أرشيف التصنيف: المقالات العامة

عن اقتصاديات العدوى وسياسات الوقاية منها

تتزايد يوماً بعد يوم الأرقام المعلنة عن ضحايا فيروس كورونا المستجد. فالفيروس الخطير، الذي اكتشف مؤخراً في مدينة ووهان عاصمة مقاطعة هوبي الصينية، ما زال في مرحلة انتشاره حتى تتيسر سبل احتوائه والحد من انتقاله وتنجح إجراءات مكافحته على الوجه المأمول. ولم يُعرف بعد علمياً بشكل قاطع مصدر الفيروس المتحور الذي أصاب أعداداً تقترب من ثلاثة آلاف مصاب وقتل ثمانين منهم، وتجاوزت العدوى حدود الصين لتنتقل لأكثر من 10 بلدان أخرى حتى كتابة هذه السطور.
ومقارنة بأزمة مرض «الإيبولا» الذي انتشر في 3 بلدان في غرب أفريقيا في عامي 2014 و2015. ثم مؤخراً في الكونغو الديمقراطية فإن التداعيات الاقتصادية والمالية للفيروس المعدي الجديد أكبر بطبيعة الحال بما يتناسب مع وزن الصين وحجمها كثاني أكبر اقتصاد في العالم والأول في التجارة الدولية. وكما هو معتاد في مثل هذه الحالات التي لم تكن تتوقعها الأسواق، تنخفض أسعار الأسهم بشدة خاصة تلك المرتبطة بتجارة التجزئة والسياحة والسفر، وتنخفض كذلك بورصات السلع، بما في ذلك النفط لتوقع تراجع الطلب، وترتفع أسعار الذهب ويزداد الطلب على سندات الخزانة الأميركية فينخفض عائدها.
وبالنسبة للمستثمرين في الأسواق فهذه صدمة لم تكن في الحسبان. فرغم كثرة التقارير، التي تشارك في إعدادها شركات تأمين كبرى وتم تداولها مع بداية العام الجديد عن توقعات المخاطر العالمية، تجد أن الاهتمام الذي أعطي لمخاطر الأزمات الصحية والأمراض المعدية محدود. ففي تقرير المخاطر العالمية لعام 2020 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، بالمشاركة مع مجموعة زيوريخ للتأمين، لا تظهر أزمات الأمراض المعدية في القائمة الأولى للمخاطر التي شملت خمسة وهي تقلبات الطقس الحادة، وفشل جهود مواجهة تغيرات المناخ، والكوارث الطبيعية، وخسائر التنوع البيولوجي والكوارث البيئية. وفي تقرير آخر عن ترتيب المخاطر، أعدته مؤسسة يوراسيا مع مجموعة أكسا للتأمين، تأتي الأوبئة والأمراض المعدية في المرتبة الثامنة للمخاطر المرصودة، بينما تظهر في المراتب الخمس الأولى تغيرات المناخ، وأمن شبكات المعلومات، والتقلبات الجيوسياسية، والاضطرابات والصراعات، وسوء إدارة الموارد الطبيعية.
وإذا كان نصيب المعرفة من توقعات حدوث الأزمات الصحية في المستقبل محدوداً، فالتاريخ يذخر بالتجارب المهمة والدروس والعبر. ففي كتابه المهم عن مصائر المجتمعات البشرية، الصادر بعنوان «أسلحة وجراثيم وصُلب»، رصد العالم الأميركي «جارد دياموند» الحالات السابقة للأمراض المعدية وتفشيها، فتجدها في بدايتها سريعة الانتقال من المرضى إلى الأصحاء بما يجعل المجتمع معرضاً لخطر العدوى، وهي ذات تأثير حاد وعاجل على المصابين بها، ففي خلال زمن وجيز قد يشفى المرضى ويتمتعون بمناعة ضد الفيروس الذي أصابهم أو يلقون مصيرهم.
وتوضح دراسات عما عرف بالإنفلونزا الإسبانية، التي ظهرت مع نهاية الحرب العالمية الأولى وتفشت بين عامي 1918 و1919. عن أنها أصابت ثلث سكان الأرض بدرجات متفاوتة الحدة، وتباينت تقديرات قتلاها بين 21 مليون إلى 50 مليونا من مختلف بلدان العالم نظراً لعدم توفر الأمصال واللقاحات حينها، فضلاً عن تداعيات غياب العلاج بالمضادات الحيوية التي لم تكتشف عندئذ. كما تسبب انتشار الطاعون في أوروبا في القرن الرابع عشر في القضاء على ربع سكانها.
وتسرد وقائع تاريخ الحروب والاستيطان التي قام بها الأوروبيون للأميركتين أن الأمراض المعدية التي حملها الجنود الغزاة معهم كانت أشد فتكاً بالهنود الحمر في أميركا الشمالية والأزتيك في المكسيك والإنكا في بيرو. فقد كانت الميكروبات والجراثيم مهلكة لأهل البلاد الأصليين ومدمرة لمعنوياتهم ومبيدة لأعداد غفيرة منهم إذ لم يكن للأهالي الأصليين، فيما عرف عندئذ بالعالم الجديد، مناعة أو تحصين طبيعي منها. وعندما ذهب هيرناندو دي سوتو وهو أحد المغامرين الإسبان غازياً لمنطقة وادي المسيسبي في عام 1540 في أميركا الشمالية، وجد مدناً مهجورة من سكانها الأصليين سبقته إلى إبادتهم أوبئة أوروبية المنشأ حملتها السفن عبر البحار مع الجنود ومتاعهم.
وكلما تناقلت الأخبار عن تفشٍ لمرض معدٍ تستدعي للذاكرة آثار أمراض معدية ما زالت منتشرة، وتثور المخاوف من أن تنتقل لحالة وبائية تتجاوز موطن الإصابة بها. فهناك على سبيل المثال تقديرات منشورة على موقع منظمة الصحة العالمية تصل إلى أربعة ملايين مصاب بالكوليرا وتتراوح حالات الوفاة بين 21 إلى 143 ألفا سنوياً. كما ترصد المنظمة الأممية حالات وفاة بسبب الإنفلونزا الموسمية تصل لحوالي 650 ألف حالة وفاة سنوياً من إجمالي حالات إصابة شديدة بالمرض تصل إلى خمسة ملايين حول العالم.
وبالإضافة للتأثيرات قصيرة المدى كتقلبات الأسواق فإن هناك تأثيرات أخرى لاحقة تتعلق بما قد تسببه العدوى ومدى سرعة انتشارها أو تحولها لوباء يستوجب إجراءات طوارئ على المستوى الدولي، وهو أمر تحدده منظمة الصحة العالمية وفقاً لمعايير علمية متفق عليها. وفي أي حال، فإن تأثير أزمات الأمراض المعدية يجب تتبعه على محوري العرض والطلب. إذ يتأثر عرض السلع والخدمات بمدى انتظام العمالة وإنتاجيتها، وإجراءات العزل الصحي وإغلاق المحال والأسواق وأماكن الترفيه ومراكز الخدمات. كما يتأثر الطلب سلباً على السلع والخدمات غير الأساسية بينما يزيد على الأغذية والدواء والسلع الضرورية والمطلوب تخزينها. وتتنقل هذه العوامل بتأثيرها من النطاق المحلي إلى الدولي من خلال محاور التجارة والسياحة وانتقال العمالة فضلاً عن الاستثمار الذي سيتراوح موقفه بين الترقب والانسحاب، وفقاً لآجاله وأوعيته واستعداداته للمخاطرة، بما ينعكس سلباً على معدلات النمو الاقتصادي. العبرة بما ستكشف عنه الأيام والأسابيع المقبلة من معلومات ومدى الثقة في القدرة على احتواء الأزمة ومنعها من التفاقم.
وانتفاعاً بالخبرة الدولية في التعامل مع أزمة وباء الإيبولا الأخيرة، ومن قبلها تفشي فيروس السارس التاجي الذي تفشى في عام 2003 في الصين وجنوب شرقي آسيا، وما ترتب عليهما من فقدان في الأنفس وخسائر اقتصادية كبيرة تظهر جليا أهمية الوقاية من الأمراض المعدية والأوبئة. وقد تشكلت لجنة مستقلة بدعم من منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي لمتابعة مدى الاستعداد للتعامل مع مخاطر الأوبئة؛ وقد كان التقرير الأخير للجنة مزعجاً ومنذراً بقصور استعدادات المواجهة وعدم الأخذ بتوصيات مواجهة الأوبئة بعد دروس أوبئة الإنفلونزا السابقة وأزمة الإيبولا منذ أربعة أعوام. وقد أوصى التقرير مجدداً باتخاذ إجراءات محددة لتحقيق استعداد مناسب للعالم للتعامل مع الطوارئ الصحية وتداعياتها، وناشدت اللجنة الحكومات تقديم تقارير بما أنجزته بشأن توفير الموارد المالية وأولويات الإنفاق العام وتطوير النظم الصحية العامة وفقاً لتعهداتها الملزمة التي تنظمها اللوائح الصحية الدولية. كما ركزت اللجنة في توصياتها على أهمية التنسيق بين كافة الأطراف المعنية داخل البلدان المعنية، وكذلك مع المنظمات الإقليمية والدولية ومؤسسات التمويل لسد فجوات التمويل والتعامل مع قصور الإمكانات الفنية خصوصاً في الدول الأفقر وتلك التي تعاني من هشاشة أو صراعات.
وفي ظل زيادة التباين في الآراء حول العولمة والنظام الدولي والمؤسسات متعددة الأطراف، فإن الصحة العالمية ووقاية البشر من العدوى لا تحتمل مثل هذا الجدل. فظهور مرض معد في دولة سرعان ما يتحول إلى مصدر لتهديد سكان العالم أجمع، بما يجعل التعاون الدولي ملزماً. كما ينبغي اتباع توصيات منظمة الصحة العالمية سواء في تنفيذ إرشادات الوقاية الصحية على مستوى الأفراد والمجتمعات، أو في تطبيق إجراءات الاستعداد للأزمات الصحية وتفشي الأمراض المعدية عبر الحدود.
وفي هذا العالم الزاخر بالثروات، وإن ساء توزيعها، وجُعل فيه لكل شيء سعر فلعله من المفيد استرجاع مبدأ أساسي للتعامل مع الرعاية الصحية للبشر. فقد استند عن حقٍ الاقتصادي الفرنسي «جون تيرول»، الحائز على جائزة نوبل، لمقولة الفيلسوف «إيمانويل كانت» بأن أي شيء له سعر يمكن استبداله بغيره، أما ما لا سعر ولا بديل له فإن له كرامة، وتكون له بذلك أولوية مطلقة في الرعاية والإنفاق العام والخاص.

معوقات الازدهار الاقتصادي في البلدان المتقدمة

تحقق أغلب البلدان المتقدمة النمو الاقتصادي بمعدل متوازٍ تقريبا، وذلك يرجع إلى الوثبات الكبيرة في التطور التقني والعولمة. لكن في كل عقد من الزمان، هناك نجوم يزداد تألقها عن نجوم أخرى في سماء الازدهار. وفي المعتاد، تنظر البلدان الغنية الأخرى إلى تلك النجوم الساطعة بحثا عن إشارات حول كيفية تعزيز معدلات النمو لديها.
وخلال العقد الذي أعقب الأزمة المالية العالمية، برزت كل من ألمانيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة في سماء النمو الاقتصادي. وتفوقت هذه البلدان الثلاثة مجتمعة على الولايات المتحدة في مضمار النمو الاقتصادي منذ عام 2009.
بالنسبة لكل دولة من هذه الدول، يمكن سرد قصة عن سبب نجاحهم وما حققوه من إنجازات. إذ يُعزى الأداء الألماني القوي في غالب الأمر إلى شركات الصناعات التحويلية الصغيرة ذات الإنتاجية العالية، والتناغم الفائق بين العمل المنظم والإدارة، ونظام التعليم المهني الرائع هناك، فضلا عن الفائض التجاري الكبير.
ويرجع الفضل في نجاح سنغافورة في بعض الأحيان إلى امتياز نظام التعليم، وتميز نظام الإسكان، والاستثمار الحكومي في مجال التكنولوجيا الحيوية، وغير ذلك من متطلبات الصناعات المتطورة. أما النمو المحقق في كوريا الجنوبية فيرجع إلى قوة ورسوخ الشركات الوطنية الكبرى، ولا سيما شركة سامسونغ العملاقة. ويميل بعض الكتاب، وأنا من بينهم، إلى توصية الولايات المتحدة بمحاولة استنساخ بعض من هذه السياسات الناجحة من أجل اللحاق بالركب المتطور.
لكن خلال السنة الماضية، بدأت اقتصادات هذه البلدان الثلاثة تبدو أكثر هشاشة. وبرغم أن الأرقام الاقتصادية الأميركية تعكس صورة أقوى، فإن ألمانيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة، إما أنها قد خبرت فترات الركود الاقتصادي أو هي قريبة للغاية منها.
سجل الاقتصاد الألماني انكماشاً خلال الربع الثاني من العام الجاري، ومن المتوقع أن يواصل الانكماش خلال الربع الثالث كذلك.
ويعد انخفاض الصادرات هو السبب الرئيسي وراء ذلك. ويرجع ثُمن هذا الأمر إلى التباطؤ الاقتصادي في الصين، والتي كانت من كبار زبائن أدوات الرأسمالية الألمانية وغيرها من المنتجات الأخرى. غير أن العالم بأسره لا يشتري الكثير من المنتجات الألمانية في هذه الأيام. وأينما ذهبت الصادرات، يذهب بقية قطاع الصناعات التحويلية.
يعتقد الزميل كريس براينت أن هناك عدد من الاتجاهات التي تعمل ضد كبريات الشركات الصناعية في البلاد. إذ تتعرض صناعة السيارات الألمانية وبصورة كبيرة للتغيرات المناخية العالمية، مع تشديد القواعد الرقابية الخاصة بانبعاثات الكربون مما يشكل تهديدا كبيرا على مستقبل السيارات العاملة بالديزل بصفة خاصة. وشرعت العديد من المدن الأوروبية بالفعل في حظر سير مركبات الديزل في شوارعها، كما تعهدت بعض بلدان المنطقة كذلك بحظر كافة أنواع المركبات العاملة بمحركات الاحتراق الداخلي في المستقبل القريب.
ويشير هذا التحول إلى إجراء تعديلات مؤلمة للغاية بالنسبة إلى ألمانيا. حيث يمثل قطاع صناعة السيارات الألماني مجموعة هائلة وواسعة وعميقة من المعرفة على مدار قرن كامل من الزمان في هذا المجال وحده. ومن شأن التحول السريع إلى إنتاج السيارات الكهربائية أن يلقي بجانب كبير من هذه المعرفة في سلة مهملات التاريخ.
حقق اقتصاد كوريا الجنوبية نموا جيدا في الربع الثاني من العام الجاري، غير أنه كان قد انكمش بنسبة 0.4 في المائة خلال الربع الأول. والتضخم آخذ في الانخفاض مما يشير إلى هبوط الطلب.
وكما هو الحال بالنسبة إلى ألمانيا، فإن المشكلة تكمن في الصادرات، حيث يتعلق القلق الكبير بقطاع صناعة أشباه الموصلات. وفي السنوات الأخيرة، تحولت كوريا الجنوبية إلى أحد المراكز القوية في هذه الصناعة، حيث تفوقت شركة سامسونغ على شركة إنتل الأميركية باعتبارها أكبر شركة آسيوية مصنعة لأشباه الموصلات على مستوى العالم (وربما هي الأكثر تفوقا من الناحية التقنية كذلك). تمثل صادرات أشباه الموصلات حوالي ربع الاقتصاد الكلي في كوريا الجنوبية. ولذلك، فإن الهبوط الأخير في الصادرات – ربما إثر التباطؤ المسجل في الصين، والنزاع التجاري القائم مع الولايات المتحدة، والحرب التجارية المتصاعدة بين كوريا الجنوبية واليابان – سوف يكون مؤلما للغاية.
ومن شأن تراجع المستهلكين في كوريا الجنوبية إلى تفاقم الصدمات الخارجية. ولقد تحملت الأسر الكثير من الديون الباهظة في السنوات الأخيرة، ويمكن أن يسفر تراجع الصادرات إلى تقليص المديونية بصورة شديدة.
أما في سنغافورة، فإن اقتصاد البلاد سجل انكماشا ملحوظا في الربع الثاني من العام الجاري. ومرة أخرى، لا يخرج الجاني الحقيقي عن تراجع الصادرات وضعف التصنيع التحويلي. ومع الصادرات التي تشكل نسبة 170 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، فإن سنغافورة تتصدر بلدان العالم كواحدة من أكثر الدول اعتمادا على التجارة، وسوف تتأثر بشدة بالحرب التجارية الأميركية الصينية – بما في ذلك القيود الأميركية المفروضة على صادرات التكنولوجيا. ومن المفارقات الساخرة أن المظاهرات الصاخبة التي تجتاح هونغ كونغ الصينية، ربما تساعد سنغافورة في تفادي الوقوع في الركود الاقتصادي على المدى القصير، إذ يتحول النشاط المالي والتجاري في البلاد وفقا لتغيرات الأوضاع الجارية. غير أن الأثر بعيد المدى للحرب التجارية، مضافا إلى مشكلة شيخوخة السكان وتباطؤ الإنتاجية، سوف يستمر ويبقى.
وبالتالي، تشترك النجوم الاقتصادية الثلاثة في قضايا مماثلة – بطء التجارة العالمية، مع تراجع الطلب على الواردات الصناعية. وتسفر نهاية النمو الاقتصادي الصيني السريع، فضلا عن الحرب التجارية القائمة مع الولايات المتحدة، إلى نهاية النموذج الاقتصادي العالمي الذي كان دافعا كبيرا للكثيرين خلال العقدين الماضيين. وإذا ما تحولت الخلافات التجارية بين كوريا الجنوبية واليابان إلى الاندفاع صوب النزعات القومية الاقتصادية، فإن الاقتصادات القائمة على التصدير في العالم سوف تتعرض للمزيد من الآلام. وفي الأثناء ذاتها، من شأن الإلحاح المتزايد لمشاكل التغيرات المناخية العالمية أن يعطل صناعات السيارات التي تعتمد على منتجات الوقود الأحفوري. ومن المتوقع للبيئة الاقتصادية التي كانت سببا في بزوغ نجم كل من ألمانيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة في عام 2010، وما تلاه أن تقترب من فصل النهاية. ولا يعني ذلك بالطبع أن الولايات المتحدة ليس لديها ما تتعلمه من الأنظمة التعليمية لهذه النظم الاقتصادية، وعلاقات العمل، والسياسات الصناعية في تلك البلدان. بل في واقع الأمر، يجب على الولايات المتحدة استنساخ أفضل عناصرها والاستفادة المثلى منها. ولكنها تذكرة بأن الأنواع المختلفة من الاقتصادات تتناسب مع أوقات وأزمنة متباينة، وعندما تتغير الأوقات، يتغير بتغيرها الفائزون والخاسرون في كل مجال.

نوح سميث

العجز في الميزانيات

ما أن تعلن ميزانيات الدول حتى يكون أول ما ينظر إليه هو الفارق بين إيرادات الدولة ونفقاتها، وهو ما يعرف بالعجز أو الفائض في الميزانية. وبالنظر المجرد إلى هاتين الكلمتين، يتضح أن «العجز» مفردة تدل على السلبية، بينما تعبر كلمة «الفائض» عن الإيجابية، وكثيراً ما تقترن كلمة «العجز» بالمعاناة، فيقال إن الدولة تعاني من عجز في الميزانية، بينما يعبر عن الفائض بالتمتع، فيقال إن الدولة تمتعت بفائض في الميزانية، إلا أن السؤال الذي يطرح كثيراً: هل يعبر العجز فعلياً عن معاناة للدولة؟ وهل يعني وجود الفائض أن الدولة تتمتع باقتصاد جيد ومستقبل زاهر؟
يختلف الكثير من الاقتصاديين حول كون العجز أمراً سلبياً في ميزانيات الدول، حتى وإن استمر هذا العجز لسنوات طوال، فقد لا يؤثر هذا العجز في اقتصاد الدولة في حال السيطرة على مستوياته. فعلى سبيل المثال، لم تسجل الولايات المتحدة فائضاً في الميزانية إلا 3 مرات فقط منذ ما يقارب 6 عقود، وهي في سنوات: 1960 و1969 و2000، بينما سجلت جميع السنوات الباقية عجزاً في الميزانية، وبلغ العجز مستويات وصلت إلى 10 في المائة (نسبة من الناتج القومي) في عام 2009 إبان الأزمة المالية وما يقارب 8 في المائة في 1975. ومع ذلك فلا إنكار أن اقتصاد الولايات المتحدة هو أقوى اقتصاد في العالم طيلة هذه المدة، ولا يؤثر هذا العجز في متانة اقتصادها.
وبالنظر إلى حالة الولايات المتحدة أو غيرها من الدول، يرى جانب من الاقتصاديين أن العجز أداة للدولة (وهو عادة ما يُغطى بإصدار السندات)، تتمكن من خلاله من ضخ الأموال في السوق المحلية وتحريك الأسواق، معطية فرصة للشركات بالتوسع. كما تستخدم هذه الأداة للاستثمار وتطوير البنية التحتية للدولة، وقد يكلف عدم تطوير هذه البنية الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، تكلفة تزيد على فوائد السندات، وبذلك يكون إصدار السندات حلاً أوفر للدولة. وفي حالات الركود الاقتصادي، تستدين بعض الدول لتغذي السوق المحلية محاولة انتشالها من الركود، حتى لو كان ذلك على حساب العجز في الميزانية. وبكل الأحوال، فإن وجود عجز في الميزانية يعني أن الدولة لا تمانع في الإنفاق حتى لو كان ذلك عن طريق الاستدانة (سواء كان ذلك أمراً إيجابياً أو سلبياً). في المقابل، فإن الإعلان عن فائض في الميزانية قد يبدو إيجابياً من ناحية تحسن الإيرادات للدولة أو تخفيض نفقاتها، إلا أنه يعني أيضاً أن الدولة تفضل الاحتفاظ بهذه الإيرادات وعدم إنفاقها، وهو مؤشر يراه الكثير من المستثمرين سلبياً.
أما من يرون العجز أمراً سلبياً، فهم يستندون على مدرسة ترى أن العجز عادة يكون بسبب عدم ترشيد الإنفاق الحكومي، وأن ما يحفزها على الاستدانة هو عدم الرغبة في التصادم مع الرأي العام بتخفيض الإنفاق، إضافة إلى سهولة إصدار السندات بسبب انخفاض سعر الفائدة، وأن الحكومات الحالية تورط مثيلاتها المستقبلية في وحل من الديون قد لا يسهل الخروج منه. كما أنهم يفضلون أن يكون التطور بشكل بطيء ومدروس دون الحاجة إلى توسعات سريعة قد تجعل الاقتصاد في وضع هش. ولا شك أن نسبة العجز إلى الناتج القومي مهمة كذلك، فبعض نسب العجوزات يصعب النظر إليها بشكل إيجابي، وقد أصدر البنك الدولي مؤخراً تقريراً يشير إلى أن حجم الديون في الأسواق الناشئة تعدى 55 تريليون دولار، وهو ما يساوي 170 في المائة من الناتج القومي لهذه الدول، وهو أمر لا يمكن النظر إليه بشكل إيجابي على مستوى هذه الدول التي قد يصعب على كثير منها الإيفاء بهذه الديون دون التعرض لأزمات اقتصادية.
إن العجز في الميزانية ليس مؤشراً حاسماً على صحة الاقتصاد، فقد يكون هذا العجز بسبب زيادة إنفاق الدولة لمشاريع مستقبلية مع زيادة في إيراداتها كذلك، وقد يكون هذا العجز بسبب انخفاض في الإيرادات وزيادة في إنفاق غير مدروس، ولمعرفة الفارق بين النقيضين يجب الاطلاع على تفاصيل الميزانيات وعلى بنود المصروفات والإيرادات، ومعرفة النشاطات المشمولة في هذه البنود وتناسبها مع توجه الدولة، واستشراف المستقبل العالمي لهذه النشاطات، والتأكد من جدواها الاقتصادية والاجتماعية. كما أن الفائض كذلك ليس مؤشراً إيجابياً، فقد يعني أن الدولة بإمكانها زيادة الإنفاق من خلال تخفيض الضرائب على قطاعات مستهدفة، أو استثمارات في البنية التحتية.

د. عبدالله الردادي.

رجل «بريكست» في الاتحاد الأوروبي

يعد ميشال بارنييه، كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بـ«بريكست» البريطاني، أشبه ما يكون بنجوم موسيقى الروك في بروكسل. وعلى مدى ثلاث سنوات، كان السياسي الفرنسي المخضرم والهادئ للغاية، يواصل البحث في تفاصيل ملف مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي، مع ضمان أن الدول الأعضاء السبع والعشرين الباقية، ملتزمة بتماسك الاتحاد. وهو يعتبر الناجي الوحيد من ملحمة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي.
وحقيقة أن ميشال بارنييه لا يزال يشغل هذا المنصب رغم اقتراب عامه السبعين، هي من العلامات اللافتة، على الرغم من التوقعات السابقة أن البريطانيين سوف يعصفون عصفاً شديداً بالأوروبيين شديدي التنازع والاختلاف، إلا أن الاتحاد الأوروبي قد أثبت التزامه بالوحدة والتماسك، في حين تاهت المملكة المتحدة بين دهاليز رئيسين متتاليين للوزراء، مع ثلاثة وزراء لـ«بريكست»، وكثير من المحاولات الفاشلة للحصول على صفقة جيدة خارج الكتلة الأوروبية.
ولا زلنا في انتظار أصعب الأوقات في المرحلة المقبلة. فمع الاتحاد الأوروبي المتأهب لمرافقة المملكة المتحدة إلى بوابة المغادرة – إثر تأمين الأهداف الرئيسية لتسوية الالتزامات المالية الخاصة بالمملكة المتحدة، مع تجنب العودة إلى الحدود الآيرلندية العسيرة، وحماية حقوق كافة المواطنين – يتعين على السيد بارنييه وفريقه التفاوضي في الآونة الراهنة التفاوض بشأن صفقة جديدة، لترسيخ العلاقات التجارية المستقبلية مع الجارة البريطانية المزعجة للغاية. مع العلم بأن خسارة المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي لا تُقارن بخسارة إمارة ليختنشتاين، إذ تُعد «سيتي أوف لندن» هي مركز الثقل المالي الأول والأعرق في عموم أوروبا، وتجري المملكة المتحدة وحدها صفقات تجارية بما يقارب 600 مليار جنيه إسترليني مع بقية بلدان الاتحاد الأوروبي على أساس سنوي، وهي تمثل وحدها نسبة 40 في المائة من القوة العسكرية للكتلة الأوروبية بأسرها. وبالتالي، هناك محفزات قوية لإبقاء لندن قريبة قدر الإمكان.
ويدور التحدي الذي يواجهه السيد بارنييه في أن المملكة المتحدة لم تعد مجرد شريك، وإنما تحولت إلى «منافس على أبواب أوروبا»، تماماً كما وصفتها المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل ذات مرة. وفي داخل الاتحاد الأوروبي، لدى البريطانيين أسهمهم في اللعبة، والتزامات تستحق الوفاء، من التدفق الحر للسلع والبضائع ورؤوس الأموال، واعتماد المعايير الصارمة بشأن كل شيء، من مستوى لعب الأطفال وحتى تبييض الأموال، مع السياسات التجارية المشتركة مع كل دولة من الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد. وفي خارج الاتحاد الأوروبي، يملك البريطانيون الحرية الكاملة – من الناحية النظرية – في فرض قواعدهم الخاصة. فماذا لو قرر أنصار «بريكست» أن أفضل السبل لتعويض فقدان التجارة غير المتوترة مع أكبر أسواق العالم يكون من خلال خفض الضرائب، مع إيلاء ضوابط أكثر هدوءاً بشأن كل شيء، من اللوائح التنظيمية المالية وحتى معايير زراعة وصناعة المواد الغذائية؟ بالتالي، من شأن أي صفقة للاتحاد الأوروبي مع المملكة المتحدة أن تكون باباً خلفياً مستتراً للإغراق التجاري.
وهذا هو السبب في أن الشغل الشاغل لدى السيد بارنييه يتعلق بالتفاوض بشأن الحواجز غير الجمركية للتجارة مع المملكة المتحدة – أي القواعد واللوائح – بدلاً من التفاوض بشأن الرسوم الجمركية ذاتها. وصرح السيد بارنييه محذراً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي: «سوف تكون إمكانية الوصول إلى أسواقنا متناسبة تماماً مع الالتزامات التي جرى الاتفاق عليها فيما يتصل بالقواعد المشتركة». فإن كان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يسعى للحصول على صفقة صفرية الحصص وصفرية الرسوم الجمركية، فإن هذا يعني انحرافاً صفرياً من جانب الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بقضايا البيئة، أو حقوق العمالة، أو حتى المساعدات الحكومية. ولا يمكن اعتبار هذا من المساومات الرخيصة فحسب، وإنما هو انعكاس لحقيقة أخرى مفادها أن أكبر أصول الاتحاد الأوروبي يتمثل في السوق الأوروبية الموحدة.
والسيد جونسون، الذي حاز خلال الشهر الجاري أكبر أغلبية برلمانية، لن يجعل الأمور أيسر مما هي عليه. فلقد استبعد تماماً تجاوز مهلة الأحد عشر شهراً المحددة لإجراء المحادثات التجارية، ومما لا شك فيه أنه يأمل في اكتساب مزيد من النفوذ إثر مزيج من الضغوط الزمنية على بروكسل، مع تلاشي الأصوات المناهضة للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي في الداخل.
بيد أن السيد بارنييه لديه عدد من بطاقات اللعب كذلك. فمن المتوقع لذلك السياسي الفرنسي الرصين، الذي يروق له على الدوام المقارنة بين المفاوضات والمشي الطويل في الجبال، أن يتمسك بأسلوبه الصبور للغاية في تناول الأمور. والاحتمال الأرجح أنه في غضون عام واحد، لن يكون اقتصاد المملكة المتحدة أقل ارتباطاً باقتصاد الاتحاد الأوروبي. وسوف تعتمد صادرات الخدمات المالية والقانونية البريطانية إلى الكتلة الأوروبية – والتي تقدر قيمتها بنحو 60 مليار جنيه إسترليني على أساس سنوي – على ما إذا كان الاتحاد الأوروبي يعتبر أن التوافق التنظيمي متناسب بما فيه الكفاية. وتدفقات البيانات عبر الحدود البريطانية، وصادرات المواد الكيميائية، وسلاسل التوريد البريطانية من شركات صناعة السيارات معرضة للمخاطر بصورة مماثلة. ومن غير المتوقع للمتحولين الجدد إلى معسكر جونسون من معاقل الطبقة العاملة في البلاد، أن يقبلوا بأي محاولة للعبث بحقوق العمال على الإطلاق. ولن يكون «البريكست» وحده قادراً على النفاذ خلال «تأثير بروكسل» المذكور.
وفي خاتمة المطاف، سوف يرجع الأمر إلى مقدرة السيد بارنييه على الحفاظ على حالة السلام والوئام داخل الاتحاد الأوروبي، تلك البراعة السياسية التي لا يباريه فيها إلا السيد جونسون نفسه.

ليونيل لورانت.

عن مسارات النمو والتقدم العربي

قال الأب الحكيم لولده، متهكماً، لماذا تجعل الأمر صعباً إذا كان في إمكانك أن تجعله مستحيلاً؟
تذكرت هذه المقولة أثناء متابعتي إحصاءات الأداء الاقتصادي والتنموي العربي عن العام الماضي. فلم تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انخفاضاً في الأداء الاقتصادي عن المتوقع كالذي شهدته فيه، بما يجعل الحديث عن التقدم العربي، خاصة مع التوترات السياسية والأمنية الراهنة، إفراطاً في التفاؤل. فمعدل النمو الاقتصادي لهذه المنطقة، التي تضم أغلب الدول العربية، اقترب من الصفر عند رقم 0.1 في المائة في عام 2019 بعدما كان 0.8 في المائة في عام 2018. ووصل معدل نمو متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي لرقم سلبي بنقطتين تحت الصفر. وفي حين بلغ معدل النمو الاقتصادي للبلدان المستوردة للنفط 4 في المائة، كان معدل نمو الدول المصدرة له سالب 0.8 في المائة.
ويشير تقرير البنك الدولي عن آفاق الاقتصاد العالمي، الصادر منذ أيام عارضاً هذه التقديرات، إلى تراجع معدل نمو اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي إلى 0.8 في المائة في العام الأخير بعدما كان 2 في المائة في العام السابق عليه، وأن إيران، التي يضمها التقرير في الإقليم، قد شهدت أكثر معدلات النمو انخفاضاً بما يقدر بسالب 8.7 في المائة، أما مصر فكانت أكثر الدول ارتفاعاً في معدلات النمو بنحو 5.7 في المائة. ورغم التوقع بأن يكون العام الحالي أفضل من سابقه بمعدلات نمو تحوم حول رقم 2.5 في المائة، فإن هذا يستند إلى افتراضات بزيادة الاستثمار في البنية الأساسية وتحسن نسبي في مناخ الاستثمار.
هذه المعدلات المتواضعة للنمو، التي تقترب بالاقتصادات العربية من حالة ركود مستمر، لن تتحقق معها أهداف التنمية المستدامة أو رؤى 2030. فالنمو المطرد والمرتفع والمتوازن أحد الشروط الضرورية للتنمية. وبالنظر للهرم السكاني العربي نجده يزداد اتساعاً عند قاعدته مع زيادة عدد المواليد، كما تزداد قمته ارتفاعاً واتساعاً أيضاً بفضل زيادة توقعات العمر؛ وهذا يستوجب استثمارات جديدة تتوافق مع مجتمعات تجمع بين الشبابية وطول الأعمار في آن واحد.
وتتعرض موازين مدفوعات الاقتصادات العربية في الوقت ذاته لمخاطر جيوسياسية، وصراعات ونزاعات مسلحة، وتردد في خطى الإصلاح. كما يتزايد اعتماد بلدان عربية على قوى خارجية تقليدية أمسى بعضها يشهد اضمحلالاً اقتصادياً تجتهد لتواريه. هذا كله لا يجعل معدل النمو الاقتصادي المتوقع قابلاً للتحقيق رغم تدنيه. وتحتاج الاقتصادات العربية بصفة عاجلة إلى زيادة الاستثمارات، والارتقاء بإنتاجية العمل، وزيادة التصدير، والسعي للتعاون الإقليمي.
أولاً، زيادة كمية ونوعية في الاستثمارات: سواء عامة وخاصة، محلية وأجنبية مع إعطاء الأولوية لزيادة الاستثمارات الخاصة؛ لأنها قد شهدت تراجعاً كنسبة من الدخل القومي على مدار العقد الماضي، كما أن ضغوط المديونيات العامة المتراكمة لا تسمح بمزيد من الاستدانة في كثير من البلدان العربية التي اقتربت أو تخطت المؤشرات الحرجة لقدرتها على خدمة الديون. هناك حاجة إلى زيادة الاستثمار في الرعاية الصحية والتعليم وفي مؤسسات سوق العمل، فضلاً عن الاستثمارات في البنية الأساسية التقليدية وفي المرافق العامة، وكذلك في بنية التحول الرقمي. كما أن هناك فرصاً كبرى للاستثمار تتيحها برامج الاستدامة ومكافحة تغيرات المناخ مثل الطاقة الجديدة وإعادة تأهيل المشروعات الصناعية والزراعية.
ثانياً، تطوير سوق العمل: صحيح أن ضعف الاستثمارات وإنتاجيتها مسؤول عن تفاقم البطالة العربية حتى أصبحت ضعف متوسط الرقم العالمي، هذا رغم انخفاض نسب المشاركة في سوق العمل عزوفاً أو قنوطاً. لكن ضعف إنتاجية العمل مسؤول أيضاً، مع معوقات أخرى، عن إحجام الاستثمارات الخاصة عن المشاركة في قطاعات الإنتاج. فمتوسط نمو إنتاجية العمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد بلغ 0.3 في المائة، في الفترة من 2013 حتى 2018 هو الأدنى مقارنة الاقتصادات النامية والأسواق الناشئة ذاتها وفقاً للتقرير المشار إليه. وتتجه إنتاجية العامل للارتفاع مع زيادة التنافسية، وزيادة رأس المال البشري، خاصة من خلال التدريب وزيادة المهارات، كما يطور من إنتاجية العمل والاستثمار المرتبط بها ارتفاع فرص الحصول على الائتمان بتيسير إجراءاته، ويزيد من الإنتاجية شفافية الإجراءات الضريبية والجمركية والرقابية، والاعتماد على نظم مرقمنة وإلكترونية في تخفيض تكلفة المعاملات ورفع معايير الحوكمة. ولعل تفعيل توصيات تقرير منظمة العمل الدولية بشأن مستقبل العمل والصادر متزامناً مع الاحتفال بمئوية تأسيسها في إطار سياسة عامة، يضع سوق العمل في طريق تطوير يناسب التعامل مع المربكات التكنولوجية ومستجدات الثورة الصناعية الرابعة.
ثالثاً، تحرير التجارة لدفع التنافسية والتصدير: يعد متوسط نصيب الفرد العربي من الصادرات غير النفطية والاستخراجية من الأدنى بين الاقتصادات النامية، ولن ترتفع الصادرات بإجراءات متناثرة أو قطاعية منعزلة عن السياسات الاقتصادية أو غائبة عما يدور في سوقي العمل ورأس المال، وإن حسنّت مقاصدها. ويندر أن تجد وثيقة لسياسات التصدير للسلع غير النفطية في البلدان العربية في إطار سياسة اقتصادية متكاملة دافعة للنمو والتشغيل والاستدامة؛ وإن وجد شيء من ذلك ندر أن تجد له حظا من التطبيق. وفي إطار النقاش الدائر عن سلاسل القيمة العالمية والسعي للتخصص في أنشطة ذات قيمة مضافة عالية يجب تفعيل السياسات المالية والنقدية لتحفيز التوطين الإنتاجي الصناعي والزراعي والخدمي وفقاً لمعايير دولية وربط المنشآت الإنتاجية بالأسواق العالمية.
تفعيل البعد الإقليمي: وفقاً لمعايير الاندماج لسنا إقليماً اقتصادياً ولا الأقاليم الاقتصادية تشبهنا. فأسس التعاون والاندماج الاقتصادي بين دول الجوار الجغرافي لا تكتفي باتفاقيات لا تفعّل ومواثيق لا تطبّق. ومقارنة سريعة بين منطقتنا وتجمع «آسيان»، الذي أنشئ عام 1967 ويضم اليوم 10 دول جنوب آسيوية، نستطيع معرفة الفرق بين الحديث عن التعاون وتفعيله في تدفق لحركة التجارة والاستثمار وانتقال العمالة وضوابطها والمشاركة في نشر المعارف والاستفادة من التكنولوجيا. وها هم يجتمعون برئاسة فيتنام تحت شعار «التمساك وسرعة الاستجابة»، إدراكاً منهم لظروف المخاطرة وعدم اليقين التي تعتري اقتصاد العالم وسياساته، ويعطون الأولوية هذا العام لمحاور خمسة تشمل الاستقرار والسلام، والاندماج الاقتصادي وتجسير الفجوات في إطار تحقيق التنمية المستدامة، وترسيخ الهوية والقيم المشتركة لـ«آسيان»، وتعضيد المشاركات مع التجمعات والدول الأخرى، وزيادة الكفاءة المؤسسية للتجمع وإجراءات عمله.
لن يتحقق أي مما سبق، على النحو المرجو، دون تفعيل قواعد الحوكمة وإنهاء التضارب والتداخل في المفاهيم وممارساتها بشأن الدور التنموي للدولة، ويقصد بها هنا دور الحكومة والشركات العامة في النشاط الاقتصادي. وهناك من يشتكي مما يطلق عليه أثر مزاحمة الاستثمارات العامة للخاصة، وهناك من ينادي بالمزيد منها. ومع هذا الجدل تجد تخصيصاً لما وجب فيه عمومية النفع وتأميماً لما يجدر به أن يكون خاصاً، وبهذا يختلط الحابل بالنابل وتتعقد أسس المحاسبة والمساءلة. لا شك أن للاستثمارات العامة دوراً حيوياً في النشاط الاقتصادي والتنمية، خاصة عندما ترتفع التكاليف الثابتة وتطول فترات انتظار العائد وتزداد المخاطر. وفضل الاستثمارات العامة على البحث والتطوير والبنية التكنولوجية في الدول المتقدمة اقتصادياً غير منكور، وكذلك الأمر في البنى الأساسية والمرافق العامة ذات الطبيعة الاحتكارية ويلزم دخول الاستثمارات العامة في غير ذلك اتفاقاً على ضرورته وتكلفته وبدائله، وأساليب الدخول والتخارج بما يحقق الصالح العام والنفع لعموم الناس.

د. محمود محي الدين.

اقتصاد ترمب يدفع الديمقراطيين نحو ارتكاب الأخطاء

يواجه الديمقراطيون تحدياً لم يسبق لهم مواجهته منذ الانتخابات الرئاسية عام 1988، فهم يحاولون إقناع عدد كاف من الأميركيين بطرد رئيس جمهوري من البيت الأبيض رغم أن الاقتصاد يبلي بلاءً حسناً. وقد أخفقوا في ذلك عام 1988 ـ ومثلما كشفت آخر مناظرة رئاسية لهم، يبدو أنهم حتى هذه اللحظة لم يتوصلوا إلى كيفية مواجهة ذلك التحدي هذه المرة أيضاً.
في وقت مبكر من تلك المناظرة، أشارت جودي وودروف التي تولت إدارتها إلى أن «مجمل الاقتصاد الأميركي في الوقت الراهن يبدو قوياً»، وسألت المرشحين عما سيقولونه للناخبين «الذين ربما لا يروق لهم كل شيء يفعله الرئيس ترمب، لكن يروق لهم الوضع الاقتصادي الحالي». وقد نفى كل من المرشحين الأساس الذي صاغت وودروف على أساسه سؤالها، وقالوا إن الاقتصاد ليس قوياً حقاً.
وكان من بين المسارات التي اتخذوها تسليط الضوء على أوجه قصور معينة في الاقتصاد.
من ناحيته، قال السيناتور بيرني ساندرز (من ولاية فيرمونت) إنه لدينا أعلى معدل فقر بين الأطفال «بين جميع الدول الكبرى تقريباً على وجه الأرض»، وأن نمو الأجور خلال العام الماضي، البالغ 1.1% بعد حساب التضخم، «لم يكن عظيماً».
وقال النائب السابق للرئيس جو بايدن إن «معظم الأميركيين سيبيعون أي شيء أو يقترضون المال» لسداد فاتورة غير متوقعة تقدر بـ400 مليار دولار. أما رجل الأعمال أندرو يانغ فقال إن الركود وغياب الأمن المالي وديون قروض الطلاب بلغت مستويات مرتفعة قياسية.
الملاحظ أن الكثير من هذه الشكاوى إما كاذبة أو مبالغ فيها. مثلاً، تبدو معدلات فقر الأطفال في أميركا سيئة عند وضعها في مقارنات دولية فقط إذا نظرنا إلى الفقر النسبي، أي الأطفال داخل الأسر التي تكسب أقل من نصف الدخل الوطني.
ويعتبر هذا المعدل في جوهره مقياساً لانعدام المساواة. أما إذا نظرنا بدلاً عن ذلك إلى مستويات الحرمان المادي بين الأطفال، فسنجد أن الولايات المتحدة متوافقة مع باقي الدول. والملاحظ أن معدلات فقر الأطفال في الولايات المتحدة في تراجع.
وكان نمو الأجور العام الماضي أفضل مما كان عليه على مدار الجزء الأكبر من العقدين الماضيين. وقد شهدنا في هذه الفترة معدلات نمو جيدة في الأجور والعمل.
بجانب ذلك، فإن إحصائية بايدن المفاجئة عن فاتورة الـ400 مليار دولار خاطئة. ويكاد يكون في حكم المؤكد أنه أخطأ في فهم النتيجة التي خلص إليها بنك الاحتياطي الفيدرالي حول أن 61% من الأميركيين سيحتاجون لدفع 400 دولار من كل منهم لسداد الديون. أما الـ39% الباقين فبالفعل سيحتاجون لبيع شيء ما أو الاقتراض، لكن هذا لا يعني أن غالبية السكان «سيلجأون» إلى مثل هذه الإجراءات.
من ناحية أخرى، فإن الأمن المالي للأميركيين يبدو جيداً، حسبما أفادوا بأنفسهم. وجدير بالذكر أن نسبة الأميركيين الذين أخبروا معهد «غالوب» أنهم يشعرون بالقلق إزاء الحفاظ على مستوى معيشتهم، قد انخفضت. وعلى مدار ثلاث سنوات متتالية، قالت أغلبية إن وضعها المالي يتحسن.
وبينما يسعى الديمقراطيون بدأب للعثور على إحصاءت كئيبة، تتحرك جميع المؤشرات الاقتصادية تقريباً في الاتجاه الصائب. وارتفعت معدلات نمو الوظائف والأجور، بينما تراجعت معدلات الفقر.
أما المسار الثاني الذي اتخذه المرشحون الديمقراطيون فكان إنكار أن الأميركيين يعتبرون اقتصاد اليوم جيداً.
وقد انضم إلى بايدن ويانغ، نائبة ماساتشوستس السيناتورة إليزابيث وارين في الادعاء بأنه رغم ارتفاع إجمالي الناتج الداخلي وسوق الأسهم، فإن الأميركيين العاديين لا يشعرون بأن هذه أوقات رخاء اقتصادي.
إلا أنه في الحقيقة أن غالبية الأميركيين لا يراودهم الشعور الذي يتحدث عنه هؤلاء الديمقراطيون. ومثلما أشرنا بالفعل، فقد ذكر غالبية الأميركيين أن «الوقت مناسب للبحث عن وظيفة جيدة»، وذلك بنسبة تفوق 50% حسبما كشف معهد «غالوب» على مدار كامل الفترة التي قضاها ترمب في الرئاسة، بينما كانت النسبة أقل من 50% فيما يتعلق بسنوات رئاسة جورج دبليو. بوش وباراك أوباما. وخلال العامين الماضيين، قال غالبية الأميركيين إنهم يعتبرون الظروف الاقتصادية ممتازة أو جيدة، لكن هذا لم يكن الحال في عهدي الرئيسين السابقين.
بالتأكيد بإمكان الديمقراطيين القول بأن بإمكاننا تقديم أداء أفضل، أو نفي أن تكون سياسات ترمب هي المسؤولة عن الوضع الاقتصادي الجيد، خاصة أن الكثير من التوجهات الاقتصادية الإيجابية استمرت، لكنها لم تتسارع في وتيرتها، خلال فترة وجود ترمب في الرئاسة. إلا أن الادعاء بأن «الطبقة الوسطى يجري قتلها» مثلما ادعى بايدن، فيتعارض بصورة صارخة ليس مع البيانات الاقتصادية فحسب، بل كذلك مع ما يعتقده غالبية الأميركيين عن حياتهم.
وربما تتراجع الأوضاع الاقتصادية بحلول موعد الانتخابات على نحو لا يتوقعه الكثيرون، لكن حال استمرار الأوضاع الحالية، فإن الرئيس ترمب قد يخوض الانتخابات المقبلة بناء على رسالة اقتصادية بسيطة مفادها أنه كان خياراً جيداً من الناحية الاقتصادية، بينما المرشح الديمقراطي خيار سيئ.

 

كيف عاد الاقتصاد الهندي إلى الأرض في غضون عام؟

فقد الاقتصاد الهندي بريقه هذا العام. ومع سقوطه في هوة حالة من التباطؤ العميق وأزمة ائتمانية، انتقلت البلاد من اقتصاد تنهال عليه الإشادة باعتباره عملاقاً في حالة نمو إلى بلد مرشح للخسارة على الصعيد الاقتصادي.
نادراً ما شهد العالم اقتصاداً مني بهذا التحول الهائل. في الربع الثالث من العام، ارتفع معدل الإنتاج الداخلي بنسبة 4.5% عن عام مضى، ما يعادل تقريباً نصف الوتيرة التي كان عليها خلال النصف الأول من عام 2018. كما تراجعت ثقة المستهلك لأقل مستوى لها منذ عام 2014، بينما تتسم سوق العمل، التي تعد مؤشراً حيوياً في بلد يبلغ تعداد سكانه 1.4 مليار نسمة، بالهشاشة. وقفز معدل البطالة إلى أعلى معدل له منذ 45 عاماً ليصل إلى 6.1%.
على الجانب الآخر نجد أنه في العام الماضي فقط، كانت الهند أسرع الاقتصادات الكبرى نمواً بالعالم. وعج العقد الماضي بتوقعات بأن الهند ستستحوذ على نصيب متزايد من التجارة العالمية، بجانب الصين وأميركا. ومع ذلك، حققت الفلبين وإندونيسيا نمواً أسرع عن الهند خلال الربع الماضي وجاءت ماليزيا خلف الهند مباشرة. أما الصين، التي تعاني من تباطؤ في اقتصادها، فحققت نمواً جيداً بلغ 6% بينما جاءت فيتنام في مرتبة متقدمة للغاية بتحقيقها نمواً بنسبة 7.3%.
ويعود جزء كبير مما يحدث اليوم إلى النظام المالي المحطم، حيث تناضل البنوك الهندية في وجه أكوام من القروض الرديئة تعتبر من بين الأكبر على مستوى العالم.
وتراجعت جهات الإقراض التقليدية التي حملت أعباء مفرطة لتحل محلها بنوك مشبوهة. وقد اصطدمت هذه البنوك هي الأخرى بالجدار. ومن بين أبرز الأمثلة مؤسسة «ليسينغ آند فايننشال سيرفيسز ليمتد» التي أشهرت إفلاسها العام الماضي، ما تسبب في أزمة سيولة.
وبينما سيطرت الحكومة على المؤسسة في محاولة لاحتواء الأضرار، كانت هذه مجرد البداية. الشهر الماضي، طرد البنك المركزي إدارة مؤسسة «ديوان هاوسينغ فاينانس كورب»، وهي عنصر بارز في سوق الرهون، وبعثت بالمؤسسة إلى محكمة الإفلاس. أما جهات الإقراض، فعملت على كبح جماح مختلف نشاطاتها.
المثير للقلق بالنسبة لبنك الاحتياطي الهندي أن هذه التجلطات في الشرايين المالية للاقتصاد، تعني أن تقليص معدلات الفائدة خمس مرات هذا العام، لم يفلح في دفع عجلة الاقتصاد.
ورغم الإجراءات المبكرة والقوية من أجل تخفيض معدلات الفائدة، لا تتدفق جميع فوائد السياسات النقدية الأكثر ليناً عبر الاقتصاد الحقيقي. في الفترات العصيبة، عادة ما يبقي مسؤولو البنوك المركزية سيطرة قوية على الاقتصاد. ومع هذا، أدهش بنك الاحتياطي الهندي المستثمرين بضع مرات هذا العام.
مثلاً، بدا القرار غير العادي بخفض الفائدة بمعدل 35 نقطة أساسية في أغسطس (آب)، بدلاً عن ربع في المائة مثلما توقع خبراء اقتصاد، تافهاً، وليس ذكياً.
كما بدا قرار آخر بخفض جديد هذا الشهر في حكم المؤكد حتى أعلن المسؤولون رفضهم، الأمر الذي جاء بمثابة خطأ صادم.
وهناك أيضاً مشكلة الاحصاءات غير الموثوق بها. جدير بالذكر أن ورقة صدرت عن مساعد سابق لرئيس الوزراء ناريندرا مودي توقعت أن النمو خلال السنوات القليلة الماضية كان أقرب بكثير إلى النمو الذي تحقق خلال الربع الثالث البالغ 4.5%. والمعروف أن تجميع البيانات خلال فترات التباطؤ يكون صعباً لأنه حتى التقدم التدريجي سيتراجع تحت وطأة المقارنات بعام مضى.
وكثيراً ما يتباهى أنصار الهند لدى مقارنتها بالصين، حيث يرون فيها نظاماً ديمقراطياً يقوم على نظام فيدرالي نشط وسلطة قضائية مستقلة. ويحول ذلك دون إجراء التغييرات الكاسحة التي فرضها دينغ شياو بينغ على الصين والتي حولت الأجزاء الرئيسية منها إلى قوة تصدير وتصنيع عملاقة. وخلال فترات الرخاء، لم يقل القادة الهنود ما يذكر لدحض هذه المقارنة.
وليس من الضروري أن يكون التراجع الحالي نهاية المسيرة الاقتصادية للهند، فقد سبق أن ذاقت «النمور الآسيوية»، إندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية، مرارة الأزمة الاقتصادية وخرجت منها أقوى بعد فترات ركود مؤلمة.
وفي تلك الدول عمل المسؤولون على تعزيز الاحتياطيات وتقييد الاقتراض بالعملة الأجنبية ومراقبة مستويات الديون بدأب، بينما أصبحت البنوك المركزية أكثر استقلالاً. ومع أن معدلات النمو جاءت أقل فيما بعد الأزمة، فإنها أيضاً كانت أكثر استدامة.
المؤكد أن الهند ستظل دوماً اقتصاداً أكثر أهمية للعالم عن الفلبين أو ماليزيا. وحتى لو تباطأ نموها لفترة من الوقت، فإن حجمها الضخم يجعل إسهامها في النمو العام أهم بكثير. وبحلول العام المقبل، سيبدأ الزخم الناجم عن المحفزات النقدية والمالية في الظهور. ومن المحتمل أن ينمو الاقنصاد هذا العام بمعدل حوالي 5% ويصل إلى 6% عام 2020، حسبما ذكر شلان شاه من مؤسسة «كابيتال إكونوميكس».
وعليه، فإن الهند قد تستعيد مكانتها الاقتصادية الرفيعة، وإن كان على نحو أكثر هدوءاً واستمرارية. وسيكون هذا التصالح مع الواقع شيئاً يخدم الهند والعالم كله.
دانيال موس.

أهمية مشروع غاز بوتين الكبير

عبر بضعة أسابيع مهمة، اتخذ أحد أكثر مشاريع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أهمية وطموحاً – نظام تصدير الغاز الطبيعي الروسي لمواكبة الواقع الجيوسياسي الجديد عوضاً عن واقع حقبة الحرب الباردة القديم – وضعه النهائي. ومن المتوقع أن يستمر، من دون تغييرات كبيرة، حتى نهاية المسار الروسي على قمة أكبر مصدري الطاقة حول العالم.
وتشمل اللمسات الأخيرة على المشروع الكبير، الذي بدأ العمل فيه منذ عام 2001 مع بناء خط أنابيب «بلو ستريم» إلى تركيا، إطلاق خط آخر للأنابيب يحمل اسم «باور أوف سيبيريا» إلى الصين في الثاني من ديسمبر (كانون الأول). وكانت الولايات المتحدة قد فرضت في الأسبوع الماضي عقوبات على خط أنابيب «نورد ستريم 2» المتجه إلى ألمانيا، مع صفقة جديدة لنقل الغاز الطبيعي إلى أوكرانيا، وتشغيل خط أنابيب «تورك ستريم»، والمقرر له الانطلاق في يناير (كانون الثاني) من العام المقبل.
وساعدت الضغوط الخارجية مع ظروف السوق العالمية على صياغة نظام تصدير الغاز الطبيعي الروسي الجديد، بحيث لا يمكن استخدامه كأداة ضغط شريرة لتعزيز سياسات بوتين الخارجية. وفي الأثناء ذاتها، ينتظم الخط الجديد بصورة تجعل من روسيا بعد بوتين قادرة على الحفاظ على حصتها الهائلة في سوق الطاقة الدولية مع استخدامها كأساس متين لعقد الشراكات التجارية المفيدة. مما يجعل من النظام الروسي جزءاً إيجابياً من إرث فلاديمير بوتين للبلاد، إن لم يكن بفضل الرجل تماماً.
كانت روسيا قد ورثت تعاقدات توريد أوروبا بالغاز الطبيعي عن الاتحاد السوفياتي السابق، مما يعتبر أحد أكبر مصادر العملة الصعبة بالنسبة لاقتصاد روسيا المتهالك لما بعد الحقبة السوفياتية. غير أن خطوط الأنابيب السوفياتية كانت تمر عبر أراضي أوكرانيا وروسيا البيضاء، اللتين كانتا جزءاً من الإمبراطورية السوفياتية القديمة، ثم تحولتا إلى جمهوريتين مستقلتين وذاتي سيادة، وتطالبان برسوم لعبور الغاز الطبيعي وإمدادات الطاقة منخفضة الأسعار في مقابل المحافظة على إمدادات الطاقة الروسية صوب أوروبا، أو بمعنى آخر، إلى الجانب الشيوعي السابق منها، حيث كان كل ما هو روسي وما يأتي من روسيا غير مرغوب فيه على الإطلاق حينذاك.
وفي الوقت نفسه، شكل موردو الغاز الطبيعي في آسيا الوسطى وفي أذربيجان تهديداً تنافسياً؛ إذ كان من اليسير عليهم نسبياً توصيل الغاز الطبيعي إلى تركيا، مما قد يؤدي إلى توصيله مرة أخرى إلى أوروبا.
وفي العقد الأول من القرن العشرين، عندما اعتنى فلاديمير بوتين ومستشاروه بفكرة جعل روسيا قوة عظمى في مجال الطاقة، أصبح من الواضح لدى خبراء الاستراتيجية في الكرملين أنهم في حاجة ماسة إلى اعتماد المزيد من المرونة لزيادة الإمدادات والحصول على مزيد من النفوذ الاقتصادي على دول الجوار في أوروبا وآسيا. وكان خط أنابيب «بلو ستريم»، الذي يمر عبر قاع البحر الأسود وحتى ميناء سامسون التركي وجرى افتتاحه في عام 2003، بمثابة الخطوة الافتتاحية الأولى في لعبة الغاز الطبيعي لدى الرئيس بوتين.
بيد أن طاقة خط أنابيب «بلو ستريم» الاستيعابية التي تبلغ 16 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في العام قد تقلصت من واقع 180 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي التي كانت تصدرها خطوط الأنابيب السوفياتية إلى أوروبا عبر أوكرانيا وروسيا البيضاء. وساعد ذلك روسيا على التنافس في تركيا، ولكن لم يعتبر حلاً للمشكلة الأكبر المتمثلة في اعتماد روسيا على خطوط الأنابيب في أوكرانيا وروسيا البيضاء. وتوالى تراجع حصة واردات الغاز الطبيعي التي تصل إلى أوروبا قادمة من روسيا.
وفي عام 2011، تمكنت روسيا من السيطرة الكاملة على نظام نقل الغاز الطبيعي في روسيا البيضاء مقابل إمدادات الغاز الطبيعي الرخيصة إليها. لكن أوكرانيا ظلت تفرض سيطرتها بقوة على خطوط الانابيب التي تمر عبر أراضيها، والتي تمثل نصيب الأسد من طاقة روسيا التصديرية الكلية.
أراد فلاديمير بوتين المزيد من الوصول المباشر إلى جنوب أوروبا وغربها، وأراد امتلاك القدرة على تجاوز عقبة أوكرانيا لأسباب سياسية واقتصادية. وكان نظام خطوط الأنابيب الأوكراني، الخاضع لإدارة إحدى الشركات الوطنية، في حالة سيئة للغاية، وتخشى شركة «غازبروم» الروسية التي تحتكر الصادرات الروسية للغاز الطبيعي عبر خطوط الأنابيب، من أن تضطر إلى الاستثمار في إصلاح خطوط الأنابيب الأوكرانية ومن ثم يكون لها تأثير كبير على إدارتها وتشغيلها. وفي الوقت نفسه، أراد بوتين التأثير على الحكومة الأوكرانية لإبقائها ضمن المدار الروسي. وقطعت الحكومة الروسية إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوكرانيا مرتين في السنوات الأولى من القرن الجديد في محاولة لتركيعها، ولكن في غياب طرق التصدير البديلة لم تسفر هذه الأساليب عن نتيجة تذكر.
وفي عام 2012، اتخذت روسيا خطوة رئيسية أخرى من خلال افتتاح خط أنابيب «نورد ستريم»، الذي يمتد عبر قاع البحر الأسود وحتى شمال ألمانيا، مع طاقة استيعابية بلغت 55 مليار متر مكعب في العام، الأمر الذي عزز من نصيب روسيا في واردات الغاز الطبيعي إلى أوروبا. وفي الوقت نفسه، كانت روسيا تخطط لبناء خط أنابيب كبير يصل إلى جنوب أوروبا، تحت اسم «ساوث ستريم»، يمر عبر البحر الأسود وحتى بلغاريا. ومن هناك يمكن تمديد الخط فرعيا لنقل الغاز إلى اليونان، ثم إيطاليا، وصربيا، إلى وسط أوروبا.
وكان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 قد جعل من الضروري على الرئيس بوتين إعادة رسم خريطة تصدير الغاز الطبيعي الروسي؛ إذ لم تعد أوكرانيا – وفق الأوضاع الجديدة – مجرد شريك مثير للإزعاج، بل تحولت إلى خصم مباشر. وأصبح تجاوزها من الضرورات الجغرافية والسياسية بالنسبة إلى الرئيس الروسي. وكانت أوروبا أكثر قلقاً من أي وقت مضى بشأن زيادة صادرات الغاز الطبيعي من روسيا، والتي يمكن استخدامها في رفع مستوى النفوذ السياسي. ومن جهته، قام الاتحاد الأوروبي في أواخر عام 2014 بعرقلة بناء خط أنابيب «ساوث ستريم» بممارسة الضغوط الكبيرة على بلغاريا. كذلك أصبحت خطط توسيع خط «نورد ستريم» من خلال إلحاق خطين متوازيين من الأنابيب فيما كان يُعرف بخط «نورد ستريم 2»، أكثر سمية ورفضاً من الناحية السياسية، لا سيما في ظل مقاومة الولايات المتحدة الواضحة لهذا المشروع. وفي واشنطن، كانت المخاوف من ارتفاع النفوذ السياسي الروسي على ألمانيا تعززها الرغبة الحقيقية في توصيل المزيد من الغاز الطبيعي الأميركي المسال إلى أوروبا.

ليونيد بيرشيدسكي