرها لمنتجات الطاقة التي تشكل 40 في المائة من ميزانيتها الحكومية.
هذه الأرقام توضح مدى الاعتماد الروسي على سويفت، مما يعني أنها قد تتعرض لأضرار جمة في حال عُزلت بشكل كامل عن النظام. وقد وافقت أميركا وبريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والمفوضية الأوروبية مساء السبت على فرض عقوبات على البنك المركزي الروسي، وإخراج بعض البنوك الروسية من نظام سويفت، وعزلها بذلك عن النظام المالي الدولي.
ويمكن النظر إلى هذا الإجراء بأنه تصعيد غير مسبوق ضد دولة ضخمة مثل روسيا، حتى شُبه باستخدام السلاح النووي من الناحية المالية. وبوجود هذه العقوبات سوف يستعصي على البنك المركزي الروسي استخدام احتياطياته الأجنبية التي يزيد حجمها على 630 مليار دولار، وسيفقد قدرته على تسييل أصوله، وتعويض أي عقوبات مستقبلية، مما يعني زيادة احتمالية هبوط قيمة الروبل الروسي وزيادة التضخم.
ودون نظام سويفت، سيستحيل إتمام الدفعات للشركات الروسية بطريقة موثوقة وبالتوقيت المناسب، وإذا ما صُعد الصراع أكثر من ذلك فقد يكون من المستحيل أن يتم الدفع للمصدرين الروس على الإطلاق،
وقد تنقطع العلاقة تقريبا بين المؤسسات الروسية والأميركية. وسبق لروسيا عام 2014 (بعد دخولها شبه جزيرة القرم) محاولة استحداث نظام خاص بها يشابه سويفت، ولكنه لم ينجح بشكل كبير ولم يتجاوز عدد مستخدميه 400 مستخدم، ويُستخدم في الوقت الحالي للتعاملات المحلية، ولا يشكل أكثر من 20 في المائة منها. كما استحدثت الصين نظاما مماثلا، وبدأت دول (بريكس) وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا استحداث نظام بديل مشترك، إلا أن هذا النظام يحتاج إلى سنوات ليكون فعالا كما هو سويفت، ويبدو أن هذه السنوات قد تقل كثيرا في حال أقدمت الدول الغربية على استبعاد روسيا من نظام سويفت.
ولكن السؤال المطروح هنا، هل ستقوم الدول الغربية بعزل روسيا بشكل كامل عن نظام سويفت؟ الجواب قد يصعب كثيرا على الساسة الغرب، فهم يريدون تجميد الأرصدة الروسية لا المنازل الأوروبية التي تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي للتدفئة. واستبعاد روسيا من هذا النظام بشكل كلي يعني ارتفاع أسعار الطاقة على الأوروبيين الذين يستمدون أكثر من 35 في المائة من الغاز من روسيا، وهم الذين لم يتجاوزوا بعد أزمة الطاقة الحالية والتي أثرت سلبا عليهم رغم تدفق الغاز الروسي. وقد أبدت ألمانيا بالفعل تخوفها من أن يؤدي المنع إلى ارتفاع أسعار الطاقة، كما عُرف عن إدارة بايدن رؤيتها أن أضرار العزل التام سوف تطال دولا غير روسيا.
إن العزل التام لروسيا عن نظام سويفت لن يُبقي للدول الغربية أوراقا تمكنها من الضغط على روسيا في المستقبل. وهو قد يرمي بروسيا في أحضان الصين ويزيد تحالفها معها، لا سيما مع تعاطف الصين سياسيا مع اجتياح روسيا لأوكرانيا، هذا التعاطف قد يزيد نظام دول (بريكس) قوة، وهو ما قد يترتب عليه تقليل الاعتماد على الدولار الأميركي في تسوية المبادلات التجارية (في حال نجاح النظام الجديد). ولذلك فإن على تحالف من الدول الغربية البحث عن آلية تمكنه من معاقبة روسيا دون الإضرار بمصالحه، وهو ما يبدو صعبا للغاية بالنظر إلى أن أهم مصدر للميزانية الروسية هو أكثر ما يحتاج إليه الغرب.

د. عبدالله الردادي

الحروب الجيوإقتصادية تتقدّم على الجيوسياسية

يهتمّ كثير من الكتّاب والباحثين والصحافيين بالتنافس الجيوسياسي أكثر من اهتمامهم بالتنافس الجيو-اقتصادي. أصبحت اليوم الجيو-اقتصادية عاملاً مهمّاً في التنافس الجيوسياسي، بل تُستخدم الجيو-اقتصاديّة في كثير من الأحيان لتحقيق مآرب جيوسياسية. وقد يكون العكس صحيحاً أيضاً.

لكنّ أهميّة الجيو-اقتصاديّة تنبع من تراجع الحروب بين الدول. على الأقلّ إذا ما قيس بعدد الوفيات في الحروب. وعلى الرغم من أنّ هذه المقولة لها وجاهة، إلا أنّ البعض يراها خلافيّة لجهة القياس. لا يهمّنا الولوج في أدبيّات الموضوع بقدر ما يهمّنا بروز العامل الجيو-اقتصادي في العلاقات الدولية

 

كتاب “الحرب بوسائل أخرى: الجيو-اقتصاديّة وفنّ الحكم”، يُعرِّف الجيو-اقتصاديّة بأنّها “استخدام الأدوات الاقتصادية لتعزيز المصالح الوطنية والدفاع عنها، وتحقيق فوائد جيوسياسية، والتأثير على الأهداف الجيوسياسية للدول الأخرى من خلال الإجراءات الاقتصادية”.

ترى بعض الدول الكبرى أنّ الجيو-اقتصادية أقلّ كلفة من الوسائل العسكرية، على الأقلّ في المدى المتوسّط. ولا يسقط ضحايا من الدولة التي تفرض عقوبات اقتصادية بغية الوصول إلى مكتسبات جيوسياسية. ويبدو أنّ استخدام الأدوات الاقتصادية قد يكون باهظاً من الناحيتين الاقتصادية والمالية، إلا أنّ تكلفة وقوع ضحايا في الحروب لها مردودات سياسية سلبية أكبر على القادة السياسيين.

يذكر البعض أنّ مصطلح الجيو-اقتصاديّة وُلد من رحم نهاية الحرب الباردة التي أدّت إلى استخدام الأدوات الاقتصادية بدلاً من القوة العسكرية. وأصبح الاقتصاد هو المحرّك الأول للعلاقات الدولية والصراعات على المصادر الاقتصادية والأسواق التجارية. وعلى الرغم ممّا نرى من صراعات على مستوى متدنٍّ، مثل الإرهاب والحروب الميليشياوية، وبعض الحروب على الحدود بين الدول أو الحركات المسلّحة كما يحصل في إثيوبيا أو بين أذربيجان وأرمينيا، إلا أنّ التنافس الاقتصادي المحتدم بين الدول الكبرى والمتوسطة والصغيرة يشغل حيّزاً أكبر.

الرقائق الإلكترونية بدل السيوف

قال الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون، في كتابه “أغتنم الفرصة”، الذي نُشر في عام 1992، أي بُعيد الحرب الباردة، إنّه مع انتهاء الحرب الباردة أصبحت القوة الاقتصادية والجيو-اقتصادية أكثر أهميّة من القوة العسكرية والجيوسياسية: و”على أميركا ألا تضرب السيوف إلى محاريث [كما يقول الكتاب المقدّس]، بل إلى رقائق إلكترونية”.

 

لم يكن الاقتصاد يوماً غائباً عن الصراعات والتنافس الدولي، إلا أنّ القضايا الأمنيّة طغت على مجمل العلاقات الدولية. وفي فترة الحرب الباردة كان الصراع على كلّ المحاور السياسية والدبلوماسية والثقافية والعسكرية والاقتصادية والأيديولوجية، لأنّ الاتحاد السوفياتي كان يمثّل تحدّياً في كلّ المجالات، بل إنّ السوفيات يقدّمون أنفسهم كنموذج بديل للولايات المتحدة والغرب عموماً.

يُعتبر صعود الصين كقوة جيو-اقتصادية وازنة على مستوى العالم أحد أسباب تزايد الاهتمام بالجيو-اقتصاديّة. وتتخوّف الدول الغربية من أن يؤدّي التمدّد الاقتصادي الصيني، من خلال التجارة والاستثمار والمديونيّة والمساعدات الاقتصادية، إلى نفوذ جيوسياسي واسع في أطراف المعمورة. ولا تقدّم الصين نموذجاً أيديولوجيّاً بديلاً للتجارة الحرّة والانتقال السلس للرساميل، اللذين طالما تغنّت بهما الولايات المتحدة. بل إنّ الصين تستخدم الاقتصاد الحرّ للتوسّع الجيوسياسي. وقد تكون الصين بديلاً مهمّاً للغرب لأنّها لا تسعى إلى أن تفرض أجندتها السياسية أو أنماطها الثقافية. فهي شريك اقتصادي مريح لكثير من الدول التي تخشى تدخّل الدول الغربية، خاصة في ما يتعلّق بحقوق الإنسان من وجهة نظر غربية.

المواد الطبيعية كسلاح

شهدت المنطقة استخدام الموارد الطبيعية كسلاح في الصراعات الجيوسياسية في المنطقة. ولعلّ أشهرها يوم أعلن تاعتهل السعودي الراحل الملك فيصل وزعيمنا الراحل الشيخ زايد بن سلطان فرض حظر نفطي على الدول الداعمة لإسرائيل في حرب أكتوبر 1973. وقد كانت لتلك الخطوة آثارها الكبيرة في المفاوضات الدبلوماسية بين مصر والوسيط الأميركي هنري كيسنجر في فكّ الاشتباك بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية في سيناء.

على المنوال نفسه استطاعت الولايات المتحدة والدول الغربية جلب إيران إلى طاولة المفاوضات وتقديم تنازل في القضية النووية عبر سلسلة من العقوبات الاقتصادية التي تمّ فرضها على إيران. وقد مارس الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ما سُمّي بـ”الضغوط القصوى”، لإجبار إيران على تقديم تنازلات أكبر لتعديل الاتفاق النووي المبرم مع الإدارة السابقة في عام 2015.

وفي الوضع الحالي نرى كيف تهدّد الدول الغربية باستخدام الاقتصاد في ردع روسيا عن غزو محتمل لأوكرانيا. وتخشى الدول الغربية من ردّة فعل روسيا بأن تحظر تصدير الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية المعتمِدة على الغاز الروسي. وقد سعت واشنطن إلى تغطية الانكشاف الأوروبي أمام الضغوط الروسية بوقف تصدير الغاز، محاولةً التعويض من خلال إيجاد مصادر أخرى مثل قطر.

وإذا ما نجحت الدول الغربية في منع اندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا، فإنّ الكثيرين سيدعون إلى استخدام السلاح الاقتصادي بشكل متزايد بدلاً من القوة العسكرية. ولكن مهما يكن الأمر فإنّ الجيو-اقتصاديّة سلاح ذو حدّين قد تقطع مستخدِمها مثلما تقطع خصومه!

د. البدر الشاطري

المعادن المؤثرة في تحول الطاقة

 

 

يعتمد التحول من طاقة الهيدروكربون إلى الطاقات المستدامة على «معادن مؤثرة» في منتجات الطاقات المستدامة.
وتشير دراسة صادرة عن «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن» (مركز الدراسات) إلى أن توقعات «وكالة الطاقة الدولية» تشير إلى ازدياد استهلاك «المعادن المؤثرة» ستة أضعاف بحلول عام 2050.
وتشير دراسة «مركز الدراسات» إلى أن «المعادن المؤثرة» تضم أسواقاً متعددة منفصلة ومختلفة الواحدة عن الأخرى، خلافاً لأسواق النفط والغاز. فهناك مشكلة هيمنة الصراع الأميركي – الصيني على جيوسياسة «المعادن المؤثرة»، بالذات انعكاساته على دور شركات التعدين والسكان والمناطق حيث تتواجد هذه المعادن. من ثم، تقترح الدراسة أن الولايات المتحدة بحاجة إلى استراتيجية شاملة للتعامل مع ظاهرة «المعادن المؤثرة» التي ستزداد أهميتها مستقبلاً.
تتوقع الدراسة حدوث اختلال في ميزان العرض والطلب لهذه المعادن بنهاية هذا العقد (2030)، وبالأخص لمعدني الكوبالت والليثيوم. فالولايات المتحدة مثلاً تستطيع أن تنتج في أراضيها كميات أكبر مما يجري إنتاجه حالياً هناك من هذين المعدنين.
تطرح الدراسة السؤال الآتي: ما الذي تستطيع الولايات المتحدة عمله إضافة بهذا الشأن أكثر مما تقوم به حالياً لإنتاج «المعادن المؤثرة»؟
على سبيل المثال، شملت موازنة الرئيس الأميركي جو بايدن مخصصات لدعم رسم خرائط، طال انتظارها، لإعطاء صورة أدق عن مناجم هذه المعادن للمساعدة في معرفة أماكن تواجدها وحجم احتياطياتها أميركياً. لكن تبقى هناك مشاكل في استخراج هذه المعادن في مناطق معينة في الولايات المتحدة، حيث أراضي قبائل السكان الأصليين (الهنود الحمر) التي تحكمها قوانين خاصة بها، ما يتطلب موافقة هذه القبائل لعمليات استخراج الثروات الطبيعية من أراضيها.
إلا أن تجارب شركات التعدين في أراضي السكان الأصليين حتى الآن غير مشجعة، وتكتنفها الكثير من الخلافات ما بين الشركات والسكان الأصليين.
من ثم، سيتطلب من الحكومة الفيدرالية التدخل من خلال وسطاء تختارهم لحل المشاكل، كما أنه من الممكن تشريع قوانين الإنتاج ذات مستويات عالية من الجودة لتقليص التلوث في عمل شركات التعدين للمشاريع التي تمولها الحكومة الفيدرالية.
لكن الأمر لا يتوقف على الولايات المتحدة فقط، فهو ذو أبعاد دولية حيث من المتوقع حصول خلافات عديدة في دول متعددة ما بين الحكومات وشركات التعدين، بالذات مدى التزام الشركات بالأنظمة الصارمة بتصفير الانبعاثات (الحياد الكربوني).
عالمياً، ستتطلب الزيادة في استهلاك الطاقات المستدامة في القطاع الكهربائي: السيارات الكهربائية والبطاريات ذات التخزين العالي، ارتفاعاً ليس فقط في الطلب على «المعادن المؤثرة»، بل أيضاً إعارة اهتمام أوسع بوسائل تعدين حديثة وذات مستويات عالية من الجودة في القطاع الكهربائي، تتناسب مع تصفير الانبعاثات.
كما سيتوجب الأمر تنظيم سلسلة عمليات التصدير لضمان تدفق هذه المعادن بسلاسة دون انقطاعات. وبما أن إطلاق نظام طاقة جديد سيترتب عليه آلاف العقود الجديدة بين المنتجين والمستهلكين، سيكون من الضروري المحافظة على أنظمة حوكمة دقيقة لتجنب الفساد المستشري بالإضافة إلى الالتزام بتصفير الانبعاثات. ومن المتوقع أن تشكل هذه الخطوات لنظام الطاقة الجديد أولويات السياسة الخارجية للدول.
تتشكل المعادن المؤثرة من: الكوبالت، الليثيوم، النيكل، المنغنيز والنحاس. ومناطق إنتاجها المهمة حالياً ونسب الإنتاج هي كالآتي: النحاس (تشيلي 40 في المائة من الإنتاج العالمي)، بيرو (11 في المائة في المرتبة الثانية)، الصين (9 في المائة في المرتبة الثالثة).
الليثيوم (أنتجت أستراليا نصف الإنتاج العالمي في عام 2020)، تشيلي (22 في المائة).
النيكل (إندونيسيا في المرتبة الأولى مع إنتاج 30 في المائة)، الفلبين (13 في المائة في المرتبة الثانية)، روسيا (11 في المائة).
وتحصل جمهورية كونغو الديمقراطية حالياً ريعاً أكثر من مبيعاتها للنحاس من الكوبالت. وتنتج كوبا الكوبالت والأرجنتين والبرازيل الليثيوم. ومن الجدير بالذكر، أن هذه الأرقام والنسب تعكس صورة الوقت الحاضر، إذ إنه من المتوقع مع ازدياد الطلب على هذه المعادن، أن تزداد معها الاكتشافات في دول عدة.

 

وليد خدوري

الاقتصاد وتفاؤل حذر

 

تطورات الاقتصاد والمال لا يختلف عليها المحررون لاختيار الخبر الأول لنشرة الأخبار، ليحظى بأكبر وقت من التحليل أو حالة الصحافة المطبوعة، كمانشيت الصفحة الأولى. موضوع المانشيت يعرف بـsplash في شارع الصحافة الإنجليزي. و«سبلاش» تعني الطلاء (الدهان) الذي يغطي الواجهة بلون واحد، أصلاً من اندفاع الماء (طرطشة بالمصرية) ليغطي مساحة كبيرة. الاقتصاد والمال هما الاهتمام الأول (عند أي تغير في مسارهما) لمستهلك سوق الصحافة والأخبار، أي القارئ والمستمع والمتفرج، لما في ذلك من تأثير بالغ على حياته اليومية.
لم يكن الخبر الأول أزمة أوكرانيا وروسيا (كان وزير دفاع بريطانيا في موسكو، ورئيس حكومتها في شرق أوروبا وكذا قواتها)؛ ولم يكن الألعاب الشتوية في الصين؛ أو بدء ولي العهد الأمير تشارلز، أيام عزلة لإصابته بفيروس «كورونا» للمرة الثانية؛ أو التهديد للعالم بامتلاك إيران سلاحاً نووياً، ومصير مواطنين بريطانيين تحتجزهم طهران، أو حتى مصير بوريس جونسون كرئيس، وهل يستقيل كما تطالب الصحافة والمعارضة، أم ينجو بجلده ومنصبه؟
الخبر الأول والأكبر، كان نمو اقتصاد البلاد بمعدل سبعة ونصف في المائة في عام 2021؛ الأكبر والأسرع منذ 1941. أسباب عديدة وراء الاهتمام البالغ، فالاقتصاد البريطاني هو الأكبر والأسرع نمواً في الفترة نفسها في كل البلدان الصناعية المتقدمة، لكن التوقيت نفسه بالغ الأهمية، ويحتاج المزيد من التحليل والفحص.
تحليلات الاقتصاديين تمزج التفاؤل الحذر، بالتساؤلات، وبداية خلافات وربما صراعات أطرافها الحكومة وأصحاب الأعمال والمؤسسات والمستثمرون والاتحادات العمالية والنقابات المهنية.
توقيت نشر المكتب القومي للإحصاءات للأرقام جاء اليوم الأول لإجازة البرلمان كالمعتاد في هذا الوقت سنوياً (يعود للانعقاد في 21 من الشهر الحالي)، في ختام أسبوع عصفت فيه رياح غير مواتية بسفينة الحكومة. فبنك إنجلترا (المركزي) رفع أسعار الفائدة قبل أيام بسبب التضخم، متوقعاً تجاوزه معدلاته بنسبة 7 في المائة، وأهم الأسباب تضاعف أثمان البترول والغاز المستورد بضع مرات، وتأثيرها على أثمان السلع الأساسية والضروريات، أي انخفاض عام في مستوى المعيشة. كما أن وزير المالية والمعاملات التجارية، ريشي سوناك، مصرّ على زيادة في رسوم الضرائب ورسوم التأمينات الاجتماعية لمواجهة عجز هائل في الميزانية بسبب الإنفاق غير المتوقع لمساعدة العاملين والأعمال على مواجهة إغلاق «كوفيد» (وإن اتهمته المعارضة بزيادة الضرائب هذا العام ليخفضها بعد عامين استمالة للأصوات عشية الانتخابات البرلمانية في 2024).
خبراء بنك إنجلترا كانوا قد وجهوا نداءات وتحذيرات إلى مسؤولي الاتحادات العمالية قبل أسبوع، بعدم المطالبة بزيادة الأجور والمرتبات لمواجهة ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم المتوقعة، لأن ارتفاع الدخول يؤدي لزيادة القدرة الشرائية، فالإنفاق، وبالتالي يساهم في زيادة معدلات التضخم في دائرة مستمرة، فتحاول البنوك المركزية إبطاء دورانها برفع سعر الفائدة.
أكبر الاتحادات العمالية والمهنية (يونيسون)، الذي يمثل العاملين في القطاع العام والخدمات، اغتبط زعماؤه بالنبأ، ولأنهم سيطالبون بزيادة الأجورـ فمعدلات النمو، قد تزيد على معدلات التضخم. وبالنسبة للأخيرة، فإن جدل المطالبين بزيادة الأجور، أن ارتفاع التضخم سببه الرئيسي سلعة واحدة فقط من مجموعة سلع وخدمات كقياس للمقارنة بين فترتين. السلعة المقصودة ليست من الكماليات، ولا يمكن الاستغناء عنها وتؤثر على مستوى معيشة الجميع أغنياء وفقراء، وهي بالطبع أسعار الوقود – والتي يبدو ارتفاعها مؤقتاً. لكن كلمة «مؤقت» قد تعني شهوراً ستتجاوز السنة المالية التي خططت وزارة المالية لميزانيتها في الخريف الماضي. التطورات جددت جدلاً آخر بشأن أسعار الوقود، وضرورة تدخل الخزانة لتقديم المزيد من الدعم لمجابهة الزيادة في أسعار فواتير الطاقة المنزلية.
حزب العمال المعارض، يريد تمويل الدعم بفرض ضرائب استثنائية على شركات البترول والغاز، خاصة بعد أن حققت شركة البترول البريطانية أرباحاً في الفترة نفسها (2021) تقارب 13 مليار دولار، بينما تجاوزت أرباح منافستها، شل للبترول، 19 مليار دولار. العمال، والصحافة اليسارية، جددت المطالبة بالضريبة الاستثنائية الطارئة، بينما يحاول الاقتصاديون التقليديون، شرح معلومات (تتجاهلها أكثرية وسائل الصحافة)، أن حملة الأسهم في شركات الطاقة التي تزداد قيمتها من الأرباح ليسوا، بالتعبير الساخر «القطط السمان» (الذي يطلقه الاشتراكيون على «الرسمالي الجشع»)، وإنما هم صناديق استثمار مدخرات أصحاب المعاشات، والمؤسسات الخيرية، ومدخرات الاتحادات العمالية والمهنية (وبينهم الصحافيون المطالبون بالضرائب الاستثنائية)
سوناك، المسؤول عن اقتصاد بريطانيا، رفض، في مقابلاته يوم الجمعة، تعديل لائحة علاوات موظفي الحكومة والقطاع العام، لمواجهة زيادة الأسعار ومعدلات التضخم المتوقعة، والإبقاء على نسبتها في الميزانية، علاوة ما بين اثنين وثلاثة في المائة، وتعني نقصاً حقيقياً في القدرة على الإنفاق على الضروريات.
العامل الآخر الذي يعقّد من تحليل تأثير أفضل تطورات في أرقام الاقتصاد بالنسبة للحكومة البريطانية، وللشعب، أن معدلات النمو الاقتصادي الأفضل – سبعة ونصف في المائة ليس واقعياً تقدماً مطرداً، بل تعود فقط بالمستوى الاقتصادي إلى ما كانت عليه البلاد قبل عامين، في هذا الوقت بالتحديد من عام 2020، عشية الوباء الذي أغلق اقتصاد البلاد وعطل الإنتاج، وانخفض معدل النمو الاقتصادي بقرابة تسعة ونصف في المائة مع نهاية العام نفسه. وكان الرقم الأسوأ منذ 1919، والذي صادف أيضاً ارتفاعاً هائلاً في البطالة بعد تسريح الجنود في نهاية الحرب العالمية الأولى، إذ ارتفعت البطالة خمسة أضعاف من أقل من اثنين ونصف في المائة في 1919 إلى عشرة ونصف في المائة منتصف 1921.
الفارق اليوم، أن نسبة البطالة انخفضت إلى أربعة في المائة في نهاية العام الماضي (رغم إغلاق كثير من الأنشطة الاقتصادية بسبب الوباء) وهي مثل ألمانيا، وأفضل من فرنسا (ثمانية في المائة) ومعظم أوروبا، وهذا بدوره يؤدي إلى ارتفاع في الأجور، لأن الغالبية العظمي (84 في المائة) يعملون في قطاع خاص، أو لأنفسهم، مقارنة بـ16 في المائة في القطاع العام هم فقط من تستطيع الحكومة تحديد أجورهم.
فقط الأسابيع والأشهر المقبلة، وتطورات مواجهة الوباء، وتحريك حركة التجارة التي تعطلت بسبب الإغلاق العالمي، ومدى التغيير في أسعار المحروقات، ستحدد ما إذا كان التفاؤل الكبير بأخبار الاقتصاد يوم الجمعة مبكراً عن الأزمة أم سيترجم إلى واقع إيجابي؟

 

عادل درويش

صنبور الغاز الروسي

مع احتدام الأزمة السياسية بين روسيا وأوكرانيا، وحشد القوات من الطرفين على الحدود، بدا من الواضح أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا أقرب من أي وقت مضى، لا سيما مع تحذير الولايات المتحدة أن الاجتياح الروسي قد يكون الشهر المقبل. وهدد الغرب ممثلاً بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات واسعة النطاق على روسيا في حال الاجتياح. وقد لا تتضرر الولايات المتحدة كثيراً من أي قرارات انتقامية روسية، إلا أن الاتحاد الأوروبي منكشف وبشكل واضح بسبب احتياجه للغاز الروسي والذي يشكل 40% من استهلاك الغاز الأوروبي، فهل يستطيع الاتحاد الأوروبي فعلاً مواجهة روسيا بفرض عقوبات عليها مع ما تملكه الأخيرة من سلطة عليها؟
لمعرفة طبيعة الشراكة الأوروبية – الروسية في الغاز، تنبغي العودة لبداية الستينات الميلادية، ويمكن النظر إلى هذه العلاقة على أنها مرت بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى حين اتفق الطرفان على نقل الغاز من حقول سيبيريا السوفياتية إلى أوروبا مع ظهور تقنيات نقل الغاز لمسافات طويلة، بدعم من خبراء أميركيين، وكانت أوروبا قبلها تملك شبكات غاز محلية صغيرة خاصة في بريطانيا وهولندا، واستغرق الأمر ما يقارب العقد مع التعقيدات الشيوعية في الاتحاد السوفياتي حتى بدأ الغاز السوفياتي في التدفق لأوروبا. في هذه المرحلة لم تمانع أوروبا الاجتياح السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968 أي بعد بدء تدفق الغاز بفترة قصيرة لمحطة غاز النمسا.
المرحلة الثانية بدأت في السبعينات الميلادية، حين ذاقت أوروبا حلاوة الغاز الروسي؛ فكمياته كبيرة، وتكلفته منخفضة خصوصاً مع انتهاء الأعمال الإنشائية لخط الأنابيب، وهو كذلك صديق للبيئة بعكس الفحم. في هذه المرحلة بدأت أوروبا بالاعتماد بشكل كبير على الغاز الروسي دون أي محاولة منها لإيجاد بدائل. ولم تمانع أوروبا مواقف الاتحاد السوفياتي السياسية، فحين فرض الرئيس الأميركي (رونالد ريغن) عقوبات اقتصادية على الاتحاد السوفياتي عام 1981 بسبب تدخلها في بولندا، لم تفرض أوروبا عقوبات مثيلة، وطوّر الروس تقنيات لنقل الغاز بديلة عن تلك الأميركية وبدعم من دول أوروبية باعت لهم تقنيات أسهمت في هذا التطوير.
أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1990 حتى وقتنا الحاضر، وهذه المرحلة شهدت تقلبات سياسية كبيرة، منها سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك دول مثل يوغوسلافيا وما صاحبه من أحداث، وضعف الموقف الروسي حتى تولي الرئيس بوتين الحكم عام 2000 وعودة هيبة الروس، خلال هذه المرحلة تدخلت روسيا سياسياً في جورجيا وسوريا واجتاحت شبه جزيرة القرم، ومع هذا كله استمر الغاز الروسي في التدفق إلى أوروبا، حتى حين فرضت أوروبا عقوبات على روسيا وردّت روسيا بعقوبات مثيلة، لم يكن الغاز ضمن هذه العقوبات، واقتصرت العقوبات على السلع العسكرية وبعض التقنيات المدنية والمنتجات الزراعية. صحيح أن التبادل التجاري بين روسيا ودول مثل ألمانيا تأثر كثيراً وانتقلت روسيا من كونها أحد أهم شركاء ألمانيا إلى المركز الرابع عشر، إلا أن الغاز لم يُمسّ حينها.
هذه ثلاث مراحل تاريخية، كان للاتحاد السوفياتي أو روسيا سلوك عسكري لا يتوافق مع التوجه الأوروبي، ولكن مع ذلك لم تتأثر الشراكة بين الطرفين في قطاع الغاز، كأن الغاز مسألة لا تناقَش ومصلحة فوق النزاعات السياسية. ولكن التهديدات الأخيرة من الطرفين لمحت إلى أن الغاز قد يُستخدم كسلاح في هذه النزاعات، لا سيما مع تقليل كمية الغاز المنقول إلى أوروبا خلال الأشهر الأخيرة بقرار من بوتين.
وأوروبا تستورد الغاز من دول مثل الجزائر (8% من استهلاكها) وقطر (5% من استهلاكها)، إلا أن الغاز الروسي يمثل استهلاك دول بأكملها مثل دول البلطيق وبلغاريا. وبدائلها لا تبدو في ازدياد، فالإنتاج الآسيوي للغاز يرتبط بعقود طويلة الأجل مع دول آسيوية، وآسيا نفسها تشكل نحو ثلاثة أرباع الطلب العالمي في الغاز، أي إن الغاز فيها لا يكاد يكفيها. أما الشرق الأوسط فاستهلاك الغاز يزيد فيه بنسبة 4.6% سنوياً، مما يعني أن الغاز المتاح للتصدير يقل بشكل تدريجي. وفي حقبة الرئيس الأميركي ترمب حاولت الولايات المتحدة عرض نفسها كبديل متاح للغاز الروسي، ووافق ترمب في 2019 على زيادة صادرات الغاز لأوروبا. وفي الأسبوع الماضي تعهدت كل من أوروبا والولايات المتحدة بإيجاد بدائل للغاز في أوروبا، وسوّقت فرنسا للطاقة النووية كبديل متاح للطاقة.
إن لروسيا اليد العليا في العلاقة بينها وبين أوروبا، فحاجة أوروبا إليها أكبر، وخلال سنوات طوال حاول الخبراء تحذير أوروبا من الاعتماد الكلي على الغاز الروسي، إلا أن محاولات التنويع لم تكن ذات جدوى اقتصادية بسبب انخفاض تكلفة الغاز الروسي، وكانت الحلول السياسية بتعزيز العلاقة مع الروس أكثر نفعاً. والآن ومع وضوح احتياج أوروبا إلى روسيا، لا يبدو أن للأولى القدرة على مواجهة روسيا سياسياً، لا سيما مع إعلان أوروبا عن زيادة الاعتماد على الغاز للعقد القادم على الأقل وتقليل الاعتماد على الفحم. ومع أن قطع تدفق الغاز من روسيا لا يبدو محتملاً، إلا أن خفض الكمية قد يسبب صدمة في الطاقة في أوروبا، أكبر بكثير مما حدث فيها خلال الأشهر الماضية.

د. عبد الله الردادي