أرشيف التصنيف: المقالات العامة
الأسواق في دوامة كورونا والخشية من الأسوأ تتعاظم
من المنتظر الان ألا يهتم المتعاملون في السوق للبيانات الاقتصادية الأساسية في ظل الظروف الحالية الا اذا جاءت مؤكدة للمعنويات السلبية فتزيد حالة الهلع السائدة بفعل الاوضاع العالمية الناتجة عن انتشار فيروس كورونا والخشية من تحوله الى وباء عالمي.
انخفضت الاسواق مؤخرا باتجاه الدعم الرئيسي ومنها تخطاه ايضا.
مؤشر S&P 500 للاسهم الاميركية تجاوز خط ال 200 يوم ، واقفل دون المستوى يوم أمس، هذا قد يتسبب في استمرار كبار المستثمرين في البيع في الأيام القادمة.
تشير جلسة آسيا إلى أن الوضع لم يتغير.
ملفتة مداخلة الخبيرالاقتصادي روبرت شيلر الذي رجح ان تكون الحركة الحالية في الاسواق هي مجرد بداية واطلاق لحركة تصحيح حادة قد تبلغ ال 30 او ال 40% بصرف النظرعن مستجدات مسألة الفيروس.
الأسهم الأوروبية تراجعت ثلاثة بالمئة اليوم الجمعة، لتزداد توغلا في منطقة تصحيح منخفضة، في الوقت الذي يخشى فيه المستثمرون ركودا عالميا وشيكا مع انتشار فيروس كورونا في أنحاء العالم.ويتجه المؤشر ستوكس 600 الأوروبي صوب تسجيل أكبر انخفاض أسبوعي منذ ذروة الأزمة المالية العالمية في 2008. ودخل المؤشر مستويات تصحيح يوم الخميس، إذ انخفض عشرة بالمئة عن ذروة سجلها في الآونة الأخيرة، بجانب أسواق الولايات المتحدة وآسيا.
على جدول أعمال اليوم ، هناك بيانات عن التضخم الألماني ومؤشر انكماش نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي من الولايات المتحدة الأمريكية. خلاف ذلك ، يمكن للمشاركين في السوق أن يرصدوا باهتمام مؤشرات مديري المشتريات من الصين ، والتي من المقرر صدورها يوم السبت.
لم يكن بامكان بيانات منظمة الصحة العالمية ومؤتمر صحفي عقد مع الرئيس الأمريكي ترامب أن يخفف من حدة الخوف في السوق .
التحركات في سوق سعر الفائدة في اسواق الفيوتشرخلال الأسبوعين الماضيين كانت مختلفة جدا عما هي عليه الان.
في 14 فبراير ، كانت احتمالات خفض سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي في اجتماع مارس عند 10٪ فقط. الآن ، قام السوق بتسعير ذلك بالكامل والاكثرية الساحقة باتت تتوقع تخفيضا للفائدة.
وفي الوقت نفسه ، تم تسعير ما يزيد عن ثلاثة تخفيضات في أسعار الفائدة بشكل كامل للأشهر العشرة المتبقية من العام مع إجراء الخفض التالي في يونيو والثالث في سبتمبر.
رئيس المركزي الالماني يعتبر ان :
لا يمكن قياس او تقدير تأثير الفيروس على الاقتصاد الالماني بعد ولا بد من الترقب لفترة كيف ستتطور الامور. ولكن من المؤكد انه لا يمكن قياس او تقدير تأثير فيروس كورونا بعد ولا بد من الترقب لفترة كيف ستتطور الامور. ولكن من المؤكد انه سيكون للوباء في ألمانيا عواقب اقتصادية مباشرة في الوقت الحالي وفي توقيت لاحق متأخر.
إن هدف التضخم الحالي مفهوم وواقعي.
هناك حاجة إلى سياسة التكيف مع الواقع ولكن يجب ألا يغيب عن بال صناع السياسة النقدية ضرورة الخروج من سياسة نقدية فضفاضة.
وماذا عن اليورو؟
هو مستفيد عن التحول الحاصل على الدولار. تجاوز مقاومة ال 1.1000 باتجاه ال 10.35/50 او حتى ال 1080 وارد طبعا خاصة فيظل استمرارالرهانات على التحول الطارئ على مستقبل الفائدة على الدولار وارجحية تخفيضها بثلاث قرارات هذه السنة. تصحيح تراجعي باتجاه ال 1.0965 او ال 940 ممكن تصوره ايضا.
والنفط؟
بعد بلوغ خام برنت ال 50 د للبرميل ثمة من يراهن على استقرار للاسعاراو تصحيح لها ولكننا نقدربان يكون هذا التصحيح محدودا وغيرحماسي ما لم تصدرمؤشرات جديدة مطمئنة حول مستقبل الازمة المستجدة.
المفاوضات التجارية بين بريطانيا وأميركا
أمام بريطانيا أشهر صعبة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وذلك لإيجاد البدائل الاقتصادية بعد التغييرات المتوقعة لبريكست. وبريطانيا بدأت قبل حتى خروجها الرسمي بالبحث عن هذه الدول البديلة، فكانت أستراليا ونيوزيلندا من البدائل المحتملة وذلك للتقارب الثقافي، واليابان نظراً للتقارب الاقتصادي بينهما ووجود الحاجة المتبادلة، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال البديل الأكبر للاتحاد الأوروبي، خاصة مع تقارب التوجه السياسي بين دونالد ترمب وبوريس جونسون.
والولايات المتحدة حالياً هي الشريك الاقتصادي الأكبر لبريطانيا من دول خارج الاتحاد الأوروبي، فنحو 19 في المائة من الصادرات البريطانية تذهب للولايات المتحدة، و11 في المائة من الواردات إلى بريطانيا تستورد من أميركا. أما الناحية الاستثمارية، فقيمة الاستثمارات الأميركية في بريطانيا تربو على 750 مليار دولار، وعدد البريطانيين الذين يعملون في شركات أميركية في بريطانيا يزيد على مليون ونصف المليون موظف. ولم تخف هذه الشركات توجسها من بريكست وأثره المتوقع على الاقتصاد البريطاني، الذي سيكون سلبياً على الأقل في السنوات القليلة القادمة.
إلا أن إرادة الإدارتين البريطانية والأميركية ترحبان – ظاهرياً على الأقل – بمفاوضات اتفاق تجاري ضخم، يتمكن من خلاله البلدان بالتوصل إلى اتفاق تجاري نافع للطرفين، خاصة التقارب السياسي والثقافي وحتى التقارب النسبي الجغرافي. إلا أن عدداً من القضايا قد تسبب تعثراً في هذا الاتفاق، ولعل آخرها هو إعلان بريطانيا الاتفاق مع شركة هواوي الصينية لبناء شبكات الجيل الخامس في بريطانيا. ومعروف عن الولايات المتحدة عداءها لهذه الشركة الصينية، واتهامها بالممارسات غير الأخلاقية سواء تسريب المعلومات أو التجسس ونقل التقنية القسري وغيرها. وسخرت الولايات المتحدة نفوذها في عدة دول لمحاربة الشركة الصينية، وكان أشهر ما حدث في ذلك اعتقال المديرة المالية لهواوي على الأراضي الكندية ومحاولة نقلها للسجون الأميركية لمحاكمتها هناك. وقد نشرت «الفاينانشال تايمز» مؤخراً تصريحاً حصرياً، بأن الرئيس الأميركي بدا في شدة الغضب بعد معرفة هذا الاتفاق، وما أكد ذلك هو تصريح نائب الرئيس الأميركي بأن هذا الاتفاق قد يعرض المفاوضات البريطانية الأميركية للخطر.
وتحول بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للولايات المتحدة قد يستدعي تغييرها للعديد من توجهاتها؛ فعلى سبيل المثال، تطبق بريطانيا سياسة بيئية صارمة مستهدفة معايير بيئية طموحة في عام 2050، وبريطانيا إحدى الدول التي وقعت على اتفاقية باريس المناخية عام 2015، إلا أن الولايات المتحدة انسحبت من هذه الاتفاقية في الأول من يونيو (حزيران) 2017، ولم تبد أي اهتمام بها، لا سيما بعد التجاهل التام الذي أبداه الرئيس الأميركي دونالد ترمب للقضايا البيئية. وفي حال أرادت بريطانيا تسهيل دخول الاستثمارات الأميركية إليها، فقد تواجه خيارات شديدة الصعوبة تجاه القضايا البيئية. أما في القضايا السياسية، فيجب على بريطانيا البدء في توضيح مواقفها السياسية بشكل منفصل عن الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة تترقب هذا التوجه خاصة تجاه إيران. وقد تضطر بريطانيا إلى اتخاذ الموقف الأميركي نفسه تجاه العقوبات ضد إيران في حال أرادت تسهيل المفاوضات التجارية.
وعلى الجانب التجاري، فإن بريطانيا تطمح إلى تقليل الرسوم الجمركية مع الولايات المتحدة، إن لم تكن تطمح إلى أكثر من ذلك وهو إلغاء هذه الرسوم تماماً كما كان الحال مع دول الاتحاد الأوروبي. على الجانب الآخر، لا تبدو الولايات المتحدة مستعدة لهذه التضحية، وهي التي استخدمت سلاح التعرفة الجمركية ضد الصين في حربها الاقتصادية حتى مع ضخامة التبادل التجاري بينهما، وهو وضحه الرئيس الأميركي بكل فخر في وسائل التواصل، كما استخدمت أميركا ذات السلاح تجاه المكسيك وكندا قبل التوصل إلى اتفاق، وصعدت الرسوم الجمركية مع الاتحاد الأوروبي قبل ذلك.
إن العلاقة التجارية بين بريطانيا والولايات المتحدة على المحك، فبريطانيا تحتاج إلى حليف يقف معها في هذا الوقت، والولايات المتحدة لا تبدو بحاجة إلى هذا الاتفاق بقدر حاجة بريطانيا، وقد تحاول استغلال هذه الفرصة لمصلحتها من نواحٍ قد تتعدى النواحي الاقتصادية. ولذلك فقد تضطر بريطانيا إلى تقديم الكثير من التنازلات للولايات المتحدة حتى تستطيع تعويض الخروج من الاتحاد الأوروبي. ولا يبدو أن الوقت يسمح للكثير من المفاوضات، فبنهاية هذا العام، تنتهي الفترة المحددة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وتنتهي كذلك الفترة الأولى لرئاسة دونالد ترمب، وهو ما يجعل هذا العام حاسماً للعلاقة البريطانية الأميركية.
د. عبدالله الردادي.
مصدر قوة الاقتصاد الأميركي
يكتنف النمو المطرد للاقتصاد الأميركي – وهذه أطول فترة للنمو يسجلها الاقتصاد الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من دون ركود – قدر معتبر من الغموض. ففي الصيف الماضي، انعكس مسار منحنى العائد، الأمر الذي يعد من أكثر الإشارات موثوقية إلى وقوع تراجع وشيك. وتتوافر كل الأسباب المعقولة والمسوغة لأن يتحول الاقتصاد الأميركي إلى الأسوأ – فهناك جبل ضخم من ديون الشركات المتزايدة ذات المخاطر الكبيرة، مع التباطؤ المسجل في الاقتصاد الصيني، وحرب الرئيس دونالد ترمب التجارية، والضعف الملاحظ في الصناعات التحويلية، فضلاً عن زيادة حالات عدم اليقين بشأن السياسات الحكومية الراهنة، وما شابه ذلك من أسباب.
ومع ذلك، لم تظهر أمارات الركود الاقتصادي الأميركي في الأفق. فلقد التزم نمو الناتج المحلي الإجمالي بوتيرة شبه ثابتة بما هو أكثر من نقطتين مئويتين كاملتين – وربما هي النسبة الفضلى، في المتوسط، التي يمكن انتظارها في ضوء شيخوخة السكان وتباطؤ معدلات الإنتاجية العالمية.
لقد أصبحت سوق العمل الأميركية أقوى حالاً من أي وقت مضى باستثناء أواخر تسعينات القرن الماضي، حيث يتحصل العمال من مستويات جدول الدخل المنخفضة على زيادات حقيقية في الأجور.
ولكن، لماذا يتحسن الأداء الاقتصادي الأميركي على الرغم من كل الرياح المعاكسة؟ ربما يميل أنصار الرئيس ترمب إلى نسب الفضل للإصلاحات الضريبية التي أقرتها الإدارة الأميركية في أواخر عام 2017. ولكن هذا من غير المرجح قبوله. فإذا كانت التخفيضات الضريبية مع قانون الوظائف قد جعلا الاقتصاد الأميركي أكثر كفاءة، لأسفر الأمر عن ارتفاع معدلات الاستثمارات التجارية. بيد أن الأبحاث الاقتصادية لم تخلص إلا إلى قليل من التأثير، مع تراجع مشهود في الاستثمارات الخاصة الحقيقية من الربع الثاني وحتى الأخير من عام 2019.
ومن الممكن أيضاً أن يسفر تخفيض الضرائب عن زيادة في الاستهلاك من خلال ارتفاع الطلب الكلي. ولقد تقدم بول كروغمان بهذا الرأي لتفسير ثبات نمو الاقتصاد. ومن الصحيح كذلك في عهد الرئيس ترمب أن العجز قد ارتفع إلى مستويات لم يسبق لها مثيل منذ عام 2012.
ومن غير المرجح أيضاً أن يكون ذلك هو سبب الدفعة الكبيرة التي يشهدها الاقتصاد الأميركي. أولاً، كانت فوائد الإصلاحات الضريبية تتدفق في غالب الأمر إلى حسابات الأثرياء. ولا يميل الأشخاص الأكثر ثراء إلى تغيير أنماطهم الاستهلاكية كثيراً استجابة إلى التغيرات في الدخل، لأنهم، على العكس تماماً من الفقراء أو أبناء الطبقة المتوسطة، ليست لديهم احتياجات ملحة لسداد الديون أو تأمين ضرورات الحياة. كما تميل المحفزات المالية إلى انخفاض تأثيرها المباشر في فترات صحة تعافي الاقتصاد عنها في فترات الركود. وبالتالي، ربما نعتبر التخفيضات الضريبية قد قدمت قليلاً من المحفزات الحقيقية مع الارتفاع المشهود في العجز.
لذا، إن لم يُنسب الأمر إلى الإصلاحات الضريبية، فما سر تحرك الانتعاش الاقتصادي الأميركي على قدم وساق؟
لم تسفر أسعار الفائدة المتدنية حتى الآن عن طفرة معتبرة في اقتراض المستهلكين، وتظل نسبة ديون الأسر لقاء الناتج المحلي الإجمالي عند مستويات منخفضة ولا تظهر منها أي علامات على الارتفاع.
وربما يؤكد الرئيس ترمب أهمية حربه التجارية ومساعدتها في ثبات النمو الاقتصادي. غير أن الصادرات الأميركية لم تشهد أي ارتفاع خلال العام الماضي. وإذا كان المستهلك الأميركي يتحول من السلع المستوردة إلى السلع المنتَجة محلياً، فإن هذا التحول طفيف للغاية في حد ذاته.
ويشير الضعف الأخير المسجل في الاستثمارات التجارية، لا سيما في الصناعات التحويلية، إلى أن الولايات المتحدة لا تستفيد مباشرة من موجة إعادة التمويل من جانب الشركات المتعددة الجنسيات. وقد ارتفعت تكاليف العمالة الصينية، وأصبحت الصين من الوجهات الاستثمارية الأقل جاذبية لدى كثير من المستثمرين جراء الحرب التجارية، فضلاً عن سياسات الحكومة الصينية. لكن وحتى الآن، لا تقوم الشركات في الغالب إلا بتحويل إنتاجها الخارجي إلى بلدان أخرى منخفضة تكاليف العمالة مثل فيتنام بدلاً من إعادة الإنتاج بالكامل داخل الولايات المتحدة.
والحقيقة هي أنه لا يوجد دافع أو محرك واضح ومحدد للنمو الاقتصادي الأميركي. والتفسير الأكثر أرجحية يدور حول أن الاقتصاد الأميركي يمر حالياً بمرحلة من الأوضاع الطبيعية المتسمة بالملل!
ويميل أكثر الناس إلى التفكير في دورة العمل باعتبارها سلسلة من فترات الازدهار والانحسار المتناوبة. ويبدو أن السجل الاقتصادي يؤكد ذلك تماماً، مع فترات الركود التي تهاجم الاقتصاد الأميركي مرة واحدة كل عشر سنوات على الأقل. ولكن في حين احتمال وقوع ذلك بكل تأكيد، فإن أغلب نماذج الاقتصاد الكلي تصور الاقتصاد آلة إنتاجية تواصل العمل والإنتاج حتى تنتابها صدمة مروعة تبتعد بها عن بلوغ حد التوازن المنشود.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، شهد الاقتصاد الأميركي ثلاثة أنواع رئيسية من الصدمات التي حادت به عن الركب، وكانت في صورة الفقاعات والانهيارات المالية الجسيمة، أو ارتفاع أسعار الفائدة من قِبل بنك الاحتياطي الفيدرالي، أو الزيادات الكبيرة في أسعار النفط العالمية. ولا شيء من هذه الأسباب يهدد الاقتصاد الأميركي في الآونة الراهنة. ولا يبدو أن ارتفاع الإقراض المحفوف بالمخاطر كبير بدرجة تكفي لإشعار أزمة مالية جديدة. وربما تحول الذكريات المؤلمة للأزمة المالية العالمية لعام 2008 من الإفراط في التكهن بمستقبل الأسهم والإسكان، في حين أن الإصلاحات المالية لقانون «دود – فرانك» وتداعيات الكارثة المالية السابقة ربما تعوق المؤسسات المالية عن تكثيف المخاطر المفرطة. وفي الأثناء ذاتها، تعتبر أسعار النفط وأسعار الوقود مختلفة عن مستوياتها المعتدلة، كما عكس بنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 2019 بعضاً من زيادات أسعار الفائدة خلال السنوات السابقة. ولقد حققت حرب الرئيس ترمب التجارية بعض المنافع، ولكن التأثير الحقيقي حتى الآن كان طفيفاً في قطاعات مهمة مثل قطاع الزراعة.
لذلك، لدى المستهلكين في الولايات المتحدة سبب بسيط للتوقف يمنعهم من الاستهلاك. فلقد انخفضت مستويات الاستهلاك لديهم منذ الأزمة المالية، مع تواضع تقديرات منازلهم من حيث قيمتها النقدية، مع ارتفاع ملحوظ في الأجور بمعدل معتبر، ومعاشاتهم التقاعدية على ما يرام حتى الآن. وباستثناء وقوع أزمة مالية جديدة، أو الانهيار الصيني الكبير، أو الانعكاس الحاد من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، أو التدخلات الأكثر صرامة من جانب الإدارة الأميركية، فمن المتوقع للاقتصاد الأميركي أن يواصل الإبحار في أمان.
2035 ونهاية ثروات الخليج
هناك ولع لدى الاقتصاديين والمحللين بالأرقام، حتى عندما يتوقعون حدوث كارثة، فإنهم يختارون رقما مميزا للعام الذي ستقع فيه هذه الكارثة، ولهذا هناك سيناريوهات كثيرة تتنبـأ بوصول الطلب على النفط إلى ذروته في عام 2030 أو 2035 أو 2040. ومن النادر أن نرى عام 2037 أو 2031 في هذه السيناريوهات.
عموماً خرج صندوق النقد الدولي بدراسة جديدة يتوقع فيها نضوب الاحتياطيات المالية لدول الخليج في عام 2035، أي بعد 15 عاماً، بسبب تراجع المداخيل من النفط والغاز، وقلة وتيرة الإصلاحات الاقتصادية. وإذا كنت شخصا متشائما بطبعك وتحب سيناريو نهاية العالم فإن عناوين الأخبار يوم الأربعاء الماضي تقول إن بريطانيا قررت حظر مبيعات السيارات الجديدة التي تعمل بالبنزين والديزل ابتداءً من عام 2035، أي قبل خمس سنوات مما كان مخططا له. وبريطانيا ليست إلا دولة من الدول الأوروبية التي تسير في هذا الاتجاه لمكافحة التغير المناخي.
إذن ما هو موقف المواطن الخليجي الذي يقرأ كل هذه الأخبار؟ المواطن الخليجي العادي سوف يشعر بالقلق، ولكن هذا القلق لا يجب أن يكون مبالغا فيه إذ أن هذه السيناريوهات والتوجهات والسياسات لا تعني أن ما يتم تنبؤه سيقع بهذا الشكل السريع والمأساوي.
ودعونا نبدأ في شرح الأسباب وراء عدم اقتناعي بكل ما يقال من حولي. أولاً إن تقرير صندوق النقد الدولي مبني على نظريات ومعادلات اقتصادية (إيكونوميتركس) تتنبأ بسيناريوهات لتراجع الطلب على النفط ووصوله إلى الذروة عند 115 مليون برميل يومياً في 2041 ليبدأ بعدها الهبوط في الطلب، والذي يدعمه تراجع النمو السكاني العالمي من 1.1 في المائة في 2018 إلى 0.6 في المائة بحلول 2046. كل هذا لا بد أن ينعكس على نمو إجمالي الناتج المحلي للفرد، والذي سيهبط إلى 1.8 في المائة في المدى الطويل من 3.2 في المائة في العقد القادم.
وإذا نظرنا إلى تقرير الصندوق الذي يقع في 55 صفحة وإلى كل التحليلات التقنية فيه عن النفط، فإننا ننظر إلى تقرير نظري لأشخاص غير فنيين عندما يتعلق الأمر بالنفط. ولكن هذا لا يعني أننا نرفض هذا التقرير، ولكنه بالنسبة لي مجرد وجهة نظر أخرى تدعو إلى الأخذ بجدية والتفكير في هذه السيناريوهات، ولكن لا أستطيع الجزم بأن ما يذكره هذا التقرير أو غيره عن المستقبل سيقع لا محالة.
وإذا نظرنا إلى الحلول المقترحة، فإن الصندوق ليس لديه سوى حزمة معروفة من الحلول يقترحها لكل الدول في العالم منذ عقود، وقائمة على تحرير الاقتصاد ورفع مداخيل الدولة من الضرائب وتقليل الدعم الاجتماعي. كل هذه الحزم لا يعني بالضرورة أنها مناسبة لدول الخليج. وتظل المخاطر قائمة خصوصاً للدول الخليجية التي لم تتخذ إصلاحات كبيرة، ولا يبدو أنها سوف تتخذ إصلاحات كبيرة في الأعوام الخمسة القادمة. ولكن هناك دول قطعت شوطا كبيرا في رحلة التحول إلى اقتصاد غير نفطي، وهنا أشير إلى المملكة العربية السعودية تحديداً والتي اتخذت حزما كبيرة جداً من الإصلاحات الاقتصادية والتي قد تأخذ وقتاً طويلاً لتؤتي ثمارها نظراً لأن أي تحول اقتصادي يأخذ أعواماً عديدة.
أنا مؤمن أن السعودية على الطريق الصحيح حتى وإن كانت الإصلاحات سوف تأخذ وقتاً، والجميع يرى كيف أن النمو الاقتصادي عاد للتحسن والحركة التجارية تحسنت تدريجياً وميزانية الدولة في وضع جيد رغم تراجع المداخيل النفطية في السنوات الأخيرة. وأصبح الفساد محدوداً بشكل كبير بعد حملة مكافحة الفساد، وهناك ضبط واضح في الإنفاق.
كل هذا حدث مع تضحيات كثيرة وتغيرات كبيرة على المجتمع. وما يزيد تفاؤلي هو تحسن آلية العمل في القطاع العام ووجود معايير لقياس الأداء الحكومي. إلا أن هذا لا يعني أن المملكة وصلت إلى هدفها، ولا يزال العمل الذي تحتاجه جباراً خصوصاً أن القطاع الحكومي لا يزال مليئا بالحرس القديم الذي تعود على قلة الإنتاجية، ولكن كل هؤلاء مصيرهم الخروج من سوق العمل خلال خمس إلى 10 سنوات ليفسحوا المجال للشباب القادمين من الخارج بعد إكمال تعليمهم أو من القطاع الخاص. هؤلاء هم سر نجاح التجربة الاقتصادية السعودية في الأعوام القادمة، وإذا ما أضفنا إلى هذا السياسات الحكومية المتبعة حالياً فإن الوضع مشرق بالنسبة للاقتصاد.
أما مستقبل النفط السعودي، فسيعتمد بشكل كبير على التطور التقني في كيفية استخراجه ومعالجته وتطوير سبل أفضل لإطالة عمر الطلب عليه، وهو ما تعمل أرامكو عليه كذلك مع شركات السيارات العالمية أو من خلال البحث والتطوير لرفع معدلات الاستخلاص للحقول والمكامن. ويبقى الوضع بالنسبة لي غير واضح في باقي دول الخليج، إذ أن هناك دولا القطاع الخاص فيها متضخم ولا يوجد نمو خارج القطاع النفطي وكل عوامل الفشل الاقتصادي المستقبلي قائمة هناك، ولعل هذه الدول عليها العمل أكثر من غيرها والأخذ بتوصيات صندوق النقد الدولي أو غيرها من بيوت الاستشارة. إن القطاع غير النفطي الخليجي لا يزال غير متكامل، ولا توجد شراكات كبيرة بين دول الخليج في مشاريع غير نفطية، ولعل هذا أمر يجب التفكير فيه لخلق سوق خليجية قوية ومرنة.
وائل مهدي
بريطانيا تخرج من أوروبا… إلى ماذا؟
تحقق هذا الأسبوع حلم أطراف كثيرة. ففي الليلة الأخيرة من الشهر الأول في العام العشرين من الألفية الثانية، أعلن بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا استعادة البريطانيين هويتهم. تركها البريطانيون قبل سبعة وأربعين عاماً وديعة لدى الأوروبيين في تجربة هي الأولى، ولعلها ستكون الأخيرة، في تاريخ التاج البريطاني، التاج الذي خضعت لقوانينه وقواعده على امتداد قرون، شعوب وأراضٍ لا تغرب عنها الشمس.
بريطانيا التي تعتنق الواقعية منهاجاً لحياتها ومنسقاً لسلوكها، والتي قررت قبل ثلاثة عقود التنازل عن هويتها لأسباب واقعية، تعود اليوم لتعلن أنها نادمة، وأنها لأسباب أخرى – واقعية أيضاً – تقرر نزع الهوية الأوروبية، واستعادة هويتها البريطانية. إنه حقاً، بالنسبة لملايين من البريطانيين، ليوم مجيد، يوم «التجديد الوطني».
لم يكن المهللون بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هم البريطانيين فحسب. آخرون في داخل أوروبا وخارجها رحبوا وهللوا، باعتبار أن مساعيهم وخططهم لتحقيق هذا الخروج كُللت بالنجاح، أو ليكون إخراج الخروج لائقاً بأهمية الحدث، أو ليصبح هذا الخروج محفزاً لدول أخرى أعضاء في الاتحاد الأوروبي لاستعادة هويتها، فتخرج بدورها من أوروبا. هلل مسؤولون أميركيون، وخصوصاً الرئيس دونالد ترمب، الذي لم يُخفِ يوماً كرهه الشديد للاتحاد الأوروبي. كان ترمب خلال زيارته الأخيرة للمملكة المتحدة صريحاً في الإعلان عن تشجيعه رفاقه من المحافظين البريطانيين، للتعجيل بالخروج من أوروبا. قدم وعوداً ولمَّح بالنية في المساهمة في تطوير نظام الرعاية الصحية المعمول به في بريطانيا، كبداية لتعاون اقتصادي وتجاري شامل.
من ناحية أخرى، كان طبيعياً أن يكون الروس في مقدمة المهللين للقرار البريطاني. لم تكن روسيا في أي يوم من تاريخها حريصة أو محبذة لأوروبا موحدة، وبالتأكيد لم ترحب بانضمام بريطانيا إليها. يعرف الروس أن بريطانيا ملتزمة الولاء لأميركا كقائد للغرب، وقد بذلت في سبيل جذب أميركا إلى لعب هذا الدور جهوداً كبيرة، واستخدمت قبل الحرب العالمية الثانية ضغوطاً متنوعة. بمعنى آخر، وفي مرحلة معينة وفي مواقع معروفة، مثل بون عاصمة ألمانيا الغربية، وواشنطن الأميركية، كان ينظر إلى الوجود البريطاني داخل أوروبا كعنصر مهم من عناصر تأكيد اللحمة الأميركية الأوروبية. ساد الاعتقاد في ذلك الحين بأنه من دون بريطانيا في دور «اللحام» في العلاقة الأطلسية لما تولدت في الغرب العزيمة التي وحدت صفوفه خلال الحرب الباردة. أذكر جيداً كيف أن الانضمام البريطاني للوحدة الأوروبية لم يكن سهلاً؛ بل لعله كان في صعوبة الخروج الذي عشنا تعقيداته خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة. وقتها جرت مساعي الانضمام وسط شكوك لا يقدر مداها سوى من عاش المرحلة، أو قرأ تاريخ أوروبا الدبلوماسي والعسكري خلال القرون الأخيرة.
لم تكن بريطانيا في الحقيقة، أو في أي يوم في قرون ما قبل الحرب العالمية الأولى، طرفاً أوروبياً، إنما كانت القوة الموازنة المتعالية دائماً على القوى الأوروبية المتصارعة غالباً. رأينا كيف وقف الجنرال ديغول متشدداً ضد انضمام بريطانيا، وإنْ جزئياً ومتقطعاً، بينما كانت الولايات المتحدة – وهي ليست عضواً – الأشد حماسة والأكثر سعياً لتحقيق هذا الانضمام.
***
لمن تعود بريطانيا بعد أن يكتمل خروجها من أوروبا؟ تخرج إشارات من واشنطن تدعمها إشارات أخرى صادرة من مراكز بحوث وجماعات عصف فكري، تترك الانطباع بأن العالم الذي صرنا بصدد الولوج فيه، سوف يعيش تحت قيادة قطبين: أحدهما الولايات المتحدة، والثاني الصين، ولا مكان لقطب ثالث.
تكاد الإشارات لا تترك فرصة تمر دون أن تنبه إلى أن روسيا يجب ألا تطمح لدور قيادة في العالم الذي نحن بانتظار انفلاجه. كذلك لا دور ينتظر كتلة أو تجمعاً أوروبياً أو في أي قارة أخرى. نعم، للهند دور تستحقه، ولكن كعضو متميز في إطار حلف إندوباسيفيكي، تقوده أميركا، هذا إنْ أرادت الهند حماية نفسها من أطماع توسع صينية في بحار جنوب آسيا، أو أرادت هي نفسها ممارسة التوسع المحدود على حساب الغير.
غير خافٍ أن دولاً غير قليلة العدد، من نوع القوى المتوسطة الحجم والنفوذ والقوة العسكرية، دخلت ساحة التنافس «شبه الاستعماري» في مناطق جوارها المباشر، وبعضها راح إلى مناطق أبعد. أكتب هنا عن إيران وتركيا وإسرائيل والهند، ودول عربية، ودول في أفريقيا، تجرب حظها. في كل الأحوال أظن أن الولايات المتحدة كقطب ساعٍ لتشكيل قطبية ثنائية مع الصين، له فيها امتيازات بفضل الأقدمية والخبرة، لن يسمح للهند أو روسيا أو إيران، أو لأي قوة توسعية، بتكوين تكتلات إقليمية تحت أسماء مختلفة. مثلاً، الحلم الأوراسي في منظوره الصيني الروسي يبقى بعيد المنال، وإن بدا الآن ممكن التحقيق بفضل التقدم الذي تحققه شبكة البنية التحتية التي تنسجها الصين بكل الصبر الممكن والاستثمارات الوفيرة والتقدم التكنولوجي، وبفضل العزيمة البوتينية الفولاذية التي تريد الاستفادة منه.
تخرج بريطانيا من أوروبا في وقت صعود حركتي القوميات والشعبويات. لا شك في أنها استفادت منهما ومن تشجيع الرئيس ترمب لهما. غريب أن نرى بريطانيا في صف واحد مع القوى والتنظيمات الأوروبية القومية، وهي التي سبق وحاربتها على امتداد القرون الحديثة. من ناحية أخرى، نتوقع أن تعود بريطانيا لاعباً أساسياً في التكالب الجديد على ثروات أفريقيا والشرق الأوسط، وهو التكالب الذي قد يتسبب قبل أي عامل آخر في مزيد من الشقوق في بنى الوحدة الأوروبية. من ناحية ثالثة تأمل بريطانيا في التوصل بسرعة لاتفاق تجارة حرة مع أميركا وأستراليا كما وعدتا. تأمل أيضاً في الاحتفاظ قدر الإمكان بالسوق الأوروبية وعمال أوروبا.
بحماسة شديدة، احتفل البريطانيون في ليلة الخروج بالتنازل عن الهوية الأوروبية، لصالح هوية ليست تماماً الهوية التي تخلوا عنها قبل سبعة وأربعين عاماً. البريطانيون يخرجون اليوم من أوروبا والهوية الأوروبية إلى هوية مركبة، هوية أفرو – آسيوية – أنغلو – سكسونية، كانت هي بلا شك العامل المؤثر أكثر من غيره في التحريض على الخروج من أوروبا.
جميل مطر
عوامل مؤثرة في أسواق النفط
تتباين الآراء والتوقعات حول ميزان الطلب والعرض النفطي خلال المرحلة القريبة المقبلة، وبالذات قبيل اجتماع المجلس الوزاري المقبل لمنظمة «أوبك» خلال شهر مارس (آذار) المقبل. فهناك خلافات في الرأي حول مدى التأثير السلبي للمفاوضات التجارية الأميركية – الصينية على الطلب على النفط، رغم التوصل إلى الاتفاق المرحلي الأول للاتفاق التجاري في منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الجاري.
أثارت هذه المفاوضات الخوف في الأسواق العالمية من إمكانية نشوب حرب تجارية ما بين أكبر دولتين اقتصاديتين في العالم واحتمال توسع آفاقه ليمتد إلى حروب اقتصادية أخرى ما بين الولايات المتحدة ودول أخرى، نظراً للطريقة التي يدير بها الرئيس دونالد ترمب المفاوضات التجارية بالتهديد والوعيد إلى أن يتحقق من اكتساب مواقع جديدة للولايات المتحدة. وقد فتح ترمب أبواب المفاوضات التجارية هذه مع الصين ودول السوق الأوروبية المشتركة. كما أعاد بحث وتعديل اتفاقات النافتا مع الجارتين كندا والمكسيك.
أثارت هذه المفاوضات المتعددة الصخب الإعلامي التي صاحبها الانطباع بأن الولايات المتحدة كانت الطرف الخاسر في كل منها، من ثم أعلن الرئيس ترمب أنه قد آن الأوان لتعديل نصوص هذه الاتفاقات لصالح الولايات المتحدة. وكما هي عادة الرئيس ترمب المعهودة وغير المألوفة في السياسة الدولية، على الأقل بالنسبة للدول الكبرى، في إلقاء اللوم – لما وصفه بـ«سوء» مجمل هذه الاتفاقات – على تقصير وأخطاء الرؤساء السابقين، بالذات مسؤولية الرؤساء الديمقراطيين، أثار هذا التخوف الذعر في الأسواق، وقد أدى إلى انكماش الاقتصاد العالمي خلال هذه المرحلة، الأمر الذي يتوقع البعض أنه سيلقي ظلاله على الطلب النفطي.
كما يسود الحذر الأسواق النفطية هذه الأيام أيضاً من المخاطر المترتبة على نشوب فيروس كورونا في الصين وانتشاره إلى دول أخرى بسرعة. وبما أن إحدى إجراءات الوقاية، كما بادرت السلطات الصينية باتخاذها هي الحجر على مدن بأكملها والتحذير من السفر، خاصة، الجوي منه، فتتخوف الأسواق من انكماش حركة السفر الجوي خلال الفترة المقبلة، إلى أن يتم التأكد من القضاء على الفيروس واضمحلال خطورة انتشاره السريعة والواسعة. من ثم، التخوف من انكماش الطلب على السفر الجوي والسياحة.
تتباين التوقعات حول حجم انخفاض الطلب على كل من هذين العاملين، كساد الاقتصاد العالمي بسبب مخاوف الأسواق من مخاطر حروب تجارية تقلص حجم التبادل التجاري. كذلك، ما هو مدى انخفاض السفر الجوي وما هو تأثير هذا الانخفاض في حال حصوله على الطلب العالمي للنفط. لكن، لا تنحصر التباينات في التوقعات على مدى إمكانية انخفاض الطلب على النفط. فهناك أيضاً وفي الوقت نفسه، احتمالات مختلفة حول مدى زيادة إمدادات النفط الصخري الأميركي.
تشير التوقعات إلى أن زيادة الطلب على النفط خلال العام الجاري تقدر بنحو مليون برميل يومياً، بينما زيادة الإمدادات تقدر بنحو مليوني برميل يومياً، بما معناه أن العرض سيفوق الطلب نحو مليون برميل يومياً، ولربما حتى أكثر، حسب بعض التوقعات.
من الملاحظ أن معظم الإمدادات النفطية الإضافية خلال عام 2020 ناتجة عن احتمال زيادة إنتاج النفط الصخري الأميركي نحو مليون برميل سنوياً، مما يعني أن نصف زيادة الإمدادات النفطية من خارج أقطار منظمة «أوبك» هي من الولايات المتحدة. ومن الجدير بالذكر أن إنتاج النفط الصخري الأميركي قد ازداد إلى نحو 7 ملايين برميل يومياً، ليصل مجمل إنتاج النفط الأميركي (التقليدي والصخري) نحو 13.5 مليون برميل يومياً، أي أن إنتاج الولايات المتحدة قد ارتفع إلى مصاف إنتاج الدولتين النفطيتين الكبريين، السعودية وروسيا.
هناك خلاف في الآراء حول صحة التوقعات بازدياد إنتاج النفط الصخري الأميركي نحو مليون برميل يومياً خلال كل سنة من أعوام النصف الأول من عقد العشرينات، وابتداء من عام 2020. هذا التباين في الآراء مطروح في دراسات وتوقعات كبرى شركات النفط الأميركية، هذا بالإضافة إلى خلافات التوقعات ما بين إدارة معلومات الطاقة الأميركية التابعة لوزارة الطاقة الأميركية ووكالة الطاقة الدولية من جهة، ومنظمة «أوبك» من جهة أخرى. يكمن الخلاف حول عدة أمور: مدى حجم الاكتشافات التي تم تحقيقها فعلاً في حوض برميان العملاق الذي يمتد في كل من ولايتي تكساس وأريزونا. هناك بعض التقديرات التي تشير إلى أنه قد تم اكتشاف نحو مليون برميل من النفط الصخري في هذا الحقل، وأن هذه الإمدادات جاهزة للإنتاج وحتى التصدير، في حال تشييد البنى التحتية اللازمة من أنابيب وخزانات وموانئ تصدير، وأن تشييد البنى التحتية اللازمة هو قيد التنفيذ وأنه سيتم استكمال جزء كبير من هذه المنشآت خلال هذا العام، وسيتم استكمال بقية البنى، بالذات التصديرية منها، خلال العام المقبل. والسؤال: متى سيتم الانتهاء من تشييد جميع هذه المنشآت؟ هل سيتحقق هذا خلال النصف الأول من العام، أو في نهاية عام 2020؟
برز مؤخراً عامل إضافي تتباين حوله التوقعات بالنسبة لحجم الإمدادات المتوقعة في الأسواق خلال الربع الأول من العام أو خلال عام 2020. وهذا العامل الجديد هو تدهور الأوضاع السياسية في ليبيا، رغم قرارات مؤتمر برلين. لقد تحول الصراع في ليبيا ما بين نزاع مناطقي وعشائري داخلي، إلى صراع إقليمي متعدد الأطراف لكل منها جماعات مسلحة تتصارع على الأراضي الليبية. أدت هذه النزاعات مؤخراً إلى إقفال عدد من الحقول (الشرارة والفيل)، وإلى توقعات تشير إلى احتمال انخفاض الإنتاج النفطي الليبي من نحو 1.5 مليون برميل يومياً إلى أقل من 100 ألف برميل يومياً، وإلى إغلاق أعداد أخرى من موانئ التصدير، بالإضافة إلى تلك التي تم إقفالها مؤخراً في المنطقة الغربية من البلاد.
من المتوقع أن يدرس الاجتماع الوزاري لمنظمة «أوبك» في اجتماعه المقبل في شهر مارس ما إذا كان يتوجب على المنظمة وحلفائها من المنتجين غير الأعضاء في المنظمة تمديد سياسة تخفيض الإنتاج المعمول بها. وفي حال التمديد، وهو الأمر المتوقع، ما هو معدل تخفيض الإنتاج للفترة المقبلة؟ سيؤثر التباين في التوقعات على القرار الذي ستتخذه المنظمة وحلفائها (بالذات روسيا). وسيكمن التحدي في تباين المعلومات ومصالح الدول المعنية.
وليد خدوري.
لا تنخدع بعذوبة الوداع الودي لـ«بريكست»
اتفقت المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي على الكثير من الأمور مؤخراً. لكن كلاهما سوف يحظى بالوجود في هذا العالم متحررين عن بعضهما البعض.
تبعد المسافة بين لندن وبروكسل حوالي ساعتين بالقطار، ولكن في يوم الجمعة؛ اليوم الذي تغادر فيه المملكة المتحدة رسمياً عضوية الاتحاد الأوروبي، استشعرت المدينتان الانفصال الحقيقي عن بعضهما البعض.
اقام البريطانيون احتفالات «بريكست»، التي تشبه تحرر الدولة المستعمرة المضطهدة من نير الحكم الإمبريالي البغيض. ولقد سُكّت عملة معدنية جديدة تذكاراً لهذه المناسبة، تحمل عبارة «السلام، والازدهار، والصداقة لكل شعوب الأرض». وكان هناك عرض ضوئي للاحتفال باستعادة المملكة المتحدة لاستقلالها. وليس مهماً أن المملكة المتحدة لم تعتمد عملة اليورو الأوروبية، وهي ليست جزءاً من منطقة «شنغن» لحرية الانتقال بين الحدود، ووفقاً لاختبار الجنسية البريطاني الخاص، كانت آخر مرة تعرضت فيها المملكة المتحدة للغزو في عام 1066. وجرى تعليق شعار «استعادة السيطرة مجدداً».
يرى المسؤولون والدبلوماسيون، الذين يقودون سياسات الاتحاد الأوروبي المؤلف من 27 دولة، الأمور من منظور مختلف بعض الشيء. فلاعملة جديدة، أو عرض ضوئي، وإنما الكثير من الشعائر الجنائزية! فهذه هي المرة الأولى التي تغادر فيها دولة من كبار أعضاء الاتحاد، وإنها خسارة كبيرة بكل المقاييس: فسوف تغادر بريطانيا بصحبة 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، مع 40 في المائة من القوة العسكرية، فضلاً عن 13 في المائة من سكان أوروبا. ويعتبر «بريكست»، «كارثة جيوسياسية هائلة»، على حد وصف وزير المالية الهولندي فوبكي هوكسترا، وهو «خسارة كاملة المعالم»، وفقاً لما قاله ميشيل بارنييه كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، ودوَّنه في مسندات الانفصال.
وتبدو الهتافات والدموع شديدة التطرف للوهلة الأولى لدى الجانبين، مع الأخذ في الاعتبار النذر اليسير من التغييرات التي شهدها الواقع يوم الجمعة. إذ تعني اتفاقية الانتقال التي جرى إبرامها، جزءاً من الخروج البريطاني من عضوية الاتحاد الأوروبي، أنه في غضون الـ11 شهراً المقبلة، سوف يتم التعامل مع المملكة المتحدة كما لو أنها لا تزال جزءاً من الاتحاد الأوروبي (على الرغم من تراجع الوجود الرسمي البريطاني في بروكسل). وسوف تستمر حرية حركة السلع ورأس المال والعمالة، كما كانت من قبل. ومن المحتمل أن تشهد محادثات اتفاقية التجارة الحرة قدراً من الصعوبة، كما هو متوقع، غير أن واقع الجغرافيا والطبيعة المتشابكة لاقتصادات المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي تشير إلى أنه سوف تكون هناك محفزات للمحافظة على وثاقة العلاقات بين الجانبين.
وفي حين أن أنصار «بريكست» يؤيدون «بريطانيا العالمية» كثقل موازن لسوق الاتحاد الأوروبي الحرة ذات الطبيعة الحمائية، فإننا لم نشهد حتى الآن حالة الانقسام الحقيقية بشأن ملفات التجارة والجغرافيا السياسية. وفيما يتعلق بمخاطر الأمن السيبراني من جانب الصين، فلقد قاومت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي الضغوط الممارسة من جانب الرئيس الأميركي بشأن حظر أعمال شركة «هواوي» الصينية وشبكات الجيل الخامس للخدمات المحمولة الخاصة بها، كما رفضت أيضاً منح بكين الحرية المجانية للوصول إلى الأسواق الأوروبية. وعندما يتعلق الأمر بفرض الضرائب على الشركات التكنولوجية مثل «فيسبوك» أو «أمازون»، وجدت المملكة المتحدة نفسها تتخذ الموقف نفسه المعتمد من قبل فرنسا وإيطاليا، مع مقترحات فرض الضرائب الوطنية على الخدمات الرقمية التي تثير حفيظة، وربما غضب، الرئيس دونالد ترمب. أما بالنسبة إلى إيران، وقفت المملكة المتحدة إلى جانب فرنسا وألمانيا فيما يتصل بالاتفاق النووي الإيراني.
بيد أن حالة الوفاق الراهنة ليس من المتوقع لها الاستمرار لفترة طويلة. فكل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي يحاولان اقتطاع مكان منفصل لكل منهما على المسرح العالمي الذي تهيمن عليه راهناً الولايات المتحدة والصين. ويتطلع البريطانيون إلى التراجع عن أكبر سوق منفردة في العالم لصالح اقتصاد الجزيرة الإنجليزية ولمسته الناعمة، في حين تصور الخبراء تحول بريطانيا إلى ما يشبه سنغافورة على ضفاف التايمز، أو كندا الأوروبية، أو ربما بروكسل ذات الرؤوس النووية!
ويتحرك الاتحاد الأوروبي في الاتجاه المعاكس، ذلك الاتجاه الذي يعيد إلى الذاكرة تاريخ أوروبا إبان حقبة الحرب الباردة. وعندما انضمت المملكة المتحدة إلى المنظمة السابقة على الاتحاد الأوروبي في عام 1973، جنباً إلى جنب مع آيرلندا والدنمارك، ارتأت القوى القارية من شاكلة فرنسا الأمر على أنه مفاضلة: فإن أوروبا تتحرك على المسار الأطلسي بقوة دفع آلية، وعلى المسار الاقتصادي بقوة دفع ليبرالية، ولكن مكانتها سوف تنمو أيضاً مع اكتساب الكلمة المسموعة في الأوساط الدولية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي آنذاك. واليوم، ومع مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي، انعكست المفاضلات كثيراً. حيث يتراجع تأثير الأطلسي لدى الاتحاد الأوروبي، ويتجه نحو سياسات اقتصادية أقل ليبرالية، مع درجة أكبر من التكامل الأوروبي – الأوروبي التي من شأنها الاستجابة لاهتمامات واحتياجات المواطنين مع قدر أكبر من التوازن في وجه الولايات المتحدة والصين.
ومن المحتمل أن يُنظر إلى «بريكست»، على اعتباره فرصة سانحة للتكامل الأوروبي الداخلي الوثيق، مع اعتباره أيضاً مفتاحاً أساسياً لتحقيق السيادة الجيوسياسية والتكنولوجية. وكانت الكتلة الأوروبية الأكثر وثاقة وترابطاً هي ما كانت بريطانيا تحارب بكل قوة للحيلولة دونها. على سبيل المثال، كان تكامل منطقة اليورو الاقتصادي هو أحد محفزات المغادرة البريطانية لعضوية الاتحاد. وفي حين أن ألمانيا سوف تنتحب لرحيل الصوت الليبرالي المؤيد لسياسات السوق، فإنه من العسير على الفرنسيين كتمان أو احتواء فرحتهم بذلك الرحيل. وقال الوزير الفرنسي الأسبق آلان لاماسور، مصرحاً لصحيفة «لوموند»، «ظل البريطانيون يشكلون وخزاً مؤلماً للغاية في خاصرة أوروبا منذ عام 1973، ومن شأن مغادرتهم أن تتنفس أوروبا الصعداء ولو بالقدر اليسير».
سوف تمثل الـ11 شهراً المقبلة معركة محتدمة وحاسمة بين هذه الطموحات المتنافسة. وسوف يسعى الاتحاد الأوروبي إلى ربط بريطانيا بالقرب من مداره التنظيمي للحيلولة دون تحولها إلى جسر رئيسي يعبر عليه النفوذ الأميركي إلى قلب القارة العتيقة، وفي الأثناء ذاتها، سوف تغري الولايات المتحدة بريطانيا نحو إقامة علاقات أكثر قوة ورسوخاً، بهدف تعويض فقدان التجارة غير الاحتكاكية مع الجارة الأوروبية الكبيرة. وحتى الآن، لا يزال هناك قدر كبير من التقارب بين الجانبين. ولكن واشنطن وبكين لا تلزمان الصمت والأيادي المكتوفة، فمن شأن الأجواء أن تزداد قتامة في المستقبل المنظور.
الصين بين فيروسين
إذا شاهدت الصور ومقاطع الفيديو الأخيرة لمدينة ووهان في الصين، حيث انطلقت عدوى فيروس كورونا الأخير والتي صورها بعض الأفراد، فإن الوضع فعلاً مرعب. شوارع خالية ومحطات وقود لا يوجد بها أحد، وكأنك تشاهد مسلسل «ذا ووكينغ ديد» أو فيلم «ريسدنت إيفل».
لقد أغلقت الحكومة الصينية هذه المدينة التي يقطنها 11 مليون شخص، وحولتها إلى حجر صحي خوفاً من انتشار الفيروس. هذه المدينة هي عاصمة إقليم هوبي، أحد أهم أقاليم الصين الصناعية، وليس هذا وحسب، بل إنها تستهلك نحو 5 في المائة من إجمالي استهلاك الصين من البنزين.
إن هذا الفيروس مع انتشاره بدأ يضرب حركة الطيران والسفر والتنقل، وهذا معناه هبوط في استهلاك النفط والمواد البترولية للصين التي استهلكت في العام الماضي نفطاً أكثر من أي دولة أخرى، وهي تسيطر على ثلثي أي نمو جديد في الطلب على النفط عالمياً.
ما قد يحدث هذا العام بالنسبة للصين أمر لا يمكن التكهن به الآن إذا ما استمر الفيروس في الانتشار. والتوقعات حتى الآن سلبية جداً، حيث توقعت شركة «برينستين» للأبحاث أن ينمو الطلب على النفط في الصين بنحو 100 ألف برميل هذا العام بسبب الفيروس، وهذا هو أقل نمو سنوي قد تسجله الصين منذ ما يقارب عشرين عاماً بحسب أرقام «بريتيش بتروليم».
والصين اليوم هي أكبر مستورد للنفط الخام في العالم، وحصتها من الاستهلاك العالمي تضاعفت من 7 في المائة في عام 2003 عندما ضرب سارس العالم، إلى 14 في المائة في 2020 بحسب توقعات وكالة الطاقة الدولية. ولا داعي للشرح في حضرة كل هذه الأرقام؛ إذ إن أي ضرر للصين هو ضرر لكل الدول المنتجة للنفط في العالم.
إن هذه الأوبئة تؤثر على الطلب عالمياً بلا شك، وأرقام وكالة الطاقة الدولية للطلب عندما ضرب فيروس سارس العالم في 2003، أفضل دليل على ذلك. حيث نما الاستهلاك العالمي بأكثر قليلاً من مليون برميل يومياً في الربع الثاني من ذلك العام، وهي الفترة التي شهدت ذروة انتشار فيروس سارس. وفي الربع الثاني من العام الذي يليه 2004، تضاعف الاستهلاك ووصل إلى قرابة 3.5 مليون برميل يومياً، بعد أن خف أثر الفيروس.
وبالنسبة لفيروس كورونا الجديد، فإنه بلا شك سوف يؤثر بشكل كبير على نمو الطلب على النفط في الصين؛ إذ إن المصافي ستضطر إلى تخفيض استهلاكها منه إذا ما استمرت حركة الطيران والسفر والتنقل في تراجع.
عندما ضرب فيروس سارس العالم في 2003 لم يكن النمو الاقتصادي والنفطي في الصين مثل ما هو عليه اليوم، ولم يكن الصينيون يعيشون الرخاء نفسه والذي انعكس على حركة السفر والطيران. فعلى سبيل المثال زار اليابان 8 ملايين صيني في عام 2018، بينما كان عددهم في 2003 لا يتجاوز 500 ألف، بحسب الأرقام الرسمية. وهذا الأمر انعكس على إجمالي استهلاك الصين من وقود الطائرات، حيث زادت حصة الصين عالمياً من 3.8 في المائة في 2003، إلى 12 في المائة في 2017، بحسب أرقام مصرف «سيتي غروب».
ومع إعلان الكثير من شركات الطيران إيقاف رحلاتها إلى الصين وتباطؤ نمو حركة الطيران داخل الصين بعد أن فرضت الحكومة حجراً على الكثير من المناطق، فإن النمو في الطلب على وقود الطائرات هناك في شهر فبراير (شباط) قد يتقلص بنحو 618 ألف برميل يومياً، كما قدرته وكالة «ستاندر آند بورز غلوبال بلاتس».
ومع إقفال الكثير من الشركات محالها في الصين تخوفاً من الفيروس، مثل «ستاربكس» التي أقفلت 2000 متجر، ومثلها في ذلك «إيكيا» و«ماكدونالدرز» وغيرها، فإن الطلب على الديزل سيتراجع هو الآخر، حيث ستخف عملية نقل البضائع، والديزل هو شريان قطاع النقل في الصين.
إذن، نحن أمام تحدٍ جديد لمنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، ويبدو أن هناك تحركات تقودها السعودية لعقد اجتماع طارئ لبحث تداعيات فيروس كورونا على أسعار النفط بعد أن شهدت أسعار برنت هبوطاً قدره 9 في المائة منذ العشرين من يناير (كانون الثاني)، لتتداول تحت 60 دولاراً؛ وهذا الهبوط قد يزداد.
وما على «أوبك» وحلفائها في تحالف (أوبك+) فعله هو الاتفاق على أمرين لا ثالث لهما، الأول هو حجم الضرر المتوقع من فيروس كورونا على الطلب على النفط، والثاني التحرك لتعميق التخفيضات المتفق عليها وهو 1.7 مليون برميل يومياً بأكثر من ذلك تحسباً لأي تدهور في الوضع؛ إذ إن المخزونات من وقود الطائرات والمواد البترولية الأخرى ستزداد بلا شك، ومعها سيزداد تخزين النفط من قبل المصافي. ولكن كل هذا سيعتمد على موقف روسيا والتي باتت تشكل ركيزة أساسية في كل توجهات التحالف.
عموماً، في لحظات مثل هذه، يتمنى المرء لو أن النفط لا يشكل سوى نسبة بسيطة من إجمالي إيرادات دول «أوبك» حتى لا تعاني من أي ضرر يمر به الاقتصاد الصيني، ولو أن فكرة عدم الاعتماد على الاقتصاد الصيني غير مجدية؛ لأن العالم قرية صغيرة… والكل يحتاج إلى الصين.
وائل مهدي.
الاقتصاد العالمي في ظل انتشار الفيروسات الجديدة
تمتلك الصين مجموعة أدوات أكبر وأكثر تطوراً لمكافحة أي تباطؤ اقتصادي ناتج عن انتشار فيروس كورونا مقارنة بعام 2003 عندما حاربت فيروس «سارس» الذي انتشر كالوباء، لذلك فإن للتحدي للجديد خلفية بالغة التأثير على الصعيدين المحلي والخارجي، خاصة فيما يخص استجابة بكين وطريقة تعاملها معه.
من الصعب أن تقييم حجم الأضرار لأن الوضع لا يزال في طور الاستكشاف، ومن المرجح أن يخفض مؤشر «بلومبرغ الاقتصادي» من توقعاته لنمو الصين في الربع الأول عند نسبة 5.9 في المائة. عندما اشتد وباء «سارس» – ويعني المتلازمة التنفسية الحادة – في الربع الثاني من عام 2003، تراجع النمو في الصين الى 9.1 في المائة مقارنة بنسبة 11.1 في المائة في الأشهر الثلاثة السابقة.
يبدو أن المشكلة قد أخذت في التخمر فيما وراء الشواطئ الصينية أيضاً. ففي ظل الحروب التجارية وتصاعد حدة التوتر بين إيران والغرب وتراجع التركيبة السكانية، كان هناك العديد من التحديات. فصندوق النقد الدولي يخطط لنسبة نمو تبلغ 3.3 في المائة العام الجاري مقارنة بنسبة 2.9 في المائة عام 2019. ومع ذلك، فقد توقفت تلك النسبة عند حدود 3.4 في المائة قبل بضعة أشهر فقط. لكن في عام 2003، نما الاقتصاد العالمي بأكثر من 4 في المائة واقترب من 6 في المائة عام 2007.
لقد تغيرت الصين بشكل كبير في السنوات السبع عشرة الماضية. ولمن لا يعرف، يبلغ حجم اقتصادها حوالي ثمانية أضعاف حجمها. وإن أردنا المزيد من التفاصيل، فقد تطورت العناصر الرئيسية لأطر السياسة النقدية والعملات، والبلاد لديها سعر صرف أكثر مرونة، في حين أن البنك المركزي لا يزال يدير تعاملاته المحلية بعملة اليوان، فقد تم تحديد سعر الصرف على أساس 8.3 إلى الدولار لعقد كامل حتى يوليو (تموز) 2005. علاوة على ذلك، فإن بنك «الشعب» الصيني يستخدم مجموعة من المعادلات لإدارة تكاليف الاقتراض. في عام 2004، كان إجراء ثورياً الى حد بعيد أن ترفع الصين أسعار الفائدة، وهو إجراء لم يتم تطبيقه كأداة للإدارة الاقتصادية منذ تسع سنوات.
تسمح هذه التغييرات بتحولات السياسة على نحو أكثر تواتراً. ففي مواجهة الحرب التجارية والاقتصاد المحلي البارد، بدأ بنك «الشعب» الصيني عام 2020 بإعلان بيان نوايا بخفض البنك المركزي لنسبة الاحتياطي المطلوبة للمقرضين بمقدار نصف في المائة، وهي الأحدث في سلسلة من التخفيضات. ويشير ذلك إلى أن المسؤولين الصينيين كانوا يهدفون إلى تعزيز السيولة في القطاع الخاص قبل اندلاع فيروس كورونا في مقاطعة ووهان بفترة طويلة. قد يؤدي الضرر الناجم عن الفيروس الى أن يرفع البنك المركزي يده.
ومع ذلك، فإن عبء ديون الشركات الخطرة في الصين يمكن أن يظل عقبة. فعلى مدار العام الماضي، أدت المخاوف من أن تخفيض سعر الفائدة بشكل قياسي قد يؤدي إلى عدم وصول القطاع الخاص إلى منع بنك الشعب الصيني من العمل، على الرغم من التوقعات بأن هذا قد يحدث. ويظل سؤالاً مفتوحاً ما إذا كانت السياسة النقدية الأسهل في الصين سوف تتدفق بسلاسة إلى باقي اقتصاديات العالم. وقد بدأت العديد من الشركات المتعددة الجنسيات بالفعل في نقل سلاسل التوريد الخاصة بها نتيجة للحرب التجارية.
عندما اندلع فيروس «سارس» كانت الصين لا تزال في أوج تلألؤها بدخولها منظمة التجارة العالمية في أواخر عام 2001. بعد ست سنوات، وصل النمو إلى ذروته بنسبة 15 في المائة. تعجب المديرون التنفيذيون والمسؤولون في جميع أنحاء العالم من اقتصاد الصين وبراعة بكين في اتخاذ القرارات. كانت العولمة لا تزال في حالة رواج، وأصبحت الصين اختزالاً لعالم آخذ في الاستقرار. قليلون تجرأوا على الإساءة إلى بكين، ناهيك عن فرض رسوم جمركية، فقد روعت فكرة الحرب التجارية إدارة الرئيس جورج بوش. كانت الدبلوماسية الاقتصادية الأميركية تسير في اتجاه تشجيع وزارة الخزانة لأن تقول للصين: من فضلك اِنهِ ربط اليوان الثابت بالعملة الأميركية.
كذلك حث الكثيرون ممن أثنوا على الصين على إعادة توازن اقتصادها والتركيز بدرجة أقل على الصادرات والاستثمار وبدرجة أكبر على الاستهلاك، وحدث ذلك التحول إلى حد كبير. لكن الصين أصبحت الآن أكثر عرضة للتغييرات في معنويات الأسر المعيشية – وبالتحديد شريحة الاقتصاد التي ستعاني من تفاقم جديد. منذ أواخر الأسبوع الماضي، تم تقييد السفر وتم كبح أنشطة عطلة رأس السنة القمرية في أجزاء كثيرة من الصين.
والخبر السار هو أن بكين يمكنها نشر المزيد من الأسلحة لمعالجة هذا التباطؤ مقارنة بعام 2003. ولكن بالنظر إلى حجم التغييرات منذ ذلك الحين، فإن هذا قد لا يهم كثيراً. ولن تكون هذه الترسانة فعالة إذا ظل الاقتصاد العالمي، الذي تتغذى عليه الصين وتعتمد عليه، على حاله السابق.
داميال موس.
عن اقتصاديات العدوى وسياسات الوقاية منها
تتزايد يوماً بعد يوم الأرقام المعلنة عن ضحايا فيروس كورونا المستجد. فالفيروس الخطير، الذي اكتشف مؤخراً في مدينة ووهان عاصمة مقاطعة هوبي الصينية، ما زال في مرحلة انتشاره حتى تتيسر سبل احتوائه والحد من انتقاله وتنجح إجراءات مكافحته على الوجه المأمول. ولم يُعرف بعد علمياً بشكل قاطع مصدر الفيروس المتحور الذي أصاب أعداداً تقترب من ثلاثة آلاف مصاب وقتل ثمانين منهم، وتجاوزت العدوى حدود الصين لتنتقل لأكثر من 10 بلدان أخرى حتى كتابة هذه السطور.
ومقارنة بأزمة مرض «الإيبولا» الذي انتشر في 3 بلدان في غرب أفريقيا في عامي 2014 و2015. ثم مؤخراً في الكونغو الديمقراطية فإن التداعيات الاقتصادية والمالية للفيروس المعدي الجديد أكبر بطبيعة الحال بما يتناسب مع وزن الصين وحجمها كثاني أكبر اقتصاد في العالم والأول في التجارة الدولية. وكما هو معتاد في مثل هذه الحالات التي لم تكن تتوقعها الأسواق، تنخفض أسعار الأسهم بشدة خاصة تلك المرتبطة بتجارة التجزئة والسياحة والسفر، وتنخفض كذلك بورصات السلع، بما في ذلك النفط لتوقع تراجع الطلب، وترتفع أسعار الذهب ويزداد الطلب على سندات الخزانة الأميركية فينخفض عائدها.
وبالنسبة للمستثمرين في الأسواق فهذه صدمة لم تكن في الحسبان. فرغم كثرة التقارير، التي تشارك في إعدادها شركات تأمين كبرى وتم تداولها مع بداية العام الجديد عن توقعات المخاطر العالمية، تجد أن الاهتمام الذي أعطي لمخاطر الأزمات الصحية والأمراض المعدية محدود. ففي تقرير المخاطر العالمية لعام 2020 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، بالمشاركة مع مجموعة زيوريخ للتأمين، لا تظهر أزمات الأمراض المعدية في القائمة الأولى للمخاطر التي شملت خمسة وهي تقلبات الطقس الحادة، وفشل جهود مواجهة تغيرات المناخ، والكوارث الطبيعية، وخسائر التنوع البيولوجي والكوارث البيئية. وفي تقرير آخر عن ترتيب المخاطر، أعدته مؤسسة يوراسيا مع مجموعة أكسا للتأمين، تأتي الأوبئة والأمراض المعدية في المرتبة الثامنة للمخاطر المرصودة، بينما تظهر في المراتب الخمس الأولى تغيرات المناخ، وأمن شبكات المعلومات، والتقلبات الجيوسياسية، والاضطرابات والصراعات، وسوء إدارة الموارد الطبيعية.
وإذا كان نصيب المعرفة من توقعات حدوث الأزمات الصحية في المستقبل محدوداً، فالتاريخ يذخر بالتجارب المهمة والدروس والعبر. ففي كتابه المهم عن مصائر المجتمعات البشرية، الصادر بعنوان «أسلحة وجراثيم وصُلب»، رصد العالم الأميركي «جارد دياموند» الحالات السابقة للأمراض المعدية وتفشيها، فتجدها في بدايتها سريعة الانتقال من المرضى إلى الأصحاء بما يجعل المجتمع معرضاً لخطر العدوى، وهي ذات تأثير حاد وعاجل على المصابين بها، ففي خلال زمن وجيز قد يشفى المرضى ويتمتعون بمناعة ضد الفيروس الذي أصابهم أو يلقون مصيرهم.
وتوضح دراسات عما عرف بالإنفلونزا الإسبانية، التي ظهرت مع نهاية الحرب العالمية الأولى وتفشت بين عامي 1918 و1919. عن أنها أصابت ثلث سكان الأرض بدرجات متفاوتة الحدة، وتباينت تقديرات قتلاها بين 21 مليون إلى 50 مليونا من مختلف بلدان العالم نظراً لعدم توفر الأمصال واللقاحات حينها، فضلاً عن تداعيات غياب العلاج بالمضادات الحيوية التي لم تكتشف عندئذ. كما تسبب انتشار الطاعون في أوروبا في القرن الرابع عشر في القضاء على ربع سكانها.
وتسرد وقائع تاريخ الحروب والاستيطان التي قام بها الأوروبيون للأميركتين أن الأمراض المعدية التي حملها الجنود الغزاة معهم كانت أشد فتكاً بالهنود الحمر في أميركا الشمالية والأزتيك في المكسيك والإنكا في بيرو. فقد كانت الميكروبات والجراثيم مهلكة لأهل البلاد الأصليين ومدمرة لمعنوياتهم ومبيدة لأعداد غفيرة منهم إذ لم يكن للأهالي الأصليين، فيما عرف عندئذ بالعالم الجديد، مناعة أو تحصين طبيعي منها. وعندما ذهب هيرناندو دي سوتو وهو أحد المغامرين الإسبان غازياً لمنطقة وادي المسيسبي في عام 1540 في أميركا الشمالية، وجد مدناً مهجورة من سكانها الأصليين سبقته إلى إبادتهم أوبئة أوروبية المنشأ حملتها السفن عبر البحار مع الجنود ومتاعهم.
وكلما تناقلت الأخبار عن تفشٍ لمرض معدٍ تستدعي للذاكرة آثار أمراض معدية ما زالت منتشرة، وتثور المخاوف من أن تنتقل لحالة وبائية تتجاوز موطن الإصابة بها. فهناك على سبيل المثال تقديرات منشورة على موقع منظمة الصحة العالمية تصل إلى أربعة ملايين مصاب بالكوليرا وتتراوح حالات الوفاة بين 21 إلى 143 ألفا سنوياً. كما ترصد المنظمة الأممية حالات وفاة بسبب الإنفلونزا الموسمية تصل لحوالي 650 ألف حالة وفاة سنوياً من إجمالي حالات إصابة شديدة بالمرض تصل إلى خمسة ملايين حول العالم.
وبالإضافة للتأثيرات قصيرة المدى كتقلبات الأسواق فإن هناك تأثيرات أخرى لاحقة تتعلق بما قد تسببه العدوى ومدى سرعة انتشارها أو تحولها لوباء يستوجب إجراءات طوارئ على المستوى الدولي، وهو أمر تحدده منظمة الصحة العالمية وفقاً لمعايير علمية متفق عليها. وفي أي حال، فإن تأثير أزمات الأمراض المعدية يجب تتبعه على محوري العرض والطلب. إذ يتأثر عرض السلع والخدمات بمدى انتظام العمالة وإنتاجيتها، وإجراءات العزل الصحي وإغلاق المحال والأسواق وأماكن الترفيه ومراكز الخدمات. كما يتأثر الطلب سلباً على السلع والخدمات غير الأساسية بينما يزيد على الأغذية والدواء والسلع الضرورية والمطلوب تخزينها. وتتنقل هذه العوامل بتأثيرها من النطاق المحلي إلى الدولي من خلال محاور التجارة والسياحة وانتقال العمالة فضلاً عن الاستثمار الذي سيتراوح موقفه بين الترقب والانسحاب، وفقاً لآجاله وأوعيته واستعداداته للمخاطرة، بما ينعكس سلباً على معدلات النمو الاقتصادي. العبرة بما ستكشف عنه الأيام والأسابيع المقبلة من معلومات ومدى الثقة في القدرة على احتواء الأزمة ومنعها من التفاقم.
وانتفاعاً بالخبرة الدولية في التعامل مع أزمة وباء الإيبولا الأخيرة، ومن قبلها تفشي فيروس السارس التاجي الذي تفشى في عام 2003 في الصين وجنوب شرقي آسيا، وما ترتب عليهما من فقدان في الأنفس وخسائر اقتصادية كبيرة تظهر جليا أهمية الوقاية من الأمراض المعدية والأوبئة. وقد تشكلت لجنة مستقلة بدعم من منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي لمتابعة مدى الاستعداد للتعامل مع مخاطر الأوبئة؛ وقد كان التقرير الأخير للجنة مزعجاً ومنذراً بقصور استعدادات المواجهة وعدم الأخذ بتوصيات مواجهة الأوبئة بعد دروس أوبئة الإنفلونزا السابقة وأزمة الإيبولا منذ أربعة أعوام. وقد أوصى التقرير مجدداً باتخاذ إجراءات محددة لتحقيق استعداد مناسب للعالم للتعامل مع الطوارئ الصحية وتداعياتها، وناشدت اللجنة الحكومات تقديم تقارير بما أنجزته بشأن توفير الموارد المالية وأولويات الإنفاق العام وتطوير النظم الصحية العامة وفقاً لتعهداتها الملزمة التي تنظمها اللوائح الصحية الدولية. كما ركزت اللجنة في توصياتها على أهمية التنسيق بين كافة الأطراف المعنية داخل البلدان المعنية، وكذلك مع المنظمات الإقليمية والدولية ومؤسسات التمويل لسد فجوات التمويل والتعامل مع قصور الإمكانات الفنية خصوصاً في الدول الأفقر وتلك التي تعاني من هشاشة أو صراعات.
وفي ظل زيادة التباين في الآراء حول العولمة والنظام الدولي والمؤسسات متعددة الأطراف، فإن الصحة العالمية ووقاية البشر من العدوى لا تحتمل مثل هذا الجدل. فظهور مرض معد في دولة سرعان ما يتحول إلى مصدر لتهديد سكان العالم أجمع، بما يجعل التعاون الدولي ملزماً. كما ينبغي اتباع توصيات منظمة الصحة العالمية سواء في تنفيذ إرشادات الوقاية الصحية على مستوى الأفراد والمجتمعات، أو في تطبيق إجراءات الاستعداد للأزمات الصحية وتفشي الأمراض المعدية عبر الحدود.
وفي هذا العالم الزاخر بالثروات، وإن ساء توزيعها، وجُعل فيه لكل شيء سعر فلعله من المفيد استرجاع مبدأ أساسي للتعامل مع الرعاية الصحية للبشر. فقد استند عن حقٍ الاقتصادي الفرنسي «جون تيرول»، الحائز على جائزة نوبل، لمقولة الفيلسوف «إيمانويل كانت» بأن أي شيء له سعر يمكن استبداله بغيره، أما ما لا سعر ولا بديل له فإن له كرامة، وتكون له بذلك أولوية مطلقة في الرعاية والإنفاق العام والخاص.
معوقات الازدهار الاقتصادي في البلدان المتقدمة
تحقق أغلب البلدان المتقدمة النمو الاقتصادي بمعدل متوازٍ تقريبا، وذلك يرجع إلى الوثبات الكبيرة في التطور التقني والعولمة. لكن في كل عقد من الزمان، هناك نجوم يزداد تألقها عن نجوم أخرى في سماء الازدهار. وفي المعتاد، تنظر البلدان الغنية الأخرى إلى تلك النجوم الساطعة بحثا عن إشارات حول كيفية تعزيز معدلات النمو لديها.
وخلال العقد الذي أعقب الأزمة المالية العالمية، برزت كل من ألمانيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة في سماء النمو الاقتصادي. وتفوقت هذه البلدان الثلاثة مجتمعة على الولايات المتحدة في مضمار النمو الاقتصادي منذ عام 2009.
بالنسبة لكل دولة من هذه الدول، يمكن سرد قصة عن سبب نجاحهم وما حققوه من إنجازات. إذ يُعزى الأداء الألماني القوي في غالب الأمر إلى شركات الصناعات التحويلية الصغيرة ذات الإنتاجية العالية، والتناغم الفائق بين العمل المنظم والإدارة، ونظام التعليم المهني الرائع هناك، فضلا عن الفائض التجاري الكبير.
ويرجع الفضل في نجاح سنغافورة في بعض الأحيان إلى امتياز نظام التعليم، وتميز نظام الإسكان، والاستثمار الحكومي في مجال التكنولوجيا الحيوية، وغير ذلك من متطلبات الصناعات المتطورة. أما النمو المحقق في كوريا الجنوبية فيرجع إلى قوة ورسوخ الشركات الوطنية الكبرى، ولا سيما شركة سامسونغ العملاقة. ويميل بعض الكتاب، وأنا من بينهم، إلى توصية الولايات المتحدة بمحاولة استنساخ بعض من هذه السياسات الناجحة من أجل اللحاق بالركب المتطور.
لكن خلال السنة الماضية، بدأت اقتصادات هذه البلدان الثلاثة تبدو أكثر هشاشة. وبرغم أن الأرقام الاقتصادية الأميركية تعكس صورة أقوى، فإن ألمانيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة، إما أنها قد خبرت فترات الركود الاقتصادي أو هي قريبة للغاية منها.
سجل الاقتصاد الألماني انكماشاً خلال الربع الثاني من العام الجاري، ومن المتوقع أن يواصل الانكماش خلال الربع الثالث كذلك.
ويعد انخفاض الصادرات هو السبب الرئيسي وراء ذلك. ويرجع ثُمن هذا الأمر إلى التباطؤ الاقتصادي في الصين، والتي كانت من كبار زبائن أدوات الرأسمالية الألمانية وغيرها من المنتجات الأخرى. غير أن العالم بأسره لا يشتري الكثير من المنتجات الألمانية في هذه الأيام. وأينما ذهبت الصادرات، يذهب بقية قطاع الصناعات التحويلية.
يعتقد الزميل كريس براينت أن هناك عدد من الاتجاهات التي تعمل ضد كبريات الشركات الصناعية في البلاد. إذ تتعرض صناعة السيارات الألمانية وبصورة كبيرة للتغيرات المناخية العالمية، مع تشديد القواعد الرقابية الخاصة بانبعاثات الكربون مما يشكل تهديدا كبيرا على مستقبل السيارات العاملة بالديزل بصفة خاصة. وشرعت العديد من المدن الأوروبية بالفعل في حظر سير مركبات الديزل في شوارعها، كما تعهدت بعض بلدان المنطقة كذلك بحظر كافة أنواع المركبات العاملة بمحركات الاحتراق الداخلي في المستقبل القريب.
ويشير هذا التحول إلى إجراء تعديلات مؤلمة للغاية بالنسبة إلى ألمانيا. حيث يمثل قطاع صناعة السيارات الألماني مجموعة هائلة وواسعة وعميقة من المعرفة على مدار قرن كامل من الزمان في هذا المجال وحده. ومن شأن التحول السريع إلى إنتاج السيارات الكهربائية أن يلقي بجانب كبير من هذه المعرفة في سلة مهملات التاريخ.
حقق اقتصاد كوريا الجنوبية نموا جيدا في الربع الثاني من العام الجاري، غير أنه كان قد انكمش بنسبة 0.4 في المائة خلال الربع الأول. والتضخم آخذ في الانخفاض مما يشير إلى هبوط الطلب.
وكما هو الحال بالنسبة إلى ألمانيا، فإن المشكلة تكمن في الصادرات، حيث يتعلق القلق الكبير بقطاع صناعة أشباه الموصلات. وفي السنوات الأخيرة، تحولت كوريا الجنوبية إلى أحد المراكز القوية في هذه الصناعة، حيث تفوقت شركة سامسونغ على شركة إنتل الأميركية باعتبارها أكبر شركة آسيوية مصنعة لأشباه الموصلات على مستوى العالم (وربما هي الأكثر تفوقا من الناحية التقنية كذلك). تمثل صادرات أشباه الموصلات حوالي ربع الاقتصاد الكلي في كوريا الجنوبية. ولذلك، فإن الهبوط الأخير في الصادرات – ربما إثر التباطؤ المسجل في الصين، والنزاع التجاري القائم مع الولايات المتحدة، والحرب التجارية المتصاعدة بين كوريا الجنوبية واليابان – سوف يكون مؤلما للغاية.
ومن شأن تراجع المستهلكين في كوريا الجنوبية إلى تفاقم الصدمات الخارجية. ولقد تحملت الأسر الكثير من الديون الباهظة في السنوات الأخيرة، ويمكن أن يسفر تراجع الصادرات إلى تقليص المديونية بصورة شديدة.
أما في سنغافورة، فإن اقتصاد البلاد سجل انكماشا ملحوظا في الربع الثاني من العام الجاري. ومرة أخرى، لا يخرج الجاني الحقيقي عن تراجع الصادرات وضعف التصنيع التحويلي. ومع الصادرات التي تشكل نسبة 170 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، فإن سنغافورة تتصدر بلدان العالم كواحدة من أكثر الدول اعتمادا على التجارة، وسوف تتأثر بشدة بالحرب التجارية الأميركية الصينية – بما في ذلك القيود الأميركية المفروضة على صادرات التكنولوجيا. ومن المفارقات الساخرة أن المظاهرات الصاخبة التي تجتاح هونغ كونغ الصينية، ربما تساعد سنغافورة في تفادي الوقوع في الركود الاقتصادي على المدى القصير، إذ يتحول النشاط المالي والتجاري في البلاد وفقا لتغيرات الأوضاع الجارية. غير أن الأثر بعيد المدى للحرب التجارية، مضافا إلى مشكلة شيخوخة السكان وتباطؤ الإنتاجية، سوف يستمر ويبقى.
وبالتالي، تشترك النجوم الاقتصادية الثلاثة في قضايا مماثلة – بطء التجارة العالمية، مع تراجع الطلب على الواردات الصناعية. وتسفر نهاية النمو الاقتصادي الصيني السريع، فضلا عن الحرب التجارية القائمة مع الولايات المتحدة، إلى نهاية النموذج الاقتصادي العالمي الذي كان دافعا كبيرا للكثيرين خلال العقدين الماضيين. وإذا ما تحولت الخلافات التجارية بين كوريا الجنوبية واليابان إلى الاندفاع صوب النزعات القومية الاقتصادية، فإن الاقتصادات القائمة على التصدير في العالم سوف تتعرض للمزيد من الآلام. وفي الأثناء ذاتها، من شأن الإلحاح المتزايد لمشاكل التغيرات المناخية العالمية أن يعطل صناعات السيارات التي تعتمد على منتجات الوقود الأحفوري. ومن المتوقع للبيئة الاقتصادية التي كانت سببا في بزوغ نجم كل من ألمانيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة في عام 2010، وما تلاه أن تقترب من فصل النهاية. ولا يعني ذلك بالطبع أن الولايات المتحدة ليس لديها ما تتعلمه من الأنظمة التعليمية لهذه النظم الاقتصادية، وعلاقات العمل، والسياسات الصناعية في تلك البلدان. بل في واقع الأمر، يجب على الولايات المتحدة استنساخ أفضل عناصرها والاستفادة المثلى منها. ولكنها تذكرة بأن الأنواع المختلفة من الاقتصادات تتناسب مع أوقات وأزمنة متباينة، وعندما تتغير الأوقات، يتغير بتغيرها الفائزون والخاسرون في كل مجال.
نوح سميث
العجز في الميزانيات
ما أن تعلن ميزانيات الدول حتى يكون أول ما ينظر إليه هو الفارق بين إيرادات الدولة ونفقاتها، وهو ما يعرف بالعجز أو الفائض في الميزانية. وبالنظر المجرد إلى هاتين الكلمتين، يتضح أن «العجز» مفردة تدل على السلبية، بينما تعبر كلمة «الفائض» عن الإيجابية، وكثيراً ما تقترن كلمة «العجز» بالمعاناة، فيقال إن الدولة تعاني من عجز في الميزانية، بينما يعبر عن الفائض بالتمتع، فيقال إن الدولة تمتعت بفائض في الميزانية، إلا أن السؤال الذي يطرح كثيراً: هل يعبر العجز فعلياً عن معاناة للدولة؟ وهل يعني وجود الفائض أن الدولة تتمتع باقتصاد جيد ومستقبل زاهر؟
يختلف الكثير من الاقتصاديين حول كون العجز أمراً سلبياً في ميزانيات الدول، حتى وإن استمر هذا العجز لسنوات طوال، فقد لا يؤثر هذا العجز في اقتصاد الدولة في حال السيطرة على مستوياته. فعلى سبيل المثال، لم تسجل الولايات المتحدة فائضاً في الميزانية إلا 3 مرات فقط منذ ما يقارب 6 عقود، وهي في سنوات: 1960 و1969 و2000، بينما سجلت جميع السنوات الباقية عجزاً في الميزانية، وبلغ العجز مستويات وصلت إلى 10 في المائة (نسبة من الناتج القومي) في عام 2009 إبان الأزمة المالية وما يقارب 8 في المائة في 1975. ومع ذلك فلا إنكار أن اقتصاد الولايات المتحدة هو أقوى اقتصاد في العالم طيلة هذه المدة، ولا يؤثر هذا العجز في متانة اقتصادها.
وبالنظر إلى حالة الولايات المتحدة أو غيرها من الدول، يرى جانب من الاقتصاديين أن العجز أداة للدولة (وهو عادة ما يُغطى بإصدار السندات)، تتمكن من خلاله من ضخ الأموال في السوق المحلية وتحريك الأسواق، معطية فرصة للشركات بالتوسع. كما تستخدم هذه الأداة للاستثمار وتطوير البنية التحتية للدولة، وقد يكلف عدم تطوير هذه البنية الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، تكلفة تزيد على فوائد السندات، وبذلك يكون إصدار السندات حلاً أوفر للدولة. وفي حالات الركود الاقتصادي، تستدين بعض الدول لتغذي السوق المحلية محاولة انتشالها من الركود، حتى لو كان ذلك على حساب العجز في الميزانية. وبكل الأحوال، فإن وجود عجز في الميزانية يعني أن الدولة لا تمانع في الإنفاق حتى لو كان ذلك عن طريق الاستدانة (سواء كان ذلك أمراً إيجابياً أو سلبياً). في المقابل، فإن الإعلان عن فائض في الميزانية قد يبدو إيجابياً من ناحية تحسن الإيرادات للدولة أو تخفيض نفقاتها، إلا أنه يعني أيضاً أن الدولة تفضل الاحتفاظ بهذه الإيرادات وعدم إنفاقها، وهو مؤشر يراه الكثير من المستثمرين سلبياً.
أما من يرون العجز أمراً سلبياً، فهم يستندون على مدرسة ترى أن العجز عادة يكون بسبب عدم ترشيد الإنفاق الحكومي، وأن ما يحفزها على الاستدانة هو عدم الرغبة في التصادم مع الرأي العام بتخفيض الإنفاق، إضافة إلى سهولة إصدار السندات بسبب انخفاض سعر الفائدة، وأن الحكومات الحالية تورط مثيلاتها المستقبلية في وحل من الديون قد لا يسهل الخروج منه. كما أنهم يفضلون أن يكون التطور بشكل بطيء ومدروس دون الحاجة إلى توسعات سريعة قد تجعل الاقتصاد في وضع هش. ولا شك أن نسبة العجز إلى الناتج القومي مهمة كذلك، فبعض نسب العجوزات يصعب النظر إليها بشكل إيجابي، وقد أصدر البنك الدولي مؤخراً تقريراً يشير إلى أن حجم الديون في الأسواق الناشئة تعدى 55 تريليون دولار، وهو ما يساوي 170 في المائة من الناتج القومي لهذه الدول، وهو أمر لا يمكن النظر إليه بشكل إيجابي على مستوى هذه الدول التي قد يصعب على كثير منها الإيفاء بهذه الديون دون التعرض لأزمات اقتصادية.
إن العجز في الميزانية ليس مؤشراً حاسماً على صحة الاقتصاد، فقد يكون هذا العجز بسبب زيادة إنفاق الدولة لمشاريع مستقبلية مع زيادة في إيراداتها كذلك، وقد يكون هذا العجز بسبب انخفاض في الإيرادات وزيادة في إنفاق غير مدروس، ولمعرفة الفارق بين النقيضين يجب الاطلاع على تفاصيل الميزانيات وعلى بنود المصروفات والإيرادات، ومعرفة النشاطات المشمولة في هذه البنود وتناسبها مع توجه الدولة، واستشراف المستقبل العالمي لهذه النشاطات، والتأكد من جدواها الاقتصادية والاجتماعية. كما أن الفائض كذلك ليس مؤشراً إيجابياً، فقد يعني أن الدولة بإمكانها زيادة الإنفاق من خلال تخفيض الضرائب على قطاعات مستهدفة، أو استثمارات في البنية التحتية.
د. عبدالله الردادي.
رجل «بريكست» في الاتحاد الأوروبي
يعد ميشال بارنييه، كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بـ«بريكست» البريطاني، أشبه ما يكون بنجوم موسيقى الروك في بروكسل. وعلى مدى ثلاث سنوات، كان السياسي الفرنسي المخضرم والهادئ للغاية، يواصل البحث في تفاصيل ملف مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي، مع ضمان أن الدول الأعضاء السبع والعشرين الباقية، ملتزمة بتماسك الاتحاد. وهو يعتبر الناجي الوحيد من ملحمة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي.
وحقيقة أن ميشال بارنييه لا يزال يشغل هذا المنصب رغم اقتراب عامه السبعين، هي من العلامات اللافتة، على الرغم من التوقعات السابقة أن البريطانيين سوف يعصفون عصفاً شديداً بالأوروبيين شديدي التنازع والاختلاف، إلا أن الاتحاد الأوروبي قد أثبت التزامه بالوحدة والتماسك، في حين تاهت المملكة المتحدة بين دهاليز رئيسين متتاليين للوزراء، مع ثلاثة وزراء لـ«بريكست»، وكثير من المحاولات الفاشلة للحصول على صفقة جيدة خارج الكتلة الأوروبية.
ولا زلنا في انتظار أصعب الأوقات في المرحلة المقبلة. فمع الاتحاد الأوروبي المتأهب لمرافقة المملكة المتحدة إلى بوابة المغادرة – إثر تأمين الأهداف الرئيسية لتسوية الالتزامات المالية الخاصة بالمملكة المتحدة، مع تجنب العودة إلى الحدود الآيرلندية العسيرة، وحماية حقوق كافة المواطنين – يتعين على السيد بارنييه وفريقه التفاوضي في الآونة الراهنة التفاوض بشأن صفقة جديدة، لترسيخ العلاقات التجارية المستقبلية مع الجارة البريطانية المزعجة للغاية. مع العلم بأن خسارة المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي لا تُقارن بخسارة إمارة ليختنشتاين، إذ تُعد «سيتي أوف لندن» هي مركز الثقل المالي الأول والأعرق في عموم أوروبا، وتجري المملكة المتحدة وحدها صفقات تجارية بما يقارب 600 مليار جنيه إسترليني مع بقية بلدان الاتحاد الأوروبي على أساس سنوي، وهي تمثل وحدها نسبة 40 في المائة من القوة العسكرية للكتلة الأوروبية بأسرها. وبالتالي، هناك محفزات قوية لإبقاء لندن قريبة قدر الإمكان.
ويدور التحدي الذي يواجهه السيد بارنييه في أن المملكة المتحدة لم تعد مجرد شريك، وإنما تحولت إلى «منافس على أبواب أوروبا»، تماماً كما وصفتها المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل ذات مرة. وفي داخل الاتحاد الأوروبي، لدى البريطانيين أسهمهم في اللعبة، والتزامات تستحق الوفاء، من التدفق الحر للسلع والبضائع ورؤوس الأموال، واعتماد المعايير الصارمة بشأن كل شيء، من مستوى لعب الأطفال وحتى تبييض الأموال، مع السياسات التجارية المشتركة مع كل دولة من الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد. وفي خارج الاتحاد الأوروبي، يملك البريطانيون الحرية الكاملة – من الناحية النظرية – في فرض قواعدهم الخاصة. فماذا لو قرر أنصار «بريكست» أن أفضل السبل لتعويض فقدان التجارة غير المتوترة مع أكبر أسواق العالم يكون من خلال خفض الضرائب، مع إيلاء ضوابط أكثر هدوءاً بشأن كل شيء، من اللوائح التنظيمية المالية وحتى معايير زراعة وصناعة المواد الغذائية؟ بالتالي، من شأن أي صفقة للاتحاد الأوروبي مع المملكة المتحدة أن تكون باباً خلفياً مستتراً للإغراق التجاري.
وهذا هو السبب في أن الشغل الشاغل لدى السيد بارنييه يتعلق بالتفاوض بشأن الحواجز غير الجمركية للتجارة مع المملكة المتحدة – أي القواعد واللوائح – بدلاً من التفاوض بشأن الرسوم الجمركية ذاتها. وصرح السيد بارنييه محذراً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي: «سوف تكون إمكانية الوصول إلى أسواقنا متناسبة تماماً مع الالتزامات التي جرى الاتفاق عليها فيما يتصل بالقواعد المشتركة». فإن كان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يسعى للحصول على صفقة صفرية الحصص وصفرية الرسوم الجمركية، فإن هذا يعني انحرافاً صفرياً من جانب الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بقضايا البيئة، أو حقوق العمالة، أو حتى المساعدات الحكومية. ولا يمكن اعتبار هذا من المساومات الرخيصة فحسب، وإنما هو انعكاس لحقيقة أخرى مفادها أن أكبر أصول الاتحاد الأوروبي يتمثل في السوق الأوروبية الموحدة.
والسيد جونسون، الذي حاز خلال الشهر الجاري أكبر أغلبية برلمانية، لن يجعل الأمور أيسر مما هي عليه. فلقد استبعد تماماً تجاوز مهلة الأحد عشر شهراً المحددة لإجراء المحادثات التجارية، ومما لا شك فيه أنه يأمل في اكتساب مزيد من النفوذ إثر مزيج من الضغوط الزمنية على بروكسل، مع تلاشي الأصوات المناهضة للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي في الداخل.
بيد أن السيد بارنييه لديه عدد من بطاقات اللعب كذلك. فمن المتوقع لذلك السياسي الفرنسي الرصين، الذي يروق له على الدوام المقارنة بين المفاوضات والمشي الطويل في الجبال، أن يتمسك بأسلوبه الصبور للغاية في تناول الأمور. والاحتمال الأرجح أنه في غضون عام واحد، لن يكون اقتصاد المملكة المتحدة أقل ارتباطاً باقتصاد الاتحاد الأوروبي. وسوف تعتمد صادرات الخدمات المالية والقانونية البريطانية إلى الكتلة الأوروبية – والتي تقدر قيمتها بنحو 60 مليار جنيه إسترليني على أساس سنوي – على ما إذا كان الاتحاد الأوروبي يعتبر أن التوافق التنظيمي متناسب بما فيه الكفاية. وتدفقات البيانات عبر الحدود البريطانية، وصادرات المواد الكيميائية، وسلاسل التوريد البريطانية من شركات صناعة السيارات معرضة للمخاطر بصورة مماثلة. ومن غير المتوقع للمتحولين الجدد إلى معسكر جونسون من معاقل الطبقة العاملة في البلاد، أن يقبلوا بأي محاولة للعبث بحقوق العمال على الإطلاق. ولن يكون «البريكست» وحده قادراً على النفاذ خلال «تأثير بروكسل» المذكور.
وفي خاتمة المطاف، سوف يرجع الأمر إلى مقدرة السيد بارنييه على الحفاظ على حالة السلام والوئام داخل الاتحاد الأوروبي، تلك البراعة السياسية التي لا يباريه فيها إلا السيد جونسون نفسه.
ليونيل لورانت.