أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

أهمية تعيين حاكم للمركزي: درس من أميركا

إذا ألقينا نظرة سريعة على الولايات المتحدة كنموذج يمكننا أن نتعلّم منه. يُعَد البنك المركزي الأميركي، المعروف بـ”الاحتياطي الفدرالي”، نموذجاً رائداً في تحقيق الاستقلالية والكفاءة. يتمّ تعيين رئيس الاحتياطي الفدرالي لفترة طويلة تتجاوز فترة الرئاسة الحالية، وهذا الأمر يحمي المؤسسة من التدخل السياسي القصير الأجل ويعزّز استقلاليتها في اتخاذ القرارات النقدية.

بفضل هذا النظام، يمتلك الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة سجلاً حافلاً على صعيد ضمان الاستقرار المالي والنقدي. ويتمتع البنك بقدرة فريدة على التصدي للتحديات الاقتصادية الداخلية والعالمية، وهو قادر على اتخاذ قرارات مستقلة تعكس احتياجات الاقتصاد وتدعم النمو المستدام.

كذلك، يجب أن يتمتع حاكم البنك المركزي في لبنان بالاستقلالية والكفاءة لمقاومة التحديات الاقتصادية الصعبة التي يواجهها البلد. ومن المهم أن يتم تعيين الحاكم بعيدًا من التأثيرات السياسية والضغوط الحزبية، بحيث يكون قادراً على اتخاذ القرارات النقدية الحكيمة التي تحافظ على استقرار النظام المالي والنقدي وتعزّز الثقة في العملة الوطنية.

لذلك على السلطات اللبنانية أن تتعاون معاً لتحقيق هذا الهدف الحيوي، كذلك يجب أن يتم اختيار المحافظ على أساس الكفاءة والخبرة في مجال السياسة النقدية والاقتصادية. ويجب أن يكون شخصاً ذي سمعة طيبة ومحترماً، ويتمتع بالقدرة على تحمل الضغوط واتخاذ القرارات الصعبة وفقاً للمصلحة العامة.

باختيار محافظ قوي للبنك المركزي في لبنان، يمكن للبلاد تحقيق الاستقرار المالي والنقدي الذي يعدّ مدماكاً أساسياً للنمو الاقتصادي المستدام. يجب أن يكون هناك تعاون وثيق بين الحكومة والمركزي لضمان تحقيق الأهداف الاقتصادية والمالية للبلاد.

يجب أن يتمتع البنك المركزي بالاستقلالية والكفاءة ليكون عمادا قويا في تحقيق الاستقرار الاقتصادي للبلاد. وباستلهام النموذج الأميركي، يمكن للبنك المركزي في لبنان تجاوز التأثيرات السياسية وتعزيز قدرته على التصدي للتحديات الاقتصادية الراهنة. ويجب أن يكون لبنان على استعداد لتعزيز دور البنك المركزي كجهة مستقلة وموثوقة، حيث يكمن الطريق للنمو الاقتصادي والاستقرار في يد القرارات النقدية الحكيمة والمستقلة.

ومن المؤكد أن تعيين حاكم سيساعد على بدء إصلاحات في النظام المصرفي والمالي، ويُضفي المزيد من المصداقية في البلد، ويُرسِل إشارة ايجابية إلى المستثمرين المحتملين.

في هذا السياق، يؤدي تعيين محافظ للبنك المركزي دوراً حاسماً في إرساء الأسس للتغيير وبدء الإصلاحات اللازمة. ويتطلب الأمر اختيار شخصية قوية ومحترفة تتمتع بالخبرة والكفاءة في مجال السياسة النقدية والمالية. إنّ تعيين حاكم متميز يرسّخ الثقة والاستقلالية في المؤسسة المالية الرئيسية في البلاد ويعزز الشفافية والمصداقية في العملية القرارية.

تعتبر المصداقية أمراً بالغ الأهمية للدولة، وخاصة بالنسبة للبلدان التي تسعى لجذب المستثمرين وتحفيز النمو الاقتصادي. وبالنظر إلى الوضع الحالي في لبنان، تحظى البلاد بفرص كبيرة للتطور والنمو الاقتصادي، ولكنها بحاجة ماسة إلى إعادة بناء الثقة وتوفير بيئة مالية مستدامة وموثوقة.

كذلك إن تعيين محافظ للبنك المركزي يرسل إشارة قوية وواضحة للمستثمرين المحتملين بأن الحكومة اللبنانية جادّة في إصلاح القطاع المالي والمصرفي. ويعكس هذا التحرك التزام الدولة بتحسين بيئة الأعمال وتهيئة الظروف الملائمة للاستثمار. إن وجود حاكم قوي ومحترف يوحي بأن السلطات اللبنانية تولي الأولوية لإصلاح النظام المصرفي والمالي وتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد.

بالإضافة إلى ذلك، تعزّز عملية تعيين محافظ المصداقية والشفافية في العملية السياسية وتنمية الثقة بين الحكومة والشعب والمجتمع الدولي، ويكون هناك اعتراف بأنّ التعيين يتم وفقًا للمعايير المهنية والتقنية وليس بناءً لاعتبارات سياسية. هذا التدبير يعزّز صورة لبنان كدولة تلتزم بمعايير عالية في الحوكمة والنزاهة والتنمية الاقتصادية.

باختيار محافظ متميّز وتعزيز الاستقلالية والكفاءة في البنك المركزي، يمكن أن يكون لبنان على أعتاب بداية جديدة في إصلاح النظام المصرفي والمالي وبناء مستقبل اقتصادي أكثر استقرارا وازدهارا. إنّ تعزيز الثقة والشفافية يمكن أن يؤدي دورًا حاسما في استعادة الثقة في النظام المالي وجذب المزيد من المستثمرين المحتملين إلى لبنان.

لذلك يجب أن يكون لتعيين محافظ للبنك المركزي في لبنان الأولوية القصوى في الأجندة الحكومية. يمكن أن يكون هذا الإجراء الأول، ضمن سلسلة من الإصلاحات اللازمة لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والمالي وإعادة بناء الثقة في لبنان. إن تحسين النظام المصرفي والمالي وتوفير بيئة مالية مستدامة وموثوقة يفتح الباب أمام فرص جديدة للنمو والازدهار ويعزز موقع لبنان كوجهة استثمارية موثوقة وجذابة.

في هذا السياق، يخرج اسم سمير عساف كمرشح محتمل لتولّي منصب محافظ البنك المركزي في لبنان، وذلك بناءً على خبرته الواسعة ومساهماته البارزة في قطاع الخدمات المصرفية والمالية.

فعلى مدى السنين الماضية، اكتسب سمير عساف سمعة قوية كقائد ومحترف في القطاع المصرفي. يعمل في بنك “إتش إس بي سي” منذ عام 1990، وقد تولّى مناصب عديدة داخل البنك قبل أن يصبح مستشارًا لرئيس مجلس الإدارة والمدير التنفيذي. تحت إشرافه، نَمت المؤسسة وتوسعت عملياتها على نطاق عالمي، ما جعلها واحدة من أكبر البنوك في العالم.

تحوي خبرة سمير عساف العديد من المزايا التي تجعله مؤهلاً لشغل منصب محافظ البنك المركزي في لبنان. فهو يتمتع بفهم عميق للتحديات والمشكلات التي يواجهها القطاع المصرفي في لبنان، حيث إنه شهد تحولات هامة ومُشابهة خلال عمله في القطاع المصرفي العالمي. هذا الفهم العميق للقطاع ومعرفته بالممارسات الدولية قد يساهمان في تطبيق إصلاحات هامة وفعّالة في النظام المالي اللبناني.

بالإضافة إلى ذلك، يتمتع سمير عساف بشبكة علاقات واسعة في القطاع المصرفي والمالي العالمي. يعتبر عضواً في مجموعة الـ”ثلاثي الراعي” التي تتولى مهمة رعاية حوار ومناقشات عالمية حول الاقتصاد والنظام المالي. هذه الشبكة الواسعة من العلاقات يمكن أن تكون مفيدة في جلب الدعم الدولي والمساعدة المالية للبنان في ظل الأزمة الراهنة.

بالطبع، هناك تحديات عديدة يجب أن يواجهها أي مرشح لهذا المنصب الحساس، تشمل مكافحة الفساد وتحسين الشفافية في النظام المالي، فضلاً عن تطبيق سياسات نقدية مستقلة وفعالة. إلا أن سمير عساف، بخبرته الواسعة وخلفيته المهنية القوية، يبدو أنه قادر على التعامل مع هذه التحديات وتحقيق إصلاحات جذرية في القطاع المالي اللبناني.

في النهاية، يعد ترشيح سمير عساف لِشغل منصب محافظ البنك المركزي في لبنان خطوة هامة في اتجاه إعادة بناء النظام المالي واستعادة الثقة في البلاد. إنه مرشح بارز يجمع بين الخبرة العالمية والفهم العميق للتحديات المحلية. وبالتالي، يمكن أن يكون سمير عساف المرشح المثالي لقيادة عملية إصلاح حقيقية وتحقيق استقرار اقتصادي في لبنان…

 

بروفسور غريتا صعب

أهمية المصارف المركزية ومعايير اختيار “الحاكم”

هناك أمثلة عديدة حول العالم، تُظهر كيف تأثرت البلدان سلباً بسبب عدم وجود محافظ للبنك المركزي. وقد يكون من المفيد إيراد بعضها، ومن أبرزها:

فنزويلا: تُعتبر تجربة فنزويلا حالة حَذِرة لعدم تعيين محافظ قوي في البنك المركزي. تعاني البلاد أزمة اقتصادية هائلة وتضخّماً مفرطاً، حيث ساد عجز في السياسة النقدية وتَلاعُب في قيمة العملة. وإن عدم وجود محافظ قادر على تنفيذ إصلاحات اقتصادية مناسبة سَبّب استنزاف الثقة في النظام المالي وتدهوراً في الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير.

الأرجنتين: شهدت أزمة مالية خانقة في عام 2018 بعد استقالة محافظ البنك المركزي. لم يتم تعيين محافظ جديد في الوقت المناسب، ما أدّى إلى انخفاض قيمة العملة وارتفاع معدلات التضخم. وكان لتأخّر التعيين تأثيره الكارثي على الثقة في النظام المالي، وعَرّضَ البلاد لمخاطر اقتصادية كبيرة.

زيمبابوي: تُعدّ مثالًا آخر على التداعيات السلبية لعدم تعيين محافظ قوي للبنك المركزي. تعاني البلاد تضخماً مفرطاً وانهياراً اقتصادياً، حيث تُعزَى الأزمة جزئيًا إلى عدم وجود سياسة نقدية فعالة وقوية. فعدم تعيين محافظ قوي ساهمَ في تدهور الوضع الاقتصادي بشكل كبير وفقدان الثقة في العملة المحلية.

الحالة في العراق خير مثال على خطورة عدم وجود محافظ للبنك المركزي وأهمية اختيار المحافظ وما له من تأثير، لا سيما انه لم يتم تعيين محافظ دائم للبنك المركزي العراقي، وهذا الأمر ساهم في تفاقم الأزمات المالية والاقتصادية في البلاد.

في العراق، لاحظنا تدهورًا متزايدًا في القيمة الشرائية للعملة المحلية وارتفاع معدلات التضخم. تأثرت الاستثمارات والتجارة وحتى حياة الناس بشكل سلبي نتيجة لعدم وجود قيادة فعالة للبنك المركزي. بالإضافة إلى ذلك، شهد العراق تفشي الفساد المالي واستغلال الثروات الوطنية بشكل غير مسبوق، وهو أمر يمكن أن يَتفاقم في غياب محافظ مؤهل يسعى لتحقيق الشفافية والمساءلة.

ومنذ فترة طويلة يعاني لبنان أزمة اقتصادية ومالية خانقة. ويجب أن ندرك أن المحافظ يؤدي دورا حاسما في تطبيق السياسات النقدية والمالية السليمة وحفظ استقرار العملة والتضخم في البلد. ومع ذلك، فإنّ الانقسامات السياسية والتأخير في تعيين محافظ في لبنان ستؤثر سلباً في قدرة البنك المركزي على التصدّي للأزمة واتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية الاقتصاد.

إن الأمثلة المذكورة تُبرز أهمية تعيين محافظ قوي وكفوء للبنك المركزي، فقدرته على تحقيق الاستقرار المالي والنقدي وتنفيذ سياسات فعالة للحفاظ على قوة العملة والحدّ من التضخم أمر بالغ الأهمية. يجب أن يُولي لبنان أهمية كبيرة لتعيين محافظ قادر ومؤهل للبنك المركزي اللبناني لتجاوز الأزمة الاقتصادية الراهنة وتحقيق الاستقرار المالي والنقدي المنشود.

ومن المعروف أن المحافظ للبنك المركزي يلعب دورا حاسما في تنفيذ سياسات البنك ومراقبة النظام المالي والنقدي، وتقع على عاتقه مسؤولية تنفيذ السياسة النقدية السليمة وحفظ استقرار العملة ومكافحة التضخم الزائد. ومع ذلك، فإن عدم وجود محافظ قوي يؤثر سلبا في الثقة بالنظام المالي ويزيد من عدم اليقين الاقتصادي.

لذلك، يجب أن يتم اختيار محافظ البنك المركزي بدقة، وبناءً على الكفاءة والخبرة والنزاهة. وينبغي أن يكون قادرا على قيادة البنك المركزي بشكل فعال، واتخاذ القرارات المالية الحكيمة، وتعزيز الاستقرار النقدي والمالي. وأيضاً يجب أن يتمتع بسمعة جيدة وأن يكون ملتزماً بمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في عمليات البنك المركزي.

إنّ اختيار محافظ بعناية وتنفيذ سياسات نقدية سليمة، يُمَكّن البنك المركزي من أن يُسهِم في تعزيز الاستقرار الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة في البلد. ينبغي أن تكون هذه العملية محطةً للفحص والمراجعة الدقيقة للمرشحين المحتملين، وضمان أن يتم تعيين محافظ يتمتع بالكفاءة والنزاهة لتحقيق الأهداف المرجوة لمصلحة الاقتصاد الوطني.

وتُعتبَر معايير اختيار الحاكم مهمة حساسة ومن أهم المسؤوليات التي يتحملها القادة السياسيون والمسؤولون الاقتصاديون. فالمحافظ يؤدي دورا حاسما في تحقيق الاستقرار النقدي والمالي وضبط السياسة النقدية في البلد. ولضمان اختيار محافظ مؤهل وكفؤء للبنك المركزي، هناك معايير عدة يجب أن تؤخذ في الاعتبار:

الخبرة والكفاءة: ينبغي أن يتمتع المرشح بخبرة واسعة في الشؤون المالية والاقتصادية، وخاصة في مجال السياسة النقدية والنظام المصرفي. يجب أن يكون لدى المرشح معرفة عميقة بالأسواق المالية وقدرة على تحليل البيانات الاقتصادية واتخاذ القرارات الحكيمة.

النزاهة والشفافية: يجب أن يتمتع المرشح بسمعة جيدة ونزاهة عالية في مجال العمل المالي، وأن يكون قادرا على القيام بواجباته بكفاءة ونزاهة، وأن يكون على استعداد للمساهمة في تعزيز الشفافية في البنك المركزي والقطاع المصرفي بشكل عام.

القدرة على التواصل والقيادة: ينبغي أن يكون لديه قدرة فعّالة على التواصل مع الأطراف المعنية المختلفة، بما في ذلك الحكومة والمؤسسات المالية والجهات الرقابية. وأن يكون قائداً فعالاً يستطيع قيادة فريق العمل في البنك المركزي وتحفيزه لتحقيق الأهداف المحددة.

الاستقلالية: ينبغي أن يكون المحافظ مستقلاً عن التدخلات السياسية والضغوط الخارجية، وأن يتمتع بالقدرة على اتخاذ القرارات المستقلة وفقاً للمصلحة العامة والأهداف الاقتصادية والنقدية للبلد.

الرؤية الاقتصادية: ينبغي أن يكون لدى المرشح رؤية واضحة للتطورات الاقتصادية والتحديات التي تواجه البلد، وأن يكون قادراً على تطوير استراتيجيات وسياسات مناسبة لتعزيز النمو الاقتصادي وتحقيق الاستقرار المالي والنقدي.

يشكّل تَوَفّر هذه المعايير الأساسية إطاراً فعالاً لاختيار محافظ مؤهل للبنك المركزي. وينبغي أن يتم الاختيار بعناية ودقة، وعلى أساس المؤهلات والقدرات والخبرات، وليس على أساس المحسوبية السياسية أو العوامل الشخصية. إن اختيار محافظ مؤهل يُسهم في تعزيز الثقة في النظام المالي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي للبلد.

بروفسور غريتا صعب

دقّت ساعة النظام النقدي في لبنان: وقف الترقيع وقبول الخيار العلمي

أما وقد استُنزفت على حدّ سواء مهل الإصلاح واحتياطات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية وإمكانية الاستمرار بنظام ربط الليرة باللبنانية بالدولار الأميركي، والذي لم يحقّق يوماً أي تراجع بمستوى الدولرة التي لم تنخفض عن حدود الـ70%، حتى في ظلّ تثبيت سعر الصرف طيلة 22 عاماً ليعاود حالياً التحليق لأكثر من 85%، مستعيداً معدّله إبان أزمة الثمانينات، ولكن هذه المرة بعد دولرة جزء من الدين العام والعجز عن سداده، ومع فقدان القدرة على استخدام ودائع الناس بالعملات الأجنبية في المصارف، ومع تنامي سوق قطاع موازٍ يتأمل المصرف المركزي ضبطه مع وقف الهندسات والبهلوانيات في التدخّل الموصل عبر منصّة صيرفة التي زادت أسعار الصرف بدل توحيدها…

طبعاً يبقى للاقتصادات المدولرة جزئياً والـ«مدمنة على الدولرة» مثل لبنان منذ أربعين سنة، خصوصية تجعل من الضروري بعد فترة انتقالية، التوصّل إلى سعر صرف فعلي يعكس حقيقة السوق، واعتماده كسعر مرجعية للانتقال الى نظام الربط الصارم (مجلس نقد أو دولرة رسمية شاملة). ولكن قبل ذلك، لا بدّ من إنجاح العودة عن ربط عملة وطنية بعملة أجنبية، وإعادة تحرير تسعيرها في السوق، بعد فترة تثبيت والحدّ من تدخّل المصرف المركزي واستنزاف باقي احتياطاته الإلزامية المتبقية من ودائع الناس.

وتدخّل مركزي في سوق القطع له شروط بارزة، تبدأ بتأمين التوقيت المناسب المتزامن مع صدمة إيجابية تجعل من هذا الخيار نتيجة تلقائية مطمئنة إلى ثبات سعر الصرف، من دون الحاجة لتثبيته بتدخّلات منتظمة في سوق القطع… ولا تنتهي بتوفّر عوامل مساعدة من مؤشرات إقتصادية مستقرّة، تسمح بإعادة التعويم السلس من دون إثارة أي قلق أو بلبلة في الأسواق، ومن دون إفساح مجال للمضاربة أو التلاعب بالأسعار لتسجيل الأرباح من فروقات العملة والتأثير الإقتصادي والنفسي من تقلّب التوقّعات… وأساس النجاح دائماً مرتبط بحرّية الاختيار والتوقيت، للانتقال نحو تعويم العملة وليس الاضطرار إلى التعويم، نظراً لفقدان إمكانية المحافظة على التثبيت، لأنّ الثبات يحتاج أولاً الى الثقة والطمأنينة لقدرة السلطة النقدية على الحفاظ على الاستقرار النقدي ودور العملة الوطنية في تحديد الأسعار وتأمين التبادل التجاري والمحافظة على قدرتها الشرائية… الأمر الذي لا يمكن أن يكون على عاتق المصرف المركزي وحده، كلاعب وحيد، منذ انفجار الأزمة، بل يتطلّب تحمّل المالية العامة مسؤوليتها في الإصلاح ووقف اللجوء الى البنك المركزي، إن لطبع الليرة اللبنانية وإن لطلب استخدام المزيد من احتياطي الدولار، ويستدعي تحمّل السلطة السياسية مسؤوليتها في إقرار «كابيتال كونترول» يبرمج علاقة الناس بالمصارف وحجم السيولة المقبول سحبه والتداول به…

وقد قامت بعض البلدان بالانتقال من نظام سعر الصرف الثابت إلى نظام سعر الصرف المرن بشكل تدريجي وسلس، حيث تبنّت أنواعًا من أنظمة أسعار الصرف المتحرّك بهوامش معتدلة، والأنظمة الأفقية والزاحفة، والأنظمة العائمة والمُدارة بانتظام – قبل السماح للعملة بالتعويم بحرّية. فيما كانت التحوّلات الأخرى فوضوية، أي أنّها تتميز بانخفاض حاد في قيمة العملة.

تشير تجارب البلدان إلى أنّ هناك حاجة إلى 4 مكوّنات بشكل عام من أجل الانتقال الناجح إلى مرونة سعر الصرف:

• سوق عملات أجنبية يتمتّع بالعمق والسيولة.

• سياسة متماسكة تحكم تدخّل البنك المركزي في سوق الصرف الأجنبي (ممارسة شراء أو بيع العملة المحلية للتأثير على سعرها أو سعر صرفها).

• أنظمة هوامش سعرية اسمية معتدلة بديلة مناسبة لتحلّ محل سعر الصرف الثابت.

• أنظمة فعّالة لمراجعة وإدارة تعرّض القطاعين العام والخاص لمخاطر العملة.

يختلف التوقيت والأولوية الممنوحة لكل مجال من هذه المناطق بشكل طبيعي من بلد إلى آخر حسب الظروف الأولية وهيكلية الاقتصاد وتطوير سوق الصرف الأجنبي…

يتطلّب تطبيق نظام سعر الصرف المرن وجود سوق صرف أجنبي يتسمّ بالسيولة الكافية والفعالية، للسماح لسعر الصرف بالاستجابة لقوى السوق، ويحدّ من عدد ومدة فترات التقلّب المفرط والانحرافات عن سعر الصرف المتوازن (المعدّل الذي يتماشى مع الأساسيات الاقتصادية للبلد)».

بشكل عام، يتألّف سوق القطع من سوق المصارف، حيث تتمّ عمليات التداول الأساسية بين ممثلي الوسطاء المعتمدين (عادة المصارف والمؤسسات المالية الأخرى) مع بعضهم البعض ومع سوق التجزئة، حيث يجري المكلّفون المعتمدون المعاملات مع العملاء النهائيين مثل الأسر والشركات.

وتُعرف سيولة السوق بهوامش عرض ضيّقة نسبيًا ؛ انخفاض تكاليف المعاملات، معدل دوران كافٍ للحدّ من تأثير التبادلات الفردية على الأسعار ؛ أنظمة التداول والمقاصة والتسوية التي تسهّل التنفيذ السريع للأوامر؛ ومجموعة واسعة من المشاركين الناشطين في السوق…

خطوات من شأنها أن تساعد أي دولة في تحسين عمق وسيولة سوق الصرف الأجنبي لديها:

• السماح ببعض المرونة في سعر الصرف (على سبيل المثال، ضمن نطاق تقلّبات) لتحفيز نشاط الصرف الأجنبي… والعمل على تعزيز الإحساس بمخاطر سعر الصرف في اتجاهين – مخاطر ارتفاع قيمة العملة أو انخفاضها.

• تقليص دور صانع القرار للبنك المركزي، من خلال تقليص تبادلاته مع المصارف وتدخّلاته، لترك السوق للاعبين الآخرين في السوق. يجب ألّا يتفاوض البنك المركزي مع العملاء غير الماليين.

• زيادة معلومات السوق عن مصادر واستخدامات العملات وعن اتجاهات ميزان المدفوعات، لتمكين المشاركين في السوق من تطوير وجهات نظر موثوقة حول سعر الصرف والسياسة النقدية وأسعار صرف العملات بشكل فعّال.

ومن الضروري أن تكون للسلطات أيضًا أنظمة معلومات ومنصّات التداول التي توفّر عروضًا وعروضًا مقابلة في الوقت الفعلي في سوق ما بين البنوك.

• إلغاء اللوائح التي تعوق نشاط السوق. قد تشمل الخطوات المهمّة إلغاء متطلبات تحويل إيصالات النقد الأجنبي إلى البنك المركزي، والضرائب والرسوم الإضافية على معاملات الصرف الأجنبي، والقيود المفروضة على التجارة بين المصارف؛ توحيد سوق الصرف الأجنبي المقسّم؛ وتخفيف القيود المفروضة على ضوابط رأس المال لإنعاش النشاط في سوق القطع. ومع ذلك ، يجب تخفيف ضوابط رأس المال تدريجياً ، توحيد وتبسيط تشريعات الصرف الأجنبي وتجنّب التغييرات المتكرّرة في القوانين، وذلك لتحسين شفافية السوق وتقليل تكاليف المعاملات.

• تحسين البنية المجهرية للسوق من خلال تقليل تجزئة السوق، وزيادة كفاءة وسطاء السوق وضمان تسوية موثوقة وفعّالة للأنظمة.

علماً أنّ تطوير وتعميق سوق القطع يكون يكون أكثر تعقيدًا عندما يضطر بلد ما إلى التخلّي عن سياسة التثبيت وربط سعر الصرف تحت الضغط، بحيث لا يكون لديه الوقت للاستعداد المنظّم لتعويم العملة.

وبالتالي، فإنّ السلطة التي تنتقل إلى نظام مرن، يجب أن تصوغ سياسات بشأن أهداف وتوقيت ومقدار التدخّلات.

علماً أنّه قد يصعب اكتشاف الاختلالات، ولا يوجد إجماع على منهجية لتقدير توازن سعر الصرف. المؤشرات الأكثر استخدامًا – القيمة الاسمية وأسعار الصرف الفعلية الحقيقية والإنتاجية ومقاييس أخرى للقدرة التنافسية وشروط التبادل التجاري وميزان المدفوعات وفروق أسعار الفائدة وأسعار الصرف في السوق الموازية – وعادة، لا يسمح ذلك لصانعي القرار بتقييم درجة الاختلال بدقّة لمساعدتهم في تحديد توقيت وكمية التدخّل.

وحتى عندما يكتشف صانعو السياسة اختلالًا في سعر الصرف أو تقلّبًا مزعزعًا للاستقرار، فقد لا يصحح تدخّل البنك المركزي المشكلة دائمًا. إنّ الأدلة التجريبية على فعالية التدخّل في التأثير على سعر الصرف مختلطة ، ويبدو تأثير التدخّل على مستوى سعر الصرف قصير الأمد. أظهرت الدراسات التجريبية أيضًا، أنّ التدخّل يميل إلى زيادة تقلّب سعر الصرف بدلاً من تقليله. وبالتالي، فإنّ تقّلبات أسعار الصرف قصيرة الأجل قد لا تبرّر التدخّل.

عند الانتقال إلى تحرير سعر الصرف، ثمة عوامل مخاطر ينبغي أخذها بالحسبان بالنسبة الى قيمة العملة الوطنية وفعالية السياسة النقدية… بذلك يشكّل سعر الصرف مرآة لها، مما يسمح بالإستنتاج أنّ لبنان سار بسعر الصرف عكس سير مخاطر البلاد والمؤشرات الاقتصادية ووضع الأصول الخارجية…

محدّدات مخاطر الدولة:

وفقًا للأدبيات الإقتصادية، يرتبط مستوى الفارق بشكل إيجابي كبير بمؤشر الدين/الناتج القومي الإجمالي وخدمة الدين، كما يرتبط بشكل سلبي بنسبة الاحتياطيات الأجنبية/ الناتج القومي الإجمالي والميل إلى الاستثمار. كما يُعتبر نمو الناتج المحلي الإجمالي ونمو الصادرات من المحدّدات الهامة، كذلك الملاءة المالية وحجم الدين العام. كذلك يتبيّن أنّ أنظمة أسعار الصرف المختلفة لها تأثيرات مختلفة على فرق الأسعار واحتمال إصدار سندات الخزينة في أوقات أزمة الديون، وتستمر سياسة العملة في التأثير على فرق الأسعار، كما هناك صلة قوية بين أزمات العملة والتخلّف عن السداد في البلدان النامية.

عندما تقوم دولة ما بالدولرة، يتمّ تحويل ديونها تلقائيًا إلى دولارات. قد تزداد مخاطر البلد التي كانت قائمة على الديون بالدولار، حيث أصبحت الآن هي الخطر على ديون البلد ككل. ثانياً، الدولرة، وبدرجة أقل، أنظمة مجالس العملة، ترفض إمكانية تمويل نفسها من خلال التضخم.

الخلاصة، بعد مرور حوالى ثلاث سنوات على سقوط نظام ربط سعر الصرف، من المستحيل الاستمرار بسعر صرف مصطنع، معتمداً على تدخّل متواصل لمصرف لبنان وتعدّد أسعار الصرف التي زادتها صيرفة بدلاً من توحيدها… تعويم سعر الصرف مع الدولرة المرتفعة التي تخطّت اليوم 80% في لبنان خطر، ولكن مؤقتاً يمثّل إجراء اضطرارياً لمعرفة حقيقة سعر صرف السوق… فهل يتمّ تأكيد تعويم سعر صرف الليرة نصاً وتطبيقاً أياً يكن مسار الدولار وتداعياته على الاقتصاد؟ أم نعود للتمييز بين النص والواقع؟ أم يُعترَف بحقيقة الدولرة رسمياً للحدّ من ازدواجية التعامل بعملتين

د. سهام رزق الله

تبادل الرسائل بين صندوق النقد والدولة

صدر في أواخر الشهر الماضي، (حزيران 2023)، التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي، فكانت مناسبة لتبادل الرسائل المباشرة وغير المباشرة بين الدولة اللبنانية والمنظمة المالية الدولية.

نذكّر أنّ هذا التقرير يُعدّ إجراءً روتينياً للصندوق في البلدان المتواجد فيها، لكن الواقع المرّ أنّ كل التقارير منذ نحو ثلاث سنوات ونصف السنة حتى تاريخه تتلاحق وتتوالى، من دون أي تغيير، لا بل تسوء يوماً بعد يوم.

في هذا التقرير الأخير، شدّد الصندوق على أن هذه الأزمة هي الأكبر دولياً ومعتمدة، ورغم أنه ليس من واجبه أن يكون محقّقاً ليُحدّد المسؤولية، لكن عليه أن يوضح الحقائق والأرقام بكل شفافيّة وموضوعية.

وشدّد التقرير على أن الليرة اللبنانية خسرت 98 % من قيمتها، وأن التضخُّم في لبنان وصل إلى ثلاثة أرقام، أي ما يُسمّى بالإنكليزية Triple digit inflation، أي التضخّم المفرط، وهو الأكبر من بين بلدان العالم، فضلاً عن أن كلفة العيش تضاعفت بنحو 20 مرّة على الأقل، وتدهورت نسبة العيش.

كما شدّد أيضاً على أن الخسائر في الإقتصاد وفي الناتج المحلي، تراوحت بين 50 % و60 % من حجمهما، وستحتاج البلاد إلى سنوات طويلة، لا بل إلى عقود، لإعادة تكوّنهما من جديد، والوصول إلى توازن اقتصادي ومالي ونقدي مقبول ومُستدام.

وذكر أيضاً أن المصرف المركزي خسر أيضاً ثلثي عملاته الأجنبية التي كانت في حوزته، واستُكمل النزف من دون أي إصلاح أو خطة أو استراتيجية، منذ بدء الإنهيار، أي منذ نحو ثلاث سنوات ونصف السنة.

وشَدّد الصندوق اللهجة في هذا التقرير، وحمّل المسؤولية المباشرة وغير المباشرة للحكام والمسؤولين السياسيين الذين لا يزالون يطمرون رؤوسهم بالتراب، من دون أي نيّة واضحة للإصلاح، أو للتغيير، ومتابعة الوضع الراهن، من دون أن يرف لهم جفن. فاستعمل للمرّة الأولى، لهجة عنيفة، لكن برأينا (كانت لطيفة) بالنسبة إلى حجم الأزمة، وعدم تحمُّل المسؤولية، من دون أي قلق.

الرسالة المباشرة التي تقدّمها الدولة والمسؤولون في لبنان واضحة جداً، وهي أنهم ليسوا مهتمّين بالصندوق، ولا بتقاريره، ولا حتى بأمواله وبتمويله الضعيف، بالنسبة إليهم، وليسوا لاهثين وراء أي تفاوض أو اتفاق أو مشروع مع الصندوق، لأنهم يُدركون تماماً بأن أي اتفاق مع صندوق النقد يعني التدقيق حيال كل الوزارات، وكل مداخيل الدولة، وملاحقة المشاريع والتنفيذ، وإعادة الهيكلة، وإقفال كل مزاريب الهدر والفساد.

فلا مصلحة للدولة اللبنانية برأيهم وأفكارهم السوداء وأجنداتهم الملغومة، لبضع ثلاثة أو أربعة مليارات دولار، التي برأيهم لن تغيّر شيئاً في الواقع، لكن الذي يجهلونه هو أن إعادة لبنان على السكة الصحيحة سيجذّب أضعافاً من هذه المبالغ والإستثمارات، على المدى القصير، المتوسط والبعيد. لكن تعوّدنا عليهم، إذ همّهم الأول والوحيد هو الإستفادة الشخصية والسريعة والسهلة، وليس البناء والإنماء والنمو.

رسالة السلطات اللبنانية واضحة، لمتابعة الواقع الأليم والتدهور المزمن، لأن ضمن الخسائر الكبيرة، هناك استفادات وأرباح ضخمة. وباستبعاد المستثمرين وروّاد الأعمال يجذبون الفاسدين والمبيّضين والمروّجين.

أما رسالة الصندوق الواضحة أيضاً فهي أنه لا يُمكن تمويل، أو استثمار سنت واحد، قبل تنفيذ الإصلاحات بجدّية، وملاحقة دقيقة لكل المطالب التي بقيت حبراً على ورق منذ عقود.

في المحصّلة، الواضح أن الأهداف والرسائل المباشرة وغير المباشرة بين صندوق النقد الدولي والدولة اللبنانية جليّة جداً، وتقودنا إلى النتيجة عينها: لا أحد يريد مشروع الصندوق، ولا تمويله، ويتبارون أمام الشاشات بشعارات وهميّة، تدعم الصندوق، لكن وراء الستار كل المسؤولين يعملون ليلاً ونهاراً، عكس المطلوب، ولا يريدون حتى ظل مشروع الصندوق، لأن أي مشروع مالي دولي، يعني التدقيق، والملاحقة، وإعادة الهيكلة، ووقف الهدر والفساد، وكل العبارات التي لا توجد في قاموسنا السياسي الداخلي.

 

د. فؤاد زمكحل

مَن تلاعبَ بالدولار _ ل ل بعد ظهر السبت؟ ولماذا؟

منذ ما بعد ظهر يوم السبت الفائت، يَنشغل اللبنانيون في تفسير ما حصل في سوق الصرف. أكثر من تفسير أُعطِي لظاهرة ارتفاع الدولار المفاجئ، ومن ثم انخفاضه، بعد بضع ساعات. هل ما جرى رسالة أم جَسّ نبض؟ أم هو مجرد صدفة يصعب تصديق توقيتها؟

كانت التطبيقات الالكترونية التي تحدّد سعر الصرف في السوق الموازية شِبه عاطلة عن العمل في الفترة الأخيرة، وقد تراجعت نسَب الدخول إليها لمعاينة سعر الليرة مقابل العملة الخضراء الى مستويات غير مسبوقة. فجأة، تسرّبت الى مسامع الناس «خَبرية» تقول انّ سعر صرف الدولار شِبه الثابت منذ بضعة اشهر، تحرّك صعوداً وبشكل سريع، بحيث اقترب من عتبة الـ100 الف ليرة. هذا الخبر الصاعق أعاد الحيوية والنشاط الى التطبيقات التي تُسَعّر الدولار، فشهدت عمليات دخول كثيف، افتَقدَتها منذ فترة طويلة.

فماذا جرى بعد ظهر السبت الفائت؟ وهل من تفسيرات منطقية لارتفاع الدولار ومن ثم انخفاضه في بضعة ساعات؟

قبل تحليل المعطيات، وصولاً الى إطلاق تقديرات في شأن ما جرى، لا بد من تسجيل ملاحظات لعلّها تساعد في حُسن التقدير، ومن أبرزها:

اولاً – تحرَّكَ الدولار صعوداً ومن ثم هبوطاً في عطلة الاسبوع، أي في غياب عمل منصة صيرفة التي كانت تسدّ حاجات السوق، من خلال رفع سقفها الى مستويات شبه مفتوحة.

ثانياً – انها المرة الاولى، منذ بدأ الدولار الانخفاض ومن ثم شبه الاستقرار، بعد قرار مصرف لبنان التدخّل بقوة في السوق في آذار 2023، التي يشهد فيها سوق الصرف هذا النوع من الاضطراب.

ثالثاً – ما جرى تَمّ في وقت سريع، ولم يدم اكثر من ساعتين أو ثلاث على الاكثر.

رابعاً – ان الدولار عاد الى قواعده بعد الارتفاع المفاجئ، لكنه لم يعد الى السعر الذي انطلق منه، أي الى 91.500، بل استقرّ على 93.200، ومن ثم ارتفع قليلاً في اليوم التالي الى 94 أو 95 الف ليرة. وهو السعر الذي كان سائداً قبل شهرين تقريباً.

إنطلاقاً من هذه الملاحظات، يمكن استبعاد نظرية ان يكون ارتفاع الدولار مرتبطاً بالمناخ السلبي الذي أشاعَته المعلومات في شأن قرار نواب حاكم مصرف لبنان تقديم استقالاتهم اليوم الاثنين.

في المقابل، اعتبر البعض انها رسالة من رياض سلامة، أراد من خلالها ان يقول انّ غيابه عن المشهد النقدي بعد 31 تموز سيؤدي الى انهيار الليرة. وبالتالي، لا بد من ابتداع صيغة ما لإبقائه في موقعه اذا ارادت الدولة ان يبقى سعر الصرف مستقرا، كما هو الحال منذ بضعة أشهر. لكنّ هذه الفرضية تبدو ضعيفة بعض الشيء، على اعتبار ان استقرار الليرة الموقّت مُرتبط بقرار تدخّل مصرف لبنان في السوق. وبالتالي، أي شخص او فريق يبقي على مبدأ دعم الليرة، يستطيع ان يحافظ على الاستقرار الموقّت للعملة الوطنية. وبالتالي، الامر لا يرتبط بوجود سلامة او غيابه، بل بقرار الاستمرار في استخدام احتياطي العملات في عملية الدعم. لكن ضعف هذه النظرية لا يعني استبعادها بالكامل، لكنّ نسب ترجيحها ضئيلة.

تبقى نظرية المضاربة والمضاربين، وهي تعني ان المستفيدين من استمرار عمل منصة صيرفة، والخائفين من ان ينفّذ نواب الحاكم تهديداتهم بِوَقفها، أرادوا ان يبعثوا رسالة مفادها ان الدولار سيحلّق فور إلغاء عمل المنصة. وهم بالتالي، يضغطون منذ الآن، لِدَفع من سيكون في يدهم القرار بعد 31 تموز، الى التراجع عن فكرة وَقف عمل المنصة. كذلك، فإنّ المضاربين أرادوا ربما، أن يَجسّوا نبض السوق لاستكشاف قدراتهم على التلاعب به، في المرحلة المقبلة.

يبقى السؤال الذي يطرحه الناس دائماً، كيف تتم هذه العمليات، وهل انّ الصرافين يتفقون فيما بينهم على تنفيذ مثل هذه الخضات؟

في الواقع، لا يحتاج الامر الى اتفاقات واسعة لتنفيذ مثل هذه العمليات، بل يكفي ان تكون هناك مجموعة من المضاربين لديها قدرات مالية جيدة، وان تختار التوقيت المناسب لِضَرب ضربتها. وهذا ما حصل بعد ظهر السبت، حين كانت الاسواق هادئة، ومصرف لبنان خارج السمع، هناك من دخل الى السوق وطلبَ شراء كميات كبيرة من الدولار، مع عِلمه المُسبَق بأن الدولارات غير متوفرة بكثرة، وعرضَ الشراء بسعرٍ أعلى من السعر المتداول. وهكذا بدأت الاتصالات فيما بين البائعين المُحتملين، وراحَ «الزبون» الذي يطلب الشراء يرفع السعر بذريعة تشجيع المُترددين على البيع.

وهكذا ارتفع السعر في السوق، وعلى التطبيقات الالكترونية. وانتهى الامر بِوَقف الطلب فجأة، بما أعاد الدولار الى الهبوط، مع تسجيل عامل الحذر الذي أبقى سعر العملة الخضراء على 93.300 وليس على 91.500. وبهذه الطريقة أصاب المضاربون عصفورين بحجر واحد: وَجّهوا رسالة الى من يعنيهم الامر بضرورة الابقاء على صيرفة، وجَسّوا نبض السوق لاستطلاع قدراته على التماهي مع العمليات التي قد تتمّ في المستقبل. ودفعوا ثمن العملية حفنة من الدولارات، سَجّلوها ضمن الخسائر المؤقتة على دفتر العمليات الذي غالباً ما يُنهي العام على قدرٍ وفير من الارباح.

انطوان فرح

ألأثر الابرز لتعديل التعميم 158

أقرّ المجلس المركزي في مصرف لبنان تعديلات على تعميمي 151 و158 خلال الأسبوع المنصرم، والذي كان من أولوياته إعادة النظر بالتعميمين وتجديدهما، اللذين يتطرّقان إلى السحوبات والتغيُّرات من الدولار اللبناني إلى الليرة اللبنانية، والفريش.

نذكر أنّ شلالات التعاميم بدأت تنهمر بغزارة منذ بدء أكبر أزمة اقتصادية، إجتماعية، مالية ونقدية في تاريخ العالم، فبعدما جُمّدت الأموال، في المصارف، ومُنعت السحوبات بالدولار الأميركي، وُلد التعميم الأول 151 الذي كان يسمح بتحويلات بعض الدولارات المحدودة إلى الليرة اللبنانية، بهيركات بدأ يتراوح عند الـ 50 % ووصل اليوم إلى الـ 85 %. ففي هذا الإجتماع الأخير للمجلس المركزي تم تجديد هذا التعميم للمرة الرابعة توالياً، وتابع تحويل 1600 دولار شهرياً من الدولارات اللبنانية المجمّدة إلى الليرة اللبنانية بحسب السعر الرسمي المعتمد 15 ألفاً من دون تغييرات ملحوظة.

أما التغيير الكبير فقد حصل في تعميم 158، الذي كان قد صدر في حزيران 2021، وكان يسمح لمن ينتمي إلى هذا التعميم (مَن وقّع الإتفاقات الداخلية مع المصارف والبنك المركزي)، بسحب 400 دولار فريش شهرياً، و400 دولار تحوّل إلى الليرة اللبنانية بنفس الهيركات المُبطّن الجاري.

أما النسخة الجديدة للتعميم 158 التي صدرت أخيراً، فقد ركزت على سحب الـ 400 دولار الفريش شهرياً أي 4800 دولار سنوياً، لكن أوقفت التحويلات إلى الليرة اللبنانية، بحسب سعر الصرف 15 ألفاً. أما لِمَن ينضَمّ الى التعميم مجدداً فيحقّ له سحب 300 دولار فريش، أي 3600 دولار في السنة.

للمرة الأولى منذ الإنهيار المالي والنقدي، هناك تعميم يسمح بسحب الدولارات اللبنانية المجمّدة إلى دولار فريش، من دون أي هيركات.

لا شك في أن الهدف من هذا التغيير هو من جهة تخفيف النقمة الشعبية، ومن جهة أخرى، إنهاء كل حسابات المودعين الصغار والمتوسطين (لا سيما مَن كان يملك وديعة بـ 100 و200 و300 ألف دولار)، والهدف الثالث هو تخفيف الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، ودولرة الإقتصاد أكثر فأكثر، وجَرّ المواطنين نحو الإنضمام إلى تعميم 158، وتخفيف استعمال الليرة اللبنانية، واعتماد الدولار كعملة أساسية للإقتصاد الوطني.

حتى لو أن هناك بعض الإيجابيات في تعديل التعميم 158، فليس هناك أي استراتيجية واضحة على المدى المتوسط والبعيد. أما الإستراتيجية المستعملة فهي الترقيع وكسب الوقت، وتأجيل المشاكل أو الإنفجار الإجتماعي من دون أي خطة لإعادة بناء الإقتصاد والنمو المستدام. نذكر أنّ اقتصادنا الذي كان يدور حول الـ 50 – 55 مليار دولار، أصبح اليوم لا يتعدى الـ 20 – 22 مليار دولار.

إن الإصلاح وإعادة الدورة الإقتصادية والنمو وإعادة بناء ما هُدّم في السنوات الثلاث الأخيرة، لا يستطيع أن يحصل من دون إعادة الثقة، التي تبدأ باحترام المواعيد الدستورية، وملء كل الفراغات الشاغرة في كل مؤسسات الدولة المهدّمة، بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية، إلى تعيين رئيس حكومة وحكومة فعالة تُدير السلطة التنفيذية، ومجلس نواب بنّاء يُشرّع ويدرس ويقترح قوانين بنّاءة.

في المحصّلة، شئنا أو أبينا، أصبح اقتصادنا المحلي مبنياً فقط على منصة صيرفة، التي أصبحت الأولوية فيها للأفراد والشركات، والتجار، والمصارف، وأيضاً لحيتان الصيرفة. فالهَم الوحيد هو اليوم بيع بعض الدولارات الفريش إلى الليرة اللبنانية، في السوق السوداء ومن ثم بيع هذه الأوراق النقدية بالليرة اللبنانية، للمصارف والمصرف المركزي، بحسب سعر صيرفة، وكسب بعض الأرباح، التي تُراوح بين 8 و10 %. لا يُمكن بناء دورة إقتصادية وتنمية بخطط وهمية وغير مستدامة، فسياسة الترقيع والإستهزاء والسخرية من المواطنين تتوالى بالتوازي مع الحفر في نفس النفق الأسود العميق.

د. فؤاد زمكحل

للخروج الفعلـيّ من المأزق النقدي: To Do List للبنان…

في الوقت المستقطع قبل خروج لبنان من «ثلاجة الانتظار»، حيث لا مقبول انهياره ولا مسموح شفاؤه، لا بدّ من معرفة To Do List وتحضيرات الرأي العام للحلول الشاملة والقرار الكبير الذي لا بدّ أن يكون مفتاحه من باب النقد باتجاه سائر الأبواب الإصلاحية، بعد معرفة أرقامها الفعلية (المالية العامة والجهاز المصرفي…). كيف يمكن مقاربة سلسلة الخطوات التي تقود نحو الإنقاذ الفعلي والطويل الأجل والمستقر، للمأزق النقدي الذي يعيشه لبنان تحت وطأة تعدّد أوجه الأزمة؟ من الضروري الوعي الى أنّ الإجراءات الترقيعية التي يتمسّك بها الناس ويخشون فقدانها مثل «صيرفة»، ليست حلولاً جذرية ولا إصلاحية… الحلول الفعلية تكون مكلفة، والاختيار ينحصر بالسعي للأقل كلفة والأكثر فعالية واستدامة، بشرط تنفيذ سلّة إصلاحية متكاملة وليس إجراءات متقطّعة منفردة…

«رعب» الناس من تعثّر منصّة «صيرفة» وتحرير سعر الصرف كلياً يثبتان انعدام الثقة بتثبيت جديد مصطنع لقيمة الليرة اللبنانية وواقع هيستيريا الدولرة Hysterisis effect و«إدمان اللبنانيين على الدولار» Addiction to Dollar، وهذه حالة معروفة في البلدان التي تثبت فيها الدولرة الجزئية لسنوات، حتى في ظلّ تثبيت سعر الصرف، وتتفاقم بالطبع من انهيار التثبيت وفلتان سوق القطع. وهذا ما تراه الأدبيات الاقتصادية النقدية وتؤكّده تقارير البنك الدولي وصندوق النقد… ثمة سلسلة إجراءات بغية تفادي فوضى فلتان سوق القطع في ظلّ الدولرة التي أصبحت شبه شاملة كأمر واقع وشبه رسمية، كما حصل في تيمور الشرقية وكوسوفو قبل عام 2000 وزيمبابوي قبل عام 2016، بما يحمل من مخاطر تفتيت الدولة والفوضى الشاملة غير القابلة للانضباط، في ظلّ عجز تمويل المؤسسات العامة التي تحسب موازناتها بالليرة وتسدّد نفقاتها بالدولار.

لا بدّ من الاعتراف الرسمي إما بالدولرة الشاملة وفق آلية علمية قابلة للتطبيق كما حصل في الأكوادور ومونتينيغرو، أو إنشاء مجلس نقد ناجح كما حصل في بلغاريا. ووقف الخوف من عوارض البلدان التي لم تلتزم التطبيق الصحيح لهذه الخيارات ولا الاصلاحات المفروضة معها، فأفضل الأدوية، لا يعطي نتيجة إذا لم يلتزم المريض بالجرعات المطلوبة والأغذية المفيدة المواكبة. 

نعرض الآلية المفصّلة التي يقدّمها ريكاردو هوسمان (جامعة هارفرد) بغية الانتقال السليم إلى ذلك:

1- تطوير إجماع وطني حول تشخيص المأزق النقدي: السعي لأوسع نقاش عام ممكن حول الخيارات الممكنة للسياسة النقدية وسعر الصرف. يجب أن يتفق جميع أصحاب المصلحة: الحكومة ومجتمع الأعمال والقطاع المالي والمنظمات العمالية والمجتمع المدني.

2- إستكشاف إمكانية عقد معاهدة مع صندوق النقد الدولي لدعم النظام النقدي الجديد القائم على الربط الصارم Hard peg (مجلس نقد أو دولرة شاملة رسمية).

3- الإعلان عن البرنامج التدريجي للانتقال الى الربط الصارم مسبوق باعتماد سياسات تضمن نجاحه.

4- إقرار برنامج إصلاح سياسات ضمان الملاءة والسيولة للقطاع المالي وقدرة سوق العمل على مواجهة الصدمات الحقيقية، من دون اللجوء إلى تخفيض قيمة العملة أو التضخم.

5- وضع برنامج زمني، سنتان أو ثلاث سنوات، قبل بلوغ الدولرة الشاملة (وتفادياً لفرضها الفوضوي من السوق).

6- التأكّد أنّ البنك المركزي لديه دولارات كافية لتحويل القاعدة النقدية، وليس الكتلة م3 إلى الدولار Monetary Base القاعدة النقدية = الأوراق النقدية والعملات المعدنية التي يحتفظ بها الجمهور + احتياطيات المصارف كودائع نقدية تحتفظ بها في حساباتها في المصرف المركزي (علماً أنّ معدل السيولة لا يتخطّى عادة 10% من الودائع، مما يحتّم إقرار قانون كابيتال كونترول لتنظيم سحب السيولة)

7- تنفيذ إصلاح النظام المصرفي، وضمان الملاءة والسيولة للنظام.

8- البحث عن بديل لمقرض الملاذ الأخير، وهو نوع من التمويل، لتجنّب تحويل المخاطر إلى دول أخرى.

9- إعتماد التغييرات اللازمة لإلغاء قواعد المفاضلة في عقود العمل، أي تقليل القيود المفروضة على خلق فرص العمل وزيادة تنقّل العمالة.

10- تحديث إجراءات الإفلاس لجعل «حل التعثّر» أقل تكلفة.

كيف يعمل النظام النقدي المدولر كلياً؟ تستفيد الدولة المدولرة من حصة من المعروض من العملة الأجنبية التي حلّت محل عملتها الوطنية، كما لو كانت منطقة إضافية ضمن نطاق البلد المصدّر لهذه العملة الأجنبية، أي أميركا للدولار الأميركي.

لا يحتاج البلد المعتمد على الدولار إلى وجود فائض في الحساب الجاري لتجميع الدولارات؛ يمكن أن يؤدي تدفق الاستثمار الأجنبي إلى تعويض عجز الحساب الجاري.

ويميل معدّل الفائدة إلى التقارب مع مستوى أسعار الفائدة الأميركية، بالإضافة إلى علاوة أو خصم، اعتمادًا على الاختلاف في المخاطر السياسية والاحتياطيات الضرورية للمصارف وغيرها. تميل المضاربة على سعر الصرف إلى الاختفاء، لأنّه لم يعد هناك عملة وطنية لتخفيض قيمتها. الدولرة عن طريق تجاوز المصرف المركزي تتضمن الدولرة الكاملة والرسمية التحويل الكامل للقاعدة النقدية (وليس كل الكتلة النقدية م3) من العملة الوطنية إلى الدولار الأميركي. ومع ذلك، فإنّ البنوك المركزية التي لديها احتياطيات كافية بالدولار لتحويل إجمالي قاعدتها النقدية إلى دولارات على الفور، قليلة. مع العلم أنّ صافي احتياطيات القاعدة النقدية بالدولار = أصول بالعملات الأجنبية – خصوم بالعملات الأجنبية. ومع ذلك، يمكن أن تكون الدولرة تدريجية، وتتطور مع توفر احتياطيات العملات الأجنبية.

وهذا يعني أنّ الدولرة يمكن أن تنقسم إلى جزءين: جزء يشمل البنك المركزي وجزء آخر يشمل باقي النظام المالي. في ما يلي مراحل دولرة الجهاز المصرفي غير البنك المركزي:

1- إزالة الرقابة على سوق القطع. من الأفضل إلغاء ضوابط أسعار الصرف تمامًا، ولكن إذا لم يكن ذلك ممكنًا، فسيكون المواطنون على الأقل قادرين على استخدام الدولار بحرّية دون الخضوع للرقابة.

2- إعلان وقف المزيد من طباعة العملة الوطنية، إما بإنشاء مجلس نقد وربما عملة جديدة معه مغطاة مئة بالمئة بما تبقّى من احتياطي الدولار الأميركي، أو الاعتراف بالدولرة الشاملة رسمياً عملة وطنية قانونية موازية للعملة الوطنية المبدئية للدولة، الدولرة مع جميع امتيازات العملة الوطنية. سيكون للوكلاء الاقتصاديين الحرّية في إجراء مشترياتهم ودفع رواتبهم والحصول على قروض أو ودائع بالدولار أو العملة الوطنية. إذا رغبت الحكومة، يمكنها السماح للمواطنين بدفع الضرائب بالدولار بسعر الصرف الحالي بالعملة الوطنية. بمجرد تنفيذ هذه الخطوات القانونية، تهتم المبادرات الفردية بالباقي. الودائع الجديدة بالدولار التي تأتي للمصارف تضمن احتياطي الدولار وتشكّل قاعدة للاعتمادات الدولارية. وبالتالي، تزداد الدولرة في النظام المالي، حتى لو استمرت العملة الوطنية في التداول، وحتى إذا استمرت الحكومة في استخدام العملة الوطنية حصريًا. دولرة المصرف المركزي حتى لو كان من الممكن دولرة النظام المالي من خلال تجاوز البنك المركزي، لجعل الدولرة كاملة وآمنة، من الضروري أيضًا دولرة البنك المركزي. طالما بقي مبلغ من أموال البنك المركزي متداولًا، فإنّ الحكومة دائمًا لديها الوسائل لاستعادة العملة الوطنية التي أصدرها البنك المركزي على الفور.

الخطوات اللازمة لدولرة البنك المركزي هي كما يلي، مع الأخذ في الاعتبار أنّ بعض الاختلافات ضرورية حسب البلد، وأنّ الخطوات من 4 إلى 7 متزامنة.

1- الأساس هو تحويل القاعدة النقدية الى الدولار وليس كل الكتلة النقدية.

2- يمكن تحقيق الدولرة الشاملة والرسمية بسهولة أكبر عندما تساوي أصول البنك المركزي بالعملات الأجنبية، أو تتجاوز بالفعل حصّة القاعدة النقدية التي سيتمّ تحويلها إلى دولار، كما مذكور في الخطوة 1.

إذا كانت أصول المصرف المركزي بالعملات الأجنبية أقل من القاعدة النقدية، يجب أن يكون إجمالي صافي الأصول، الأجنبية والمحلية، مساويًا أو أكبر من حصة القاعدة النقدية المراد تحويلها إلى الدولار. في هذه الحالة، يمكن للبنك المركزي أن يبيع أصوله المحلية مقابل الدولار، إلى جانب أصوله الأجنبية. ومن المعلوم أنّ معظم المصارف المركزية التي تبلغ أزمتها النقدية درجة التخلّي عن عملتها الوطنية، تكون غير قادرة على بيع ديونها بسهولة إلى الدولة أو المؤسسات المملوكة منها، خصوصاً أنّ العديد من حكومات هذه البلدان تكون سبق وشجّعت المصارف المركزية على الاكتتاب في سندات الخزينة، وخصوصاً سندات الخزينة غير الجذابة والمطلوبة في السوق، كما حصل في لبنان بعد أن تراجع الإقبال على شراء سنداتها، حيث عمد بين «العصا والجزرة» إلى دفع الجهاز المصرفي على الاكتتاب بها.

في حالة صعوبة بيع الأصول المحلية للمصرف المركزي على الفور، يمكن تحقيق الدولرة على مرحلتين. تتمثل المرحلة الأولى في التأمين الفوري على الحكومة، عن طريق إصدار سندات خزينة بالدولار، أو في حال كان وضع البلد لا يسمح، لأنّه سبق وأعلن وقف سداد ديونه بالدولار مسبقًا، يمكن أن يلجأ للاقتراض بالدولار مباشرة من صندوق النقد الدولي أو الحكومة الأميركية بعد التفاوض الرسمي لمعالجة أزمة نظام الصرف فيه. تتكون المرحلة الثانية من دولرة القاعدة النقدية عبر مراحل عدة، حيث يتمّ تجميع احتياطيات النقد الأجنبي. ليست هناك حاجة للانتظار حتى تتساوى أصول المصرف المركزي بالعملات الأجنبية مع حصة القاعدة النقدية التي سيتمّ تحويلها إلى الدولار. تشرح الخطوة 6 هذه الملاحظة بمزيد من التفصيل.

3- في حالة وجود رقابة على سعر الصرف، يجب إلغاؤها والسماح بتحرير سعر صرف العملة لفترة معلنة مسبقًا لا تتجاوز 30 يومًا. للوصول الى سعر الصرف يعكس واقع السوق.

4- إعلان سعر صرف ثابت أمام الدولار، والإعلان عنه فوراً. يجب أن يكون سعر الصرف هذا أقرب ما يمكن من سعر الصرف الملاحظ خلال فترة التعويم المشار إليها في المرحلة 3، وعلى وجه الخصوص، أقرب ما يمكن من سعر الصرف المحقق في نهاية هذه الفترة.

5- الإعلان فورًا عن أنّ جميع الأصول والخصوم بالعملة الوطنية (الودائع المصرفية والقروض المصرفية وما إلى ذلك) تصبح أصولًا والتزامات بالدولار الأميركي بسعر الصرف الجديد. الإعلان عن فترة انتقالية لا تتجاوز 90 يومًا لاستبدال عروض الأسعار بالدولار الأميركي.

6- تجميد القاعدة النقدية الوطنية واستبدالها بالدولار وفق توفر الاحتياطيات بالدولار. إذا كانت احتياطيات البنك المركزي كافية، فإنّ دولرة القاعدة النقدية ستكون فورية، وإلاّ فإنّ الدولرة ستتمّ على مراحل.

7- استخدام الأوراق النقدية المحلية: بعد إتاحة الوقت الكافي للاعتماد اللازم، يجب اتخاذ الترتيبات لاستبدال الأوراق النقدية بالعملة الوطنية بأوراق نقدية من الدولارات.

8- إنهاء الأنشطة المالية للمصرف المركزي، وإعادة تكليف باقي مهامه حسب احتياجاته. لم يعد البنك المركزي مؤسسة مالية، إذا استمرت بعض الأنشطة، فمن المحتمل أن تكون إحصائية أو تنظيمية بحتة.

يبقى القول، إنّ الإقرار بالربط الصارم لم يكن يومًا خيارًا مرغوبًا لأي بلد، بل يأتي على طريقة «مكره أخاك لا بطل» كأمر واقع يفرض نفسه، بعد افتقاد الثقة والشفافية والاصلاحات الحقيقية وتعثّر الخيارات. في حال ثمة خيارات أخرى لا تزال متاحة، لا بدّ من فتح النقاش العلمي حولها. إما الفوضى وإما الحوار العلمي للنظام النقدي الجديد.

د. سهام رزق الله

التقرير الرسمي الأول بعـد الانهيار: إنسوا الودائع

من حيث المبدأ، لم يتضمّن تقرير صندوق النقد الدولي حول لبنان مفاجآت غير متوقعة، بل كان بمثابة توصيف وتوثيق لأرقام وحقائق معروفة، يتابعها اللبنانيون منذ اكثر من ثلاث سنوات ونصف. ومع ذلك، هناك ملاحظات في التقرير، لا بد من تسليط الضوء عليها، بالنظر الى حساسيتها وأهميتها.

تكمن أهمية التقرير الذي أصدره صندوق النقد الدولي حول لبنان، بناء على مناقشات المادة الرابعة، والذي يقع في 61 صفحة، تتضمّن رسومات بيانية وجداول، في انه التقرير الدولي الرسمي الاول الذي يصدر بعد أزمة الانهيار في نهاية العام 2019. ومن البديهي انّ مضمونه سوف يُعتمد كمُستند موثوق تبني عليه الدول، لاتخاذ القرارات حيال الوضع اللبناني، وكذلك يفعل المستثمرون والدائنون…

الى ذلك، تَرِد في التقرير الموسّع، مواقف وحقائق ملفتة، من أهمها:

أولاً – يعترف التقرير بتوقّف الانكماش في الاقتصاد في العام 2022، لكنه لا يوافق مصرف لبنان على تقديراته بوجود نمو قدره 2 %.

ثانياً – يشير التقرير الى الخسائر التي تكبدها لبنان بعد الأزمة، بسبب سوء الادارة، والتي أدّت الى فقدان مصرف لبنان حوالى ثلثي احتياطه من العملات، التي تراجعت من 31 مليار دولار في العام 2019، الى 9.5 مليارات دولار حالياً.

ثالثاً – في معرض توصيفه للاسباب التي أوصلت الاقتصاد الى ما هو عليه اليوم، يذكر التقرير قرار الحكومة اللبنانية التوقّف عن دفع سندات اليوروبوندز في آذار 2020، بما يؤكد مسؤولية الحكومة آنذاك في دفع الأزمة الى تعقيدات كان يمكن التخفيف منها، فيما لو لم يتخذ قرار «الافلاس».

رابعاً – يشير التقرير الى ان الاموال التي كانت متوفرة في العام 2017 في القطاع المالي (مصرف لبنان والمصارف) كانت تكفي لضمان الودائع، بما يعني انّ الفجوة المالية التي وصلت الى 73 مليار دولار، حصلت في قسمٍ كبير منها بعد الانهيار، وبسبب سوء ادارة الأزمة.

خامساً – يتضمّن التقرير اشارة الى الخسائر التي تكبدها القطاع المالي جرّاء اعادة القروض الدولارية بالعملة اللبنانية او بسعر صرفٍ غير واقعي. ويورِد انّ حجم الودائع تراجع حوالى 30 مليار دولار منذ بداية الأزمة، بينها حوالى 27 مليار دولار، عبارة عن قروض جرى تسديدها بالليرة او باللولار. وهذا يؤكد ان ما حصل لم يكن بمثابة تذويب للودائع، بقدر ما كان عملية تكبيد القطاع المالي خسائر كبيرة، وكشفه أكثر على مصرف لبنان، اذ زادت مطلوبات المصارف على المركزي بسبب عمليات تسديد القروض بهذه الطريقة. ويصف التقرير ما جرى بأنه عملية دعم للمقترضين، ويقدّر حجم هذا «الدعم» بحوالى 15 مليار دولار، وهذا الرقم يعكس حجم خسائر المصارف نتيجة هذا الاجراء.

سادساً – يتحدث التقرير عن سياسة الدعم، والتي أدّت الى خسارة مصرف لبنان حوالى ثلثي احتياطه من العملات.

سابعاً – لا ينتقد التقرير عمل منصة صيرفة، ولو انه لا يوافق على استمرار سياسة دعم الليرة، ويدعو الى تطوير هذه المنصة لاستخدامها في عملية توحيد سعر الصرف، وتحويلها الى أداة مالية للتداول.

في المقابل، يبدو واضحاً انّ سياسة صندوق النقد لم تتغير بعد حيال النظرة الى اعادة الودائع، ولا يزال هناك إصرار على عدم المس بإيرادات القطاع العام للمساهمة في عملية التعافي. ويظهر بوضوح هذا النهج من خلال اختيار العبارات في توصيف هذا الامر. وعلى سبيل المثال، يَرِد في المقطع المخصّص لسيناريو التعافي، والذي يرسم خارطة طريق للوصول الى استدامة الدين العام، وانخفاضه الى ما نسبته 80 % من حجم الاقتصاد (GDP) في العام 2027، ان هذا الامر ممكن شرط ألا يُستَخدَم جزء من ايرادات الدولة في اعادة هيكلة المصارف. وهكذا، يتم توصيف ديون الدولة على غير حقيقتها. اذ ان المطروح ليس مساهمة الدولة في اعادة هيكلة المصارف، بل ان تعمُد الدولة الى تسديد ديونها، او جزء من هذه الديون، كما سيجري في ملف اليوروبوندز.

اما الحديث عن ان القطاع العام منهار، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليه لتأمين ايرادات تكفي للتعافي ولدفع الديون، فهذا الامر منطقي وفقاً للدراسات التي تجري على القطاع العام في حالته الراهنة. لكن ارقام الايرادات وقيمة مؤسسات وأصول هذا القطاع قد تتغير وتتضاعف في حال الموافقة على إشراك القطاع الخاص في ادارة هذا القطاع، وهذا هو الامر المطلوب، لكي تصبح الدولة قادرة على التعافي، من دون ان تضطر الى التنكّر لديونها، بحيث تضيع حقوق المودعين.

يبقى تساؤل أخير، كيف تم احتساب خسائر المودعين منذ 2020 وتقديرها بـ10 مليارات دولار، اذا كان التقرير نفسه يشير الى فقدان حوالى 22 مليار دولار من احتياطي مصرف لبنان، وحوالى 15 مليار دولار خسائر تسديد الديون الدولارية بالليرة او باللولار؟

انطوان فرح

التدمير المُبرمَج لليرة اللبنانية

 

صُنّفت الليرة اللبنانية، في التقرير الدولي الأخير عن العملات الصادر في أواخر أيار 2023، من أضعف 5 عملات في العالم، إلى جانب العملة الإيرانية، والغينية، وعملات أوغندا، الفيتنام وسيراليون.

مرة أخرى، لسوء الحظ، يقع لبنان في أدنى المراتب حيال التصنيفات الدولية. ولا شك في أن هناك استراتيجية مبرمجة وممنهجة لتدمير ما تبقّى من اقتصادنا وعملتنا الوطنية ونسبة عيش الشعب وقدرته الشرائية.

إن الليرة اللبنانية، بعدما خسرت نحو 95 % من قيمتها، شهدت تدهوراً غير مسبوق، بعدما كان سعرها مُثبّتاً على الـ 1500 ليرة، حيث بقي على هذا النحو منذ تسعينات القرن الماضي، حتى ولو كان ذلك بشكل خيالي. وقد وصل سعر الصرف مؤخراً إلى نحو 145 ألفاً، ومن ثم ثُبّت وهمياً بعصا سحرية على نحو 95 ألفاً، ويُستعمل سعر الصرف كسلاح اقتصادي واجتماعي، ووسيلة ضغط سياسية، وطريقة جديدة للفساد والنهب وبناء ثروات جديدة على حساب الشعب المنهوب والمذلول.

ما نشهده اليوم هو جريمة اغتيال العملة الوطنية، ومن عبرها إغتيال الوطن، وإغتيال العملة الوطنية حيث يُغتال يومياً الشعب اللبناني، ولقمة ونسبة عيشه، وتأسيس قسم كبير من الفقراء الجدد، عبر إجبارهم على التسوّل وقَرع باب المسؤولين والأحزاب، لتأمين الرغيف والدواء والإستشفاء.

شئنا أم أبينا، لقد تحوّلنا من إقتصاد مراقب دولياً، إلى إقتصاد عشوائي، وحتى يمكن تلقيبه بإقتصاد المافيات. لقد تحوّلنا من إقتصاد مصرفي إلى إقتصاد الكاش الذي هو أخطر إقتصاد في العالم، والذي يَجذب المروّجين والمهرّبين والمبيّضين. لقد تحوّل إقتصادنا بالعملة الوطنية إلى إقتصاد مدولر بإمتياز. لكن هذا الإقتصاد المدولر الجديد لا يُشبه أبداً الإقتصاد المدولر الذي عشناه في إقتصاد الحرب في ثمانينات القرن الماضي. حينئذ كان المودع يستطيع الوصول إلى ودائعه، وصرف وتحويل مدّخراته، وخصوصاً استعمال قرشه الأبيض ليومه الأسود.

أما اليوم في الدولرة الجديدة فقد سُرقت كل القروش البيضاء ونُهبت وهُدرت، ومدّخرات الشعب الكادح، ولم يعد يستطيع استعمالها في الأيام السوداء الحالية. ففي ظل الدولرة الجديدة، بات حاملو هذه الدولرة الجديدة والمستفيدون منها هم أساساً المافيات وروّاد تبييض الأموال، والترويج والفساد.

إن دولرة اليوم لا تُشبه الدولرة الماضية، لأنّ حاملي الدولارات، من عرق جبينهم، لا يستطيعون الحصول على سِنت منها، لكن الذين يتحكّمون بهذه السوق المدولرة الجديدة هم الذين نهبوا وسرقوا أموال الشعب المطعون.

فالدولارات الشريفة، ملك الشعب، والشركات والإقتصاد الأبيض، حيث سُرقت رسمياً، ولا تزال تُسرق حتى تاريخه. أما الدولارات الجديدة والثروات المحققة فهي من وراء الإقتصاد الأسود، وإنهيار مؤسسات الدولة، ومن ورائها الأسواق السوداء وغيرها.

في المحصّلة، إن إدراج لبنان في أدنى المراتب الدولية، ليس سراً ولا مفاجأة، لكنه مخطط مبرمج ومُمنهَج بِفَصل لبنان عن دوره الإقليمي والدولي، كما وفصله عن المنصّات الدولية، وتحويل إقتصاده الأبيض إلى الإقتصاد الأسود، وتحويل مؤسساته العامة إلى مؤسسات المافيات، وتدمير عملته الوطنية، على حساب الدولار الفريش الجديد الذي سُرق من الأيادي البيضاء، ومُنح من جديد لملوك الحروب والتدمير.

د. فؤاد زمكحل

تحرير الصرف أخطر خيار لبلد مُدَولر كلبنان: الدولرة الشاملة أثبتت طغيانها!

في الواقع، حتى ما قبل حرب 1975-1990 في لبنان، في نهاية عام 1974، كانت الودائع بالعملات الأجنبية (823 مليون دولار أميركي) لم تتجاوز 18 ٪ من إجمالي الكتلة النقدية للبلاد، وكانت أقل بكثير من الأصول بالعملات الأجنبية للنظام المصرفي (2.11 مليار دولار). هذا يعني أنّ معظم العملات الأجنبية التي كانت تدخل إلى لبنان كانت تتحوّل إلى ليرة لبنانية، ما ساهمَ في ارتفاع قيمة العملة الوطنية. منذ اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، بدأت التحويلات من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية تتضاءل تدريجاً لينعكس الوضع مع بداية عملية الدولرة الجزئية غير الرسمية الناتجة عن الاختيار الحر للقطاع الخاص بعد التدهور للقوة الشرائية للعملة الوطنية وافتقاد الثقة بإمكانية ثباتها خلال الأزمة النقدية في الثمانينات.

قبل عام 1993، تخلّى لبنان عن نظام سعر الصرف العائم Free Floating. لذلك، وبعد اعتماد نظام ربط زاحِف حتى الانتقال عام 1998 الى Crawling peg، واعتمدَ على تخفيض سعر الصرف تدريجاً حتى تطبيق الربط التقليدي لنظام عملة واحد مُلزم Conventional soft peg to one currency LBP إلى USD بسعر 1501-1514 بمتوسط 1507.5 منذ 1997.

تؤكد الأدبيات الاقتصادية في جميع المنشورات الدولية في السياسة النقدية للبلدان المدولرة من ميشكن وسافاستانو (2001) مروراً بكالفو وفاك (2002)، كالفو وميشكن (2003)، غارسيا وسوتو (2004)، أوسيتفيلد (2006 و 2008، 2009)، اينشغرين (2007 و 2008 و 2009)، كالفو (2008)، اللييغريت (2011، 2015) وهوسمن (1999، 2000) وبونسو في مختلف منشوراته عن البلدان المدولرة جدا (2005… 2019) وجميع تقارير صندوق النقد الدولي والنظريات حول سياسات المصرف المركزي أنّ السياسة النقدية التي لا يمكن أن تكون فعّالة في ضبط الكتلة النقدية حيث معظم السيولة المتداولة هي بالدولار الأميركي وليس بالعملة الوطنية ما يُحتّم الانتقال الى ضبط سعر الصرف… وهذا بالأساس سبب الانتقال من نظام سعر الصرف العائم الى الربط المَرن في لبنان عام 1993 نظراً للمستوى المرتفع الذي بلغته الدولرة وتأكيد تقرير الاقتصادي مولير (1994) أن الدولرة في لبنان تعكس حالَ هيستيريا يَستحيل تخفيضها حتى بعد تعافي الاقتصاد… وهذه هي العبارة نفسها التي وردت في تقرير البنك الدولي في تشرين الثاني 2022 عن لبنان بالتأكيد على الطابع الثابت للدولرة وغير القابل للتراجع حتى بعد تعافي الاقتصادي اللبناني بعد الانهيار الذي أسقطَ منذ العام 2019 القدرة على الحفاظ على الربط المَرِن لسعر الصرف.

أما لماذا لا يتم العمل لتخفيض معدّل الجولرة بدلاً من اعتماده كمُعطى ثابت غير قابل للانخفاض، فالجواب وبكل بساطة أنّ الادبيات الاقتصادية أيضاً تؤكد أن ثمة عوامل تمنع تراجع الدولرة حتى بعد تعافي اقتصادات معينة منها ما يُعرف بحالة «الادمان على الدولرة وهيستيريا الدولرة»، وغياب عناصر الطمأنة في البلاد علماً أن معظم البلدان التي تشهد حالات مماثلة تكون قد عرفت حرباً أو أزمة هوية ونزاعات سياسية حادة وصراعات تفقد الثقة بالمناخ الاستثماري فيه، وتجعل العملة الوطنية هشّة، وهي معظمها أيضا بلدان صغيرة الحجم منفتحة الاسواق ويطغى فيه قطاع الخدمات ويَتَّكِل فيها ميزان المدفوعات على اجتذاب الرساميل أكثر منه على حجم التصدير…

إنّ تخفيض الدولرة كان يفترض أن يحصل في فترة الاستقرار النقدي ووجود احتياطات فعلية من الدولار في البنك المركزي أو بعد صدمات إيجابية، ولكن حتى وَقتذاك لم تَزدْ ثقة الناس بالليرة اللبنانية وبقيت معدلات الدولرة تفوق 70 %… فكيف اليوم بعد سقوط استقرار سعر الصرف واستنزاف احتياطات البنك المركزي حيث لا يبقى سوى جزء من الاحتياطات الالزامية وفق ميزانية المصرف المركزي؟

في تشرين الأول 2019 سقط نظام سعر الصرف القائم على الربط المَرن لليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، أي عملياً يعيش لبنان منذ ثلاث سنوات بدون أي نظام سعر صرف لتفادي الجميع الانغماس بمسؤولية اختيار النظام البديل في ظل هيستيريا الدولرة الجزئية الشرسة وغير الرسمية التي تفرض نفسها على وقع فوضى الأسواق، وتسحق كل من لا يصل الى يده سوى مدخول بالليرة اللبنانية، وذلك بدلاً من مواجهة الواقع من قبل السلطات الرسمية المعنية لحماية المساواة الاجتماعية بين المواطنين وحقّهم ببَدل أتعاب ومداخيل بنفس العملة التي يتكبّدون فيها تدريجاً كل المصاريف، لا سيما منهم العاملين في القطاع العام الذين أصبحوا عملياً على هامش النظام الاقتصادي – الاجتماعي ككل.

ووفق التقرير السنوي عن ترتيبات نظام الصرف وقيود الصرف (2018) تُمثِّل البلدان التي تعتمد تقييد أو ربط سعر الصرف حوالى 42 ٪ من مختلف البلدان، تليها البلدان التي تعتمد أطر السياسة النقدية الأخرى (24 ٪)، والبلدان التي تحدد مستوى التضخم (21 ٪)، وتلك التي تعتمد غيرها من الأهداف النقدية (13 ٪). وتحاول بعض الدول التي تستهدف سعر الصرف التحرك نحو مزيد من المرونة فيه، كما فعلت دول أخرى في السابق، في حين فَضّلت بعض البلدان الاستقرار في إطار تثبيت سعر الصرف بشكل مستدام…

في ظل حرية حركة الرساميل وسعر الصرف الثابت مقابل عملة واحدة، على سبيل المثال، يمكن للبنك المركزي أن يعتمد سياسة التدخّل فقط وفق مبدأ منع حصول انحرافات كبيرة في سعر الصرف أو شرط التكافؤ في أسعار الفائدة بين العملة المحلية والدولار الأميركي… في ظل نظام ربط موثوق به، من غير المتوقع أن تتغير الفائدة على العملة المحلية بالنسبة إلى العملة التي ترتبط بها سوى بفارق علاوة المخاطرة. وإذا كان هناك انحراف مقصود عن شرط تعادل سعر الفائدة، يمكن للرساميل، نظريًا، أن تتدفق إلى الدولة وهي ذات معدل الفائدة الأعلى والأقل خطرًا.

ومع ذلك، فإن السياسة النقدية في ظل ربط سعر الصرف أكثر تعقيدًا من رد الفعل البسيط وفقًا لقاعدة معينة من قواعد السياسة النقدية، إذ لا تحتاج السياسة فقط إلى إدارة فرق سعر الفائدة وسد فجوة التضخم مع البلدان التي تشهد استقرارا راسخا.

كما ينبغي على البلد، الذي يتمسّك بربط عملته المحلية بعملة أجنبية دولية مستقرة، أن يأخذ على عاتقه مستوى الاحتياطيات لديه بالعملات الأجنبية التي تعتبر كافية لدعم مصداقية الربط، وذلك يتطلّب الحرص على تأمين فائض سنوي بميزان المدفوعات ما يعني دخول عملات أجنبية أكثر من خروجها سنوياً من البلد المعني. أكثر من ذلك، تحتاج السياسة النقدية إلى معالجة الاختلالات المُحتملة في أسعار الصرف التي يمكن أن تنشأ عن التغيرات المتوقعة في العملات الأساسية، أو الاختلالات في أسواق المال والعملات الأجنبية.

وغالبًا ما يكون الحجم الإجمالي لتدفقات العملات الأجنبية – المرتبطة بالمعاملات الجارية وحسابات رأس المال – بدلاً من درجة حرية حركة الرساميل، هو المحرك للمراجحة بين أسواق المال وأسواق العملات الأجنبية، ما يؤدي بدوره إلى تشكيل طبيعة انتقال النقد. الصدمات الخارجية يمكن أن تكون صدمات االميزان الجاري أو ميزان الرساميل، ويمكن أن يكون للبلد حرية حركة الرساميل من دون أن يعني ذلك حتماً إمكانية تدفقها إليه. من ناحية أخرى، حتى عندما تكون حركة الرساميل مقيّدة نسبيًا، فإنّ قدرة البنك المركزي على التحكّم بالفائدة يمكن أن تكون صعبة، خاصةً عندما تكون احتياطيات العملات الأجنبية منخفضة، ويكون الاقتصاد معرّضًا لصدمات كبيرة في شروط التجارة والعملات، فيكون الخيار الأمثل باعتماد سعر صرف يتماهى مع طبيعة الصدمات – سواء كانت فعلية أو اسمية – ودرجة حرية حركة الرساميل.

ويلاحظ عادة خوف العديد من البلدان النامية من تعويم سعر الصرف وتسعى الى ربط سعر صرفها أو إدارته بإحكام لعدد من الأسباب، لا سيما منها زيادة احتياطياتها بالعملات الأجنبية، والحفاظ على التنافسية، والحد من الضغوط التضخمية في غياب ربطٍ اسمِيّ بَديل. وتربط بعض البلدان سعر الصرف الخاص بها بسعر الصرف للاقتصاد الأكبر والأكثر ثباتا وخاصة عندما يكون البلد المعني مُدَولراً…

وعادة ما يلعب سعر الصرف دورًا مُهَيمنًا في اقتصادات الأسواق النامية والناشئة مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، حيث تتم المعاملات الأجنبية بالعملة المحلية، وتكون الأسواق أعمق، والقطاع الخاص أكثر استعدادًا للتعامل مع مخاطر العملات الأجنبية.

يمكن إدارة سعر الصرف من خلال التدخلات التقديرية أو القائمة على القواعد، أو من خلال استخدام معدّل الفائدة الذي يقلّل من الحاجة إلى تدخلات كبيرة في العملات الأجنبية، وبالتالي الحفاظ على احتياطيات العملات الأجنبية. وتسمح السياسات النقدية وسياسات أسعار الصرف التقديرية بالكامل بتحقيق أكبر قدر من المرونة في الاستجابة للصدمات غير المتوقعة، ولكنها قد تؤدي إلى إشارات مُتضاربة حول أهداف البنك المركزي، ما يُقَوّض مصداقية السياسة النقدية.

طبعاً، من مدخولهم بالدولار الأميركي لن يتأثروا في حال اعتماد تحرير سعر الصرف وربما هم ينادون به! ماذا عن بقية اللبنانيين؟ كيف سيعيش من مدخول بالليرة اللبنانية وسط تأرجحها بنظام سعر صرف متحرر في بلد مدولر بأكثر من 80 %؟ كيف تحفظ القدرة الشرائية لرواتبهم وقيمة تعويضاتهم لنهاية الخدمة؟ كيف يمكن التبرير لهم أن تكون الدولرة شبه شاملة ولكن غير رسمية لكي لا تشملهم وهم عاملون في القطاع العام؟! هل نريد أن يمشي لبنان على خطى زمبابوي فتتفكّك فيه المؤسسات العامة وتفرط الدولة؟! أم الأفضل الاعتراف بنجاح نموذج الاكوادور حيث تم الاعتراف بالدولرة رسميا بعد أن أصبحت شبه شاملة، وتم فرض الضرائب بالدولار على الأرباح والمداخيل بالدولار حتى يصبح للدولة ايرادات بالدولار وموازنة تصمد لسنة ونفقات لموظفيها بالدولار حتى يقدموا الى العمل يومياً وليس مرة في الأسبوع ؟! بقيت في الأكوادور العملة الوطنية تطبع بكميات قليلة للابقاء على رمزيتها، ولتسديد مبالغ صغيرة لصعوبة استيراد العملات المعنية للسندات بالدولار… المسألة مسالة عدالة إجتماعية وحفاظ على ما تبقّى من دولة… ما من قطاع خاص يعيش في بلد بدون دولة!!!

د. سهام رزق الله

مصدر الخطر الحقيقي إذا طالت مرحلة الانتظار

من خلال ما نَشهده في ملف انتخابات رئاسة الجمهورية، ومن خلال طريقة التعاطي مع الاتفاق الأولّي الذي عُقِد مع صندوق النقد الدولي، مُضافاً الى ذلك، حال العَجز السائدة على مستوى تشريع القوانين المطلوبة لتنظيم المرحلة، ومن ثم تحضير الأرضية لاتفاق نهائي مع صندوق النقد، يبدو أنّ فترة الانتظار ستكون طويلة، ولا بدّ من تنظيم القطاع العام، الى أن يحين موعد الحل الشامل.

بعد ما يُقارب الأربع سنوات من بداية أزمة الانهيار المالي والاقتصادي، تَظَهّرت بعض الحقائق التي أفرزتها هذه الأزمة المُهملة من قبل الدولة، بحيث ان الوضع اصبح على الشكل التالي:

اولاً – إستعاد جزء من القطاع الخاص حيويته، بحيث ان الحركة في بعض المؤسسات عادت الى ما كانت عليه قبل الأزمة. لكنّ ذلك لا يمنع وجود قطاعات لا تزال بعيدة عن استعادة حيويتها السابقة. وقد ساهمت عوامل عدة في هذا الوضع، منها أن مؤسسات كثيرة استفادت من تسديد ديونها الدولارية بالليرة او باللولار، الامر الذي ساهم في استعادة هذه المؤسسات حيويتها.

ثانياً – بدأت في اواخر العام 2022، امتداداً الى النصف الاول من العام 2023، حركة تأسيس شركات ومؤسسات جديدة، خصوصاً في قطاعات يكفي اقتصاد الـ20 % لتشغيلها، او لديها قدرة التصدير الى الاسواق الخارجية. وهذا يعني عودة الاستثمارات، رغم استمرار غياب القطاع المصرفي عن المشهد. وفي حال عادت المصارف الى تأدية دورها في اللإقراض، فإنّ هذه الحركة، على تَواضعها حتى الان، سوف تتضاعف بسرعة تماهياً مع متطلبات السوق.

ثالثاً – أصبح هناك وَفرة من الدولارات في التداول، لأسباب متعددة، من ضمنها ضَخ مصرف لبنان للدولارات عبر “صيرفة”، بالاضافة الى التحويلات من الخارج والتي بات القسم الاكبر منها يتم إنفاقه، بدلاً من ادّخاره، كما كان يجري قبل الأزمة. وبالاضافة الى عودة الحركة الى قسم من القطاع الخاص.

رابعاً – تأقلم قسم من المواطنين مع الوضع، وبات انفاق الدولارات “أسهل” نفسياً مما كان في الفترة الاولى من الانهيار. طبعاً، هذا لا يمنع ان قسماً كبيراً من اللبنانيين ليس قادراً على التأقلم لأنه لا يملك القدرة على ذلك، والموضوع ليس نفسياً هنا.

هذا المشهد بكل تفرعاته يُقابله مشهد آخر يتعلق بالقطاع العام، الذي ينهار تباعاً، وأصبع عاجزاً بنسبةٍ كبيرة عن تأدية دوره في المساهمة في دعم الحركة الاقتصادية التي تنمو حاليا، قبل الانتقال الى خطة التعافي الشاملة. هذا العجز على مستوى القطاع العام، بات يشمل المخاطر التالية:

اولاً – عرقلة نمو حركة القطاع الخاص.

ثانياً – اعاقة الشؤون الحياتية اليومية للمواطنين.

ثالثاً – المساهمة في تقليص حماسة لبنانيي الخارج للعودة الدائمة والدورية الى البلد، مقابل تغذية نزعة الهجرة لدى الموجودين في البلد.

رابعاً – تشكيل خطر حقيقي على المستقبل. وقد تجلّى ذلك في الاضرابات التي شهدها قطاع التعليم، بما حَرم الطلاب من قسم من البرامج المقررة. واستُكمل امس بإلغاء الشهادة المتوسطة. وقد نشهد المزيد من الالغاءات والأزمات في الايام المقبلة، بما يهدد أهم “ثروة” يملكها لبنان وهي مستوى التعليم الذي يؤدي الى تخريج كادرات بشرية مميزة في دول المنطقة.

هذه الحقائق ينبغي ان تشكّل جرس إنذار للدولة. وبما ان تصريف الاعمال قد يستمر لفترة غير قصيرة، لا بد من تشكيل لجنة وزارية مهمتها إنجاز دراسة سريعة ولكن دقيقة يتم فيها تحديد الدوائر الحكومية الحيوية لهذه المرحلة. والمقصود هنا الدوائر التي تنجز معاملات الناس والشركات، والدوائر التي تساهم في إدخال الايرادات الى خزينة الدولة. وبعد تحديد هذه الدوائر، ينبغي تنظيم العمل فيها سواء لجهة تحديد ايام عمل اسبوعية دائمة، او تأمين مداخيل كافية للموظفين للتمكّن من القيام بعملهم. ويمكن الاستعانة بموظفين من قطاعات عامة مختلفة لملء الشواغر في الدوائر التي سيجري تصنيفها على اساس انها حيوية وحساسة، وينبغي ان تعمل وتنتج مهما كانت الظروف.

هذا التدبير المؤقت ينبغي ان يتم اعتماده في اقرب وقت ممكن. أما الاصلاح الشامل الذي ينبغي ان يشمل القطاع العام، والذي شكّل في السابق ثقلاً كبيراً ساهمَ في غرق السفينة بسبب الفائض الفوضوي الناتج عن الزبائنية والتوظيف الانتخابي والعشائري والسياسي وقلة الانتاجية والرشاوى والفساد، فإنّ وَقته سيكون بالتماهي مع بدء تنفيذ خطة التعافي الشاملة بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والدول المانحة والمجتمع الدولي.

يبقى انّ القوى الامنية والعسكرية في حاجة الى عناية خاصة، خصوصاً انها واصلت مهامها كالمعتاد، وكانت بمثابة اسثناء ايجابي ضمن القطاع العام.

كل هذه الاجراءات الفورية المطلوبة يمكن تنفيذها رغم الظروف الصعبة للخزينة، وستشكل نواة صلبة لتسهيل التعافي الشامل، يوم يعود الانتظام السياسي، ومن ثم الانتظام المالي والاقتصادي ضمن خطة الانقاذ الشاملة برعاية دولية. واذا تأخر الانقاذ الى مستويات غير متوقعة، فإنّ هذه الاجراءات ستكون محطة الانتظار الآمِن نسبياً، الى أن يأتي الفرج.

انطوان فرح