أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

أهم التحدّيات الاقتصادية للعام 24

أضحت العوامل الاقتصاديّة العالمية وتأثيراتها الجانبية الحدث الأبرز في جزء كبير من العالم، ولبنان من الدول الواقعة تحت المجهر الاقتصادي، بخاصة بعد دخوله في نفق الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في 17 تشرين الأول 2019.

ومع انقضاء أكثر من أربع سنوات على هذه الأزمة التي أطاحت باقتصاد البلاد وأموال المودعين والعملة المحلية، وتسببت بأزمة معيشية خانقة وارتفاع معدلات الفقر وزيادة حجم التضخّم، يبدو أنّ العام 2024 سيحمل معه تحدّيات اقتصادية بارزة، منها القديمة وأخرى مستجدة، فما هي هذه التحدّيات؟

1- انتخاب رئيس للجمهورية: قد يرى البعض أنّ انتخاب رئيس للبلاد هو عنوان سياسي محض، إلا أنّ هذا الاعتقاد ليس دقيقاً، فلهذا الاستحقاق أبعاد عدّة مرتبطة حكماً بنوع الاقتصاد المستقبلي والدور المقبل للبنان. وبهذا لن تكون أهمية الانتخاب محصورة بانتظام المؤسسات، خصوصاً أنّه يأتي بعد انهيار العام 2019 وانفجار المرفأ وانتهاء الدور الذي كان منوطاً للبنان منذ العام 1945 إلى بداية الألفية الثانية.

2- إقرار موازنة 2024: التحدّي هنا يكمن في تمكّن الحكومة والمجلس النيابي من إقرار موازنة عادلة في ظلّ فراغ رئاسي قد يعقّد الأمور. إنّ هذا الأمر بالغ الأهميّة وفقاً للمنطق العلمي والاجتماعي، وهو يمهّد لاستعادة الدولة هيبتها وقرارها المالي ودورها في الخدمات، ويجب إقرار الضرائب الجريئة والمفيدة، على أن يكون الاقتصاد المحلّي في الوقت نفسه قادراً على تقبّل الموازنة والتكيّف معها.

3- سعر الصرف: التعامل مع سعر صرف، وطريقة توحيده في الموازنة وتأقلم القطاع العام وتقبّل الاقتصاد يعدّ معضلة أساسية، بحيث أنّ ثبات سعر صرف الدولار عند عتبة الـ 89500 ليرة لبنانية حتى الآن يمثّل تحدّياً للمصرف المركزي، وإيقاف طبع الليرة هو التحدّي الأكبر لحماية الاقتصاد ومعالجة التضخم، كذلك إيقاف الاستنزاف لاحتياطي العملات الأجنبيّة وحقوق المودعين.

4- قانون هيكلة المصارف: السنة المقبلة هي «سنة المصارف» بامتياز، وستكون مفصليّة بالنسبة لهذه المؤسسات المالية، إذ أنّ اقتصاد البلاد يحتاج إلى بناء نظام مصرفي جديد يلتزم بالقوانين ويأخذ في الاعتبار دعم القطاعات التي تساعد في تكبير الاقتصاد خارج التحاصص السياسي. والسؤال الأهم: هل تريد المصارف العودة إلى الأسواق في لبنان؟ حيث سنشهد في هذا الإطار نزاع شروط بين صندوق النقد الدولي والمصارف، على أمل ألّا يدفع المودع ثمن هذا الخلاف.

5- الكابيتال كونترول: أصبح عنواناً أساسيّاً للمرحلة، لكنّ التحدي الأكبر يكمن في طريقة إقرار قانون «الكابيتال الكونترول» في ظلّ اقتصاد نقدي وحسابات نقديّة جديدة. وبعد سنوات من الأزمة الطويلة أصبح هذا القانون لزوم ما لا يلزم، إلاّ في حالة اعتماده لحماية المتبقي من الاحتياطات في المصرف المركزي، والتي تبلغ 9 مليارات دولار.

6- الكهرباء: أزمة قطاع الكهرباء يمكن وصفها بالتحدّي الدائم والعبء الاقتصادي والمخرج في الوقت عينه، فهل سنستطيع بناء مصانع حديثة واستجرار الطاقة؟ هذا ملف في ظاهره تقني وفي باطنه الكثير من السياسة والمنافع.

7- الانتظام المالي العام: مصطلح اقتصادي فضفاض وحديث في اللغة العربيّة، والمقصود به كيفية توزيع الخسائر بالنسب بين الدولة والمصارف ومصرف لبنان المركزي، ومن سيتحمّل الجزء الأكبر منها.

8- حماية أصول الدولة: عنوان سيتصدّر المرحلة في ظلّ صراع داخلي بينّ مؤيّد لبيع أصول الدولة وممانع لذلك، مع بروز طرف ثالث يؤيّد تأجير هذه الأصول واستثمارها. لكنّ المشكلة أنّ التجارب السابقة في لبنان أثبتت أنّ «مالنا لنا ومالكم لنا ولكم» على مبدأ «الشراكة الحلبية» الاقتصادية.

9- النفط والغاز: تحدّي النفط والغاز والاستكشاف مستمرّ، مع إصرار بعض الجهات على تسييس هذا الملف، إذ أصبح من الواضح أنّ العراقيل ليست تقنيّة بل مرتبطة بشروط سياسيّة.

10- النزوح السوري: الملف الذي يستنزف الاقتصاد اللبناني بعدما فاقت كلفة النزوح الـ28 مليار دولار منذ العام 2011، كما يُستخدم كورقة ضغط سياسية على سوريا ولبنان، ويدخل ضمن إطار الحلّ الشامل للصراع في المنطقة.

ختاماً، لا يمكن اعتبار لبنان جزيرة معزولة عن العالم، خصوصاً في ظلّ العدوان الإسرائيلي على غزّة وما له من تداعيات لن يكون بلدنا في بمنأى عنها. وحتى لا يكون اقتصاد سنة 2024 امتداداً للسنة الجارية لا بدّ من عقد مؤتمر إنقاذ اقتصادي يحدّد دور لبنان في المستقبل القريب والبعيد، بدلاً من أن يُفرض عليه دور معروف النتائج مسبقاً.

 

زياد ناصرالدين

كاتب وباحث في الشؤون الاقتصادية

2023… والتأقلم مع الوضع الراهن

شارف العام 2023 على نهايته، ولم يتغيّر المشهد اللبنانيّ إلى الأفضل، لكنّه ما زال يتأقلم، ويجاهد، ويقاوم بطريقةٍ إعجازيّة في وجه جميع العوامل الّتي تحطّ من عزيمته الاقتصاديّة، وتأخذ بانهياره الماليّ إلى مستويات أدنى، فنرى اللبنانيّ قادرًا على الابتكار والفرح طورًا بما هو قليل، والتهكّم على الفشل الإداريّ، والضحك على حاله المأساويّ كنوع من تخطّي المصاعب ولو إلى حين.

فعلى الصعيد المصرفيّ، تأقلم المواطن إلى حدٍّ بعيد مع حقيقة تلاشي مدخّراته، ولم يعُد يطالب بها إلّا في مرّاتٍ اضطرّ فيها إلى استعمال القوّة للحصول على مستحقّاته، وأصبح مثل هذا الخبر يمرّ مرور الكرام، كأيّ خبرٍ رياضيّ فيه فائز وخاسر في جولة من لقاءات عديدة، على أمل تغيير قواعد اللعبة بحيث يستطيع المودِع سحب مبالغ «أكبر».

من ناحية أُخرى، تمّ إغلاق منصّة صيرفة بعد أن رفعت الراية البيضاء أمام السوق السوداء، وكانت خطوة «ناقصة» من مصرف لبنان كبّدت الدولة خسائر كبيرة في احتياطيّ النقد الأجنبيّ. وأكّدت على أنّ لا خطط مدروسة تُنفّذ، إنّما مجموعة من التعميمات تفيد مجموعة على حساب غيرها، ولا تُرسي أي حلول مستدامة للنهوض بالأزمة الاقتصاديّة.

وفي الحديث عن الاستدامة، ارتفع الطلب على الطاقة البديلة وخصوصًا على تركيب الخلايا الكهروضوئيّة، واختفى معه السجال على مشاريع الطاقة التقليديّة ومعامل الكهرباء، فلربّما وجدت الأطراف المتصارعة مصدرًا آخر للكسب عن طريق تسهيل ترخيص تركيب أجهزة الطاقة الشمسيّة والعاملة بالرياح، من دون ضوابط أو شروط. فاكتسى لبنان حلّة خضراء في اعتماده على الطاقة النظيفة «مجبرٌ لا بطلٌ»، تؤمِّن معظم تكلفة تركيبها الباهظ أموال المغتربين، رغبةً منهم أن يعيش أهلهم في ظروف أفضل. بالطبع، من دون أن ننسى مسلسل رفع الدعم عن المشتقّات النفطيّة، وغياب الحديث عن أزمة استيراد الوقود أو تهريبه.

وفي الحديث عن البدائل، لم يجد لبنان بديلًا عن الطبقة المستقيلة الّتي كانت تمسك بزمام الأمور، فكرسي الرئاسة ما زال فارغًا، وحاكم مصرف لبنان انتهت مدّة حاكميّته، وكان الاكتفاء بنائب يسيّر الأعمال… ينطبق الأمر كذلك على مراكز حيويّة كثيرة، منها قيادة الجيش، ورئاسة الحكومة، وتطبيق الحلول المؤقّتة بتمديدٍ من هنا، ومماطلة من هناك…

فالبلد «ماشي» بالعناية الإلهيّة، إذ أصبح عبارة عن «أعجوبة» يعيش مواطنوه مبدأ «كلّ يوم بيومه» من دون خطط اقتصاديّة تُعنى بالشؤون الجيوسياسيّة للمنطقة وتغييراتها الجذريّة، ولا يوجد رأس ينظّم السياسات النقديّة الّتي تضمن الاستقرار الاقتصاديّ وتعزيز النموّ المستدام.

من جهة أُخرى، نجد أنّ الحوكمة في لبنان لم تتقدّم، فلا خطوات واضحة نحو اندماج ماليّ شامل، ولا تسهيل في الوصول إلى الخدمات الرسميّة الأساسيّة للمواطنين مع اتّساع رقعة الحرمان، ولا تحديث في البُنى التحتيّة، وخصوصًا في مجالات تكنولوجيا المعلومات مع انتشار الذكاء الاصطناعيّ في الفترة الحالية في جميع دول العالم، والخدمات الحيويّة بأجمعها.

هذه الأمور الّتي ذكرناها، أدّت إلى انكماش اقتصاديّ حادّ، أفضى إلى تقلّص كبير في الناتج المحليّ الإجماليّ، وارتفاع معدّلات البطالة، ممّا فاقم المصاعب الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وقاد من جديد إلى فتح أبواب الهجرة لدى اللبنانيّين على مصراعيها، في ظلّ انخفاض الاستثمارات الأجنبيّة وهروب رؤوس الأموال إلى أماكن أكثر أمانًا من «سويسرا الشرق»، وغابت عن المشهد المطالبات المدنيّة المحقّة، وتلاشت الرغبة في التظاهر، أو حتّى إبداء الامتعاض «أقلّ الإيمان».

بالإضافة إلى الأمن الاقتصاديّ المتزعزع في لبنان، برز خطر تضعضُع القطاع التربويّ في البلد، وخصوصًا الحكوميّ منه. فيعيش اليوم النظام التعليميّ بسياسة «جود بالموجود»، واختفت معه حدّة الصراع بين لجان الأهل، والمدرّسين، والإداريّين… فاقتنع كثيرون أنّ الاستسلام للواقع هو الحكمة، واللجوء إلى الهجرة والبحث عن فرص بديلة هو الوسيلة «الأشرف» من الاحتدام على «شي فاضي»… فلم تعُد الرسالة التربويّة قضيّة لدى الكثيرين، لأنّها لم تضمن لهم قوتهم اليوميّ، وحياتهم الكريمة، وبقيت دروس المواطنة والتربية المدنيّة مجرّد حصص في البرامج الأسبوعيّة، مجرّد حبر على ورق، أسوة بكثير من القرارات والقوانين في هذا «الوطن».

بالطبع، مع غياب القضايا المحقّة والجوهريّة، ظهرت على الساحة قضايا سخيفة، «تُختَرع» لضمان جوّ من التوتّر الطائفيّ والاحتقان الحزبيّ، كان أحدها أنّ لبنان في العام 2023 عرف لبضعة أيّام منطقتين زمنيّتين. وكان هذا الواقع الهزليّ يعكس ما سبق أن رصدناه من حوكمة غير رشيدة لمنظومة قادت لبنان عبر سنين طويلة إلى حالة الفوضى غير الخلّاقة الّتي تفرض وزرها عليه اليوم، ولم تعرف من معنى الحوكمة سوى الحكم الديكتاتوريّ المقنّع، بدل أن تسعى إلى خدمة الدولة ومواطنيها بأسمى درجاتها، وتقود لبنان إلى الأمام، بدل أن ترجعه عقودًا إلى الوراء.

في العودة إلى المشهد الجيوسياسيّ، لا يمكننا أن نغضّ الطرف عن تحرّك عالميّ نحو إيجاد قطبٍ اقتصاديّ عالميّ جديد، مع استمرار الحرب الأوكرانيّة -الروسيّة «المنسيّة» وبروز قوّة البريكس، وتهافت دول المنطقة للانضمام إليها. بالطبع، لم يؤدِّ لبنان أيّ دور فاعل، فهو خارج هذه اللعبة في وضعه الحالي، وما زال يرزح تحت وطأة تبعات اقتصاديّة ضيّقة، يكون فيها منفعلاً وحسب. ولم يعُد لبنان يقدّم أيّ ثقل ديبلوماسيّ، لشلله السياسيّ الداخليّ، وتشتت القوى بين مكوّناته الداخليّة، وارتهانها لمصالح غير لبنانيّة.

كذلك، لا يمكن أن نعيد قراءة هذا العام من دون المرور على الحدث الأبرز إقليميًّا وعالميًّا، أي حرب غزّة الّتي غيّرت الصورة التقليديّة للصراع العربيّ-الإسرائيليّ، والّتي رسَخت في العقود المنصرمة. بالطبع، كشف هذا الصراع مدى حساسيّة الموقع الجغرافيّ والاقتصاديّ للبنان في المنطقة، وتعرّت معه خطط لتهميشه اقتصاديًّا وسياحيًّا، بعد أن خُطِّط لسلبه ثرواته الطبيعيّة، المائيّة والنفطيّة… لا يعرف لبنان اليوم أيّ موقفٍ يخدم مصالحه الداخليّة، وتبقى جبهة الجنوب مشتعلة، مع تأثيرها النفسيّ والاقتصاديّ أكبر بكثير من تأثيرها السياسيّ على حياة اللبنانيّين.

أخيرًا، شهد العام 2023 في بداياته هزّة أرضيّة شديدة ضربت المنطقة، وكان مركزها في أنطاكيا (هاتاي) في تركيا. وقد تأثّر اللبنانيّ بها، أقلّه أنّها أرجعت إليه شعوره بعدم الاستقرار بعد ضربات الكورونا، وتفجير مرفأ بيروت، وغيرها من الضربات الّتي جعلت من المواطن في كثير من الأحيان فاقدًا للحسّ، وقصير الذاكرة، في حين أنّ آثارها تنخر في كيانه وتهلكه في مسيرته اليوميّة لكسب قوت عيشه.

ختامًا، نجد أنّ السنة المنصرمة غيّبت الكثير من الصراعات الداخليّة «الكلاسيكيّة» كما ذكرنا، وأصبح المشهد العامّ أكثر «رواقًا»، لا لأنّ الأمور تحسّنت، والأموال استُرجعت، والكهرباء عادت، والسياحة ازدهرت، والحركة الاقتصاديّة توسّعت، والحروب تلاشت، والأجيال كبرت، والمصالحات نجحت… بل لأنّ اللبنانيّ على حافّة الاستسلام لسياسة الأمر الواقع، والبحث عن الحلول البديلة خارج البلد… وهذا ما نرغب في أن يُعاد إغلاقه في العام الجديد 2024، ونفتح معًا حلولًا خارج الصندوق… صندوق التحزّبات، والأمر الواقع، والمصالح الضيّقة…

البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ

آخر ما تبقى لاقتصاد لبنان: تصدير المغتربين ومساعدات اللاجئين

العودة إلى أرقام 2023، سرعان ما تُظهر التوازنات النقديّة والماليّة الهشّة التي يقوم عليها الاقتصاد اللبناني. إذ باتت التدفّقات الواردة من تحويلات المغتربين، وزياراتهم الموسميّة إلى لبنان، تحوز على حصّة متزايدة من حجم الناتج المحلّي، بفعل تقلّص حجم الاقتصاد الوطني وتضاؤل أنشطته. فشلل المؤسسات العامّة، وتدهور أوضاع البنية التحتيّة، ما زالا يحولان دون استفادة القطاعات الإنتاجيّة من التراجع الذي طرأ على سعر صرف الليرة خلال السنوات الماضية، والذي كان يفترض أن يزيد من تنافسيّة الإنتاج المحلّي مقابل الإنتاج الأجنبي داخل السوق اللبناني وخارجه.

هكذا، بات لبنان يكرّس –كجزء من نموذجه الاقتصادي- ظاهرة تصدير المغتربين بفعل الأزمة القائمة، ومن ثم الاعتماد عليهم لتأمين التدفّقات اللازمة للحفاظ على هذا النموذج الهش، ما يضع الاقتصاد المحلّي في الدوّامة ذاتها التي قادت البلاد نحو الكارثة الماليّة التي ضربتها عام 2019. المشكلة الأساسيّة، هي أن تزايد الاعتماد على أموال الاغتراب لم يرتبط بتزايد الفرص الاستثماريّة الجاذبة لهذه الأموال، إذ أنّ حجم هذه التدفقّات تراجع مقارنة بمستويات ما قبل الأزمة. بل ارتفعت نسبة التدفّقات من الناتج المحلّي، بعدما خسر الناتج المحلّي 65% من قيمته بين 2019 و2023. بمعنى أوضح: هشاشتنا زادت من الإدمان على أموال المغتربين، من دون أن تزداد تحويلاتهم.

تدفّقات المغتربين تتضاءل لكن تزداد أهميّة!
آخر أرقام البنك الدولي، تشير أنّ لبنان تلقى خلال العام 2023 ما يقارب 6.37 مليار دولار أميركي من تحويلات المغتربين من الخارج، وهو ما يقل بنحو 1% عن تحويلات العام السابق 2022، والتي بلغت 6.44 مليار دولار. الأهم، هو أن حجم هذه التحويلات ما زال يقل عن 86% فقط عن حجم التحويلات السنويّة التي كان يتلقّاها لبنان عام 2019، أي قبيل حصول الانهيار المالي. إذ بلغ حجم هذه التحويلات في ذلك العام بالتحديد 7.41 مليار دولار أميركي.

خلال عامي 2020 و2021، تم تفسير هذا التراجع بتفشّي وباء كورونا، وما طرأ من تراجع اقتصادي في بلدان الاغتراب. إلا أنّ عدم استعادة هذه التحويلات عافيتها حتّى اللحظة يدل على وجود عوامل داخليّة لبنانيّة خلف هذا التراجع، وفي طليعتها عدم توفّر الفرص الاستثماريّة والنظام المالي المستقر، لجذب هذه التدفّقات.

الملفت للنظر، هو أنّ لبنان شهد بين عامي 2017 و2022 موجة هجرة عظيمة، غادر خلالها أكثر من 275 ألف لبناني البلاد باتجاه بلدان الاغتراب. وبينما كان يفترض أن يؤدّي ذلك إلى زيادة التدفّقات النقديّة الواردة من هذه الفئة، التي مازالت تحتفظ بروابط عائليّة وثيقة داخل لبنان، حصل العكس تمامًا، وهو ما يعيد التأكيد على وجود عوامل طاردة للتحويلات الواردة، وعلى فقدان لبنان لجاذبيّته اتجاه رؤوس الأموال، ومنها أموال المغتربين.

رغم تراجع قيمة هذه التحويلات بشكل ملحوظ، منذ العام 2019، ارتفعت أهميّتها بالنسبة للبنان، بعد أن تزايدت حصتها من النشاط الاقتصادي المحلّي. فخلال العام 2019، كان حجم الناتج المحلّي اللبناني يناهز حدود 51 مليار دولار، ما جعل تحويلات المغتربين توازي نحو 14.5% فقط من حجم الناتج المحلّي الإجمالي. أمّا خلال 2023، ورغم تراجع حجم هذه التحويلات، باتت هذه التحويلات تمثّل 36% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي، وذلك ببساطة لأن حجم الناتج المحلّي تضاءل ليلامس حدود 18 مليار دولار فقط هذه السنة.

تقلّص حجم الاقتصاد الحقيقي
البحث عن أسباب تقلّص حجم الاقتصاد الحقيقي يقودنا إلى النظر في الميزان التجاري اللبناني، إذ لم تسجّل الصادرات اللبنانيّة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام 2023 سوى نمو ضئيل بنسبة 1.46%، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي، ليقتصر حجمها على نحو 2.38 مليار دولار. في المقابل، وخلال الفترة نفسها، تجاوزت قيمة السلع المستوردة حدود 10.69 مليار دولار، ما أنتج عجزًا في الميزان التجاري بقيمة 8.32 مليار دولار. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ قيمة هذا العجز تتجاوز حدود 1.78 أضعاف مثيله في الفترة نفسها من العام 2020، ما يشير إلى أنّ اعتماد البلاد على السلع المستوردة تزايد خلال سنوات الأزمة لا العكس.

ببساطة، فشلت البلاد خلال الأزمة الراهنة في الانتقال إلى نموذج أكثر إنتاجيّة، بالرغم من تخلّصها من سياسة تثبيت سعر الصرف التي اعتمدها مصرف لبنان قبل العام 2019، والتي ضخّمت قيمة الليرة أمام الدولار. فتضخّم قيمة الليرة مقابل الدولار قبل العام 2019، ساهم في تخفيض أسعار السلع المستوردة مقابل المنتجات المحليّة داخل السوق اللبناني، وفي رفع أسعار الصادرات اللبنانيّة في الأسواق الأجنبيّة، ما ضرب تنافسيّة الإنتاج المحلّي. أمّا اليوم، وحتّى بعد التخلّص من هذه السياسة النقديّة، لم يتمكن لبنان من تنمية القطاعات الإنتاجيّة، بسبب ضمور دور الدولة في تأمين البنية التحتيّة وأبسط مستلزمات الإنتاج، وخصوصًا الطاقة ذات الكلفة المنخفضة.

القطاع السياحي يعتمد على الاغتراب أيضًا
أمام هذا المشهد، يشير البعض إلى تمكّن لبنان من تسجيل موسم اصطياف ناجح خلال فصل صيف الماضي، ما يمثّل انتعاشة في أداء القطاع السياحي. لكن من المهم الإشارة هنا إلى أنّ هذه الانتعاشة ظلّت محكومة بالاعتماد على الاغتراب اللبناني، وخصوصًا الجيل الأخير منه، الذي غادر البلاد خلال السنوات الماضية، واحتفظ بصلات عائليّة واجتماعيّة مع الداخل اللبناني. وهذا لا يقلّل طبعًا من أهميّة التدفّقات النقديّة الناتجة عن هذا النشاط، ولكنّه يؤشّر إلى اتصال هذه التدفّقات –مجددًا- بظاهرة تصدير الاغتراب إلى الخارج.

فأرقام وزارة السياحة للأشهر العشرة الأولى من العام تشير إلى أنّ 61.4% من الزوّار الوافدين إلى البلاد كانوا من اللبنانيين المغتربين، في حين أن الزوّار العرب والأجانب مثّلوا 38.6% من هؤلاء الزوّار. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ جزءاً كبيراً من الزوّار الأجانب هم عمليًا من ذوي الأصول اللبنانيّة، أو مزدوجي الجنسيّة، الذين يقومون بالاعتماد على جوازات سفر أجنبيّة للتنقّل ودخول لبنان، ما يضعهم إحصائيًا في خانة الأجانب.

مساعدات بإسم اللاجئين
أخيرًا، وعند مقاربة التوازنات النقديّة والماليّة التي تحكم السوق حاليًا، لا يمكن التغاضي عن حصول لبنان على مساعدات تقارب قيمتها 1.1 مليار دولار أميركي خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، كجزء من “خطّة الاستجابة للأزمة في لبنان”. وهذه المبالغ، التي تقارب قيمتها 6.1% من حجم الاقتصاد اللبناني، تأتي من أكثر من 118 منظّمة ودولة في إطار متناسق، بهدف التخفيف من تداعيات أزمة النزوح السوري في لبنان، ومساعدة الفئات الهشّة السوريّة والفلسطينيّة واللبنانيّة المقيمة على الأراضي اللبنانيّة. ومن المعلوم أنّ جزءاً كبيراً من هذه المساعدات ذهب لتمويل مشاريع البنية التحتيّة التي يستفيد منها اللبنانيّون والسوريون والفلسطينيون على حدٍ سواء، مثل المشاريع المتصلة بقطاعات المياه والكهرباء والطرقات والصرف الصحيّة وغيرها.

في النتيجة، وأمام تدهور أوضاع الاقتصاد الحقيقي، لم يتبق للاقتصاد اللبناني سوى هذا النوع من مقوّمات البقاء، أي التدفّقات الناتجة عن تحويلات وزيارات المغتربين، وبعض المساعدات الخارجيّة. أمّا تحقيق التدفقات النقديّة بفعل الإنتاج والتصدير، أو استقطاب الاستثمارات ورؤوس الأموال، فما زال بعيد المنال، طالما أنّ الدولة اللبنانيّة لا تملك بالفعل رؤية اقتصاديّة تستهدف النهوض بقطاعاتها الإنتاجيّة.

علي نور الدين

شركات التحويل توسّع خدماتها: ما مخاطر المحافظ المالية؟

تشهد شركات التحويل المالي نشاطاً بارزاً في الآونة الأخيرة بالتزامن مع استمرار هجرة العملاء من القطاع المصرفي، فشركات التحويل بعد توسيع نطاق خدماتها وتنويعها، باتت الجاذب الأبرز لعملاء المصارف الباحثين عن بدائل للقطاع المصرفي.

وإذا كان عدد الحسابات المصرفية في المصارف اللبنانية تراجع من 2.81 مليون حساب إلى 1.41 مليون حساب خلال فترة ما بين نهاية العام 2019 ونهاية عام 2022، فإن عدد الحسابات المصرفية تلك تراجعت كذلك خلال العام الـ2023 الذي شارف على نهايته، إلى محيط المليون و200 ألف حساب.

هجرة الحسابات المصرفية باتجاه شركات التحويل المالي بدأت منذ قرابة العام لكنها اقتصرت في الفترة الماضية على طلب خدمات معينة، بخلاف الواقع اليوم. فبعض شركات التحويل المالي اتسعت خدماتها لتشمل توطين الرواتب وخدمات عديدة على غرار ما كانت تقدّمه المصارف، منها ما يشبه إلى حد ما عمليات الإدخار.

وعلى الرغم من الهجمة الملحوظة للعملاء إلى مكاتب شركات تحويل الأموال والإقبال البارز على خدماتها، يبقى السؤال الأبرز الذي يشغل الجميع لاسيما منهم الموظفون، هل التعامل عبر هذه الشركات آمن؟ وهل تقف المصارف وراء شركات التحويل تلك وتنسق معها أم أن الأخيرة مستقلة تماماً عن القطاع المصرفي؟

خدمات مالية شاملة

بالنظر إلى أن لبنان يُعد من بين الدول الأكثر تلقياً للأموال من المغتربين في دول العالم، وهو الذي تبوّأ المركز الأوّل في المنطقة والمرتبة الثانية عالمياً من حيث مساهمة تحويلات المغتربين في الناتج المحلّي الإجمالي بحسب تقديرات البنك الدولي، اتسعت سوق شركات تحويل الأموال وتزايدت تراخيصها خلال السنوات الأربع الماضية، لاسيما أن معظم المغتربين يعتمدون على مكاتب تحويل الأموال لتنفيذ تحويلاتهم بدلاً من الاعتماد على المصارف.

ومن بين شركات تحويل الأموال التي ازدهرت أعمالها بشكل ملحوظ في السنوات القليلة الماضية، OMT،BOB ،Western Union ،Whish ،MoneyGram وغيرها. فقد زادت فروعها وخدماتها ولم تعد تقتصر على تلقي الحوالات المالية، بل تعدّتها إلى توفير خدمات دفع الرسوم والضرائب والفواتير والتشريج، وتأمين أوراق رسمية وتخليص معاملات والدفع عبر الانترنت، وخدمة صرف الأموال، وقوائم هدايا الأعراس وغيرها.

لكن البعض من تلك الشركات إلى جانب شركات أخرى دخلت حديثاً إلى سوق الخدمات المالية في لبنان، لم يقف توسعها عند هذا الحد. فقد دخلت سوق البطاقات الممغنطة كالـ”فيزا” والحسابات عبر الإنترنت وأدوات مالية بسيطة وسريعة تؤمن للعميل جميع أنواع الخدمات المالية عبر هاتفه الجوال وصولاً إلى التصرف براتبه الشهري.

سد فراغ المصارف!

مع توقف المصارف اللبنانية عن دفع الرواتب أكثر من مرة ورفع رسومها وعمولاتها على السحوبات لاسيما على الحوالات المالية الواردة من الخارج التي تخضع لعمولات باهظة، بالإضافة إلى التعقيدات الإدارية التي وضعتها المصارف أمام الموظفين وعموم العملاء لسحب الأموال من حساباتهم، دخلت شركات تحويل أموال وشركات محافظ مالية على خط الأزمة منها Suyool بالتعاون مع BOB وOMT بالتعاون مع بنك لبنان والمهجر، وغيرها فأصدرت بطاقات ممغنطة وفتحت حسابات لعملاء جدد من خلال تأمينها كافة خدمات المصارف بما فيها توطين الرواتب.

ويوضح الخبير المصرفي خالد شاهين بأنه لا يحق لكافة شركات التحويل المالي إصدار البطاقات إنما فقط الشركات الحاصلة على تراخيص شركات مالية من فئة محافظ الكترونية، وبموجب الترخيص يمكن قبول الايداعات المالية، شرط ألا تتعدى قيمة الايداع 10 آلاف دولار فقط بالإضافة إلى شروط أخرى تراعي الإمتثال والآليات الرقابية.

وإذ يعترف شاهين بأن الشركات المذكورة حلّت محل جانب من المصارف فقط، يؤكد أنها لا تعمل وفق آلية عمل المصارف، “إذ ليس لدى الشركات حسابات توفير أو حسابات مجمدة إنما هي عبارة عن حسابات جارية للتحويل والاستقبال وتنفيذ عمليات محددة فقط”. ويلفت في حديثه إلى “المدن” الى أن شركات المحافظ الالكترونية لديها شرط بالترخيص أن يكون في خلفيتها شركة تأمين، للتأمين على الأموال، وعقد مع مصرف لاستقبال الأموال. ما يعني أن الشركة من خلال المصرف تستخدم تلك الأموال.

وعند طلب العميل تتحول الأموال من حساب الشركة في محفظة الكترونية إلى حسابه، عملياً وبحسب شاهين لا علاقة فعلية للمصرف. أما شرط الارتباط بمصرف فيعود لتمكين مصرف لبنان من ممارسة الرقابة على الشركات وليس لتنفيذ العمليات. فالعمليات أي التحاويل الآنية يتم تنفيذها عبر منصات عالمية مختلفة عن المصارف. وهي لا تعتمد على نظام سويفت.

مع التشديد على أن الأموال ليست ودائع، إنما هي أموال جاهزة للاستعمال، أي أنها لا تدخل في حساب الشركة، بل تبقى في حساب الشخص الذي يحق له التصرف بها بأي لحظة، على ما يقول شاهين.

التفاف المصارف على الزبائن

القطاع المصرفي خسر عملاءه وكل من يجد بديلاً كشركات المحافظ الإلكترونية سيتّجه إليها، وبحسب شاهين لا علاقة مباشرة للمصارف بتلك الشركات. لكن بخلاف شاهين يرى مصدر من إحدى الشركات المذكورة بأن “المصارف خرجت من الباب لتدخل من الشباك” فهناك تعاون وطيد بين الطرفين. فالمصارف تحاول من خلال تلك الشركات جذب العملاء من جديد وإن من خلال واجهة جديدة. وعلى الرغم من تشجيع المصدر على التعامل مع شركات المحافظ الإلكترونية لسرعة خدماتها، وتدني عمولاتها، إلا أنه لا ينفي وجود مخاطر في إدارة السيولة النقدية، بالإضافة إلى تحديات على مستوى التأمين والحراسة لحماية الأموال وعدم السقوط في مخاطر الأموال غير النظيفة.

ولا ينفي شاهين التعاون بين الطرفين. ففي العام الماضي أصدر مصرف لبنان قراراً يسمح بموجبه للمصارف بفتح محافظ الكترونية، لكن المصارف لم تفتح بل اعتمدت على الشركات المتواجدة في السوق مثل OMT وWhish وBOB وغيرها. ولأن تلك الشركات مشروطة بموجود مصرف في خلفيتها رخصت بعض الشركات المحافظ الالكترونية بالتعاون مع المصارف. لكنه يشدد على أن الأموال التي يتم التعامل بها عبر الشركات لا تدخل الى حساباتها في المصارف.

عوائق قضائية

قد يكون التعامل بالبطاقات العائدة الى شركات التحويل المالي آمنة بالنظر إلى كل ما شهده العملاء من المصارف اللبنانية، لكن ثمة عوائق قضائية أمام التعاملات الإلكترونية، لعل أخطرها أن القوانين اللبنانية لا تعترف بالعقود الالكترونية ولا حتى بالتوقيع الالكتروني ولا بالمحافظ الالكترونية. وقد أصدرت الدولة عام 2018 القانون 81/2018 الذي اعترفت فيه بالبيانات الالكترونية وبالإثبات الالكتروني في محاولة منها لمواكبة القوانين الحديثة، حينها تم إقرار القانون. لكن لم تصدر المراسيم التطبيقية له حتى اليوم، وبقي حبراً على ورق.

تأخر لبنان في هذا المجال يشكّل عائقاً في التعاملات الإلكترونية. ففي حال وقوع إشكال أو خلل بالعلاقة بين مستهلك لبناني وأحد المواقع الالكترونية التسويقية على سبيل المثال، فالقانون اللبناني لا يغطي المستهلك بخلاف الكثير من الدول. والأمر عينه ينطبق على التعاملات المالية الإلكترونية.

مع التذكير بأنه مع تعاظم الأزمة في لبنان، أصدر مصرف لبنان قراراً يسمح فيه بالتعاملات الالكترونية المالية والتوقيع الالكتروني، للتخفيف من المخاطر والإبقاء على المتعاملين، أي الجمهور، بالقطاع المالي، لأن وجود العملاء بالقطاع المالي يحافظ على أرباح مصرف لبنان، وخروجهم يلحق الضرر بالقطاع المصرفي ومصرف لبنان على السواء.

مخاطر التعامل مع تلك الشركات غير عالية على الرغم من ترابط تراخيصها برخصة المصرف. لكن في حال إغلاق الشركة أو إفلاسها وعجزها عن الاستمرار كمحفظة الكترونية، حينها على العملاء مقاضاتها أمام المحاكم في ظل غياب مظلة قانونية. وهنا تكمن المشكلة. فالقضاء اللبناني لم يتعاط مع المحافظ الالكترونية إلا بحالات ضئيلة جداً. أما الأمر الأقل سوءاً فهو أن المبالغ المتواجدة في حسابات الزبائن متدنية، وتقل عن 10 آلاف دولار في الحساب الواحد.

عزة الحاج حسن

ما بعد (بعد) التعميم 151

 

نقترب يوماً بعد يوم إلى نهاية تعميم 151، فما وراء هذا القرار؟ وماذا بعد هذا التعميم للبنانيين والمودعين والإقتصاد؟

نتذكّر بألم وأسف، أنه حين بدأ تنفيذ تعميم 151 في العام 2020، كان الهدف منه تأمين بعض السيولة للمودعين بالليرة اللبنانية، لكن في الوقت عينه، صرف وإهدار مدّخراتهم. فكان هناك دائماً فجوة كبيرة، بين سعر صرف هذا التعميم المظلم والسوق السوداء. وهنا بدأت عملية «هيركات» المبطّن، حيث بدأت الخسائر بنحو 50% ومن ثم إنسحبت إلى 60% و70%، وانتهت إلى خسارة بـ 85% و90%، من الخسائر المباشرة من أموال المودعين.

نذكّر أن سعر صرف التعميم 151 بدأ بـ 3900 ليرة، ومن ثم بـ 5 آلاف، إلى 8 آلاف، و12 ألفاً، حتى ثُبّت على 15 ألفاً في شباط 2023. بينما كانت السوق السوداء تحلّق إلى الـ 100 ألف، وحتى وصلت إلى الـ 140 ألفاً. فتجاوزت الخسائر جرّاء السحوبات الـ 85%، إضافة إلى خسائر بنحو 20% للإستحصال على أوراق نقدية.

من جهة أخرى، لدينا حتى اليوم سِعرا صرف رسميّان: سعر صرف تعميم 151 والذي هو الهيركات المبطّن، مع خسائر فادحة لما تبقّى من الودائع. وسعر الصرف الرسمي الثاني، وهو سعر صيرفة أو قريباً بلومبورغ، المُستعمل للمدفوعات اليومية، والضرائب والرسوم والسلع المعيشية. إضافة إلى سعر صرف السوق السوداء والشيكات بالليرة وغيرها من قائمة أسعار الصرف.

فعند انتهاء هذا التعميم ودفنه، ما هو مصير ما تبقّى من الودائع بالدولار الأميركي اللبناني (اللولار)؟ إنّ المشروع المقترح المبطّن في موازنة 2024 هو تحويل كل الودائع بالدولار الاميركي اللبناني (اللولار)، إلى الليرة اللبنانية بضربة واحدة، بحسب سعر صيرفة الـ 79 الفاً، أو سعر بلومبورغ الجديد. في هذ العملية، ستكون نهاية الدولارات القديمة، وتحويلها مصرفياً إلى الليرة اللبنانية.

على المدى القصير، يُمكن أن يشعر اللبنانيون بأنه حتى لو تحوّلت ودائعهم إلى الليرة، فسيُحافظون على قيمتها، لأنّ سعر الصرف المُستعمل سيكون قريباً من سعر صرف السوق السوداء. لكن ما لا يعلمونه أنّ هذه الودائع بالليرة سيكون لها قيود صارمة للسحوبات وللاستحصال على الأوراق النقدية. وهنا ستُبصر النور سوق سوداء جديدة، لتحويل هذه الودائع المصرفية إلى أوراق نقدية، بخسائر جديدة.

أما القيود على السحوبات المصرفية، فهناك ضبابية على الأرقام التي ستكون معتمدة، لكن ننتظر ألاّ تتجاوز الـ 24 مليون ليرة في الشهر الواحد كما هي اليوم، للإحتفاظ بالكتلة النقدية، وتَجنُّب التضخّم المفرط.

فهناك أفخاخ عدة، وهدايا ملغومة في هذه القرارات، والوعود الوهمية. فعلى المدى القصير، تُعاد الودائع إلى قيمتها، لكن بالليرة اللبنانية، إنما فقط على الشاشات والسجلاّت، بعيداً عن الأيادي والجيوب.

وعلى المدى المتوسط والبعيد، ستُستكمل أكبر عملية نهب في تاريخ العالم، لأنّ سعر الصرف لن يكون مثبَّتاً، لكنه عائم بحسب منصّة بلومبورغ الدولية، ويُمكن أن تصل إلى قمم جديدة، لتُعاد الخسائر مرة أخرى إلى النسَب القديمة عينها.

في المحصّلة، إن الأهداف المبطّنة في نهاية تعميم 151، وما بعد (بعد) هذا التعميم، هي مستقبل مظلم للمودعين، حيث ستتحوّل ودائعهم إلى الليرة اللبنانية، من دون أيّ ضوابط لسعر الصرف، وقيود صارمة لسحوباتهم النقدية، لتأمين لقمة العيش الكريم في هذه المزرعة المتوحشة. فالمسؤولون المباشرون عن أكبر أزمة اقتصادية واجتماعية ومالية ونقدية في تاريخ العالم لن يكونوا جزءاً من الحل، إنما سيُتابعون عملية النهب بطرق مختلفة، ويدفع ثمنها الشعب المظلوم والمذلول والمنكوب.

د. فؤاد زمكحل

الحرب طويلة… 4 خطوات حتى منتصف 2024

بدأت مؤشرات الحرب في غزة تميل أكثر فأكثر نحو ترجيح فرضية استمرار القتال لبضعة اشهر، بما يعني انّ الرهانات على انتهاء الحرب قريباً باتت في غير محلها، وصار لزاماً على السلطات اللبنانية اتخاذ إجراءات تتماهى مع احتمال امتداد الوضع القائم حالياً حتى منتصف العام 2024.

منذ ان اندلعت الحرب في السابع من تشرين الاول في غزة، وتلاها بدء تحريك جبهة الجنوب في الثامن منه، تبدّل المشهد الاقتصادي في البلد، وساد جمود قاتل معظم القطاعات. في الموازاة، جمّدت المؤسسات الدولية، وفي مقدمها صندوق النقد الدولي، نشاطاتها. كما أوقفت بلومبرغ، التي كانت تتحضّر للقدوم الى السوق اللبناني، تحركاتها في هذا الاتجاه.

اليوم، بدأت تبرز مؤشرات تساعد على الاعتقاد انه في الامكان التكيُّف النسبي مع الوضع القائم، لتخفيف الاضرار الناتجة عن تداعيات استمرار الحرب، وانخراط جزء من لبنان الجنوبي فيها. ومن هذه المؤشرات حركة قدوم اللبنانيين خلال فترة الاعياد من الخارج، بما يؤكد ان مرحلة من التأقلم بدأت تتكوّن، قائمة على نظرية ان الحرب التي اندلعت قبل شهرين ونصف تقريباً، لن تتطوّر اكثر على المستوى اللبناني، وستبقى محصورة في الاطار المرسوم لها.

هذا الواقع يستدعي من السلطات التنفيذية والتشريعية اتخاذ اجراءات استثنائية تكون بمثابة تحضيرات لفترة ما بعد الحرب، ومن أهمها:

اولاً – الانتهاء من ملف خطة التعافي الشاملة، على أن تضمّ، وبالتتابع الزمني والمنهجي، معالجة ازمة الانتظام المالي في القطاع العام من خلال تحديد الدولة لموقفها من ديونها والتزاماتها تجاه مصرفها المركزي، تحديد مصير الودائع وكيفية اعادتها الى اصحابها، اعادة الانتظام الى العمل المصرفي. وبالمناسبة، قد يكون ردّ قانون الكابيتال كونترول الى الحكومة هذه المرة يقع في موقعه الصحيح، لأن مفاعيل هذا القانون كانت مهمة في بداية الأزمة، لأنه بمثابة دَوس على المكابح لوقف السيارة ومحاولة منع وقوع الحادث، او تخفيف السرعة لتقليص الاضرار في حال وقع الارتطام. اما اليوم، وبعد حصول الارتطام، فإنّ وظيفة الكابيتال كونترول صارت مختلفة عقب مرور 4 سنوات ونيف على الانهيار، وصار يُستحسن تكييف مضمون القانون مع الخطة الشاملة، لكي يكون واقعياً وقابلاً للتنفيذ.

ثانياً – اعادة فتح التواصل مع صندوق النقد الدولي للاطلاع على امكانية استئناف العمل في الملفات التحضيرية للاتفاق، او تلك التي يمكن انجازها رغم استمرار الحرب في غزة وجزء من الجنوب. صحيح انّ الحكومة في الوضع القائم لن تستطيع إقناع الصندوق بإعادة موظفيه الى بيروت وفتح مكاتبه للعمل بشكل طبيعي، لكنها قد تنجح في إقناع ادارة الصندوق باستكمال انجاز ملفات يمكن انجازها عن بُعد (on line) ومن ضمنها على سبيل المثال، تقرير البند الرابع، أو استكمال دراسات لها علاقة بالحوكمة والشفافية، مثل تلك التي أصبحت شبه جاهزة لدى الصندوق، والتي تتناول قطاع الكهرباء. وسبق للصندوق ان تابع الدعم التقني للبنان عن بعد، بما يعني انفتاحه على العمل بهذا الاسلوب في مرحلة انتظار انتهاء الحرب.

ثالثاً – مواصلة العمل عن بُعد أيضاً مع بلومبرغ لانجاز التدريبات والاجراءات اللوجستية لبدء العمل في السوق اللبناني مطلع العام المقبل.

رابعاً – إقرار موازنة 2024 بعد الانتهاء من تشذيبها وتنقيتها من الشوائب، لأنها جزء من السلة المطلوبة لاحقاً في لائحة «الاصلاحات»، كما انها ضرورية لتحاشي فوضى الانفاق وفق القاعدة الاثني عشرية، وعلى اساس موازنة 2022، والتي أصبح الفارق شاسعاً بين الارقام الواردة فيها وبين حاجات الانفاق في العام المقبل.

تبقى بعض المسائل الاخرى، والتي كان يُفترض ان تواكب الخطة الشاملة، في حاجة الى مزيد من النقاشات والدرس، لتحاشي القيام بخطوة ناقصة، ومنها على سبيل المثال، توحيد وتحرير سعر الصرف. ورغم الثبات في سعر صرف الليرة حتى الآن، ورغم ان بعض الاصوات باتت تطالب بخفض اضافي في سعر الدولار، معتبرة انّ الظرف يسمح بذلك، إلا ان هذا النوع من التفاؤل قد ينطوي على تسرّع غير مُستحَب. وبالتالي، ورغم ان مصرف لبنان يقول انه سيعمد الى تحرير سعر الصرف بدءا من مطلع العام 2024، قد يكون من الافضل التريّث في هذا الموضوع، واتخاذ المزيد من الخطوات التمهيدية، بانتظار ان تصبح الظروف مؤاتية اكثر للاقدام على هذه الخطوة، لأن مخاطر تعرُّض الليرة الى الضغط، وعودة الدولار الى الارتفاع قائمة رغم كل المظاهر المطمئنة السائدة اليوم.

في النتيجة، ينبغي ان تستفيد «الدولة» من مرحلة الجمود المرتبط بالحرب، لتحضير الملفات والأرضية للانطلاق نحو التعافي، فورَ سكوت المدفع.

انطوان فرح

انقلب السحر على الساحر… وانكشفت هوية السارق

اسوأ ما يُقال اليوم، هو انّ الدولة لا تستطيع تسديد ديونها، وبالتالي، أي محاولة لربط إعادة الودائع بالديون السيادية، هو مضيعة للوقت، ولن ينجح. في الموازاة، يعرف من يقول هذا الكلام ان لا اموال في المصارف لإعادة الودائع، لأنّ هذه الاموال كانت مودعة لدى مصرف لبنان، وقد «سطت» عليها الدولة وبذّرتها. فهل تعني هذه المعادلة انّ الودائع لن تعود؟

السؤال كان مطروحاً منذ ان تظهّرت الحقيقة في شأن الطريقة التي أدّت الى تبدُّد الاموال، لكن هذا السؤال قفز الى الواجهة، بعد مذكرة ربط النزاع التي رفعتها المصارف في وجه الدولة، لمطالبتها بدفع ديونها والتزاماتها الى مصرف لبنان، لكي يتمكّن بدوره من تسديد التزاماته للمصارف، والتي تقارب الـ 80 مليار دولار، وصولاً الى أن تتمكّن المصارف نفسها من دفع الودائع الى اصحابها.

فهل صحيح انّ خطوة مقاضاة الدولة هي مجرد رفع عتب، ولذرّ الرماد في العيون، ولكي يعرف المودعون انّ الدولة هي من أنفقت اموالهم، وتبرئ المصارف ذمّتها، وكان الله يحب المحسنين؟
هذا الاستنتاج لا يقع في موقعه الصحيح. وإذا كان البعض يقيس وضعية الدولة من الناحية المالية استناداً الى ايراداتها الحالية، واستناداً كذلك الى اوضاع موظفيها الذين باتت معدلات رواتبهم لا تكفي لدفع فاتورة كهرباء، والى مشهد الادارات العامة التي تعجز عن إنجاز المعاملات بسبب افتقارها الى ادوات القرطاسية، فهو مخطئ حتماً. الدولة غنية وقادرة على دفع التزاماتها، او قسم كبير منها على الاقل. والدليل انّ هذه الدولة التي هبط موظفوها في مداخيلهم الشرعية الى مستوى الفقر المدقع، يوجد عدد كبير منهم في عداد الأثرياء الكبار. وهؤلاء لم يجمعوا ثرواتهم بالوراثة، بل بالفساد والرشاوى.

وبالتالي، اصبح معروفاً انّ تغيير إدارة الدولة بفسادها المستشري من الرأس حتى القعر، سوف يغيّر الإيرادات بنسب لا علاقة لها بالمستويات القائمة اليوم. لكن المشكلة انّ المنظومة السياسية لا تريد ان نصل الى نقطة تسليم ادارة مؤسسات واصول الدولة الى القطاع الخاص، لأنّ هذه الادارات هي مرتع لسرقة المال، وتوظيف الأزلام والمحاسيب، وتجميع الاصوات الانتخابية، وحماية الذات من السقوط.

الدولة اليوم، بما تملك من اصول، وبما تملك من مؤسسات، وبواسطة سلطة التوقيع على كل المعاملات والتراخيص والإعفاءات والامتيازات، قادرة على الانتقال من العجز السنوي الدائم، الى فائض محترم يمكن استخدامه في تسديد الديون، خصوصاً انّ المطروح جدولة طويلة الأمد قد تمتد الى عشرين سنة.

كذلك تملك الدولة الاحتياطي من الذهب والذي فاقت قيمته اليوم، بسبب ارتفاع اسعار المعدن الاصفر، اكثر من 18 مليار دولار. وبالمناسبة، هل يمكن النظر بإيجابية الى ملف الذهب، المحمي بقانون يمنع بيعه؟

المفارقة في هذا الموضوع، انّ المنظومة السياسية، تعترف من خلال هذا القانون، بعجزها عن حماية الثروات، وبعدم صلاحياتها لكي يتمّ ائتمانها على الاحتياطي الذهبي. وهذا الامر واقعي جداً، بدليل انّ الاحتياطي النقدي الذي كان موجوداً في مصرف لبنان قبل تشرين 2019، (حوالى 32 مليار دولار) تمّ تبديده، ولم يبق منه سوى 7 مليارات دولار.

المفارقة الثانية، انّ الدولة التي كانت تبحث عن السارق لتعرف اين ذهبت الاموال، وكلّفت شركة عالمية بإجراء تدقيق جنائي في مصرف لبنان، فوجئت بأنّ التقرير الجنائي يدينها دون سواها، ويشير اليها بالاصبع في عملية سرقة وهدر اموال الناس، التي كانت مودعة في مصرفها المركزي.

في كل الاحوال، الطرف الاول الذي استدرك هذه المعادلة ورفضها هو مصرف لبنان نفسه، بعد تسلّم وسيم منصوري مقدّرات ادارة المصرف مع المجلس المركزي. وكان اول قرار اتخذه في الاول من آب، اي في اليوم الاول لتسلّمه مهامه، هو وقف إقراض الدولة، ومنعها من مدّ يدها على اموال الناس. وكان هذا القرار بمثابة المواجهة الاولى التي قام بها منصوري مع الدولة. وبالتالي، فإنّ مذكرة ربط النزاع، والمقاضاة لاحقاً، التي قد تلجأ اليها المصارف، ما هي سوى استكمال لما بدأه مصرف لبنان نفسه. وبالتالي، فإنّ المصارف باتت تقف وراء منصوري وليس العكس. واصبح الاثنان في خندق واحد، لتحصيل الحقوق لأصحابها.

أما المغالون في رفض تحميل الدولة أية مسؤولية، رغم وضوح مسؤوليتها في الوقائع وفي التقارير، ومنها التدقيق الجنائي الذي طلبت إنجازه الدولة نفسها، ودفعت تكاليفه من الخزينة، لم يعد مجدياً النقاش معهم، لأنّه بات واضحاً انّ مواقفهم لا علاقة لها بالإنقاذ ومعالجة الأزمة، وإعادة حقوق الناس، بل تستند، على الأرجح، الى أهداف اخرى، يصعُب النقاش فيها.

انطوان فرح

 

“موديز” تحسّن نظرتها المستقبلية إلى لبنان: استقرار في القاع

لا يمكن أن يمر تصنيف “موديز” الجديد للبنان وتحسين نظرتها المستقبلية للبلد من دون التوقف عنده. فالتصنيف الجديد وإن كان يحمل إشارات إيجابية، إلا أنه يدفع كل من يتابع تطورات الأزمة المالية في لبنان إلى طرح تساؤلات حول دقة التصنيف وجدارته.

فتصنيف موديز الإئتماني للبنان مستقر عند مستوياته الدنيا C إلا إن نظرتها المستقبلية تغيّرت من سلبية إلى مستقرة. في وقت تعجز فيه السلطات في لبنان من تحقيق خطوة واحدة إلى الأمام على مستوى الإصلاحات والخروج من الأزمة المالية النقدية المصرفية، التي وصفها البنك الدولي بالأسوأ على مستوى العالم.

3 سنوات مرت على إعلان لبنان قراره الرسمي بالتخلف عن سداد سندات اليوربوندز. ومذاك الوقت لم يتم التفاوض مع الدائنين على أي صيغة للسداد. كما لم يتم إحراز تقدم يُذكر على صعيد التفاوض مع صندوق النقد الدولي للإلتزام ببرنامج إصلاحي، ناهيك عن تدهور كافة المؤشرات النقدية والمالية منذ سنوات وحتى اليوم.

انهيار ما بعده انهيار
في ظل كل تلك المعطيات يصبح تحسين النظرة المستقبلية لإحدى وكالات التصنيف الإئتماني أمراً مستغرباً، وغير واضح لجهة الدوافع الاقتصادية العلمية. من هنا، يُعرب الخبير المالي والنقدي المتخصص بالتصنيفات الإئتمانية غسان شماس عن صدمته بما جاء في خلاصة تقرير موديز، وتحسين نظرتها المستقبلية لتصنيف لبنان، “فالوضع الاقتصادي والمالي والنقدي في لبنان لم يتغير. أما لجهة الديون، فلبنان لم يسدد ولم يتفاوض مع الدائنين على جدولة الديون. ولم يجر أي تفاهم مع اصحاب السندات” ويقول شمّاس “لا أريد أن أكون سلبياً لكن ما أعلنته موديز عن التصنيف والنظرة المستقبلية غير منطقي بالنسبة إلى الواقع اللبناني”.

وإذ يلفت شماس في حديثه إلى “المدن” إلى أنه بتقرير موديز المذكور جرى رفع قيمة السندات السيادية بشكل هائل، علماً ان قيمة اليوروبوندز حالياً يساوي نحو 8 سنتات للدولار، يتخوّف من أن يكون هناك اجندات سياسية تجاه لبنان. فقد سبق لوكالات التصنيف الأميركية ان تلاعبت بتصنيف عدد من الدول لأسباب سياسية.

ويطرح شمّاس أفضل السيناريوهات بأن تكون وكالة التصنيف استندت في تصنيفها ونظرتها إلى معطيات مصرف لبنان، وأخذت بالاعتبار تحقيق مصرف لبنان تقدم على مستوى مالية البنك المركزي وتحسن بالاحتياطات، و”لكن هذا ليس كافياً ولا يبرّر ما جاء في تقرير موديز لجهة التصنيف ونظرتها المستقبلية للبنان”. فلا يمكن تجاهل واقع الأزمة الحالية، يقول شماس.

يلتقي الخبير الإقتصادي والمالي غابي بجاني مع شمّاس، ويرى أن من المبالغة تحسين النظرة المستقبلية للبنان معتبراً في حديثه إلى “المدن” أن الاستقرار الواقع اليوم في لبنان هو الاستقرار على الانهيار. فالوصول إلى القاع ليس بعده انهيار. وعليه، قد تكون وكالة التصنيف استندت الى استقرار الوضع على الرغم من عدم إحداث أي تقدم على مستوى الحلول “فالاستقرار في هذه الحالة لا يعني أن هناك تحسّناً أو مؤشرات ايجابية، إنما عدم بلوغ مستويات جديدة من الانهيار”.

ويذكّر بجاني بمفاصل الأزمة الاقتصادية الواقعة منذ سنوات، وعدم إحراز السلطة أية حلول، لاسيما بعد ان تعثرت وأعلنت تخلّفها عن سداد اليوروبوندز، من دون أفق أو رؤية واضحة للخطوة التالية. ويُضاف إلى كل ذلك، حسب بجاني، الفراغ السياسي والتخبط الحاصل اليوم على مستوى المؤسسات الدستورية، ما يعزّز نظرية الاستقرار في أدنى مراتب التصنيف حيث لا مرتبة أدنى عن ذلك.

قاع التصنيفات
يأتي تحسين نظرة موديز المستقبلية تجاه لبنان في وقت تستمر فيه باقي وكالات التصنيف الإئتماني، فيتش وS&P، بتصنيف لبنان عند أدنى المستويات عند SD. وهي حالة التعثر إلى جانب نظرتها المستقبلية السلبية، وهو ما يناقض تماماً ما خرجت به موديز.

وآخر تلك التصنيفات صدر في شهر آب الفائت عن وكالة S&P Global حين صنّفت الديون بالعملة الأجنبية للبنان عند “التعثر الانتقائي” مع نظرة سلبية.

وكانت وكالة موديز قد اوضحت في تقريرها حول لبنان “أن التوقعات المستقبلية المستقرة للبنان هي انعكاس لتوقعاتها بأن يظل التصنيف عند “C” في المستقبل المنظور”. وهو ما يصفه مصدر مطلع على التصنيفات الائتمانية بـ”الإرباك في التقديرات”

ويقدّر التصنيف C بأدنى المراتب حسب تصنيفات موديز الائتمانية. وتعبر عن حالة التعثر مع احتمال ضئيل لسداد أصل الديون أو الفائدة.

مع الإشارة إلى أن أبرز معايير التصنيف الائتماني السيادي للدول التي تستند إليها وكالات التصنيف الدولية، هي المالية العامة للدولة، وتشتمل على الموازنة ونمو الناتج المحلي ووضع الديون الخارجية للدولة، ومعدل التضخم، وميزان المدفوعات، والتنمية الاقتصادية والتشريعات والقوانين وبيئة الأعمال، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وتاريخ الدولة في التزامها بسداد ديونها والقطاع المصرفي، بالإضافة إلى معايير تظهر قدرة الدولة على الوفاء بديونها وسلوكها مساراً يضمن حقوق الدائنين.

وبالنظر إلى كل تلك المعايير، نجد أن لبنان أخفق في بلوغها جميعاً خلال الأزمة التي دخلت عامها الخامس، ولم يحقق أي تقدم في مسارات الإصلاح.

عزة الحاج حسن

جامعة هارفرد تؤكّد طرحنا للدولرة الشاملة للبنان: إهداء لمن يعتبر «الكنيسة القريبة ما بتِشفي»

ضمن اقتراحهم الدولرة الشاملة الرسمية، وجد الباحثون في مركز أبحاث جامعة هارفرد الذي يضم كبار الأسماء المتخصّصة بالسياسة النقدية، لا سيما منها ريكاردو هوسمان وكارمن رينهارت وهوغو بانيزا فضلاً عن باريوس، برينو، باشيكو، بان لوكنير، موسي، فانتوري… انّ المزايا المرتبطة بالانتقال الى الدولرة الشاملة الرسمية لها أهمية خاصة في السياق اللبناني، في حين أنّ عيوب الدولرة التي يتم الاستشهاد بها تقليدياً هي أقل أهمية، نظراً للواقع الاقتصادي اليوم في لبنان. وبالتالي، فإن الدولرة هي الخيار الأفضل، بالمقارنة مع الخيار الأكثر قابلية للتطبيق البديل: سعر صرف معوّم مُدار ضمن نظام مصرفي يعتمد بشكل كبير على الدولار، إلى جانب مصداقية سياسية محدودة وفي الحالة اللبنانية تحديداً، فإن فوائد الدولرة تفوق عيوبها.

وفي المقام الأول، فإن الدولرة الكاملة من شأنها أن تضع حداً للتضخم المفرط في لبنان. على الرغم من وجود الاستراتيجيات البديلة التي يمكن أن تخفض التضخم تدريجاً، تعتبر الدولرة هي الأكثر فعالية على الإطلاق. ولنتأمل هنا حالة الإكوادور، حيث حدث التضخم بعد الدولرة الكاملة للاقتصاد وقد انخفض معدل التضخم من 96.1% في عام 2000 إلى 2.7% في عام 2004. ومنذ ذلك الحين، شهدت الإكوادور معدل تضخم لا يتجاوز 10%. في ظل وجود سياسة مالية توسعية نسبياً.

علاوة على ذلك، يمكن أن تؤدي الدولرة دورًا في تسهيل الاستثمار الأجنبي المباشر والتبادلات الاقتصادية، وخاصة مع الأطراف المقابلة في العالم (الخليج) حيث ترتبط معظم العملات بالدولار.
لقد تحول الاقتصاد اللبناني بالفعل إلى الدولار بحكم الأمر الواقع. منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1989، كان لدى لبنان قطاع مصرفي يعتمد على الدولار بشكل كبير. قبل عام 2019، كانت معظم الأسعار ثابتة وتمّت المعاملات بالليرة اللبنانية. ومع ذلك، منذ عام 2019، بدأ التضخم المفرط في التبادل وانهيار أسعار الفائدة، وتجميد الودائع المصرفية، تحول الاقتصاد إلى الدولرة بحكم الأمر الواقع. الأسعار، حتى بالنسبة للمعاملات اليومية الصغيرة، وأجور القطاع الخاص كلها مقوّمة بالدولار الأميركي. هذا يعنى أن الليرة لم تفقد دورها كمخزن للقيمة فحسب، بل فقدت أيضاً دورها كوسيلة للتبادل والوحدة من الحساب. وفي ظل هذه الظروف، يمكن استخراج رسوم صَك العملة من إصدار العملة المحلية وتنخفض كثيراً في حين أن ارتفاع مرونة الاستبدال بين العملة المحلية والدولار يخلق طلبًا متقلبًا على الليرة مما يعقّد السياسة النقدية (الوضع المالي الحالي المسيطر يجعل السياسة النقدية غير فعالة تماماً في إدارة التضخم). ونظراً لضخامة انخفاض قيمة العملة وانخفاض الطلب على الليرة، واستبدال العملة المحلية المتداولة بها يمكن تمويل الدولار الأميركي، ومن غير المرجّح أن يسبب هذا النوع من الديناميكيات الانكماشية التي ناقشها (كارافيلو، مارتينيز برويرا، وويرنينج، 2023).

إن الافتقار إلى المصداقية يحد من قدرة البنك المركزي على الاستجابة للصدمات الخاصة للسياسة النقدية التيسيرية. ولا تكون السياسة النقدية فعالة إلا في ظل وجود جهة ذات مصداقية للبنك المركزي والتوقعات الراسخة. ولم يكن مصرف لبنان يتمتع بالمصداقية قبل الأزمة. ولذلك اعتمدت سياسة سعر صرف ثابت وتسامحت مع مستوى مرتفع من دولرة الودائع المصرفية.

علاوة على ذلك، فحتى في السنوات الهادئة، لم يكن الربط جديراً بالمصداقية الكاملة، كما يتضِح من حقيقة الفائدة وتجاوزت أسعار الفائدة بالليرة بشكل كبير تلك التي بالدولار. ومن المرجح أن تكون هذه المشكلة أكثر أهمية في ظل نظام التعويم المُدار حيث يخشى البنك المركزي من آثار الميزانية العمومية وسيكون لتحركات أسعار الصرف تأثيرها على البنوك والحكومة والقطاع الخاص. لذلك، إنّ سياسة تعويم سعر الصرف في اقتصاد جداً مُدَولر هي خطيرة، وسوف ينطوي هذا النظام على أسعار فائدة مرتفعة للغاية، الأمر الذي سيؤدي إلى تعقيد ديناميكيات الدين، في حين أنه غير فعال في التعامل مع الديون واستقرار الاقتصاد. وفي هذا السياق، تصبح السياسة النقدية مسايرة للتقلبات الدورية إلى حد كبير، ما يؤدي إلى زيادة معدلات الفائدة لمنع الاستهلاك في الأوقات السيئة. ربما يتعيّن على البنك المركزي العودة إلى سياسة سعر صرف ثابت فعليًا لا يسمح بسياسة نقدية مستقلة كما لا يسمح بذلك أيضًا تحقيق تأثير مصداقية الدولرة الكاملة.

إن الاقتصاد اللبناني منفتح للغاية ومرتبط بشكل وثيق بالاقتصادات المربوطة بالدولار. وتتوقف تكلفة الدولرة على درجة التكامل مع دورة الأعمال في منطقة الدولار. وفي السياق اللبناني، فإنّ فترات الركود غير متزامنة مع دورة الأعمال في منطقة الدولار هي أقل احتمالاً نظراً لأن الشركاء التجاريين الرئيسيين للبلاد والبلدان المرسلة للتحويلات لديهم عملات مرتبطة بالدولار (الشكل 19). علاوة على ذلك، فإنّ سوق العمل في لبنان ضعيف للغاية ومفتوح، حيث يمارس العديد من المواطنين خيار العمل في الخارج بأعداد تتغيّر مع تغيّر التقلبات الماكرو اقتصادية ما يوفّر نوعًا من الاستقرار التلقائي.

ومن الممكن أن يؤدي التعويم المُدار إلى هشاشة مالية لأنه قد يكون عرضة للتحقيق الذاتي لتوقعات السلبية. ومن المرجّح أن يؤدي التعويم المُدار إلى فترات استحقاق قصيرة جدًا للديون، وتشاؤم فيما يتعلق بمستقبل الاقتصاد من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة، وإلى ارتفاع خدمة الدين والعجز نظراً لآجال استحقاق الديون القصيرة، وهو ما يبرر التشاؤم الأولي. وبالمثل، توفّر الدولرة ركيزة نقدية أكثر مصداقية من سعر الصرف الثابت.

ألا أنّ الدولرة الشاملة تحتاج إلى إجراء تغييرات في قانون النقد والتسليف الصادر لعام 1963 والقوانين الأخرى ذات الصلة بمصرف لبنان للسماح للإطار المؤسسي بالتوافق مع هذا الإجراء. على أن يعكس القانون الحاكم الجديد الوظائف والأدوات المحدودة التي يتمتع بها البنك المركزي بشكل كامل.

كما أنّ الاقتصاد الدولاري لن يُسمح للبنك المركزي بإصدار العملة الوطنية أو التدخل في سوق الصرف الأجنبي. ثانياً، سيتم تقليص مجالات عمل مصرف لبنان إلى السوق المفتوحة العمليات مع محفظتها من الأوراق المالية المقومة بالعملة الأجنبية وتوفير محدودية السيولة الطارئة بشكل نسبي، من خلال استخدام احتياطياتها الزائدة من العملات الأجنبية.

وأخيرا، تساهم الدول في تعزيز وظيفة المراقبة والإشراف لمصرف لبنان، حيث أن الدولرة ستتطلب صرامة أكبر في تنظيم القطاع المصرفي وانضباطه. وسيحتاج النظام المصرفي إلى تغييرات في لوائحه الاحترازية لضمان الاستقرار في ظل محدودية دور مصرف لبنان كمُقرض الملاذ الأخير كونه لا يطبع الدولار الأميركي، إنما في أفضل الأحوال يمكنه إنشاء صندوق تأمين بالدولار الأميركي تساهم به المصارف لمساندتها في حال عرفت أزمة سيولة حادة بالدولار. على الرغم من المخاطر المتعلقة بسعر الصرف تساهم الدولرة الشاملة بإزالتها، ويفترض تعديل القوانين واللوائح المهمة الأخرى لاستيعابها بشكل كامل.

وفي الاقتصاد الدولاري، ستحتاج البنوك إلى متطلبات احتياطي أعلى لضمان سيولة أموالها، والى ودائع والتزامات أخرى قصيرة الأجل. ويمكن تلبية هذه المتطلبات من خلال الودائع والاحتياطات في مصرف لبنان أو في مصارف دولية مراسلة ذات جودة عالية. بالإضافة إلى ذلك، ستحتاج المصارف إلى زيادة نسبة كفاية رأس المال للتأكد من قدرتها على السداد في ظل الظروف المعاكسة، ومن المقترح أن يتم رفع النسبة إلى 15%.

ونظراً للظروف اللبنانية، فإن الفوائد الإيجابية من الدولرة الرسمية تتفوّق على التكاليف المحتملة لها. أما الآلية التقنية المفصّلة فهي تتضمّن المراحل التالية:
لشراء القاعدة النقدية المقومة بالليرة اللبنانية إلى الدولار بسعر السوق الموازية، سيحتاج لبنان إلى حوالى 1.2 مليار دولار أميركي. الأصول لتحويل كافة الأموال الأجنبية المطلوبة، سيأتي تداول أرصدة الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي من الاحتياطيات التي يحتفظ بها مصرف لبنان قبل أصوله ويتم إعادة هيكلة الالتزامات. وهذا من شأنه أن يضيف إلى الاقتصاد النقدي، المقدّر بنحو 9 مليارات دولار، الدولار الأميركي المتداول حالياً.

ومع الإمكانيات المحدودة لأن يكون مصرف لبنان مُقرضاً تقليدياً كملاذ أخير، فإن مصرف لبنان سيفعل ذلك عبر اللجوء إلى أدوات أخرى مثل ارتفاع متطلبات الاحتياطي، وتوفير السيولة من خلال فتح عمليات السوق أو الوصول إلى خطوط الائتمان الدولية. الدول الدولارية التي لديها بنك مركزي تميل إلى تبنّي متطلبات احتياطي أعلى لتغطية ودائعها المصرفية ومَنع التهافت على الودائع.
إنّ متطلبات الاحتياطي المرتفعة ستكون ذات أهمية خاصة في حالة لبنان، حيث أن ثقة الجمهور في مصرف لبنان تآكلت منذ بداية الأزمة الحالية. بالإضافة إلى ذلك، سيعمل مصرف لبنان بدور محدود في عمليات السوق المفتوحة عن طريق شراء أو بيع الأوراق المالية المقومة بالعملة الأجنبية اعتماداً على احتياجات السيولة للقطاع المالي ومدى توفّر خطوط الائتمان الدولية للمساعدة.

إن متطلبات الاحتياطي الأعلى من المصارف للإيداع في مصرف لبنان يمكن أن تكون بمثابة رسوم صك العملات للدولة. واعتماداً على الحاجة إلى التمويل من خلال هذا التدبير، سيكون مصرف لبنان قد سمح لها بدفع أسعار فائدة أقل على تلك الودائع مما تكسبه من خلال استحواذ الأصول الأخرى في محفظتها، وتحويلها بشكل فعال إلى دخل. يجب استخدام هذه الأداة بحذر لأنه قد يؤدي إلى التشوهات وزيادة تكاليف الاقتراض. وسيتولى البنك المركزي مهامه كمنظّم ومنسق لنظام النقد. في حين يمكن القول انّ دورها كمقرض الملاذ الأخير سيكون محدوداً لأنها لا تملك الوصول إلى عدد غير محدود من العملات الأجنبية، لا يزال بإمكان مصرف لبنان أن يعمل كمنظم وميسّر للقطاع المصرفي، وتوفير أنظمة المقاصة بين البنوك لتسهيل المدفوعات، مع سَنّ سياسات للسيطرة على المخاطر في النظام المالي تخدم غرض دور الملاذ الأخير على المدى المتوسط والطويل، بالنظر إلى قيود السيولة التي سيواجهها مصرف لبنان عند إعادة هيكلته.

لن يقتصر دور مصرف لبنان على مُقرض السيولة، لأنّ النظام المالي سيتطلب مقاصّة للدفع وفق النظام وهيئة للمراقبة. وكما هو الحال مع المصارف المركزية في الاقتصادات الدولارية الأخرى، لن يقتصر دورها في الاقتصاد على دور مقرض الملاذ الأخير، بل سيدير أيضًا أنظمة الدفع بين المصارف وسوف يوفر خدمات المقاصة للدفع بين المؤسسات المالية المحلية وبقية العالم. بصفته كيانًا رقابيًا، سيُشرف مصرف لبنان على تطبيق معايير أعلى لكفاية نسبة رأس المال، والوصول إلى خطوط سيولة دولية عالية الجودة مع المصارف المراسلة، وأي إجراء إضافي يسمح للمصارف بتغطية ودائعها وغيرها من الالتزامات قصيرة الأجل في ميزانياتها.

د. سهام رزق الله

تحويل الودائع الى ديون وإعادة هيكلتها مع هيركات

الدراسة التي أنجزتها جامعة «هارفرد» الاميركية، وبصرف النظر عن بعض التفاصيل الواردة فيها، إلا أنها في عناوينها ومضمونها لا تختلف كثيراً عمّا يطالب به اقتصاديون لبنانيون منذ أربع سنوات، ولا تزال اقتراحاتهم مجرد صوت وصدى، ولم تتحرّك حتى الآن العقول المتحجّرة في الدولة، لحسم النقاش، والبدء في مسار الحل المطلوب للخروج من النفق.

التعمُّق في الدراسة التي قدمتها «هارفرد» لحل الأزمة يقود الى مجموعة حقائق وردت في متنها، يمكن اختصارها بالنقاط التالية:
اولاً – انّ مسؤولية الخسائر المتراكمة، والتي قدّرتها الدراسة بحوالى 76 مليار دولار، ينبغي ان تتحمّل مسؤوليتها الدولة اولاً، من خلال تغطية ديونها وديون مصرفها المركزي. والمصارف ثانياً، عبر المساهمة في تغطية جزء من الخسائر من خلال آليات الاكتتاب في سندات الدين التي تكون قد انتقلت الى مسؤولية الدولة بالكامل. والمودع الكبير ثالثاً من خلال عملية هيركات في اطار اعادة جدولة الديون.
ثانياً – انّ عملية الفصل بين الخسائر والقطاع المصرفي ينبغي ان تحصل بشكل فوري، بحيث يتمكن القطاع من معاودة العمل بشكل طبيعي من دون الحاجة الى انتظار انجاز المعالجة. وكذلك الامر بالنسبة الى البنك المركزي، الذي سيتحوّل وضعه المالي من العجز الى الفائض، بما يسمح بإعادته الى العمل بفعالية.
ثالثاً – الحرص على مبدأ ضمان تغطية كل الودائع حتى سقف محدّد يتراوح وفق تقديرات الدراسة بين 100 و150 الف دولار.

في مقاربة واقعية لهذه الدراسة، نستطيع ان نلاحظ انّ الطروحات ليست بعيدة عمّا هو متداول اليوم. وحتى مبدأ الدولرة الشاملة ليس بعيداً عمّا يتم اعتماده اليوم، لجهة دولرة القسم الاكبر من الدورة الاقتصادية، من دون الحاجة الى الدولرة الشاملة بما يعني إلغاء العملة الوطنية. هذا الخيار قد لا يناسب البلد، طالما ان اجراءات الدولرة الجزئية، مع ضبط الكتلة النقدية بالليرة، والتنسيق مع وزارة المالية شبه كافٍ للسيطرة على سعر الصرف. وأذا أضَفنا الى هذه العناصر خطة للتعافي بالتوافق مع صندوق النقد، تصبح الحاجة الى إلغاء الليرة غير قائمة، ويمكن الاستغناء عنها، من دون المجازفة باستمرار تفلّت التضخّم.

تبقى النقطة الأهم المتعلقة بإعادة الودائع الى اصحابها. في هذا السياق، تصيب الدراسة الهدف من خلال الاعتراف بأنّ اموال المودعين موجودة دفترياً في مصرف لبنان، وغير موجودة واقعياً بسبب إنفاق هذه الاموال من قبل الدولة اللبنانية ومصرفها المركزي. ومن هنا يأتي الاقتراح بأن يتم تحويل ما يُعرف بالخسائر الى دين عام على الدولة. وبهذه الطريقة يصبح دين الدولة 107 مليارات دولار (76+31 ملياراً قيمة اليوروبوندز).

لكن الآلية التي تضعها الدراسة حول اصدار الدولة لسندات لتغطية الخسائر (76 مليار دولار)، ومن ثم اكتتاب المصارف بها لتحويلها لاحقاً الى المودعين الكبار، تعني عملياً شطب الودائع بنسبة تقارب الـ80 أو 90 %، وفقاً للنسبة التي ستُعتمد في اعادة هيكلة اليوروبندز. بمعنى آخر، ستتم تسوية مشكلة الودائع الكبيرة (فوق الـ100 الف دولار)، بالطريقة نفسها التي ستتم فيها تسوية ديون السندات الدولارية. وقد صار واضحاً انّ اعادة هيكلة اليوروبوندز لن تقود الدولة الى دفع اكثر من 10 الى 20% من قيمتها الفعلية، استنادا الى اسعارها الحالية في السوق المالي.

هذه النقطة لا تناسب اللبنانيين، لأن عملية الشطب فيها كبيرة. صحيح ان مبدأ الهيركات ينبغي ان يكون مقبولاً بالنسبة الى الودائع الكبيرة، لكن الأمر يتعلق بالنسبة المئوية للشطب وليس بالمبدأ فحسب. لذلك فإنّ ما يتمّ تداوله اليوم لجهة إنشاء مؤسسة استرداد الودائع قد يكون أفضل بكثير، خصوصاً ان كل الاطراف المعنية بالأزمة ينبغي ان تشارك بالتمويل. اي الدولة ومصرفها المركزي والمصارف نفسها. أما حصة المودعين الكبار في المساهمة، فقد تتم من خلال حسم الفوائد المرتفعة لمدة محدّدة من السنوات.

في النتيجة، قد تساعد دراسة «هارفرد» في ان تكون مرتكزاً لترسيخ الافكار المتداولة محلياً، وهي بمثابة تأكيد لمن لا تزال تُساوره الشكوك، في الطريقة التي ينبغي اعتمادها لمعالجة الأزمة. فهي تؤكد المؤكّد لجهة انّ الدولة ينبغي ان تتحمّل مسؤوليتها في معالجة موضوع الخسائر، واي كلام خارج هذا السياق لا يعدو كونه من النوع الشعبوي، او الكيدي، او حتى الهادِف الى مزيد من التدمير. وكل هذه الطرق لا تقود سوى الى الخراب.

 

انطوان فرح

مرحلة جديدة تتحضّر: الدولار إلى تراجع؟

بعد تحقيقه الأهداف المرجوة، تجفيف الكتلة النقدية من السوق الى حدودها الدنيا وتثبيت سعر الصرف والحفاظ على استقراره رغم الاضطرابات الامنية، تظهر أمام المصرف المركزي اليوم فرصة لخفض سعر صرف الدولار مقابل الليرة. فهل يُقدم عليها راهناً ليعطي اشارة بأنّ البلد متوازن رغم الاضطرابات الامنية والشلل السياسي؟ أم ينتظر انطلاق منصّة «بلومبرغ»؟ أم هدوء الجبهة الجنوبية لضمان نجاحها؟

أظهرت الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان تراجعاً في حجم النقد بالتداول اي «الكاش» او النقدي بنسبة 31.4% لتصل الى 50,405.7 مليار ليرة لبنانية في نهاية ايلول 2023، بعدما كانت 73,514 مليار ليرة لبنانية في نهاية عام 2022 و54,484.4 مليار ليرة لبنانية في نهاية أيلول 2022. فهل حجم العملة المتداولة كافٍ لتسيير الاقتصاد؟ هل وصلنا الى الحدود الدنيا؟ هل من تداعيات لهذا التراجع على سعر الصرف؟ وهل من رابط بين هذا الامر وقرار مصرف لبنان بإعادة طباعة عملة الـ 100 الف ليرة، مع العلم انّه كان هناك توجه لطبع فئات جديدة مثل الـ 250 الفاً والـ500 الف والمليون؟

في السياق، أوضح عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا الدكتور بيار الخوري لـ«لجمهورية»، انّ هذه الارقام تعكس الاستراتيجية الجديدة التي اعتمدها مصرف لبنان، والتي تقضي بتجفيف الليرة من السوق، لافتاً الى انّ هناك عامل ارتباط بين كل قرش يضخّه مصرف لبنان وارتفاع سعر صرف الدولار. فما حصل في مرحلة ما قبل استلام حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري كان مضاعفة حجم الليرة في السوق بالنسبة الى الدولار، ما ادّى الى ارتفاع سعر الصرف وصولاً الى 140 الف ليرة للدولار، لكن عندما استلم منصوري بدأ باتباع سياسة معاكسة، وهي سياسة «التنشيف» التي ترافقت مع توقف عمليات صيرفة التي كانت الممر الأساسي لضخ الليرة، تلاه اعلان منصوري عدم استعداده لتمويل الدولة. كل هذه العوامل ادّت الى فرملة ضخ الليرة.

أضاف: «انّ هدوء السوق الذي حصل في فصل الصيف سمح للحاكم بالإنابة أن يقوم بإدارة الاحتياطات forex management ما بين ضخ ليرة وسحب دولار او العكس، حتى وصلنا اليوم الى هذا الشح في العملة، بدليل ارتفاع الفائدة على «الانتربنك» /ليرة (وهي الفائدة على استدانة المصارف لليرة في ما بينها) الى 130%، وهذه النسبة المرتفعة انما تدلّ إلى اننا مستمرون بسياسة التنشيف».

لكن السؤال الأساسي، كيف تمكّن المصرف المركزي من رفع احتياطاته من العملات الاجنبية مؤخّراً، بينما يستمر بتصغير الكتلة النقدية؟ ماذا دفع مقابل هذه الليرات حتى تمكّن من سحبها من السوق بينما احتياطه من العملات الصعبة لم يتراجع لا بل زاد نصف مليار دولار؟

ورأى الخوري انّ القول انّ هذه الزيادة جاءت من حسابات الدولة وجبايتها للضرائب هو غير صحيح، لأنّ هذه الاخيرة لا علاقة لها بحجم النقد بالتداول، وهنا نتساءل: هل حصلت تحويلات خارجية «فريش» من دون ان يقابلها شراء لأسباب متعددة لا نزال نجهلها؟ هل أعادت المصارف تحويل أموال عائدة لها من الخارج الى الداخل اللبناني؟ هل تمّ اكتشاف خطأ ما في طريقة احتساب الاحتياطي؟ هل تبين انّ هناك اموالاً مكتسبة من مصدر جديد، وقد أعيد احتسابها ضمن الاحتياطات؟ التساؤلات كثيرة والاجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، لكن لا بدّ من التأكيد انّه لا يمكن رفع احتياطي العملات الاجنبية من الشراء من السوق، وفي الوقت نفسه يتراجع حجم النقد بالتداول باللبناني. الّا انّ كل هذه المؤشرات ترسم صورة للمرحلة الجديدة وتتلخّص بالتالي:

طالماً انّ الفائدة على الانتربنك زادت 130% فهذا يعني انّه بات بمقدور مصرف لبنان تحسين سعر صرف الليرة لأنّها مفقودة من السوق، اي انّها مطلوبة وليست معروضة، فالمعروض اليوم هو الدولار، على عكس ما كان سائداً في السوق في المرحلة السابقة، حيث كانت الليرة معروضة والدولار مطلوب. وبناءً عليه، يُتوقع ان نبدأ بمرحلة التراجع في سعر الصرف وبهذه الطريقة سيتمكن مصرف لبنان من إعادة ترميم احتياطاته بكلفة أقل.

ورأى الخوري انّ المعادلة الراهنة تسمح لسعر الصرف بالانخفاض الى 50 الفاً، لكن الواضح انّ ما كان مطلوباً لهذه المرحلة هو تثبيت سعر الصرف وإعطاء أثر نفسي ايجابي بانتهاء لعبة الليرة / دولار.

ماذا عن المرحلة المقبلة؟ وهل كان المطلوب ربط خفض سعر الصرف بعمل «بلومبرغ» او إهدائها ايّاه كإنجاز؟ قال الخوري، اذا انطلق عمل المنصّة من دون ان يتوفّر اللبناني في السوق فحتماً سينخفض سعر الدولار مقابل الليرة وليس العكس. ورأى انّ هناك متغيّرات عدة في السوق اللبناني راهناً يجب مراقبتها والتوقف عندها. فمرحلة الحاكم السابق رياض سلامة انتهت بكل ابعادها، بحيث تمّت السيطرة على الدين العام بالمعنى المالي، واليوم ستبدأ مرحلة جدّية عنوانها اعادة ترميم المالية العامة، وهذه الخطوة تنتظر الخطة النهائية للاصلاح. وهنا لا بدّ من الإشارة الى انّ هذه الأزمة كما سارت اراحت كثيراً السلطة السياسية وخفّفت عنها أحمالها وعجزها المالي.

ورداً على سؤال، أكّد الخوري انّه لا يمكن للنقد بالتداول ان يتراجع أكثر مما هو عليه اليوم، لأنّه أقل من الحدّ المسموح به، وبما انّ الفائدة على الانتربنك باتت مرتفعة جداً، يتوقع الخوري استناداً الى هذين العاملين ان ندخل قريباً في مرحلة التحسّن التدريجي لسعر الدولار، بحيث سيعمد المركزي الى العودة لضخ الليرة لتكبير حجم النقد بالتداول مقابل خفض سعر الدولار، أما الحدّ الذي يمكن ان يتراجع فيحدّده السوق، والمؤشر لذلك الفائدة على الانتربنك التي يجب ان تتراجع الى ما دون 10%.

وعمّا اذا كان اعلان مصرف لبنان إصدار دفعة جديدة من فئة الـ 100 الف ليرة الى الاسواق لها دلالات مالية، لا سيما انّه كان الحديث في الفترة السابقة عن توجّه لطبع ورقة الـ 250 الفاً والـ 500 الف ليرة وحتى المليون ليرة، قال الخوري: انّ تجديد إصدار المئة الف ليرة بمواصفات جديدة وتميّزها بصغر حجمها هو دليل انّه ما عاد من حاجة حتى لإصدار فئة الـ 250 الفاً، وهذا ما يؤكّد اننا متّجهون نحو مسار تراجعي في سعر صرف الدولار مقابل الليرة.

 

التهرّب الضريبي نموذج … أدنى من مرتبة “دولة”

الانتقادات التي يتعرّض لها مشروع موازنة العام 2024، تعود في قسمٍ كبير منها الى المناخ العام المرتبط باستمرار الانهيار الاقتصادي، وعجز الدولة منذ اربع سنوات عن إطلاق مسيرة التعافي، لإعادة الاقتصاد الى وضع طبيعي، يسمح بإقرار موازنات تتماهى مع الرؤية الاقتصادية. وبالانتظار، كل الموازنات ستكون ناقصة وغير مُجدية، في غياب التوافق على مسار التعافي العام.

من خلال الضرائب والرسوم، الجديدة منها والقديمة، التي تجري محاولة لزيادتها لتتماهى مع نسَب التضخّم التي شهدها البلد، يُلاحظ انّ الحكومة تجهد لتحسين الايرادات بأي ثمن. ورغم العورات الكثيرة الواردة في المشروع الحكومي، إلا أن الطامة الكبرى تكمن في الوضع الاقتصادي القائم، حيث بات 80 % من اللبنانيين في قائمة المحتاجين الى مساعدة، بسبب تراجع قدراتهم الشرائية الى مستويات متدنية.

في الموازاة، استعاد قسم من القطاع الخاص حيويته، بفضل عوامل عدة، من اهمها:

أولاً – الاستقرار الامني (قبل عملية 7 تشرين الأول في غزة) الذي سمح بعودة المواسم السياحية، وأدّى الى دخول العملة الصعبة الى البلد.

ثانياً – قرارات مصرف لبنان التي سمحت بإعادة القروض بالليرة او باللولار، الامر الذي سمح لقسم كبير من المؤسسات بتحقيق ارباح استثنائية غير متوقعة، ساعدتها على الصمود، وربما ازدهار بعضها.

ثالثاً – الكلفة التشغيلية التي انخفضت نسبياً عمّا كانت عليه قبل أزمة الانهيار.

هذه العوامل ساعدت القطاع الخاص على استعادة نشاطه جزئياً، الامر الذي أدّى الى وقف الانكماش الذي كان قد بدأ قبل اربع سنوات.

لكن هذا التحسّن في اداء القطاع الخاص بقي هشاً، وهو معرّض للانهيار بسرعة، بسبب عدم توفّر مقومات التوسّع والصمود. وما دام القطاع المصرفي في «صالة الانتظار»، بسبب تقاعس «الدولة» عن البدء بمعالجة الأزمة النظامية (systemic crisis) التي ضربت البلد منذ اكثر من اربع سنوات، سيبقى القطاع الخاص في غرفة العناية الفائقة، ومُعرّضاً لانتكاسات خطيرة في اية لحظة. على سبيل المثال، ما فعله اصحاب بعض المؤسسات السياحية، أنهم جمعوا الارباح التي حققوها في فترة الصيف، وهم يُنفقون منها منذ 7 تشرين لضمان صمود مؤسساتهم. هذا النمط من العمل لا يمكن ان يدوم، ولا يمكن ان يبني مؤسسات قادرة على التوسّع والمنافسة، وبالتالي لا يمكن ان يؤدّي الى اقتصاد طبيعي ومزدهر. ومن دون اقتصاد طبيعي وقادر على النمو بنسب جيدة، ستبقى الأزمة قائمة، لأنّ الدولة لن تعثر على ايرادات كافية للقيام بدورها المألوف. الاقتصاد بوضعه الحالي، لا يكفي لتحقيق استقرار اجتماعي، يمكن تأمينه من خلال نظام ضرائبي مهمته اعادة توزيع الثروة لضمان حد أدنى من العدالة الاجتماعية، وضمان مقومات البنية التحتية لتقديم الخدمات للفرد والمؤسسات والمستثمرين.

ما يقوله المنتقدون اليوم، في موضوع الموازنة صحيح، لكنه يعبّر عن فشل الدولة في صياغة وبدء مشروع الانقاذ، اكثر ممّا يعكس وجود أخطاء او شوائب في الموازنة. مَن رَسَم الخطوط العريضة للموازنة، يدرك ويعترف مسبقاً بأنّ الدولة عاجزة عن اتخاذ القرارات المطلوبة للاصلاح، لذلك لجأ الى مبدأ «اذا لم يكن ما تريد، أرِدْ ما يكون». إذ يكفي ان يتم خفض التهرّب الضريبي الذي يجري تقديره حالياً بحوالى 60%، لكي تتحسّن الايرادات العامة بنسبة لا تقل عن 25 الى 30%. لكن الدولة تعترف مسبقاً بعجزها عن تنفيذ مثل هذه القرارات الامر الذي يجعلها أدنى من مرتبة «دولة». وهذه هي المشكلة الحقيقية التي تنسحب على كل القرارات الاخرى التي لا تستطيع السلطات اتخاذها لأنها عاجزة عن تنفيذها.

في وضعٍ مماثل، لن يكون مُستغرباً تصدير مشاريع موازنة غير متّزنة، لأنّ الرؤية الاقتصادية التي نطالب بها جميعاً، لا يمكن حصرها بالموازنة، وإبقاء ما تبقّى على ما هو عليه. بمعنى، ان الموازنة قد تصلح لتكون بمثابة رؤية اقتصادية مستقلة الى حد ما، في الاوضاع الاقتصادية الطبيعية، لكن الامر يختلف بعض الشيء في وضع استثنائي كما هو في لبنان منذ اربع سنوات. الدولة تحتاج الى تحديد مسار التعافي والمضي به ضمن خطة خمسية او عشرية واضحة، ومن خلال هذه الخطة يمكن إيراد رؤية اقتصادية في الموازنة، تتماهى مع هذه الخطة. اما الاعتقاد انّ الموازنة لوحدها «بِتشيل الزير من البير»، فهو لا يقع في محله، وفيه الكثير من الاوهام او المزايدات او الشعبوية. مع الاشارة الى ان كل هذا الكلام لا يبرر صدور الموازنة بثغرات كالتي ظهرت في مشروع موازنة 2024، لكن هذه الثغرات يمكن للمجلس النيابي معالجتها، وهو يفعل حالياً، وهذا واجبه، ولكن الانقاذ والتعافي في مكان آخر لا يزال مغلقاً حتى الآن.

انطوان فرح

السيناريو الأفضل هو سيناريو سيئ

يسيطر التدمير والإرهاب يوماً بعد يوم في مجزرة غزة، ويدفع الثمن الباهظ الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ، وهناك تخوّف جدّي وخطر من توسيع بقعة الحرب نحو كل المنطقة. وإذا ما حصلت سيكون لها تأثير دراماتيكي على جميع الأصعدة. فالسيناريو الأفضل اليوم هو وقف إطلاق النار، والمرفوض من أسياد الحرب. لننظر بإيجابية وبعض التفاؤل الى ما بعد القصف والتدمير.

مهما حصل، هذه الحرب أوقفت كل عقارب المفاوضات والمحادثات ومحاولة التطبيع التي كانت تتوسع في المنطقة. فسيكون صعباً للغاية أن تُعاد المفاوضات وخصوصاً بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وبقية البلدان العربية، فتراجعت المحادثات أشواطاً إلى الخلف، لا بل جُمّدت أو حتى دُمّرت.

أما على الصعيد الإقتصادي الشرق أوسطي، فمهما حصل، فقد جُمّدت الإستثمارات، وتراجعت الحركة والتبادل التجاري، وتراجع دراماتيكياً النقل الجوي في المنطقة، وسيأخذ وقتاً طويلاً لإعادة الثقة والنمو.

أما على الصعيد الدولي، فإن هذه الحرب الجديدة صرفت الأنظار عن الحرب الأوكرانية – الروسية المتكاملة، بعيداً عن الأنظار وعدسات الكاميرا والصحافة الدولية. ولم تعد في سلّم الأولويات الدولية.

في لبنان، نسينا أو تناسينا أولوياتنا وهمومنا المعيشية والمصيرية، ولم يتحدث أحد عن الفراغات الدستورية في أعلى المناصب، بدءاً من منصب رئاسة الجمهورية الفارغ منذ سنة، والمناصب الأمنية، والمالية والنقدية، وقريباً في قيادة الجيش.

على الصعيد المالي والنقدي، لم تعد إعادة الودائع، ليس فقط في الأولويات، لكن حتى في الأحاديث، كأنها طُمرت تحت الركام. أما عمليات التنقيب المنتظرة منذ عقود، فلم يتحدث أحد بأنّها قد جُمّدت، ولم يتناول أحد أي نتائج مرجوة عنها، ولن تبدأ من جديد قبل الإستقرار التام. وهذا أمر مستبعد.

حتى لو حصل السيناريو الأفضل، وهو وقف إطلاق النار المرفوض من جهات عدة حتى اليوم والمُستبعد، حتى لو حصل، فإنّ عدم الإستقرار والمخاوف والمخاطر قد أوقفت كل عقارب التفاوض، وإعادة النمو، وإعادة بناء بلدنا المكسور والمنهوب.

في المحصّلة، هناك سيناريوهات عدة، سوداوية ومخيفة، والسيناريو الأفضل في الأفق هو وقف المدفع والتدمير والإرهاب والدماء، لكن حتى هذا السيناريو الإيجابي لن يُرجعنا إلى نقطة الصفر، لا بل سنعود أشواطاً وعقوداً إلى الوراء. فكل يوم يمرّ نتراجع خطوات كبيرة إلى الوراء، وتُطمر وتُدفن أولوياتنا الأساسية وإحترام دستورنا ومواجهة أزمتنا الإقتصادية والإجتماعية والمالية والنقدية، وقد أصبح همّنا الأكبر اليوم عدم الإنزلاق في حرب جديدة، ناسين وراءنا أزمتنا الراهنة ومشاكلنا المعيشية التي ستتضاعف يوماً بعد يوم.

د. فؤاد زمكحل

إقتراحات في التداول تثير القلق والريبة

هناك حركة غير اعتيادية على المستوى المالي والنقدي، في محاولة لابتكار معالجات مؤقتة، وطرح اقتراحات تسمح بإعادة بعض الحيوية الى الوضع الاقتصادي. لكن هذه الحركة لا تخلو من الخطورة، رغم النيات الحسنة، لأنها قد تكون بديلاً هجيناً من الحل الشامل والجذري، والمنتظر منذ اكثر من أربع سنوات.

من خلال الاعمال التمهيدية الاولية التي بدأها صندوق النقد الدولي قبل اندلاع حرب غزة في 7 تشرين الاول الماضي، تحضيراً للتقرير الذي يُفترض ان يصدر في العام 2024، وفق المادة الرابعة، تبيّن انّ معطيات كثيرة تبدلت في المشهد الاقتصادي اللبناني. وكان يُفترض استكمال الاعمال تمهيداً لزيارة وفد من الصندوق الى بيروت في آذار المقبل، لإنجاز كل الاعمال لإصدار التقرير المنتظر حول الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في لبنان. لكن النشاطات توقفت، وتمّ إخلاء مكتب صندوق النقد الدولي في لبنان. وبالتالي، أصبحت معظم النشاطات معلّقة، بانتظار سكوت المدفع، وعودة الوضع الى طبيعته. وبالمناسبة، مكتب صندوق النقد في بيروت هو مكتب اقليمي لدول المنطقة، وهذا يعكس بطبيعة الحال، موقع بيروت المميّز، رغم الكوارث والأزمات، بحيث انها لا تزال تُعتمد كمقر اقليمي لمؤسسات دولية. لكن استمرار الأزمات والاضطرابات قد يؤدّي الى تغيير هذا الوضع ايضاً.

في عودة الى تقرير المادة الرابعة، وفي حال تعذّر إصداره العام المقبل، في حال طال أمد الحرب في غزة، وتعذّر استكمال الدراسات المطلوبة لإصدار التقرير، فهذا يعني انّ فرص الحل الشامل ستكون مؤجّلة، على اعتبار ان مضمون هذا التقرير يُبنى عليه في تقدير الوضع المالي والاقتصادي، لإنجاز اي اتفاق مع صندوق النقد.

وما هو خطير في عمليات التأجيل المستمرة منذ اكثر من اربع سنوات، انها تشجّع على الاجراءات المؤقتة، والتي يمكن ان تكون مُضرّة، في حال تمّ اعتمادها كبديل من الخطة الشاملة. على سبيل المثال، جاء قرار مصرف لبنان بتوسعة قاعدة المستفيدين من التعميم 158، ليُنصف شريحة مظلومة من المودعين. لكن هذا القرار قد يصبح مشكلة في حد ذاته، في حال تبيّن ان بعض المصارف عاجزة عن تنفيذه، وفي حال تبيّن لاحقاً، انه قد يؤثّر سلباً على امكانات الحل الشامل لمشكلة الودائع.

وبالتالي، من الضروري ان يكون كل اجراء مؤقت يُتخذ اليوم، متناسقاً مع مبدأ عدم التأثير السلبي على الحل الشامل، ومن الاهم ألا تشكّل هذه الاجراءات المُجتزأة بديلاً من الحل الشامل. اليوم، هناك في الكواليس اقتراحات يتمّ درسها، تهدف الى تنشيط الوضع المالي من دون انتظار الحل النهائي. هذه الاقتراحات التي تجري تحت عنوان معالجات الضرورة، تصبح خطيرة ومميتة اذا كانت نية من يقترحها هي الاستغناء عن الحل الشامل، اي التخلي عن مشروع خطة متكاملة للتعافي تشمل الى جانب الاتفاق مع صندوق النقد، معالجة الخسائر في مصرف لبنان، واعادة تطبيع الوضع المصرفي، والتوافق على مسار حل لمشكلة الودائع. وحتى اذا كانت النية حسنة، فإنّ الخطر يكمن في ان تستفيد الدولة من الاجراءات المجتزأة، وتصرف النظر نهائياً عن المعالجات الشاملة.

وفي الحديث عن تقرير صندوق النقد تحت البند الرابع، لا بد من طرح اسئلة حول طريقة تعاطي الدولة بكل أجهزتها مع هذا التقرير الذي صدر في حزيران 2023، وكان يُفترض ان يشكّل مادة دسمة للمراجعة واتخاذ القرارات، واذا به يدخل غياهب الاهمال والنسيان، تماماً كما حصل مع تقرير التدقيق الجنائي الذي أنجزته «الفاريز اند مارسال».

في تقرير صندوق النقد، ما يفيد بأن حجم الفجوة المالية في بداية العام 2020، كانت في حدود الـ20 % فقط، بما يعني ان 80 % من الودائع كان مغطّى. فهل كانت هذه الفجوة تستحق اعلان التوقف عن الدفع في آذار 2020 ؟ والاهم، من المسؤول عن وصول هذه الفجوة اليوم الى ما نسبته 85 %، بما يعني ان الودائع صارت مُغطاة بنسبة 15 % فقط، بانخفاض قدره 65 %. وهل من دليل اوضح على مسؤولية «الدولة» في الافلاس والانهيار؟

وفي تقرير «الفاريز اند مارسال»، ورد انّ القرارات في مصرف لبنان كانت تُتخذ بالاجماع في المجلس المركزي، اي بموافقة مفوض الحكومة، وممثلي الدولة مثل المدير العام لوزارة المالية، ومدير عام وزارة الاقتصاد. بما يعني انّ «التمويه» في القيود المحاسبية، والذي كان يهدف الى إخفاء خسائر مصرف لبنان، كان يتمّ بموافقة المجلس المركزي مجتمعاً، بدليل انه كان يجري استبدال الخسائر بأرباح وهمية تُمنح سنوياً الى وزارة المالية، وهي حصّتها القانونية في الارباح. وهذا الامر لم يكن يجري لدعم وزارة المال، بل للتمويه ايضا، لأن الدولة كانت ستضطر الى اعادة رسملة مصرف لبنان، وفق قانون النقد والتسليف، في حال اعترفت بوجود خسائر. وهكذا يتبيّن ان الدولة ومصرفها المركزي كانا شريكين في جرم تزوير الحقائق، بهدف الاستمرار في استنزاف الاموال، وتكديس الخسائر من دون محاسبة.
يبقى السؤال، ما نفع التقارير المحاسبية والجنائية، التي تصدر تباعاً، اذا كان التعامل معها يتم على قاعدة انّ مكانها في سلّة المهملات.