أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

صندوق النقد أكثر تفهماً والحل صار أسهل

كل المؤشرات والمعطيات تشير إلى انّ «سياسة» صندوق النقد الدولي اصبحت متفهمة اكثر للواقع اللبناني الاستثنائي، وما كان يرفضه الصندوق بالأمس، بات يقبل به اليوم، وما كان يتحاشاه بالأمس تجاوزه قبل فترة، وكسر بعض المحظورات من اجل تسهيل الامور. وبالتالي، اصبحت الكرة في ملعب اللبنانيين، وسيتحمّلون وحدهم مسؤولية إضاعة الفرصة القائمة للخروج من الانهيار المُدمّر.

منذ ان بدأت المفاوضات بين الدولة اللبنانية وصندوق النقد الدولي في شأن عقد اتفاق تمويل لخطة إنقاذية للاقتصاد، كانت نقطة الخلاف الرئيسية مسألة الفجوة المالية القائمة في مصرف لبنان، وطرق معالجتها، على اعتبار انّ القرار المتعلق بهذه الفجوة يحدّد مصير المودعين. وكان واضحاً انّ الصندوق يرفض المساس بإيرادات الدولة للمساهمة في تمويل استعادة الودائع. هذا الرفض، دفع ربما الحكومة الى تقديم خطّة للتعافي خالية عملياً من برنامج واضح لاستعادة الودائع. وكان هناك نوع من التذاكي، لتحاشي الحديث عن شطبٍ للودائع، لكن مندرجات الخطة كانت ستفضي الى هذا الواقع. طبعاً، هذه النقطة بالذات، رفضها النواب، ولم يجرؤ أي حزب او تكتل مستقل على الموافقة عليها.

واعتبر البعض، انّ الزيارة الاخيرة لوفد صندوق النقد الى بيروت، كانت الاخيرة، وانّ الاتفاق مع الصندوق سقط الى غير رجعة، بعدما أدرك مسؤولو الصندوق انّ الخطة لن تمرّ في المجلس النيابي.

هذه المشهدية تبدّلت جزئياً اليوم، ومن يقارن «سياسة» الصندوق قبل ثلاث سنوات حيال الوضع اللبناني، مع مواقف وخطوات الصندوق في الفترة الأخيرة، يدرك اهمية التغييرات التي طرأت، والتي يمكن تحسّسها من خلال الحقائق التالية:

اولاً- أدخل الصندوق تعديلات على مقاربته الملف اللبناني. وفي حين كانت الاتصالات والمفاوضات تقتصر على رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة ورئاسة المجلس النيابي، وبالتنسيق مع وزارتي المال ومصرف لبنان، انتقلت منذ فترة الى التعاطي المباشر مع الاحزاب والقوى السياسية المُمثلة في المجلس النيابي. وهذا القرار احتاج الى جهد من قِبل فريق الصندوق في بيروت، لإقناع الادارة المركزية في واشنطن بضرورة سلوك هذا النهج. وبالفعل، باشر فريق عمل الصندوق لقاءات دورية مع نواب يمثلون الأحزاب والقوى السياسية كافة. وتهدف هذه الاجتماعات الى تبادل الآراء وتوضيح المواقف، ويتمّ إشراك ادارة الصندوق المركزية في النقاشات. هذا النهج ساهم في تغيير آراء ومواقف النواب من بعض المسائل، كما ساهم ايضاً في تغيير مواقف مسؤولي الصندوق من مسائل اخرى.

ثانياً- تقدّم الصندوق خطوة في اتجاه دعم فكرة إنشاء صندوق استرداد الودائع. وفي حين كان في السابق، غير متحمّس للفكرة، ولو انّه لا يعارضها طالما انّها لا تمسّ الإيرادات التي ادرجها في خطته الخمسية لتعافي المالية العامة للدولة، اصبح اليوم داعماً للخطوة، وأبدى ليونة في الموافقة على طرق تمويل صندوق الودائع.

ثالثاً- من خلال ما يتسرّب من أجواء المشاورات المستمرة، وافق الصندوق على مبدأ اقتطاع ارباح من إيرادات الدولة لتغذية الصندوق، من خلال التفاهم على ادارة جديدة لمؤسسات القطاع العام، يفترض ان تؤدي الى تحسين ايرادات الدولة. وبالتالي، وافق الصندوق على اعتماد المبدأ الذي اعتمده في اليونان، والذي ينصّ على وضع تقديرات لحجم الإيرادات، واقتطاع نسب من الإيرادات التي قد تزيد عن هذه التقديرات.

من خلال ما تقدّم، اصبحت مسؤولية اللبنانيين مضاعفة حيال الوصول الى تفاهم مع الصندوق. إذ انّ القرارات التي كانت تُصنّف موجعة للإنقاذ اصبحت وراءنا، ومنها دعم الكهرباء، وحجم القطاع العام… وبالتالي، اصبحت الأزمة الوحيدة المتبقية لإعادة الاقلاع ترتبط بالودائع. وطالما انّ هناك نوعاً من التفاهم المثلث الأضلع حالياً، بين الدولة والصندوق ومصرف لبنان والمصارف، على مبدأ اعادة الودائع، اصبح الامر اسهل. وهناك اقتراحات متعددة في شأن تمويل صندوق الودائع، بينها ضريبة ارباح المقترضين، مردود شركة ادارة اصول الدولة، نسبة من إيرادات الغاز، إعادة رسملة مصرف لبنان، ارباح المصارف المستقبلية، وقد أبدى اكثر من مصرفي الموافقة على مشاركة المصارف من خلال اقتطاع نسبة من ارباحها لا تقلّ عن 30%.

طبعاً، ولئلا تجرفنا الأوهام، لن تكون فترة استرداد الودائع قصيرة، وستمتد لـ 20 عاماً الى الأمام. وهذا الامر لا يشمل طبعاً اعادة مبلغ الـ 100 الف دولار، والذي سيتمّ في فترة اقصر بكثير. لكن فترة الـ 20 عاماً لا تعني انّ كل المودعين الكبار (فوق الـ 100 الف دولار)، سيضطرون الى انتظار عقدين للحصول على اموالهم. ذلك انّ صندوق الودائع سيُصدر الاسهم فور إنشائه، لمصلحة المودعين، تعادل قيمتها قيمة الودائع بالدولار لكل مودع، وتُدرج هذه الاسهم في البورصة. وهذا يعني انّ المودع سيمتلك حق بيع الأسهم منذ اليوم الاول. وستكون اسعار هذه الاسهم مرتبطة بالنهج الذي سيتمّ اعتماده في تمويل الصندوق. ومن البديهي انّه كلما تقدّم العمل في ضمان التمويل مع السنوات، كلما زاد الطلب على هذه الأسهم، وارتفعت اسعارها. وليس مستبعداً ان يكون الطلب مقبولاً منذ البداية، طالما انّ الامر سيترافق مع توقيع اتفاق التمويل مع صندوق النقد الدولي، بما يعني اعادة فتح ابواب التعاون والمساعدة مع المجتمع الدولي والدول المانحة. وليس مستبعداً ان يجذب الصندوق مستثمرين اجانب وصناديق استثمارية، بما يساهم في ارتفاع اسعار الاسهم الى مستويات جيدة منذ السنوات الاولى لتأسيسه.

هذه الفرصة مُتاحة اليوم للإنقاذ، ومن مسؤولية القوى السياسية والنواب الذين باتوا يتحاورون مباشرة مع صندوق النقد، الضغط في اتجاه انجاز الخطوات المطلوبة للوصول الى إقرار وبدء تنفيذ هذا المشروع.

انطوان فرح

مخاطر الفريش كاش المتعدّدة

نذكّر بألم، أننا تحوّلنا من اقتصاد مصرفي دولي مراقب داخلياً وإقليمياً ودولياً، إلى اقتصاد الكاش العشوائي والخطر. إنّ جزءا كبيرا من اللبنانيين أُجبِر على حرق ودائعه، ليبقى منها 10% من مدّخراتهم وجنى عمرهم، لتأمين لقمة العيش والأدوية والإستشفاء والحد الأدنى من احتياجاتهم الإنسانية. والبعض استطاع إعادة هيكلة مداخيله وأعاد تكوين بعض المدّخرات من الكاش مجدداً.

السؤال الذي يطرح نفسه: ما مستقبل ومخاطر العملات الورقية وهذا الكاش المختبئ في البيوت أو في صناديق الأمان؟

نذكّر ونشدد على أن اقتصاد الكاش هو أخطر إقتصاد في العالم، إذ انه يجذب المهرّبين والمروّجين ومبيّضي الأموال، ويُهرّب المستثمرين والرياديين والمبتكرين. فإقتصاد الكاش يُحفّز الإقتصاد الأسود، ويطعن بالإقتصاد الأبيض الشفّاف.

فمن بعد إنهيار القطاع المصرفي وخصوصاً إنعدام الثقة بالمصارف والدولة، لا يجرؤ أحد على وضع سنت واحد من وديعته في قطاع مهترئ. البعض يستطيع تحويل بعض مدّخراته إلى الخارج، بعد تدقيق دقيق، من قبل ضباط الإمتثال الدولية، أما البعض الآخر، فمحكوم بتخبئة بعض الدولارات الفريش الثمينة تحت الوسادة، أو في سنديانة الحديقة، مثل أجدادنا، أو في بعض الصناديق الآمنة. فهناك مخاطر كبيرة، ليس فقط في أمانة هذه الأموال الجديدة، لكن في مستقبلها، في الإقتصاد الدولي، في صلب إعادة هيكلتها.

إن الحرب العالمية القائمة بين العملات، هي من جهة، في التنافس على مَن سيتحكّم بالسوق الدولية، وأيّ عملة تفرض سيطرتها. أما من جهة أخرى، الكل مُتفق وهناك إئتلاف دولي، لمحاربة العملات الورقية، وإستبدالها بالعملات الرقمية. فهذا التحوّل جار في سرعة مذهلة، وسنصل الى يوم ستتبخّر فيه العملات الورقية في السوق، وسيُمنع استعمالها في الأسواق. فعلينا أن نكون واعين ومدركين لهذا التحوّل السريع، لعدم الوقوع في أفخاخ جديدة ومؤذية.

من جهة أخرى، للذين يستطيعون تحويل جزء من هذه العملات الجديدة، علينا ألاّ ننسى أو نتناسى أن هناك مخاطر كبيرة من إعادة إدراج لبنان على اللائحة الرمادية جرّاء زيادة تبييض الأموال. لقد حُظّرنا من المنظمات الدولية منذ أشهر عدة حيال هذه المخاطر الجدية، ولم يُتخذ أي تدبير أو إصلاح لمنع حصول هذه الكارثة الجديدة. فشبح اللائحة الرمادية وحتى السوداء يُمكن رؤيته في الأفق.

إضافة إلى ذلك، علينا أن نزيد مخاطر المصارف المراسلة والتي لا تزال تتعامل مع المصارف اللبنانية، فهنا أيضاً مخاطر كبيرة من أن هذه المصارف المتبقية تُجبر على وقف التعامل مع المصارف اللبنانية، لأسباب الإمتثال أو الحوكمة كما الشفافية، وعدم احترام القواعد الدولية، لمحاربة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

كذلك، شئنا أم أبينا إن قانون الكابيتال كونترول، الذي يتشاجرون عليه منذ نحو أربع سنوات، سيُبصر النور يوماً، وهذا «الكونترول» سيكون ليس فقط على الأموال القديمة لكن سيضم الأموال الجديدة. وهذه ستكون رصاصة الرحمة على ما تبقّى من الإقتصاد والديموقراطية وحرية التعامل.

فهناك مخاطر جدية لوضع قيود صارمة، على الفريش كاش الجديد، وإذا ما حصلت ستخلق سوقاً سوداء جديدة، وبعض الصرّافين وحيتان المال جاهزون لسحب مكاسب ونسَب عالية لتهريب الكاش من البلد، كما يحصل حتى الآن في بلدان أفريقية عدة.

أخيراً، إن السياسيين اللبنانيين، بعدما نهبوا ودائع ومؤسسات الدولة، يبقى تركيزهم اليوم على طرق عدة ومحترفة لوضع اليد على الفريش كاش الجديد، الذي أُعيد تكوينه أو الذي سُرق من الودائع.

في المحصّلة، إن المسؤولين المباشرين عن أكبر عملية نهب في تاريخ العالم، لا يُمكن أن يكونوا حتى جزءاً من الحل، لكن بعد إعادة انتخابهم من الشعب المذلول عينه، ومن دون أي محاسبة أو مساءلة أو ملاحقة، لا شك في أنهم سيتابعون عملية النهب، الفساد والسرقة، لتكوين غنائم حرب هائلة، وأعينهم مركّزة اليوم على الفريش كاش الجديد. فمن جهة إن المجتمع الدولي يتخوّف من الفريش كاش الآتي من تبييض الأموال وبمقدوره تمويل الإرهاب، ومن جهة أخرى إن السياسيين اللبنانيين يخشون من أن هذه المدّخرات ستُسحب أيضاً من بين أيديهم من دون أي استفادة.

د. فؤاد زمكحل

«المؤامرة» التي حالت فعلياً دون استخراج الغاز

ن البديهي أن تنشط نظرية المؤامرات في ملف التنقيب عن الغاز، بعدما تبيّن ان الفرنسيين والايطاليين والقطريين لم يعثروا على غاز في البئر الذي حفروه في البلوك 9. وسبق ان صُدم اللبنانيون قبل ذلك، بعدم العثور على الغاز في البلوك 4. فهل نحن فعلاً امام مؤامرة تمنع لبنان من استخراج ثرواته في البحر؟

قبل الولوج الى مناقشة نظرية المؤامرة، لا بد من توضيح مسائل تقنية، وحقائق مُثبتة من خلال التجارب التي مرّت حتى اليوم في عالم التنقيب واستخراج النفط والغاز في العالم.

اولاً، لا يعني عدم العثور على غاز في المكمن الذي اختارت الشركة المنقّبة الحفر فيه، انه لا يوجد غاز في البلوك بالكامل. تماماً كما يبقى احتمال عدم وجود غاز في البلوك قائماً، الى حين إثبات العكس.

ثانياً، ان كل المسوحات المتطورة، والتي تطورت اكثر مع الوقت، لم تنجح في رفع نسبة العثور على النفط في المساحات التي يصنّفها المسح بأنها قد تحتوي على هذه المادة اكثر من واحد على اربعة 1/4، بما يعني انه بين كل اربع آبار يتم حفرها يتم العثور على النفط في واحدة فقط. ومثل هذه التجارب قائمة في كل دول العالم التي تحفر بحثاً عن الثروة النفطية، وكان أقربها إلينا في قبرص حيث أدّى الحفر في مكامن واعدة من حيث نتائج المسوحات، الى خيبات امل بعدما تبين ان لا وجود للغاز والنفط فيها.

ثالثاً – انّ عمليات الحفر في لبنان لا تزال ضمن المعدل المتعارف عليه، اذ تمّ حفر بئرين فقط حتى الآن، ولا يزال هناك متسع من الاحتمالات قبل الوصول الى مرحلة اليأس والاستسلام.

أما نظرية المؤامرة، فإنها مُستبعدة، ولو انّ إثبات ذلك بأدلة دامغة غير ممكن، تماما كما أن القدرة على إثبات وجود مؤامرة غير ممكن ايضا بأدلة وقرائن. ولكن، الناس، خصوصا في هذه الاوضاع الاستثنائية، يميلون في غالبيتهم الى تصديق نظرية المؤامرة، ربما لأنهم يرغبون في تصديق هذا المسار، اكثر من رغبتهم في الاعتراف بالخيبة.

لكن المعطيات التي تسمح باستبعاد نظرية المؤامرة، ولو انها لن تُقنع الكثيرين، هي كالتالي:

اولاً – ان الشركات العالمية وبينها توتال وايني وقطر اينرجي، لا يمكن ان تكون أداة في مؤامرات، بصرف النظر عن الجهة المتآمرة، وتوافق على تكبّد خسائر مالية ومعنوية، فقط لخدمة المتآمرين.

ثانياً – انّ الجهود التي بُذلت لإنجاز الترسيم البحري، لا يمكن ان تدخل في اطار التسالي، بل انها تهدف فيما تهدف، الى تسهيل مهمة التنقيب عن الغاز واستخراجه.

ثالثاً – كان هناك خمس دول تضغط لتسريع عمليات الحفر والتنقيب، هي: فرنسا، ايطاليا، لبنان، قطر واسرائيل (بسبب حصولها على حصة من الغاز الموعود في البلوكات الحدودية).

رابعاً – ان عمليات الحفر في البلوك 4 او في البلوك 9، تمت بوجود شركات لبنانية، وفيها مهندسون وتقنيون شاركوا في العمل، ولو بشكل غير مباشر. وبالتالي، هؤلاء يعرفون الامور التقنية، ويستطيعون ان يدركوا اذا ما كان هناك اي تلاعب في عمليات الحفر، كيف تتم، ومتى يجب ان تتوقف.

طبعا، كل هذه المعطيات يمكن دحضها من قبل مؤيدي نظرية المؤامرة، من خلال القول ان كل ذلك كان بمثابة «تمثيليات» لعبت فيها هذه الدول والاشخاص الادوار المطلوبة منها، وان كل ما جرى هو سيناريو محبوك بإتقان لإقناع الناس بأن الامور تتم بشكل طبيعي، وان عدم العثور على الغاز مسألة حظ عاطل، ليس أكثر.

في كل الاحوال، قد يكون السؤال الأهم بالنسبة الى اللبنانيين اليوم، هل انتهى الحلم، وتوقفت عمليات البحث عن الغاز في المرحلة المقبلة؟

الجواب العلمي ان احتمالات العثور على الغاز لا تزال قائمة، وبالنسَب نفسها التي كانت عليها قبل حفر البئرين في البلوكين 4 و9. لكن، هل ستوافق الشركات على حفر المزيد من الآبار، والمجازفة بخسائر اضافية اذا لم يتم العثور على الغاز؟

في تجربة الجارة قبرص، كانت شركة «ايني» تخطط لحفر 4 آبار بحثاً عن الغاز. وعندما حفرت بئرين ولم تعثر على الغاز، قررت التوقف وعدم استكمال حفر البئرين الآخرين. انها قرارات تقديرية تقوم بها الشركات وفق حساباتها ومصالحها الاقتصادية.

في لبنان، لا يمكن التكهن منذ الان بما ستقرره «توتال» و»ايني» و»قطر اينرجي». وليس معروفا ايضا، اذا ما كان ممكناً استدراج عروض اضافية على بقية البلوكات، على أمل مشاركة شركات جديدة خارج اطار هذا التحالف الثلاثي. لكن البعض يعتقد ان «قطر اينرجي» تحديدا تستطيع ان تقوم بمبادرة تمويل عمليات حفر جديدة، اكثر من توتال وايني.

في عودة الى نظرية المؤامرة، يمكن الجزم بأنّ «المؤامرة» الأكيدة هي المتعلقة بالسلطة اللبنانية التي اوصلت البلد الى الانهيار الكامل، بحيث صار عاجزا عن تمويل ذاتي لأية عمليات حفر مستقبلية، وعاجزا ايضا عن استنساخ اية تجارب اخرى ناجحة، مثل التجربة النرويجية، التي اعتمدت اسلوب إنشاء صندوق استثماري لتمويل عمليات الحفر، بعدما فشلت الدولة في الحصول على تمويل من المصارف العالمية لتمويل هذه العمليات. لكن لبنان بشكله الحالي، عاجز عن التمويل الذاتي، وعاجز عن انشاء صناديق، لأنه لن يجد اي مستثمر يجازف مع «دولة» ليست أهلاً للثقة.

استقرار نقدي غير ثابت… إلى أين يتّجه الدولار؟

فيما يشهد سعر صرف الدولار في لبنان استقراراً في الأشهر الماضية على سعر حوالي 89 ألف ليرة، تزامن مع الموسم السياحي وما رافقه من أموال ضخمة دخلت لبنان، تتّجه موازنة 2024 إلى توحيد سعر الصرف، وهو شرط من شروط صندوق النقد الدولي لمنح قرض بحوالي 3 مليارات دولار للبنان. وبينما كان الخبراء يؤكدون أنّ اتجاه الدولار سيكون صعودياً بعد انتهاء موسم الصيف، يظهر الدولار استقراراً في سعره، على عكس هذه التوقعات. ما السبب؟

في حديث سابق له، أكد حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري أنّ “الوقت اليوم هو المناسب لتحرير وتوحيد سعر الصرف، لمعطيات عديدة أبرزها انخفاض الكتلة النقدية من 80 تريليون ليرة إلى 60 تريليون ليرة، وارتفاع الجباية لدى الدولة إلى حدود 20 تريليون ليرة شهرياً، وجزء منها نقدي، وهذا ما يؤدي إلى سحب الليرة أيضاً من السوق. وتحرير سعر الصرف وتوحيده يعني أنّ سعر الدولار المقوَّم على الليرة اللبنانية يُحدَّد بحسب عمليات السوق دون تدخّل من المصرف المركزي”. بالتالي، بمجرد اتخاذ قرار توحيد سعر الصرف، تُلغى جميع أسعار الصرف المتعددة التي فرضتها التعاميم 151 و157 و158 و161.

في هذا الإطار، ترى المتخصّصة في الاقتصاد النقدي الدكتورة ليال منصور في حديثها لـ”النهار” أنّ “الاستقرار النقدي الحالي ناتج عن تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع عبر شراء العملات الأجنبية، إلى جانب عامل آخر له دوره في الاستقرار النقدي وهو الدولرة، فكلّما زادت، تراجع طبع الليرة إذ لم تعد تُستعمل إلا لتمويل القطاع العام”.

أيضاً، مع وجود المغتربين صيفاً وإدخالهم الدولارات، أسهموا في الاستقرار النقدي دون الحاجة الكبرى إلى تدخل مصرف لبنان بنسبة كبيرة لدعم هذا الاستقرار وبالتالي دون تكبّده تكلفة كبرى، لكن طبعاً عادة، تكون هذه التكلفة على حساب توفير الأموال هذه لاستيراد المحروقات والكهرباء وصيانة الطرقات وغيرها. فالاستقرار النقدي يكلّف الدولة كثيراً وتكلفته تراوح بين 500 مليون دولار ومليار دولار شهرياً.

وحتى في بلد غير منهار اقتصادياً وغنيّ، توضح منصور أنّه دائماً ما يكون تثبيت سعر صرف معيّن واستقرار النقد مكلفاً. وتنفي أن يكون لاستقرار النقد حالياً سبب سياسي، وتعطي مثالاً عن عملة الدينار الكويتي الأقوى في العالم، التي تتكبّد الكويت كلفة كبيرة لتثبيتها واستقرارها.

أمّا عن توحيد سعر الصرف وتداعياته، فهو يبدأ من تحرير العملة، أي تعريضها للعرض والطلب، وبذلك، تُلغى جميع أسعار الصرف الأخرى. وتحريرها يعني غياب تدخّل المركزي لتثبيتها واستقرارها. وبرأي منصور، “إقرار أي بند في الموازنة لا يعني وجوباً أنه سيُلتزم به في لبنان، وأصبح موضوع توحيد سعر الصرف في لبنان أمراً على المسؤولين تنفيذه ولو نظرياً لأنّه مطلوب من صندوق النقد الدولي. بالتالي، تداعيات موازنة 2024 محدودة جداً على العملة في بلد كلبنان، ولن تؤدي إلّا إلى بلبلة شفهية”.

فالليرة منهارة أصلاً وليس هناك أية عوامل قد تؤثر سلباً بشكل إضافي على العملة بعد، وفق منصور. فتوحيد سعر الصرف يجعل من سعر الدولار قابلاً لأن يرتفع أو ينخفض، لكنّه يبقى بسعر موحَّد غير متعدّد. لذلك، مع الدولرة الحالية، سيكون تأثير هذا الأمر ضئيلاً جداً.

ولأنّ لبنان أصبح مدولراً بامتياز، قد يكون توحيد سعر الصرف عاملاً إيجابياً، إلّا أنّ منصور لا ترى هذه الإيجابية و”الليرة لن تعود إلى الوراء”. لذا، تصرّ منصور على أنّ “مسار الدولار صعودي بمجرّد وقف تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع”.

على عكس رأي منصور، من جهته، يورد الخبير الاقتصادي الدكتور جاسم عجاقة في حديثه لـ”النهار”، أنّ “الاستقرار النقدي في لبنان هو نتيجة ضغوط سياسية أدّت إلى لجم المضاربين”. وحتى شركات الصيرفة المرخصة لم تعد تشتري الدولار في السوق، أي إنّ المضاربين والشركات توقفوا عن شراء الدولار.

فما عظّم الأزمة على شكلها الحالي، برأي عجاقة، هو المضاربة في السوق السوداء وهذا ما يبرّر استقرار سعر الصرف مع ذهاب هذا العنصر. لكن الأسباب الأساسية التي أدّت إلى الأزمة النقدية لا تزال موجودة، وهي غياب الدولارات الكافية لدى الحكومة لتسديد جميع نفقاتها. فهي بحاجة إلى الدولار لصرف رواتب القطاع العام واستيراد المحروقات وتسديد اشتراكاتها السنوية في المؤسسات الدولية وتسديد الأجور للسلك الديبلوماسي والسفارات والقنصليات. لذلك، بحسب عجاقة، “ما لم تُطبَّق الإصلاحات، فالاستقرار النقدي هذا هو استقرار غير ثابت، ونتوقّع أن تتّجه ضغوط سعر الصرف نحو الارتفاع”.

وبرأيه، “الأزمة ستتعاظم أكثر عندما سنصل إلى آخر السنة دون تمكّن مصرف لبنان من تمويل العجز المقدَّر بـ40 تريليون ليرة، هنا السؤال: ماذا ستفعل الحكومة؟”، يسأل عجاقة.

فرح نصور

طوفان… والشعرة التي قد تقصم ظهر البعير

أيّ كلامٍ في الاقتصاد في مرحلة الانتظار التي تفصلنا عن معرفة اذا ما كان «طوفان الأقصى» سيصل الى لبنان، هو بمثابة مجازفة بالنظر الى حساسية الوضع، وسهولة سوق الاتهامات في حق من يُذكّر بالوقائع. ومع ذلك، لا بدّ من التذكير والتحذير وتقدير ما قد يحدث لاحقاً.

رغم مرور حوالى 17 عاما على حرب تموز 2006، لا يزال هناك غموض في تقدير دقيق للخسائر الاقتصادية التي أصابت البلد، خصوصا ان احصاء الخسائر في حالات مماثلة لا يمكن ان يتم اختصاره بالخسائر المباشرة، بل ينبغي احتساب الخسائر غير المرئية المتعلقة بالاعاقة الدائمة التي قد تكون أصابت البلد، لجهة النظرة الى مستقبله، وما يعنيه ذلك على مستوى جذب الاستثمارات، أو هجرة المواطنين، او رسم مخططات خارج البلد للأجيال المقبلة.

وقبل الخوض في التذكير بالاضرار والخسائر، لا بد من استعادة حقائق رقمية لا نقاش فيها. اذ عندما اندلعت حرب تموز 2006، كان حجم الموازنة العامة حوالى 10 مليارات دولار، في حين ان تقديرات الانفاق اقتربت من 12 مليار دولار (استناداً الى ارقام موازنة 2005، وهي آخر موازنة أُقِرّت حتى العام 2017). وفي الانتقال الى العام 2017 وصل حجم الانفاق الحكومي المقدّر في الحكومة الى حوالى 15 مليار دولار. وفي العام 2019، السنة الأخيرة قبل الانهيار وصل حجم الانفاق الحكومي في الموازنة الى حوالى 21 مليار دولار. ووصل حجم الناتج المحلي الى ما يُقارِب 51 مليار دولار.

اليوم، هناك مشروعٌ «طموح» للحكومة تريد من خلاله اقرار موازنة تستطيع من خلالها انفاق اقل من 4 مليارات دولار، وتقدّر ايراداتها السنوية بأقل من 3 مليارات دولار. وهو مشروع قد لا يمر كما هو، وبالتالي فإنّ حجم الايرادات والانفاق سيتم خفضهما من قبل المجلس النيابي، لتخفيف حجم الضرائب الاضافية عن كاهل اللبنانيين المَسحوقين اقتصادياً في غالبيتهم (حوالى 90% من المواطنين يعانون ضيقة معيشية). وقد انخفض الناتج المحلي من 51 مليار دولار قبل الانهيار الى 18 مليار دولار حالياً.

ولا حاجة الى التذكير بالمساعدات التي تلقاها لبنان بعد حرب 2006 لكي يقف على رجليه مجدداً، ويعيد إعمار ما تهدّم، وقد يكون من المفيد نقل ما ورد في كتاب «أطلس لبنان» (Atlas du Liban)، وهو ثمرة تعاون فرنسي- لبناني. وقد جاء في احد نصوص هذا الكتاب في شأن المساعدات التي حصل عليها لبنان بعد الحرب ما يلي: «لقد تضاعفت المساعدات الدولية لإعادة الإعمار في أواخر كانون الثاني 2007، خلال المؤتمر الذي أطلق عليه إسم مؤتمر باريس الثالث، وذلك من خلال دعم إضافي لسياسة الإصلاحات التي أعلنتها الحكومة اللبنانية، وبلغت ما مجموعه 7,6 مليارات دولار. ونجد من بين المساهمين الرئيسيين المملكة العربية السعودية وفرنسا والولايات المتحدة… وكان يجب أن تسمح هذه المبالغ الكبيرة للبنان بتسديد ديونه على المدى القصير والبدء بالإصلاحات الهيكلية التي كانت تطالب بها هذه الجهات المانحة. كانت هذه المظاهر المختلفة من التضامن الدولي من أجل لبنان استثنائية؛ ولا بد من الإشارة إلى حجم المبالغ التي تم جمعها، بعد سنوات قليلة جداً من مؤتمر باريس الثاني الذي وُعد فيه لبنان بمساعدة تبلغ 4,5 مليارات دولار، صُرف منها بالفعل حوالى 2 مليار. وتشهد هذه المساعدات بوضوح أن هذه القوى المختلفة تعتبر لبنان عنصراً في استراتيجياتها الإقليمية. وهناك فقط حوالى 10 % من هذه الأموال على شكل منح، مخصصة للحالات المالية الطارئة وللمساعدة المالية المباشرة لإعادة الإعمار».

هنا ينتهي الاقتباس، ولا بد من التذكير بأن مساعدات مالية كبيرة وصلت في الفصل الاخير من العام 2006، وساهمت كلها في اعادة اعمار جزء كبير من الدمار الذي أحدثته الحرب.

السؤال الوحيد الذي ينبغي أن يكون مطروحاً اليوم هو: ما هو حجم الاضرار الاقتصادية التي قد تحلّق بلبنان اذا وصل «الطوفان» الى اراضيه عبر بوابة الجنوب؟ ما هي مقومات الصمود والبقاء التي يتمتّع بها اللبنانيون العاديون في مواجهة وضع مماثِل؟ ما هو حجم التضامن والمساعدات التي قد يحظى بها البلد بعد انتهاء الحرب في حال وصلت إلينا؟

الاجوبة عن هذه الاسئلة تسهّل مهمة تقدير ما ينتظر اللبنانيون اذا ما وصلت نيران الحرب الى بلادهم. وفي الامثال اللبنانية الرائجة مقولة «الشعرة التي قصمت ظهر البعير»، وهي مقولة تهدف الى الدلالة على ان التراكمات تصل الى مرحلة يصبح فيها اضافة ضغط بسيط (شعرة) كافياً لإحداث كارثة، فما بالك اذا أضفنا الى تراكماتنا «الطوفان»؟

أنطوان فرح

«الثالوث المستحيل» نسف إستقلالية مصرف لبنان: الدولرة الزاحفة تتحكّم بمساره…

من المهمّ معرفة مبدأ «الثالوث المستحيل» في الأدبيات الاقتصادية، حيث قدّم كل من الاقتصاديين جون ماركوس فليمنغ وروبرت مونديل في مقالات عدة مختلفة بين عامي 1960 و 1963 طرحهما عمّا يُسمّى بالمعضلة الثلاثية الشهيرة أيضًا باسم Trilemma، وهو مفهوم في الاقتصاد يستحيل بموجبه على المصارف المركزية الجمع – في الوقت نفسه- بين الثلاثة الأقانيم التالية:

• سعر صرف أجنبي ثابت.

• حرّية حركة تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية.

• سياسة نقدية مستقلة، وتعني قدرة البنك المركزي على تحديد أسعار الفائدة بشكل مستقل.

وقد تمّت ملاحظة فشل كل الاقتصادات التي حاولت تحقيق الأهداف الثلاثة معاً.

وفقًا لـ «الثالوث المستحيل»، يمكن للبنك المركزي أن يتبع سياستين فقط من السياسات الثلاث المذكورة في وقت واحد، مع استحالة تحقّق الثالثة. مما سيضطره إلى التخلّي عن أحد الأهداف الثلاثة. لذلك لدى البنك المركزي ثلاثة خيارات لتطبيق السياسات هي:

إذا اختار البنك المركزي تطبيق سعر صرف ثابت وحرّية تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، لن يستطيع تطبيق سياسة نقدية مستقلة، لأنّ تحديد سعر فائدة محلي يختلف عن سعر الفائدة العالمي، من شأنه أن يقوّض سعر الصرف المستقر… وكيف إذا كان المصرف المركزي في البلد المعني أيضاً يعاني من قلّة استقلالية عملياً بسبب انغماسه في تمويل عجز الدولة وديونها بالعملة المحلية والأجنبية؟ وأكثر من ذلك، كيف الحال إذا كان المصرف المركزي هو لاعب وحيد في اقتصاد بلد يغيب فيه التصويت على الموازنات طيلة 12 عاماً!؟ ويتمّ فيه اعتماد القاعدة الاثني عشرية طيلة هذه الفترة، مع اللجوء إلى مجلس النواب للتصويت على تخطّي سقوف الإنفاق وإمداد الدولة بسلفات خزينة متواصلة، ومن ثم جرّ الجهاز المصرفي كله للانغماس بتمويل الدولة، عبر الاكتتاب بسندات خزينتها بالعملتين المحلية والأجنبية، وثم عبر هندسات مالية لشراء الوقت، بغية تحقيق إصلاحات لم تتحقّق يوماً؟ وأبعد من ذلك، كيف يكون الوضع إذا أضفنا لكل هذه العناصر، أنّ البلد المعني هو بلد جداً جداً مدولر، وسلفات الخزينة والتمويل من المصرف المركزي يتمّ تحويلها عبره إلى الدولار الأميركي لتغطية مصاريف الدولة التي معظمها بالدولار، في بلد مدولر منذ أكثر من 40 عاماً، وبشكل متزايد من أزمة نقدية الى أخرى؟

إذا حدّدت الحكومة سعر صرف ثابتًا، وسمحت بحرّية حركة رؤوس الأموال، فسيتعيّن عليها تغيير أسعار الفائدة إستجابة للضغوط الخارجية. ستحتاج الحكومة إلى زيادة أسعار الفائدة (وجذب تدفقات الأموال الساخنة) من أجل الحفاظ على قيمة العملة المحلية وتثبيت سعر الصرف الثابت. كما يعني هذا أنّه في فترات الركود، قد لا تستطيع الحكومة خفض أسعار الفائدة، لأنّها إذا فعلت ذلك فسوف تتدهور العملة الوطنية.

وإذا اختار البنك المركزي تطبيق سياسة نقدية مستقلة وحرّية تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، لن يستطيع تطبيق سعر صرف ثابت. كيف ذلك؟ إذا كانت الحكومة ترغب في الحفاظ على الاستقلال النقدي وسمحت بحرّية تنقل رؤوس الأموال، فستحتاج إلى السماح بسعر صرف معوّم. على سبيل المثال، إذا كانت الحكومة في مواجهة مع التضخّم يمكنها زيادة أسعار الفائدة. لكن أسعار الفائدة المرتفعة هذه قد تؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة. البلدان التي ترغب في تعزيز النمو ستخفّض أسعار الفائدة، لكن أسعار الفائدة المخفّضة من شأنها أن تتسبّب في تدفق الأموال الساخنة إلى خارج البلاد، ومن ثم انخفاض سعر الصرف.

أما إذا اختار البنك المركزي تطبيق سعر صرف ثابت وسياسة نقدية مستقلة، لن يمكن للحكومة أن تتوقّع تدفقات رؤوس الأموال ، بل على العكس يتعيّن فرض ضوابط للتحكّم في تدفقات رؤوس الأموال. فإذا كانت الحكومة ترغب في تطبيق سعر صرف ثابت، وأيضًا تغيير أسعار الفائدة وفقًا لتفضيلاتها الخاصة، فستحتاج إلى التحكّم في تدفق الأموال إلى الخارج (فرض سقوف على شراء وبيع الأصول المالية، فرض ضرائب على المضاربات على العملة ، تحديد فترات استبقاء الأموال بالبلاد…) وقد تصل إلى ضبط حركة الاستيراد للتحكّم بنزف العملات الأجنبية الى الخارج…

فالمعروف أنّه في ظلّ حرّية حركة الرساميل التي كان يضمنها نظام الاقتصاد الحر المنفتح في لبنان، من الضروري الاختيار بين التضحية بثبات سعر الصرف والإبقاء على مرونته، لترك هامش تحرّك للمصرف المركزي لاعتماد الاستقلالية في تحديد وتنفيذ سياسته النقدية الهادفة إلى المحافظة على القدرة الشرائية للعملة الوطنية ومكافحة التضخّم وإدارة السيولة في السوق، أو القيام بالعكس تماماً، أي التضحية باسقلالية المصرف المركزي عبر توجيه خياراته للحفاظ على تثبيت سعر الصرف عبر ربط سعر صرف العملة الوطنية بالعملة الأجنبية الأكثر تداولاً واستقراراً وتعاملاً دولياً، وهي الدولار الأميركي، خصوصاً بعد اعتماده كعملة ثانية إلى جانب الليرة اللبنانية منذ الأزمة النقدية التي عرفها لبنان في الثمانينات، والتي أطلق على أثرها مسار دولرة مرتفعة غير رسمية، ولكنها «مفروضة» من قِبل القطاع الخاص كأمر واقع منذ ذلك الحين، بغرض الهروب من خطر تقلّبات سعر الصرف وافتقاد العملة الوطنية لمهامها الأساسية في الثمانينات، كأداة تسعير وتسديد للعمليات الشرائية الكبرى والمحافظة على القدرة الشرائية على المدى البعيد وصعوبة استعادة الثقة منذ ذلك الحين، على الرغم من جهود وكلفة تثبيت سعر الصرف على مدى 22 عاماً. علماً أنّه الخيار الأكثر فعالية لتحقيق الاستقرار النقدي في ظل اقتصاد مدولر كما هي الحال في لبنان، حيث لا نفع من الاكتفاء بإدارة السيولة بالليرة اللبنانية، طالما الحّصة الأكبر من السيولة المتداولة في السوق هي بالدولار الأميركي.

إلّا أنّ التحسينات التي كانت ممكنة ومطلوبة، كانت تكمن في معدّل سعر الصرف المناسب لعملية الربط بين العملتين، وفق تطوّر المؤشرات الماكرو-إقتصادية، خصوصاً منها ميزان المدفوعات، الذي يُظهّر رصيد دخول وخروج العملات الأجنبية لمختلف الأسباب بين لبنان والخارج، فضلاً عن سعر هامش تحرّك سعر الصرف ومرونة تدخّل المصرف المركزي في المحافظة عليه، بما يُبقيه ضمن مستوى مقبول من دون استنزاف كبير متواصل للاحتياطي بالعملات الأجنبية.

إنّ تدفق رأس المال، عن طريق خلق طلب زائد على النقد الوطني، يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع قيمة العملة الوطنية، ما لم يخزّن البنك المركزي جميع التدفقات الواردة في احتياطياته بالعملات الأجنبية. لبعض الوقت، إنّ المبالغة في تقييم العملة تحافظ على أسعار السلع المستوردة منخفضة، بينما في ارتفاع الأسعار يتمّ تعويض سلع التصدير من الاستثمارات المموّلة من القروض الخارجية.

قبل زيادة إنتاجية البلاد وقدرتها على التصدير واستقطاب الاستثمار والتوظيفات الخارجية، غالباً ما يظهر سعر الصرف مبالغاً فيه، تماماً كما شهده لبنان، لا سيما مع تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ العام 2011 في لبنان، باستثناء سنوات الهندسات المالية عامي 2016 و2017 التي استقطبت بعض الرساميل من الخارج لشراء اليوروبوند وشهادات إيداع المصرف المركزي بالعملات الأجنبية، أي لإقراض القطاع العام (بين خزينة الدولة ومصرفها المركزي). الأمر الذي يؤدي تلقائياً الى ارتفاع الدين الخارجي الصافي بالعملات الأجنبية بالنسبة للاقتصاد المحلي (الناتج المحلي الإجمالي).

وبالتالي، إنّ لحظة حدوث أي خطأ في السياسات، والتوجّه المفرط لرأس المال المقترض نحو السلع غير القابلة للتداول، والمبالغة في التقييم المفرط للعملة والعجز الكبير في الحساب الجاري، في سياق ضعف في الاحتياطيات بالنسبة للديون الخارجية قصيرة الأجل، لا بدّ أن يُترجم ذلك بخطر إثارة أزمة ثقة في البلاد، وخروج جماعي مفاجئ وهائل للرساميل وانهيار سعر الصرف.

كما أنّ المصطلح العام للأزمة المالية يجمع هذه الأنواع الثلاثة للأزمات: أزمة ميزان المدفوعات، وأزمة السيولة ومعدل سعر صرف العملة، والأزمة المصرفية المحلية.

من هنا، ولتجنّب الأزمات المالية والنقدية، فإنّ حرية التنقّل الدولي المجاني لرأس المال، تتطلب نظرياً ظروف استقرار مماثلة لتلك الموجودة داخل البلدان التي تعتمدها.

أما أبرز الهواجس التي يعكسها العملاء الاقتصاديون اليوم إزاء مشروع قانون «تنظيم وضع ضوابط استثنائية وموقتة على بعض العمليات والخدمات المصرفية»، فهو أنّه لا يأتي من ضمن خطة استراتيجية متكاملة، في الوقت الذي يفترض أن يكون ضبط حركة الرساميل مجرد إجراء ظرفي ضمن خطة نهوض بنيوية للاقتصاد. وإن كان القرار هو ضبط السيولة المتبقية بالعملات الأجنبية، فمن الملحّ وضع خطة استراتيجية من جهة أولى لشرح سُبل ترشيد استعمال السيولة المتبقية بالدولار الأميركي، ومن جهة ثانية لكيفية تأمين استمرارية استيراد المواد الضرورية من الخارج، مما يتطلّب جردة دقيقة وشفافة لحسابات مصرف لبنان، وتقييماً للحاجات الأساسية من قِبل الوزارات المعنية. وتوفّر هذه الخطة الإطار الصحيح الذي يُبنى على أساسه مشروع قانون القيود المالية، ويتمّ تضمينه في الأسباب الموجبة للقانون. ومن جهة ثالثة اتخاذ القرار بشأن نظام القطع، حيث لم يعد من مفرّ من اللجوء إلى نظام الربط الصارم Hard Peg لليرة اللبنانية، وسط الارتفاع الهائل لمعدّل الدولرة الذي لا يسمح بالإبقاء على نظام الربط المرن الحالي، ولا باللجوء الى النظام الحرّ العائم، فلا يبقى سوى مجلس النقد/الدولرة الشاملة. وهذا يتطلّب اعتماد سعر صرف يتمّ على أساسه الذهاب الى الربط الصارم، مما يحتاج أيضاً كمية معيّنة من الاحتياطي بالعملات الأجنبية…

يبقى القول لمن يسأل عن فائض بميزان المدفوعات قبل البحث بإمكانية الدولرة الشاملة، انّه لو كان لدينا فوائض في ميزان المدفوعات لما كنا أساساً دخلنا في أشدّ أزمة نقدية – مالية – مصرفية – إقتصادية شاملة مع دولرة مزمنة منذ 40 عاماً، وباتت اليوم تفوق الـ 90 % !!! لا بل انّ الانتقال الى الدولرة الشاملة الرسمية هو الذي ساهم في الاكوادور مثلاً بتحسين ميزان المدفوعات وانتقاله من حالة العجز الى الفائض. وقد أثبتت الأدبيات الاقتصادية، أنّ من إيجابيات الدولرة الشاملة الرسمية، تفادي أزمات ميزان المدفوعات واستعادة الثقة بالاقتصاد الوطني مع ثبات عملته، مما يسهّل انخراطه بالاقتصاد والتجارة العالمية، وإعادة استقطاب الرساميل والاستثمارات الأجنبية والحركة السياحية، بخاصة اذا كان تاريخياً مهيأً لاستقطاب الرساميل والاستثمارات الأجنبية والإنفاق السياحي…

إنّ الاجراءات الظرفية لا يمكن تنفيذها بمعزل عن الرؤيا البنيوية التي تتطلّب بدورها جردة دقيقة وشفافة لحسابات مصرف لبنان، وتقييماً للحاجات الأساسية من قِبل الادارات العامة المولجة. من لا ينظر لبعيد يخاطر بالوقوع مجدداً عن قريب، بل يخاطر في إمكانية النهوض عمّا قريب…

د. سهام رزق الله

“قصة” القرار السياسي بــوقف المضاربة على الليرة

لن يكون الاختبار الذي سيتعرّض له اللبنانيون في الاسابيع المقبلة سهلاً، في حال صحّت «التنبؤات» في شأن استمرار الفراغ الرئاسي الى ما بعد نهاية العام 2023. وهناك تساؤلات متعددة في شأن مصير الليرة، والوسائل التي يمكن اعتمادها للحفاظ على الاستقرار النقدي الذي وعد به حاكم المركزي بالانابة.

حتى الآن، أنجزت ادارة مصرف لبنان بإشراف الحاكم بالانابة وسيم منصوري، «واجباتها» على اكمل وجه لجهة وقف تمويل الدولة من اموال الناس المتبقية، والتنسيق مع وزارة المالية للحفاظ على حجم الكتلة النقدية بالليرة مضبوطة في الاسواق. وقد أدّى ذلك الى استقرار سعر الصرف، بما انعكس ايجابا على الوضع المعيشي للمواطن. لكن الاستقرار النقدي القائم لن يساهم لوحده في تحسين ظروف الحياة، ولا في اعادة الاقتصاد الى سكة التعافي. هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، سيكون من الصعب جداً الحفاظ على هذا الاستقرار لفترة طويلة. وبالمناسبة، هناك من يطرح تساؤلات في شأن الاستقرار النقدي القائم. بمعنى انه قد لا يكون مستغرباً ان يحظى سوق الصرف بفترة استقرار نسبي، عندما يتوفر الدولار لتلبية الطلب، في موازاة تصغير الكتلة النقدية بالليرة، لحجب ادوات المضاربة عن السوق. ومع ذلك، فإنّ سعر الصرف ليس مستقراً فحسب، بل شبه ثابت بما يشبه فترة التثبيت، ايام كانت الليرة مدعومة من قبل مصرف لبنان. فهل صحيح ما يهمس به بعض المشككين، لجهة انّ ثبات الليرة على سعرها، يرتبط، بالاضافة الى عامل تَوفُّر الدولارات بعد موسم سياحي ناشط، وبعد ضخ كميات كبيرة في تموز الماضي، بعامل توقّف المضاربة بقرار سياسي؟ وهل يوجد فعلاً طرف سياسي قادر على اطلاق كلمة سر، يمنع بموجبها عمليات المضاربة التي كانت تجري في مرحلة عمل منصة «صيرفة»؟

السؤال مطروح من دون ان يعني ذلك وجود معطيات ملموسة تسمح بدعم هذه الشكوك. لكن، البعض يعتبر ان الثقة التي تحدث بها وسيم منصوري حيال مَنع انهيار الليرة مجدداً، في معرض ردّه على سؤال في شأن احتمال ارتفاع الدولار مع بدء بلومبرغ في عملها في لبنان كمنصة تداول، دفعت المشككين الى اعتبار هذا الموقف بمثابة دليل اضافي على وجود قرار سياسي بوقف المضاربة. وعندما يقول منصوري انه لن يسمح بعودة الدولار الى الارتفاع، فهذا الموقف لا يمكن تفسيره، وفق المشككين، سوى بنقطتين:

اولاً – وجود قرار سياسي بوقف المضاربة، مع الاخذ في الاعتبار ان عنصر المضاربة هو العامل الرئيسي في ارتفاع الدولار.

ثانياً – وجود قرار غير مُعلن لدى مصرف لبنان بالتدخّل والدعم اذا اقتضى الامر، لمنع عودة الدولار الى الارتفاع.

في القراءة المنطقية لهذه الاجواء، وسواء كانت مسألة القرار السياسي بمنع المضاربة صحيحة ام لا، ينبغي التأكيد ان المضاربة لا يمكن ان تكون المسؤولة عن انهيار الليرة. وما جرى منذ نهاية العام 2019 حتى اليوم، لا يمكن سوى أن ينعكس على سعر العملة الوطنية وقدرتها الشرائية. اما المضاربة، فإنها تأتي كعنصر اضافي يساهم في اضطرابات سوق الصرف، ليس إلا.

كذلك فإنّ القول بوجود قرار ضمني لدى المركزي بدعم الليرة اذا اقتضى الامر، لا يبدو بدوره منطقياً، بعد المواقف الواضحة والصريحة لمنصوري بالامتناع عن صرف اي دولار من اموال المودعين المتبقية في المركزي. وفي الاساس، فإنّ الاستعانة بمنصة بلومبرغ انما يهدف الى تحرير سعر الصرف، وليس العكس.

أما لماذا يقول منصوري انه لن يسمح، مع زملائه في حاكمية مصرف لبنان، بعودة الدولار الى الارتفاع، فالجواب يكمن في وجود تصميم لدى حاكمية المركزي بمنع نمو الكتلة النقدية بالليرة. كما يستند الى تفهّم وتجاوب وزارة المالية في التنسيق مع المركزي حول هذه المسألة.

ومع ذلك، لن تكون وعود منصوري كافية، لأن استقرار الليرة لا يمكن ان يستمر اذا استمر الوضع الاقتصادي بالتراجع، واذا استمر العقم على مستوى القرارات السياسية لإقرار القوانين الضرورية لتمهيد الطريق امام مسيرة الانقاذ، واذا استمر الفراغ على المستوى رئاسة الجمهورية. ومع الاسف، كل الجهود التي تُبذل في الادارة النقدية، لن تجدي نفعاً. وهذا الواقع يعترف به مصرف لبنان يومياً، ويؤكد لمن يسأل ان المسألة عند الدولة، وليست لدى المركزي. وهذا يعني ان كل التأكيدات ليست سوى اعلان نيات، لا يمكن ترجمتها على ارض الواقع، اذا لم يتغيّر المشهد السياسي العام، وتبدأ مرحلة جديدة تتحمّل فيها الدولة (بشقيها التنفيذي والتشريعي) مسؤولياتها لإخراج البلد من أزمة سوف تتفاقم وتصبح أشدّ تعقيداً، كلما مرّ وقت اضافي من دون معالجات وحلول شاملة.

 

أنطوان فرح

استقرار نقدي غير ثابت… إلى أين يتّجه الدولار؟

فيما يشهد سعر صرف الدولار في لبنان استقراراً في الأشهر الماضية على سعر حوالي 89 ألف ليرة، تزامن مع الموسم السياحي وما رافقه من أموال ضخمة دخلت لبنان، تتّجه موازنة 2024 إلى توحيد سعر الصرف، وهو شرط من شروط صندوق النقد الدولي لمنح قرض بحوالي 3 مليارات دولار للبنان. وبينما كان الخبراء يؤكدون أنّ اتجاه الدولار سيكون صعودياً بعد انتهاء موسم الصيف، يظهر الدولار استقراراً في سعره، على عكس هذه التوقعات. ما السبب؟

في حديث سابق له، أكد حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري أنّ “الوقت اليوم هو المناسب لتحرير وتوحيد سعر الصرف، لمعطيات عديدة أبرزها انخفاض الكتلة النقدية من 80 تريليون ليرة إلى 60 تريليون ليرة، وارتفاع الجباية لدى الدولة إلى حدود 20 تريليون ليرة شهرياً، وجزء منها نقدي، وهذا ما يؤدي إلى سحب الليرة أيضاً من السوق. وتحرير سعر الصرف وتوحيده يعني أنّ سعر الدولار المقوَّم على الليرة اللبنانية يُحدَّد بحسب عمليات السوق دون تدخّل من المصرف المركزي”. بالتالي، بمجرد اتخاذ قرار توحيد سعر الصرف، تُلغى جميع أسعار الصرف المتعددة التي فرضتها التعاميم 151 و157 و158 و161.

في هذا الإطار، ترى المتخصّصة في الاقتصاد النقدي الدكتورة ليال منصور في حديثها لـ”النهار” أنّ “الاستقرار النقدي الحالي ناتج عن تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع عبر شراء العملات الأجنبية، إلى جانب عامل آخر له دوره في الاستقرار النقدي وهو الدولرة، فكلّما زادت، تراجع طبع الليرة إذ لم تعد تُستعمل إلا لتمويل القطاع العام”.

أيضاً، مع وجود المغتربين صيفاً وإدخالهم الدولارات، أسهموا في الاستقرار النقدي دون الحاجة الكبرى إلى تدخل مصرف لبنان بنسبة كبيرة لدعم هذا الاستقرار وبالتالي دون تكبّده تكلفة كبرى، لكن طبعاً عادة، تكون هذه التكلفة على حساب توفير الأموال هذه لاستيراد المحروقات والكهرباء وصيانة الطرقات وغيرها. فالاستقرار النقدي يكلّف الدولة كثيراً وتكلفته تراوح بين 500 مليون دولار ومليار دولار شهرياً.

وحتى في بلد غير منهار اقتصادياً وغنيّ، توضح منصور أنّه دائماً ما يكون تثبيت سعر صرف معيّن واستقرار النقد مكلفاً. وتنفي أن يكون لاستقرار النقد حالياً سبب سياسي، وتعطي مثالاً عن عملة الدينار الكويتي الأقوى في العالم، التي تتكبّد الكويت كلفة كبيرة لتثبيتها واستقرارها.

أمّا عن توحيد سعر الصرف وتداعياته، فهو يبدأ من تحرير العملة، أي تعريضها للعرض والطلب، وبذلك، تُلغى جميع أسعار الصرف الأخرى. وتحريرها يعني غياب تدخّل المركزي لتثبيتها واستقرارها. وبرأي منصور، “إقرار أي بند في الموازنة لا يعني وجوباً أنه سيُلتزم به في لبنان، وأصبح موضوع توحيد سعر الصرف في لبنان أمراً على المسؤولين تنفيذه ولو نظرياً لأنّه مطلوب من صندوق النقد الدولي. بالتالي، تداعيات موازنة 2024 محدودة جداً على العملة في بلد كلبنان، ولن تؤدي إلّا إلى بلبلة شفهية”.

فالليرة منهارة أصلاً وليس هناك أية عوامل قد تؤثر سلباً بشكل إضافي على العملة بعد، وفق منصور. فتوحيد سعر الصرف يجعل من سعر الدولار قابلاً لأن يرتفع أو ينخفض، لكنّه يبقى بسعر موحَّد غير متعدّد. لذلك، مع الدولرة الحالية، سيكون تأثير هذا الأمر ضئيلاً جداً.

ولأنّ لبنان أصبح مدولراً بامتياز، قد يكون توحيد سعر الصرف عاملاً إيجابياً، إلّا أنّ منصور لا ترى هذه الإيجابية و”الليرة لن تعود إلى الوراء”. لذا، تصرّ منصور على أنّ “مسار الدولار صعودي بمجرّد وقف تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع”.

على عكس رأي منصور، من جهته، يورد الخبير الاقتصادي الدكتور جاسم عجاقة في حديثه لـ”النهار”، أنّ “الاستقرار النقدي في لبنان هو نتيجة ضغوط سياسية أدّت إلى لجم المضاربين”. وحتى شركات الصيرفة المرخصة لم تعد تشتري الدولار في السوق، أي إنّ المضاربين والشركات توقفوا عن شراء الدولار.

فما عظّم الأزمة على شكلها الحالي، برأي عجاقة، هو المضاربة في السوق السوداء وهذا ما يبرّر استقرار سعر الصرف مع ذهاب هذا العنصر. لكن الأسباب الأساسية التي أدّت إلى الأزمة النقدية لا تزال موجودة، وهي غياب الدولارات الكافية لدى الحكومة لتسديد جميع نفقاتها. فهي بحاجة إلى الدولار لصرف رواتب القطاع العام واستيراد المحروقات وتسديد اشتراكاتها السنوية في المؤسسات الدولية وتسديد الأجور للسلك الديبلوماسي والسفارات والقنصليات. لذلك، بحسب عجاقة، “ما لم تُطبَّق الإصلاحات، فالاستقرار النقدي هذا هو استقرار غير ثابت، ونتوقّع أن تتّجه ضغوط سعر الصرف نحو الارتفاع”.

وبرأيه، “الأزمة ستتعاظم أكثر عندما سنصل إلى آخر السنة دون تمكّن مصرف لبنان من تمويل العجز المقدَّر بـ40 تريليون ليرة، هنا السؤال: ماذا ستفعل الحكومة؟”، يسأل عجاقة.

ما سبب الالتباس في موقف صندوق النقد حيال الودائع؟

بعد أربع سنوات على الانهيار، وبعد تقارير محاسبية وتدقيقية، ووقائع غير قابلة للانكار، في شأن الاسباب والطرق التي أدّت الى الوضع الافلاسي القائم حالياً، حان الوقت للانتقال الى مرحلة الواقعية والبدء في إقرار معالجات وتنفيذها على وجه السرعة للخروج من الحفرة التي لا تزال تزداد عمقاً يوماً بعد يوم.

السياسة التي تتّبعها حاكمية مصرف لبنان حتى الآن، لا غبار عليها، وهي مطلوبة بدليل الاشادة التي حظيت بها هذه الاجراءات في البيان الختامي للزيارة التي قام بها وفد صندوق النقد الدولي الى بيروت. لكن هذه السياسة ينبغي ان تتماهى مع اجراءات وخطوات ينبغي ان تتخذها الدولة (السلطتان التنفيذية والتشريعية) لكي تكون مثمرة على مستوى الخروج التدريجي من الأزمة. والمفارقة في هذا الوضع، انه اذا امتنعت الدولة عن مواكبة النهج الجديد في المركزي، سينعكس ذلك ضغوطاً اضافية على الوضع المعيشي للمواطن. وهذا يعني ان اللبناني في هذه الحالة، سيعاني تراجعاً اضافياً في قدراته الشرائية، وقد تتعمّق دائرة الفقر، على اعتبار ان السياسة السابقة للمركزي كانت تستند، وبموافقة ودعم من الدولة، على مبدأ انفاق اموال المودعين المتوفرة في مصرف لبنان، لتخفيف وطأة الأزمة المعيشية على الناس. وعندما يتم اغلاق هذه الحنفية غير الشرعية، والتي هي أشبه بسرقة اموال الناس وتوزيعها على آخرين لإسكاتهم، من دون تأمين مصدر تمويل بديل يمكن خلقه عبر خطوات اصلاحية، واجراءات تنفيذية تباشرها الدولة، فمن البديهي انّ المواطن سيعاني ضغوطات معيشية اضافية، وستصبح الأزمة موجعة اكثر لغالبية اللبنانيين.

انطلاقاً من هذا الواقع، لا بد من الانتقال بسرعة الى مرحلة جديدة على مستوى الدولة. ومن خلال زيارة وفد صندوق النقد، تأكد المؤكد، وهو ان المشكلة الاساسية التي تعيق هذا الانتقال، الى جانب اللامسؤولية وغياب الوعي لدى كل المسؤولين، ترتبط بكيفية اعادة الودائع. ونحن نتحدث هنا، عن اموال لم تعد موجودة، وبقي منها فعلياً حوالى 10 مليارات دولار، من اصل حوالى 90 مليار دولار مُسجّلة في قيود المصارف. فمن اين سنأتي بـ80 مليار دولار لحل مشكلة الودائع؟

في البداية، ينبغي ان نعرف انّ صندوق النقد الدولي لا يعترض على مبدأ اعادة الودائع، بل يرفض ان يتم تمويل اي صندوق لإعادة هذه الودائع من ايرادات الدولة. والسبب في ذلك انّ الصندوق وضع خطة، ورسم تقديرات لأداء الاقتصاد اللبناني في السنوات المقبلة، ولنسب النمو المتوقع، ولقدرة لبنان على اعادة القرض الذي سيقدمه الصندوق له وقيمته 3 مليارات دولار. وبالتالي، يرفض الصندوق ان يتم المَس بإيرادات الدولة او اصولها، حرصاً على بقاء تقديراته صحيحة، وعدم حصول ما قد يعرقل اعادة اموال القرض.

انطلاقاً من ذلك، ولأن خيار التخلي عن الصندوق هو خيار انتحاري، خصوصا مع دولة من هذا النوع، لا تؤتمن على اي اصلاح او التزام، وتكتفي بشعار قدسية الودائع، التي طار اكثر من نصفها، منذ إطلاق هذا الشعار في بداية الانهيار، لا بد من التفكير في حلولٍ تكون عادلة قدر الامكان لأصحاب الحقوق، ويمكن ان يوافق عليها صندوق النقد. هذا النهج في التفكير، يقود الى طرح مجموعة افكار، تستند جميعها الى مبدأ تأسيس صندوق لإعادة الودائع، لفصل هذه الأزمة التي قد يستغرق حلها نهائياً سنوات طويلة، عن مسار التعافي الذي قد يبدأ فور المباشرة في تنفيذ خطة الانقاذ بالاتفاق مع صندوق النقد. وتبقى المسألة الاساسية متعلقة بتمويل هذا الصندوق، من دون اثارة اعتراض صندوق النقد. وهنا تظهر مجموعة افكار منطقية، من أهمها:

اولاً – إنجاز شراكة كاملة بين القطاعين العام والخاص، والاتفاق مع صندوق النقد على تخصيص نسبة من الايرادات لتمويل صندوق الودائع مربوطة بالنمو. بمعنى انه عندما تتجاوز نسبة النمو التقديرات التي وضعها صندوق النقد للسنوات الخمس التي تلي بدء تنفيذ خطة الانقاذ، يمكن تحويل هذا الفائض الى الصندوق. هذا الاقتراح ورد بروحيته في ورقة الهيئات الاقتصادية ويحتاج الى بلورة اضافية، لإقناع صندوق النقد بعدم رفضه.

ثانياً – اعادة جزء من الاموال التي ضاعت بسبب اعادة القروض الدولارية بالليرة او باللولار. والمقصود هنا، القروض الضخمة التي تتجاوز قيمة الواحد منها المليون دولار. وهناك اثرياء وشركات ومسؤولون استفادوا من هذا الوضع وحققوا ارباحا طائلة في ظروف استثنائية. وهم بذلك اخذوا جزءا من اموال المودعين. وعلى سبيل المثال لا الحصر، استطاعت شركة مثل سوليدير ان تُعيد قروضها التي اقتربت قبل الانهيار من مليار دولار، بمبالغ زهيدة. وكذلك فعلت شركات اخرى كثيرة ومتموّلون كبار. ومن العدل ايجاد قانون يسمح باعادة جزء من هذه الاموال (ضريبة استثنائية) الى صندوق الودائع.

ثالثا – إيجاد صندوق لاعادة الودائع يتم تمويله من عائدات الغاز المستقبلية. هذه العائدات غير واردة في حسابات صندوق النقد عندما وضع تقديراته للنمو والايرادات في السنوات الخمس المقبلة. وبالتالي، لا مبرر لديه لرفض مثل هذا الاقتراح. والمفيد في هذا المشروع انّ اصحاب الحقوق (المودعون) يستطيعون ان يبيعوا حصصهم منذ انطلاق الصندوق، كما في امكانهم الانتظار للحصول على مبالغ اكبر، وربما تحقيق ارباح، قد تتجاوز قيمة الوديعة التي يريدون استردادها. وهذا الامر حصل في دول كثيرة، منها النروج التي يحاول لبنان ان يقلّدها في موضوع الصندوق السيادي. طبعاً اصحاب الحقوق في النروج لم يكونوا مودعين، بل كانوا مستثمرين استفادوا من الاستثمار قبل انطلاق عملية التنقيب عن النفط، وحققوا ارباحا طائلة عندما جاءت نتائج التنقيب ايجابية. من هنا يبدو اقتراح هذا الصندوق هو الاكثر واقعية وجدوى.

طبعاً، تبقى مسألة تشريح الودائع، ودراستها لضمان العدالة في اعادتها، او اعادة جزء كبير منها. والموضوع هنا لا يتعلق بودائع مؤهلة وغير مؤهلة، بل بعدالة لا بد منها. وعلى سبيل المثال، مَن اشترى وديعة بشيك ودفع 13 الى 15% من قيمتها الاسمية، ليس من العدل ان يأخذها كاملة تماماً مثل مُدّخر قضى عمره في الادخار، او باع أملاكه وسَيّلها. او حتى مثل نقابة تضع اموال رواتب التقاعد والتعويضات لكل اعضاء النقابة في المصرف. وبالتالي، لا بد من تشريح مفصّل للودائع، ودراستها لجهة تاريخ تكوينها وحجم الفوائد التي أُضيفت اليها، لاتخاذ قرار تصنيفها لكي يأتي قرار اعادة الوديعة عادلاً للجميع.

فهل سيتحرّك المسؤولون في اتجاه معالجات عملية، ام سيكتفون بمواصلة الانكار والتهرّب والاختباء وراء مواقف شعبوية لن تُنقذ الاقتصاد، كما لن تُعيد أي فلسٍ الى المودعين؟

 

أنطوان فرح

الدائنون الأجانب يراكمون “أسلحتهم” القانونيّة ضد لبنان

يومًا بعد يوم، تتزايد الأسلحة القانونيّة التي يجمعها الدائنون الأجانب -من حملة سندات اليوروبوند- ضد الدولة اللبنانيّة، قبل بدء التفاوض معها على إعادة هيكلة الديون. وهذا الواقع، هو تحديدًا ما يفسّر استمرار صبر هذه الفئة من الدائنين، وتأخّرهم في التحرّك قضائيًا في الخارج ضد الدولة اللبنانيّة، بالرغم من مضي ثلاث سنوات وستّة أشهر على تخلّف الدولة عن سداد سنداتها، من دون بدء التفاوض الجدّي بين الطرفين بعد.

أسلحة الدائنين التي تتراكم، هي الخطايا والارتكابات التي مازالت الدولة اللبنانيّة تقوم بها اليوم، والتي ستمثّل أوراق ضغط قانونيّة ضدها في محاكم نيويورك. وهذا ما سيفرض على لبنان لاحقًا القبول بشروط مجحفة لمصلحة الدائنين، عند التفاوض معهم لإعادة هيكلة الديون. وفي واقع الأمر، ثمّة الكثير من المتابعين الذين يشككون بأن ما يجري يتجاوز حدود الهفوات الناتجة عن قلّة معرفة، ما يعني أنّ هناك تآمرًا صريحًا من قبل بعض المسؤولين اللبنانيين على حساب اللبنانيين، لمصلحة الجهات الأجنبيّة النافذة ماليًا، التي تملك سندات اليوروبوند.

ومن المهم جدًا الإشارة إلى أنّ كل ما سيرد ذكره في هذا المقال، على حساسيّته المفرطة، لا يهدف حتمًا لإعطاء الدائنين الأجانب حجج قانونيّة إضافيّة في وجه الدولة اللبنانيّة، بل إلى تصويب الأخطاء الكارثيّة التي ترتكبها الدولة اللبنانيّة في إدارة هذا الملف، وهذا ممكن جدًا ومتاح اليوم. وكاتب هذه السطور لم يكن ليستطرد في شرح التداعيات القانونيّة الخطرة لهذه الأخطاء، والتي سيستفيد منها الدائنون الأجانب، لولا تيقنه –من مصادر موثوقة- من تتبّع كبار الدائنين لهذه الوقائع ومعرفتهم بنتائجها القانونيّة، بمعزل عن نشرنا لهذا التحليل.

الخطيئة الكبرى: التلاعب بأرقام الدين العام
كما بات معلومًا اليوم، قرّر حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة في الربع الأوّل من هذه السنة، وقبل مغادرة منصبه، إضافة بند في ميزانيّة المصرف المركزي، يرتّب على الدولة اللبنانيّة دينًا جديدًا بقيمة 16.5 مليار دولار أميركي. ما فعله سلامة كان احتساب كل عمليّات القطع منذ العام 2007، أي عمليّات بيع الدولارات لمصلحة الدولة، كديون على الدولة اللبنانيّة، لمصلحة المصرف المركزي نفسه.

وبهذا الشكل، كان سلامة يحاول رمي جزء من الخسائر المتراكمة في ميزانيّة المصرف المركزي والقطاع المصرفي، على كاهل الدولة اللبنانيّة والمال العام. وكان سلامة قد تذرّع بوجود “تفاهمات شفهيّة سابقة” (؟) مع وزارة الماليّة منذ العام 2007، لتسجيل هذه الديون خارج الميزانيّة، قبل الكشف عنها فجأة هذه السنة، أي بعد 16 سنة.

وكما بات معلومًا أيضًا، لايوجد حتّى اللحظة وثيقة واحدة تؤكّد تفاهم المصرف المركزي ووزارة الماليّة، منذ العام 2007، على احتساب عمليّات القطع كدين على الدولة. بل لم يخرج وزير ماليّة سابق واحد، من الوزراء المتعاقبين منذ ذلك الوقت، ليؤكّد وجود تفاهم من هذا النوع.

وحتّى لو توفّر تفاهم ضمني أو شفهي من هذا النوع، لم يكن سلامة أو مجلس الوزراء يملكان صلاحيّة قيد الديون العامّة بهذا الشكل، لتعارض ذلك مع آليّات الاقتراض المنصوص عنها في قانون النقد والتسليف، ولتعارضه مع دور المصرف المركزي كمصرف للدولة، الذي يفرض عليه بديهيًا بيع الدولارات للقطاع العام لا قيد عمليّات القطع كديون عامّة.

في جميع الحالات، باتت المشكلة الأساسيّة اليوم عدم مبادرة وزير الماليّة الحالي، يوسف الخليل، لتوضيح هذه المسألة أو تصحيحها، وعدم مبادرة حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري لمعالجة الخطيئة المميتة والقاتلة التي ارتكابها الحاكم السابق رياض سلامة، عبر إلغاء هذا البند في ميزانيّة مصرف لبنان. وهذا التملّص من المسؤوليّة، من جانب منصوري والخليل، سيحمّل الدولة أكلافًا وتداعيات خطيرة خلال الفترة المقبلة.

فحملة سندات اليوروبوند، قاموا بشراء السندات في الماضي وفقًا لنصوص مفصّلة تحدد حجم مخاطر الدولة اللبنانيّة، عند إصدار السندات، بما يشمل التصريح عن حجم الدين العام الإجمالي. وفي جميع تلك النصوص، لم يكن هناك أي ذكر لدين الـ 16.5 مليار دولار، الذي قرّر فجأة رياض سلامة إضافته إلى ميزانيّة مصرف لبنان في الربع الأوّل من العام 2023، على أساس أنّها ديون تراكمت منذ ال2007.

بمعنى أوضح: سيكون بإمكان حملة سندات اليوروبوند توجيه تهمة الغش والاحتيال، للدولة اللبنانيّة، على خلفيّة إخفاء ذلك الدين وتقليص الحجم المُعلن لمخاطر الدولة اللبنانيّة، عند إصدار سندات اليوروبوند. ولعلّ صمت وزارة الماليّة ومصرف لبنان في الوقت الراهن يمثّل دلالة إضافيّة على وجود تواطؤ متعمّد، أو على الأقل غض نظر، من جانب السلطتين التنفيذيّة والنقديّة الحاليّة، تجاه هذه العمليّة التي قام بها الحاكم السابق لمصرف لبنان.

الهدف الأخير لحملة سندات اليوروبوند أمام محاكم نيويورك، سيكون إثبات “سوء نيّة” الدولة اللبنانيّة، باعتبارها ورّطت حملة سندات اليوروبوند في ديون ذات مخاطر مرتفعة، من دون كشف الأوراق التي تشير إلى هذه المخاطر (أي دين مصرف لبنان). ثم سيشير حملة السندات إلى أنّ الكشف عن هذه المخاطر لم يجرِ إلّا بعد التعثّر وتوقّف الدولة عن سداد، ما ضخّم من حصّة مصرف لبنان في الدين السيادي، وهو ما يشير –مجددًا- إلى تلاعب مقصود وخبيث من جانب الدولة.

في خلاصة الأمر، ستكون الدولة اللبنانيّة في موقع قانوني ضعيف أمام الدائنين الأجانب، ما سيفرض عليها تخفيض سقفها التفاوضي في وجههم. وحين نتحدّث عن خفض السقف التفاوضي، فهذا يتعلّق بنتائج ماليّة حسّاسة، مثل قيمة السندات التي ستتم إعادة جدولتها، والفوائد التي ستسددها الدولة لحملة السندات في المستقبل.

بحسب مصادر قانونيّة، الحل الوحيد المتاح أمام الدولة اللبنانيّة لمعالجة هذه الثغرة هو التراجع عن الخطيئة الأساسيّة، المتمثّلة في إضافة دين الـ 16.5 مليار دولار إلى مصرف لبنان. فإضافة هذا الدين المشبوه، الذي لا يستند إلى أي مسوّغ قانوني، لا تخدم سوى هدفين: تحميل الدولة عبء إعادة رسملة القطاع المصرفي عبر تسديد هذا الدين الجائر لمصرف لبنان (ومن ثم المصارف)، وإعطاء الدائنين الأجانب قوّة تفاوضيّة أقوى أمام الدولة اللبنانية في مرحلة إعادة هيكلة الدين العام.

المطالبة بأصول الدولة ومصرف لبنان
الخطيئة المميتة الثانية، هي طريقة تعامل الدولة مع ملف توزيع خسائر القطاع المصرفي، وتحديدًا من جهة الإصرار على فكرة تحميل المال العام كلفة إعادة رسملة المصارف ومعالجة فجوة ميزانيّتها. وهذه الخطيئة تجري اليوم على مستويين:

– على المستوى الأوّل، تصرّ الغالبيّة الساحقة من الكتل المؤثّرة في البرلمان اللبناني على ربط تسديد الودائع بعائدات صندوق مخصص لاستيعاب المرافق والأصول العامّة واستثمارها، ما يعني تسديد خسائر القطاع المصرفي من رسوم هذه المرافق. وهذه الفكرة، ستدفع الدائنين الأجانب للمطالبة بحصّة في هذا المسار، أي في صندوق استثمار المرافق العامّة نفسه. فإذا كانت الدولة ستخصص إيرادات واستثمارات أصولها لتسديد خسائر القطاع المصرفي، فالأولى من زاوية قانونيّة أن تُستعمل هذه الإيرادات -التي كان يفترض أن تصب في الخزينة العامّة- لتسديد الدين الحكومي، لا خسائر المصارف. وهكذا، سيحل مبدأ وضع اليد على الأصول العامّة، مكان فكرة إعادة هيكلة الدين العام.

– على المستوى الثاني، لا يمكن تحقيق فكرة تحميل الدولة خسائر القطاع المصرفي، التي تتبناها معظم الكتل الوازنة في المجلس النيابي، من دون الربط ما بين فجوة مصرف لبنان وماليّة الدولة. وهذا الربط، سيعطي الدائنين الأجانب ورقة ضغط قانونيّة تمكّنهم من الطعن بالاستقلاليّة الماليّة للمصرف المركزي، طالما أنّ خسائره باتت عبئًا على الدولة المدينة أصلًا لحملة سندات اليوروبوند. وهذا ما سيسمح للدائنين الأجانب بمحاولة ملاحقة أصول المصرف المركزي في الخارج، وبالأخص الذهب والاحتياطات الموجودة في المصارف المراسلة.

لكل هذه الأسباب، هناك ما يكفي من معطيات للتوجّس من مستقبل مفاوضات لبنان مع الدائنين الأجانب، ومن نتائج الهفوات القاتلة التي ارتكبتها الدولة اللبنانيّة خلال المرحلة الماضية. ولهذا السبب، ثمّة ضرورة اليوم لمراجعة هذا المسار وتصحيح تلك الأخطاء، عبر التراجع عن التعديلات المحاسبيّة التي قام بها حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، والتخلّي عن الأفكار التي تصر على فكرة تحميل الدولة الخسائر المصرفيّة. فتحميل الدولة هذه الخسائر هو مجحف أولًا بحق دافعي الضرائب، وهو خطر ثانيًا على مستقبل التفاوض مع الدائنين الخارجيين، وعلى مستقبل تفاهم لبنان مع صندوق النقد الدولي.

 

علي نور الدين

توزيع خسائر الدولة على الشعب المنهوب

 

نسمع ونقرأ يومياً عن استراتيجيات عدّة لتسديد العجز المتراكم، لكن الهدف الأساس هو توزيع الخسائر. حينما نتحدث عن خسائر، هناك تحديد المسؤول المباشر عنها، ونذكّر أنها نتيجة وليست سبباً.

بحسب مرصد البنك الدولي، وكل تقارير صندوق النقد الدولي، والتي توالت في السنوات الأخيرة، ووفق التقرير الجنائي الذي أصدرته أخيراً شركة «ألفاريس آند مارسال» (Alvarez & Marsal) للتدقيق المالي الدولي، إن الخسائر الجارية قد تحدّدت بنحو 70 مليار دولار. علماً أن هذا الرقم الأخير يُكوّن كل العجز في المالية العامة الذي تراكم منذ العقود الأخيرة، وهذا الرقم المخيف، لا يضم أموال وإستثمارات المؤتمرات المانحة والتي إنعقدت من أجل لبنان مثل باريس (1 و2 و3) وغيرها. فبالحقيقة إن الخسائر أو بالأحرى السرقات والنهب، تزيد بأكثر من مئات المليارات.

بعدما توقفت كل مصادر التمويل، ونُهب الشعب، وسُرق المجتمع الدولي ومساعداته، وإنهارت مؤسسات الدولة والبنى التحتية، وتبخّرت كل أموال إعادة هيكلتها، إستيقظت الدولة اللبنانية، وتريد اليوم أن توزع خسائر الـ 70 مليار دولار على الشعب المنهوب والإقتصاد المدمر، كأن شيئاً لم يكن.

نُذكّر ونشدّد على أن الدولة اللبنانية والسياسيين هم المسؤولون المباشرون عن هذه الخسائر، ولا سيما من أكبر عملية نهب في تاريخ العالم. فاليوم، وبكل وقاحة تتحدث الدولة عن توزيع الخسائر والتي هي المسؤولة عنها، بسوء إدارتها، وتسديد العجز المتراكم بفرض ضرائب عشوائية على الشعب المذلول والمنهوب.

كأن الدولة ذاتها تريد طي صفحتها السوداء، وطمر رأسها في التراب، كأنه لم يحصل شي، وتريد العفو عمّا مضى، وتبحث عن عمليات جديدة، لإستكمال عملية النهب، وتحفيز الإنهيار المالي والنقدي، وتشجيع الفساد المستشري. وفي العناوين الوهمية والكاذبة، أمام صندوق النقد والمجتمع الدولي، تريد تسديد العجز بإعادة السياسة الضريبية، وتوزيع الخسائر على ما تبقّى من مودعين، من دون أن تتحمّل أيّ مسؤولية.

إن الضرائب التي تُفرض على الشعب اليوم، هي تكملة لعملية الإغتيال والنهب والسرقة، بطريقة رسمية، عوضاً عن الإعتذار وإعادة جزء ضئيل ممّا سرقته من الشعب.

إن هذه الضرائب التي هي أيضاً مفروضة على الإقتصاد الأبيض وعلى الشركات الشفّافة، والتي تتبع الحوكمة الدولية الرشيدة، تهدّد مما تبقى من المستثمرين والرياديين والمبتكرين، وتخلق وتجذب جيلاً جديداً من المبيضين والمهربين والمروجين.

نذكّر بأن خبرتنا في هذا البلد، وتاريخنا المظلم، علّمنا وأظهرَ لنا بأن زيادة الضرائب في لبنان تعني طعن الإقتصاد الأبيض وتحفيز الإقتصاد الأسود. وتعني أيضاً انخفاضاً بمداخيل الدولة، وزيادة التهريب. إنّ هذه السياسة الضريبية العشوائية الجديدة تهدف إلى القضاء على الضحايا وتكملة سلسلة الإغتيالات المالية والنقدية، حيال الشعب والشركات للقضاء عليهم أو تهريبهم نهائياً من أرضهم الأم.

في المحصّلة، إن عبارة توزيع الخسائر مرفوضة، وعلينا أن نستبدلها بتوزيع وتكملة النهب والسرقة على الشعب. فالمسؤول عن هذه الخسائر وهذا الإنهيار عوضاً أن يكون المحكوم، هو الحَكَم والقاضي وهو الذي يعد بالإصلاحات، ويُطالب بالشفافية وإعادة الهيكلة والنمو، وهو بالحقيقة الجلاّد والمجرم الذي يتبع إستراتيجية التدمير الذاتي، وتكملة خطته للنهب والسرقة.

 

د. فؤاد زمكحل

دور الأنظمة اللامركزية في التنمية الاقتصادية

من حيث المبدأ، يعزّز المجتمع المتنوع ثقافيًا الإبداع والابتكار. في الولايات المتحدة وسويسرا، يجلب التنوع الثقافي والديني طاقات متعددة ومهارات إلى الاقتصاد والمجتمع. يتيح التنوع الثقافي أيضا الفرص للتعلم المتبادل والتفاهم، مما يعزز التواصل والتعاون.

نظم حكومية لامركزية

لذلك تعتمد الولايات المتحدة وسويسرا على نظم حكومية لامركزية، حيث يتم منح الولايات أو الكانتونات سلطة كبيرة لاتخاذ القرارات المحلية. هذا يسمح للمجتمعات المحلية بالتحكم في شؤونها بمرونة وفقًا لاحتياجاتها الفريدة.

إحترام حقوق الإنسان

تلتزم الولايات المتحدة وسويسرا بمبادئ حقوق الإنسان والمساواة. تمنح هذه الالتزامات القوية للمواطنين والمقيمين حرية التعبير والمشاركة السياسية والدينية من دون تمييز. يساعد هذا التقدير لحقوق الإنسان في تعزيز التنوع وتقوية الشعور بالانتماء.

التعليم

تمتلك الولايات المتحدة وسويسرا نظم تعليم عالية الجودة، بما يتيح للأفراد فرصًا جيدة للتعلم وتطوير مهاراتهم. وتكمن القوة في التعليم في تمكين الأفراد من الازدهار والمساهمة في التنمية المستدامة.

تشجع الولايات المتحدة وسويسرا على التفاهم والتعاون بين مجتمعاتها المتنوعة. يتم ذلك من خلال تشجيع الحوار وبناء جسور التواصل بين مختلف الأديان والأعراق. وهذا يقوي الروابط الاجتماعية ويزيد من التفاهم المتبادل.

ويمكن للدول النامية أن تستفيد من الدروس التي تقدمها الولايات المتحدة وسويسرا في ما يتعلق بإدارة التنوع الثقافي والديني. من خلال تعزيز حقوق الإنسان والتعليم والتفاهم الثقافي، يمكن للدول النامية تحقيق الاستقرار والازدهار على الرغم من التحديات الدينية والعرقية التي تواجهها. وهناك لائحة طويلة من الفوائد المالية للدول والتي تؤمنها الانظمة الفدرالية.

إدارة الإنفاق الحكومي

تساهم هياكل الحكومة الفدرالية في تحسين إدارة الإنفاق الحكومي بشكل فعال. حيث يمكن للحكومة المركزية والكانتونات أو الولايات، التعاون في توجيه الإنفاق نحو القطاعات ذات الأولوية، وضمان أن الأموال تُستثمر بفعالية في المشاريع والبرامج ذات الأثر الكبير على المجتمع. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للدول الفدرالية أن تستفيد من التنافس الصحي بين الكانتونات أو الولايات في تقديم خدمات عالية الجودة للمواطنين بأفضل التكاليف الممكنة.

جباية الضرائب

تقوم الدول الفدرالية بتوزيع الصلاحيات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية، وهذا يتيح تفعيل نظام جباية الضرائب بشكل فعال. يُمكن للكانتونات أو الولايات تحديد أسعار الضرائب وسياساتها الضريبية بناءً على احتياجاتها المحلية، بما يسمح بالاستجابة الأفضل لاحتياجات سكانها. هذا التنوع في سياسات الضرائب يساهم في توزيع العبء الضريبي بشكل أكثر عدالة.

إعداد الميزانية

هو عملية حساسة للغاية في الإدارة المالية الحكومية. في الدول الفدرالية، يتم تقديم ميزانيات منفصلة للحكومة المركزية وللكانتونات أو الولايات. هذا الامر يسمح بالتخصيص الفعال للموارد والمصادر المالية وفقًا للأولويات المحلية والوطنية. بالإضافة إلى ذلك، يتم تشجيع الشفافية والمساءلة من خلال تقديم تقارير مالية دقيقة تسهم في بناء الثقة بين الحكومة والمواطنين.

لذلك فإنّ الدول الفدرالية تعمل بجد على تحقيق الاستقرار المالي والازدهار الاقتصادي من خلال توزيع السلطة والمسؤوليات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية. هذا التوازن يمكن أن يؤدي إلى إدارة أفضل للإنفاق الحكومي، وجباية الضرائب بشكل عادل، وإعداد الميزانيات بشكل شفاف. تظل الدول الفدرالية نموذجاً يمكن للدول الأخرى الاستفادة منه لتحقيق الاستدامة المالية والرفاهية لمواطنيها.

إنّ لبنان يعاني من تنوعه الديني والعرقي، والذي سبّب في التوترات السياسية والطائفية على مر العقود. من أجل معالجة هذه التحديات وتعزيز الاستقرار، يجب أن ينظر لبنان بجدية في الانتقال إلى نظام لامركزي موسّع. وهذه بعض الأسباب الرئيسية لذلك:

1- التنوع الديني: لبنان يضم مجموعة متنوعة من الطوائف والمجتمعات الدينية، بما في ذلك المسيحيين والمسلمين والدروز وغيرهم. نظام اتحادي سيسمح لهذه المجتمعات بالحصول على مزيد من الاستقلالية في إدارة شؤونهم الخاصة، مما يقلل من احتمال التصادمات الناجمة عن الصراعات الطائفية والسلطوية.

2- تمويل السلطة: النظام اللامركزي سيقوم بتمويل السلطة السياسية وتفويض المزيد من السلطة للحكومات المحلية أو الأقاليم. وهذا قد يؤدي إلى حكومة أكثر كفاءة واستجابة، حيث سيتم اتخاذ القرارات أقرب إلى الشعب المتأثر بها.

3- توزيع الموارد: موارد لبنان، سواء الطبيعية أو المالية، كانت مصدرًا للنزاعات التاريخية. نظام اتحادي يمكن أن يوفّر آلية أكثر عدالة لتوزيع الموارد بين الأقاليم، مما يساعد في تقليل الاختلافات الاقتصادية ومعالجة الشكاوى المتعلقة بتوزيع الموارد.

4- تهدئة النزاعات: تاريخ لبنان مليء بالحروب الأهلية والنزاعات الداخلية، غالباً ما تنبع من الانقسامات الطائفية والصراعات على السلطة. وإنّ وجود نظام اتحادي يمكن أن يعمل كأداة لتهدئة النزاعات من خلال استيعاب مصالح مختلف المجتمعات وتوفير إطار للتعايش السلمي.

5- المساءلة: مع وجود حكومات محلية أكثر، يصبح من السهل على المواطنين محاسبة قادتهم على أفعالهم. وهذا يمكن أن يؤدي إلى زيادة الشفافية وتقليل الفساد وتحسين الحكم بشكل عام.

6- تنمية اقتصادية: يمكن للأنظمة اللامركزية أن تعزّز من التنمية الاقتصادية عن طريق السماح للأقاليم بتصميم سياسات اقتصادية تتناسب مع احتياجاتها الخاصة. وهذا الأمر يمكن أن يجذب الاستثمارات ويحفّز النمو، مما يعود بالفائدة على البلاد بأكملها.

7- العلاقات الدولية: لبنان الاتحادي يمكن أن يحسّن من مكانته الدولية عبر تقديم مظهر أكثر استقرارًا وتماسكًا. وقد يؤدي هذا الأمر إلى زيادة الاستثمارات الأجنبية والدعم.

8- قيم الديمقراطية: تسليط الضوء في الأنظمة الاتحادية على مبادئ الديمقراطية، مثل التمثيل ومشاركة المواطنين، ومن الممكن أن يعزّز هذا الأمر من التزام لبنان بالديمقراطية.

على الرغم من أن الانتقال إلى نظام اتحادي ليس بدون تحديات وتعقيدات، إلا أنه يمكن أن يقدم حلاً جديراً بالنظر لمشكلات لبنان السياسية والطائفية المستمرة. ومع ذلك، إنّ نجاح هذا الانتقال سيعتمد على التخطيط والتفاوض الدقيق واستعداد جميع الأطراف المعنية للعمل معًا من أجل مصلحة الوطن.

في الختام، يظهر النظام الفدرالي بوضوح أهميته الكبيرة في تعزيز الاستقرار والسلام في العديد من الدول حول العالم. يعمل هذا النظام على توزيع السلطة والمسؤوليات بين الحكومة المركزية والكانتونات أو الولايات المحلية، مما يساهم في تحقيق العديد من الفوائد المالية والاقتصادية والاجتماعية. من خلال تمكين المجتمعات المحلية من اتخاذ القرارات التي تناسب احتياجاتها الفريدة، وتحقيق التنوع الثقافي والديني، وتوجيه الإنفاق بفعالية. يمكن للنظام اللامركزي أن يساهم بشكل كبير في الحفاظ على الاستقرار وتعزيز السلام داخل الدولة. إنه نموذج يستحق الاهتمام والدراسة لما يمكن أن يقدمه من منافع متعددة ومستدامة للمجتمعات والأمم.

 

بروفسور غريتا صعب