أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

من إضراب إلى إضراب… ضدّ مَن؟

 

بعدما أُقرّت زيادة موظفي القطاع العام، إثر ضغوط مكثفة، والتي بلغت نحو أربعة أضعاف، إتجه موظفو الدولة مرة أخرى، إلى إضراب جديد متوالٍ، لشلّ البلاد وكل المؤسسات العامة. فمن المستفيد الأول من هذه الإضرابات المتكرّرة؟ ومَن المذلول من هذا الجمود المتكرّر؟

لن نعلّق على المطالب المحقّة لأي موظف، أكان من القطاعين العام أو الخاص، لأي زيادة في ظلّ هذا التدهور الاقتصادي والاجتماعي والمالي والنقدي، حيث خسر اللبنانيون أكثر من 95% من قيمة مداخيلهم، ونحو 90% من مدخراتهم وودائعهم، في ظلّ تضخُّم كارثي ليس فقط في لبنان، لكن أيضاً في المنطقة والعالم، وانهيار نسبة عيشهم، وإجبارهم على التسول.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هو أنّ هذه الإضرابات موجّهة ضدّ مَن؟ وهل هذه الضغوط تؤثر على المسؤولين الذين يطمرون رؤوسهم في التراب كالنعامة، ويستفيدون من هذه الفراغات لفتح الأبواب والنوافذ للفساد والرشاوى، وسيطرة وإدارة المافيات؟

لربما ما نشهده هو متابعة استراتيجية الشلل والجمود المبرمجة والممنهجة من وراء الستارة، فيستفيدون من الأوجاع والمطالب المحقّة لبعض موظفي القطاع العام المجديين، لتكملة الشلل والجمود لكل مؤسسات الدولة، لجرّنا إلى الانهيار الكامل والفادح، بغية إذلال الشعب، وسرقته مرة أخرى بطريقة غير مباشرة، من خلال المعاملات غير الرسمية والرشاوى لتنفيذ أي معاملة رسمية.

فلسوء الحظ، إنّ هذه الإضرابات المتتالية، عوضاً عن الضغوط على المسؤولين، تخدمهم وتساعدهم في متابعة سيطرتهم. أما الضغط فيكون فقط على المواطنين المذلولين والمسروقين والمحبطين، وخدمة جلية لتكملة عملية النهب والسرقة الموصوفة، والجمود والشلل المتتابعين منذ نحو أربعة أعوام.

بمعنى آخر، إنّ هذه الإضرابات لسوء الحظ، لن تفيد ولن توصل إلى أي نتيجة، إلاّ فتح الأبواب للزبائنية المستشرية والفساد المتمادي، وإدارة وسيطرة السفاّحين والجلاّدين والمجرمين. فتكون الزيادات للقطاع العام بالليرة اللبنانية، أما الرشاوى فتُسعّر بالدولار الفريش لأي معاملة بسيطة، أو توقيع ملزم.

في المحصّلة، إننا نذهب من إضراب إلى آخر، وكل أزمة تولّد أزمة أكبر، ولا أحد يريد، لا الإصلاحات، ولا إعادة الهيكلة، لكن بناء دولة الفوضى وتمكين الإقتصاد الأسود، وإعادة قوة وإدارة المهرّبين والمروجين والمبيضين. أما الضحية فهو الشعب الذي يدفع ثمن هذه الضغوط الوهمية، وكلفة الإضرابات بما تبقّى من مدخّراتهم المهدورة والمسروقة. فالإضرابات لا تضغط على السياسيين، لا بل تخدمهم. أما الضغط الحقيقي فهو على الشعب الذي تجلده وتقتله بضربات الرحمة.

 

د. فؤاد زمكحل

الدين والمديونية وإعادة الهيكلة

تُستخدم عملية إعادة هيكلة الديون من قِبل البلدان المَدينة منذ عقود، مع درجات متفاوتة من النجاح. في الثمانينات من القرن الماضي، عانت العديد من الدول اللاتينية، مثل المكسيك والبرازيل والأرجنتين، من أزمة ديون أدّت إلى موجة من اتفاقيات إعادة هيكلة الديون مع دائنيها. وغالباً ما تضمّنت هذه الاتفاقيات تخفيضاً كبيراً في الدين، وتمديداً لفترة السداد، وخفضاً في أسعار الفائدة، مما سمح لهذه الدول باستعادة الاستقرار الاقتصادي والنمو.

في السنوات الأخيرة، واجهت اليونان والعديد من الدول الأوروبية الأخرى أزمة ديون في أعقاب أزمة الاقتصاد العالمي في العام 2008. خضعت اليونان، على وجه الخصوص، لعملية إعادة هيكلة ديون في العام 2012، والتي تضمّنت تخفيضاً بنسبة 50% في دينها، وتمديداً لفترة السداد، وجرى خفض أسعار الفائدة. بينما ساعدت إعادة هيكلة الديون اليونان في تجنّب التوقّف عن السداد والخروج من الأزمة، ولكنها أدّت أيضاً إلى تكاليف اقتصادية.

إنّ الديون المستحقة على البلدان يمكن أن تشكّل عبئاً كبيراً على الاقتصاد والموارد المالية، وقد يؤدي ذلك إلى تدهور حاد في الوضع الاقتصادي والاجتماعي. وتشكّل إعادة هيكلة الديون أداة مهمّة لتخفيف هذا العبء وإعادة استقرار الاقتصاد.

ومن بين الفرص التي توفّرها إعادة هيكلة الديون للبلدان المَدينة، هي تخفيف الضغط المالي وتخفيض معدل الفائدة على الديون. بمجرد إعادة هيكلة الديون، يصبح في إمكان البلدان المَدينة دفع مبالغ أقل من الفائدة، وبالتالي توفير الموارد المالية اللازمة للاستثمار في القطاعات الاقتصادية الحيوية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية.

كما توفر إعادة هيكلة الديون فرصاً لتعزيز النمو الاقتصادي وتحسين الظروف الاجتماعية. فعندما يتمّ تخفيض الديون وتمديد فترة السداد، يتمّ تحسين إجمالي الموارد المالية، وتوفير المزيد من الأموال للاستثمار في الاقتصاد. وبالتالي، يمكن للبلدان المَدينة تعزيز النمو الاقتصادي وتوفير فرص عمل جديدة، وتحسين الحياة المجتمعية والاجتماعية.

وتوفر إعادة هيكلة الديون أيضاً فرصاً لتحسين العلاقات الدولية وزيادة التعاون. عندما يوافق الدائنون على إعادة هيكلة الديون، يصبح من المرجّح أن يتمّ تحسين العلاقات بين البلدان وتعزيز التعاون في مجالات مختلفة مثل التجارة والاستثمار والثقافة والعلوم.

ومن المهمّ الإشارة إلى انّ إعادة هيكلة الديون عملية معقّدة تحتاج إلى تعاون وتفاهم من الجانبين، وعادة ما تتمّ بين الدائن والمَدين، وتتطلب التخفيف من الشروط التي تمّ تحديدها في عقود الديون السابقة. تمثل هذه العملية فرصة حقيقية للدول المَدينة لإعادة بناء اقتصاداتها، وخلق فرص للتنمية.

على سبيل المثال، في العام 2005، قامت دولة العراق بإعادة هيكلة ديونها الخارجية، وتمّ التوصل إلى اتفاق بين العراق ودائنيها بتخفيض حوالى 80% من قيمة الديون، وتمديد فترة السداد حتى العام 2028. وقد أدّى ذلك إلى تخفيف الضغط على الاقتصاد العراقي وزيادة الإنفاق في البنية التحتية والخدمات العامة.

كما أنّ دولة الأوروغواي في عام 2003 قامت بإعادة هيكلة ديونها الخارجية، ونجحت في تحقيق تخفيضات كبيرة في الديون، وتمديد فترة السداد حتى 30 عاماً. وقد أدّى ذلك إلى تعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والتحول إلى اقتصاد يستند إلى الصادرات والاستثمارات الأجنبية.

في النهاية، تمثل إعادة هيكلة الديون فرصة حقيقية للبلدان المَدينة لإعادة بناء اقتصاداتها وتحسين ظروف حياة مواطنيها. يجب على البلدان المَدينة العمل بجد لتحقيق إعادة هيكلة ناجحة للديون، والتأكّد من تخفيف الضغوط المالية وزيادة الإنفاق على البنية التحتية والخدمات العامة. ومن المهم أن تتمّ هذه العملية بطريقة تضمن توازناً بين الواردات والأنفاق.

يشكّل الدين الداخلي في البلدان مكوناً مهمّاً من مكونات الدين العام، حيث يتمثل في المبالغ التي تقترضها الحكومة من المصارف والمؤسسات المالية داخل البلد، وذلك لتمويل المشروعات والبرامج الحكومية، وتحسين البنية التحتية والخدمات العامة.

إنّ الدين الداخلي يُعتبر أحد المصادر الرئيسية لتمويل الحكومات، ويمكن أن يساعد في تعزيز النمو الاقتصادي وتحسين مستوى المعيشة في البلد. كما أنّ الدين الداخلي يُعتبر أحد الأدوات الرئيسية للحكومة في التحكّم في الاقتصاد والتأثير على الأسعار والفائدة.

ومع ذلك، يجب أن تتخذ الحكومات إجراءات واضحة لإدارة الدين الداخلي بشكل فعّال، حتى لا تؤدي إلى تفاقم الدين العام وزيادة الضغط المالي على الحكومة والمواطنين. يتطلب ذلك التخطيط والمتابعة والتحكّم الدقيق في الإنفاق الحكومي وتحقيق التوازن بين الإيرادات والإنفاق.

كما تتطلب إدارة الدين الداخلي أيضاً، توفير بيئة اقتصادية مستقرة وجاذبة للاستثمارات، حيث تتأثر الفائدة المطلوبة على الدين الداخلي بحالة الاقتصاد العام ومستوى الثقة في الحكومة وقدرتها على إدارة الدين العام بشكل فعّال.

تشير الإحصاءات إلى أنّ الدين الداخلي في العديد من الدول النامية يشكّل نسبة كبيرة من الدين العام، مما يعكس مستوى الاعتماد على التمويل المحلي وعدم القدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية. وهذا يجعل إدارة الدين امراً دقيقاً.

يوجد العديد من الحجج ضدّ الدين الداخلي في البلدان، حيث يشكّل هذا الدين تحّديًا كبيرًا للحكومات والمجتمعات المحلية، ويمكن تلخيص هذه الحجج بما يلي:

1- زيادة الضغط على الميزانية الحكومية: يزيد الدين الداخلي من الضغط على الميزانية الحكومية، حيث يتوجب على الحكومة سداد الفوائد على الدين المستحقة، والتي يمكن أن تؤثر سلباً على ميزانية الحكومة وتقلّل من قدرتها على تمويل المشاريع والبرامج الحكومية.

2- تأثير سلبي على النمو الاقتصادي: يمكن أن يؤدي الدين الداخلي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، حيث يمكن أن يؤثر على القدرة التنافسية للبلد ويقلّل من استثمارات الشركات والمستثمرين المحليين والأجانب.

3- تأثير على الاستثمار الخارجي: يمكن أن يؤثر الدين الداخلي على الاستثمار الخارجي في البلد، حيث يمكن أن يراوح مستوى الفائدة المطلوبة على الدين الداخلي ما بين مستويات مرتفعة وغير مجزية، مما يقلّل من جاذبية البلد للاستثمارات الخارجية.

4- زيادة الاعتماد على التمويل المحلي: يمكن أن يؤدي الاعتماد الكبير على التمويل المحلي إلى تقليل احتمالية الحصول على تمويل خارجي وزيادة الضغط على المواطنين لتحمّل أعباء الدين العام.

5- تعطيل النمو الاقتصادي المستقر: يمكن أن يؤدي الدين الداخلي إلى تعطيل النمو الاقتصادي المستقر في البلد، حيث يتوجب على الحكومة سداد الديون بفوائد مرتفعة.

انّ خفض الدين الداخلي في البلد يتطلب جهوداً مشتركة من الحكومة والمواطنين. ومن بين الإجراءات التي يمكن اتخاذها لتحقيق ذلك:

1- خفض الإنفاق الحكومي: يمكن للحكومة تقليص الإنفاق على المشاريع غير الضرورية والمكلفة، وتحويل هذه الأموال لتخفيف الدين الداخلي.

2- زيادة الإيرادات: يمكن للحكومة زيادة الإيرادات عن طريق فرض الضرائب على الأغنياء والشركات، وتحويل هذه الأموال لتخفيف الدين الداخلي.

3- تعزيز الاقتصاد: يمكن للحكومة تعزيز الاقتصاد المحلي عن طريق دعم الأعمال الصغيرة والمتوسطة، وزيادة فرص العمل، وزيادة الإنفاق الحكومي في المشاريع الاقتصادية.

4- تقليص الفائدة: يمكن للحكومة تقليص الفائدة على الديون الحكومية، وبالتالي تخفيف الدين الداخلي.

5- إعادة جدولة الديون: يمكن إعادة جدولة الديون الحكومية، وتمديد فترة السداد وتخفيض الفائدة، وبالتالي تخفيف الضغط على المواطنين وتحفيز النمو الاقتصادي.

باختصار، خفض الدين الداخلي يتطلب إجراءات متعدّدة، ولا يمكن تحقيقها بسرعة. ومن المهم أن تعمل الحكومة والمواطنون سوياً على تحقيق هذه الأهداف، وبالتالي تعزيز النمو الاقتصادي وتحسين جودة الحياة للجميع.

بروفسور غريتا صعب

إقتراح قانون وقف انهيار سعر صرف الليرة

 

تقدمنا بإقتراح قانون يهدف الى وقف إنهيار سعر صرف الليرة اللبنانية. وجاء في الاقتراح:

الأسباب الموجبة

بعد عقود من ترويج أركان السلطتين السياسية والنقدية استقرار الليرة وثباتها رسمياً على 1507 ليرات لكل دولار، تخطّى سعر صرف الدولار في السوق الموازية 140 ألف ليرة للدولار الواحد ليعود إلى 100 ألف ليرة، ما يعني فقدان العملة نحو 98 % من قيمتها. وقد ترافقَ ذلك مع تسجيل لبنان في العام 2022 أحد أعلى معدلات التضخم في العالم بنسبة 186 بالمئة وفقاً لتقرير البنك الدولي. كما أثرت الأزمة النقدية على الاقتصاد وحياة المواطنين، فتآكلت مدخراتهم والقدرة الشرائية لمداخيلهم، وارتفعت نسبة الفقر المدقع من 19.8 % سنة 2019 إلى 50 % سنة 2021 استناداً إلى تقرير الإسكوا. كما غذّى انهيار الليرة ارتفاع أسعار المحروقات، ما يهدد بانهيار المؤسسات العامة والتعليمية بسبب عدم قدرة الموظفين على تغطية تكلفة الوصول إلى أشغالهم. وقد تؤدي الأزمة النقدية إلى القضاء على ما تبقّى من مدخرات واقتصاد لدى الناس وإلى الفوضى وعدم الاستقرار في الأسعار، وهو ما يُعزز الهجرة الجماعية.

وقد استمرت الأسعار في الارتفاع مع ارتفاع الدولار مقابل الليرة في مقابل عدم انخفاضها عندما ينخفض سعر الصرف. ولمعالجة صعوبة التسعير في ظل تقلبات سعر الصرف، بدأت القطاعات، الواحد تلو الآخر، في احتساب أسعار السلع بالدولار، وهو ما يُعرَف بالدولرة. كما يعاني لبنان من مشكلة تعدد أسعار الصرف، حيث يفتقر إلى سعر صرف موحد للّيرة مقابل الدولار، الأمر الذي أثقلَ كاهل اللبنانيين. وقد فاقمت المشاكل السياسية الأزمة النقدية من خلال إضعافها الثقة بقدرة لبنان على الإصلاح.

أسباب انهيار سعر صرف الليرة

ضَخ الليرة: تعود مشكلة انهيار سعر صرف الليرة وارتفاع الأسعار في لبنان إلى زيادة كمية الليرة في التداول، والتي ارتفعت بحوالى عشرين ضعفاً عمّا كانت عليه في بداية الأزمة. فقد بلغ حجم الكتلة النقدية المتداولة بالليرة اللبنانية في العام 2022 بحسب أرقام مصرف لبنان حوالى 70 تريليون ليرة بعد أن كان 4 تريليونات ليرة في العام 2019. كما أدى فائض الليرة اللبنانية إلى زيادة الطلب على الدولار، الأمر الذي ولّد عجزاً في ميزان المدفوعات وفاقم عجز الميزان التجاري.

عجز الموازنة: راكَم لبنان عجوزات في الموازنة العامة أفضَت إلى دين عام كبير ولكنه فشل بالتوازي في إنتاج بنية تحتية تعزّز النمو. وتشكل زيادة كمية الليرة في التداول المصدر الأساسي لتمويل عجز الموازنة العامة في ظل تدهور الإيرادات العامة من الرسوم والضرائب، ما يؤدي إلى رفع الطلب على الدولار ويُسارع تدهور سعر صرف الليرة. فقد أصبح النقد المورد الوحيد لتمويل العجز بعد تخلّف الحكومة عن سداد مستحقاتها من سندات اليوروبوند، الأمر الذي جعلها تفقد الثقة على المستوى الدولي.

الأزمة المصرفية: أدت سياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية المتبعة منذ تسعينات القرن الماضي وعلى مرّ عقود من الزمن إلى تبخّر مئات المليارات من الدولارات من دون أي عائد أو منفعة اقتصادية. وراح المصرف المركزي يقترض الدولارات من المصارف لسد فجوة الطلب على العملة الصعبة وتأمين استقرار سعر الصرف على 1507 ليرات للدولار. ومع عدم قدرة المصرف المركزي والحكومة على سداد ديونهما للمصارف، تفاقمت أزمة الملاءة وانهارت الثقة في النظام المصرفي وتوقفت تدفقات رؤوس الأموال، ما أدى إلى حرمان المصارف التجارية والمصرف المركزي من مليارات الدولارات. وقد قرر المصرف المركزي معالجة الأزمة المصرفية عن طريق إعادة أموال المصارف بالليرة اللبنانية، أو ما أصبح يُعرَف اصطلاحاً بـ”لولرة الودائع”، الأمر الذي ساهم في ارتفاع التضخم. وقد ضخ مصرف لبنان تريليونات الليرات في التداول ليقوم بدفع بعض الودائع التي أودِعَت بالدولار على أسعار صرف تدرجت من 3900 إلى 8000 فـ 15000 ليرة لكل دولار. وقد تسببت سياسة تحميل الخسائر للمواطنين في فشل ذريع، إذ عززت توقعات العملاء بأن الآتي سيكون أعظم، وبالتالي بأن الطلب على الدولار سيرتفع.

وَهن الاقتصاد وانهيار الثقة: سجّل الاقتصاد اللبناني معدلات نمو منخفضة على مدار سنوات قبل أن يسجل ركوداً تجاوز – 25 % في العام 2020، ناهيك عن توقف التدفقات المالية من الخارج وتراجع احتياطي العملات الأجنبية لمصرف لبنان. وقد ساهم الفراغ السياسي وعدم تشكيل حكومة على مدى عامين ونصف وتأخّر الإصلاحات وغياب برنامج شامل للإصلاح المالي وإعادة هيكلة الديون والمصارف في فقدان الثقة بالليرة وبالسلطة السياسية. كما بدأ تحلّل الدولة في مسارها القضائي والإداري في الظهور، وهو ما ينعكس على عوامل عدة مثل تفكّك القدرة على إدارة السياسة النقدية والمالية وتوسع الأسواق المالية الموازية غير المنظمة وانتشار الفساد وتفاقم التهريب المتفلّت عبر المعابر غير الشرعية.

هدر دولارات الإحتياطي ومفاقمة الأزمة

ضَخ الدولار: حاول مصرف لبنان الحفاظ على سعر الصرف الرسمي عند ١٥٠٠ ليرة للدولار ومن ثم رفعه إلى ١٥ ألف ليرة للدولار. ومع فشل سياسة التعاميم في التأثير الإيجابي على سعر الصرف في السوق السوداء، راح المصرف المركزي يضخ العملة الصعبة في الأسواق محاولاً إيقاف التدهور مؤقتاً، وهو ما يؤدي إلى استنزاف احتياطاته من دون فائدة. إذ بلغ الاحتياطي من العملات الصعبة قبل بداية الأزمة في العام 2019 نحو 31 مليار دولار، ثم تراجع في غضون أشهر ليصل إلى 16 مليار دولار، وهو اليوم أدنى من 10 مليارات دولار. وقد أدى هذا التدخل إلى استقرار مؤقت في عدة فترات قصيرة كان أطولها صيف العام 2020، وبمعدلات تتراوح بين 8 و9 آلاف ليرة للدولار، بسبب ضخ المصرف المركزي لمبالغ ضخمة من الدولارات في الأسواق (ما يقرب من 5 مليارات) تبخرت جميعها في السوق السوداء. واستمراراً لهذه الخطوة، أنشأ مصرف لبنان منصة مدعومة من قبله أطلق عليها اسم “منصة صيرفة”، يضخّ بموجبها الدولارات من احتياطه في محاولة للحد من انهيار سعر صرف العملة. وقد ذهبت هذه المحاولة أدراج الرياح من دون أن تؤتي ثمارها المرجوّة، ما أدى إلى انحدار الاحتياط الإلزامي وجعل المصرف المركزي غير قادر على التدخل في سوق القطع.

زيادة عجز الموازنة العامة: حاولت الحكومة اللبنانية التخفيف من وطأة الأزمة عبر دعم بعض السلع مثل المحروقات والأدوية والخبز، ما أدى إلى زيادة التهريب وعدم استفادة الشرائح المستهدفة منها. ثم عادت الحكومة ورفعت الرواتب والأجور، ما أدى إلى عجز كبير في موازنة العام 2022 يتم تمويله عن طريق زيادة النقد والتضخم وانهيار سعر الصرف. وبالتوازي مع زيادة نفقاتها، لم تفلح الحكومة في تحسين إيراداتها بسبب التأخر في تطبيق الإصلاحات الضريبية والجمركية وشح الهبات والمساعدات الخارجية. وقد أملت الحكومة إنجاز اتفاق مع صندوق النقد الدولي يساعد على إعادة التوازن، لكن الاستعصاء السياسي والشغور الرئاسي وعدم وجود حكومة بصلاحيات كاملة أخّر تنفيذ تعهدات لبنان. وعلى الرغم من الدلالة المهمة لنتائج الانتخابات، إلا أنها لم تغير من واقع المخاوف من عدم الاستقرار السياسي وتراجع تدفق الأموال وهجرة الإيداعات.

وحيث أنّ إصدار تشريع يلزم مصرف لبنان وقف طباعة الليرة بغرض تمويل نفقات القطاع العام ولا ينعكس إيجاباً على سعر الصرف فحسب، بل يؤدي في الوقت نفسه إلى إلزام الدولة بإعادة هيكلة القطاع العام وتخفيض نفقاته وتعويم الليرة والانتقال إلى سعر صرف واحد.

وحيث أن إلغاء منصة صيرفة والبحث عن إصدار عملة نقدية تستطيع أن تحوز ثقة المواطن ممكن من خلال ضبط طباعتها وربطها بالدولار والموجودات مثل الذهب.

تم اقتراح القانون التالي نصه:

الجمهورية اللبنانية

مجلس النواب

قانون وقف انهيار سعر صرف الليرة

مادة وحيدة:

1 – بصورة استثنائية، وخلافاً لأي نص آخر، يمنع منعا مطلقا أن تتخطى كمية النقد في التداول مبلغ الـ 70 الف مليار ليرة لبنانية، كما يمنع منعا مطلقا التصرف باحتياطات التوظيفات الإلزامية في مصرف لبنان (احتياط العملات الأجنبية) ويتوقف استخدامها على منصة صيرفة فوراً.

2 – يعمل بهذا القانون فور نشره في الجريدة الرسمية.

إتجاهات الدولار في المرحلة المقبلة… العنصر «الملك»

بعد مرور أكثر من أسبوع على انتهاء الاعياد، اتّضَح انّ التقديرات أو الاشاعات التي انتشرت مثل النار في الهشيم، في شأن تحليق سعر صرف الدولار، لم تكن في محلها. الدولار مستقر حتى الآن، وقد يستمر كذلك لفترة، بانتظار التطورات التي قد يشهدها المشهد السياسي في الاسابيع المقبلة.

ما جرى في موضوع سعر الدولار، وهو الموضوع الاكثر حساسية وأهمية بالنسبة الى المواطنين في هذه المرحلة، ينقسم الى ثلاثة عناصر رئيسية، أدّت مُجتمعة الى الوضع القائم حالياً، وهي:

اولاً – انّ مصرف لبنان تدخّل هذه المرة في توقيت مناسب من الوجهة التقنية في السوق المالي. اذ إن منحنى انهيار الليرة كان قد وصل الى القعر تقريباً (Bottom)، وكان من المقدّر في ذلك الوقت، (عندما وصل الدولار الى 145 ألف ليرة)، أن يرتدّ الدولار نزولاً بعض الشيء، وان يستقر لفترة، قبل ان يُعاود مرحلة الارتفاع وفق الـ trend التصاعدي المستمر حتى الان.

ثانياً – انّ طريقة تدخّل مصرف لبنان وضَخّ الدولارات عبر «صيرفة» اختلفت عن المرة التي سبقتها، سواء من حيث الكمية، او من حيث الانتظام في تلبية كل طلبات شراء الدولار، او من حيث طول المدة التي لا تزال قائمة حتى اليوم.

ثالثاً – بعد فترة وجيزة من بدء المركزي في ضَخ الدولارات، تبدّلت توجهات السوق لجهة ازدياد تدفّق العملة الصعبة الى البلد. وتبيّن انّ حركة السيّاح والزوّار في فترة اعياد الفصح على دفعتين، (الغربي والشرقي)، ومن ثم عيد الفطر، كانت مرتفعة بشكل لافت. ويبدو ان مصرف لبنان استطاع ان يشتري اكثر ممّا باع، من دون ان يؤثّر ذلك على استقرار الدولار الذي ثبت نسبياً قرب الـ100 الف ليرة (بين 95 و98 الف ليرة).

في موازاة هذه العناصر الايجابية التي ساعدت مصرف لبنان في دعم الليرة، بخسائر مقبولة، قياساً بالخسائر التي كان يدفعها في تدخلاته السابقة، هناك عنصران سلبيان ضاغطان قد يتحكّمان بسعر الدولار في المرحلة المقبلة:

العنصر الاول، يرتبط برفع أجور القطاع العام بأربعة أضعاف، بالاضافة الى ثلاثة أضعاف سابقة. ورفع تعرفة بدل النقل اليومي. هذه المبالغ التي ستضطر الى دفعها الخزينة تحتاج الى ايرادات اضافية بالليرة لضمان عدم الاضطرار الى تكبير حجم كتلة النقد بالتداول. وتسعى الحكومة من خلال رفع الدولار الجمركي، وتغيير تسعيرة رسوم الاملاك البحرية المخالفة، الى تأمين الاموال الاضافية المطلوبة. ولكن المؤشرات توحي بأنّ ذلك قد لا يكون كافياً لسد الفجوة التي ستنشأ، وبالتالي، قد يضطر مصرف لبنان الى ضَخ كميات إضافية من الليرة، بما سيزيد الضغط على سعر الصرف.

العنصر الثاني يتعلّق بالمناخ السلبي الناتج عن تطور التحقيقات الاوروبية في ملف حاكم مصرف لبنان. وموعد 16 ايار المقبل قد يكون نقطة تحوّل، اذا ما تحوّل سلامة من شاهد الى متهم. اذ انّ تطوراً من هذا النوع قد يزيد الضغوطات على العملة الوطنية، كما سيصبح أداء مصرف لبنان في ظل وجود حاكم متهم أصعب وأشدّ تعقيداً.

بين كل هذه العناصر السلبية والايجابية، يبرز العنصر الاكثر أهمية في هذه المشهدية، وهو عنصر التطورات السياسية المرتبطة بإنجاز الاستحقاق الرئاسي، ضمن سلّة تفاهمات قد تشمل رئاسة الحكومة، وحاكمية مصرف لبنان، كما قد تتضمّن خطة عمل يتم التوافق عليها، ويتم تنفيذها داخلياً بإشراف خارجي إقليمي ودولي. هذا السيناريو المطروح، وفي حال تبيّن انه واقعي، وبدأت ملامحه في الظهور بشكل واضح، فإنه قد يغيّر في المعطيات القائمة، خصوصاً انه سيتواكَب مع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتنفيذ الاصلاحات المطلوبة دولياً. وعندها، يمكن الحديث جدياً عن احتمال تغيير في الـ trend القائم في السوق المالي، وليس عن مجرد تغييرات تقنية او اصطناعية يفرضها مصرف لبنان عبر دعم الليرة. لذلك يمكن القول انّ عنصر الاتفاق السياسي بات العنصر «الملك» في المعادلة الاقتصادية.

بالانتظار، لا بد من الاشارة الى انّ البلد لا يزال رغم الافلاس، والسرقة والفوضى في ادارة الأزمة، والتي أدّت لوحدها الى فقدان حوالى 40 مليار دولار، رغم كل ذلك، يمتلك ثروة ذهبية تجاوزت قيمتها الحالية الـ18 مليار دولار بفضل ارتفاع الذهب عالمياً، ولا يزال هناك احتياطي من العملات في المركزي يفوق الـ9,5 مليارات دولار، بالاضافة الى اراض ومؤسسات واحتمالات ثروة نفطية وغازية في البحر. كلّ ذلك سيساعد على البدء في الاقلاع مجدداً، مع خطة جديدة تحمي حقوق المودعين. المهم أن نبدأ، ولكننا لا نستطيع ان نبدأ قبل عودة الانتظام السياسي. وهكذا أصبح المشهد السياسي هو الممر الالزامي الى الانقاذ الاقتصادي والمالي. وما على المواطنين، سوى الانتظار والرجاء.

في آلية ضمان حقوق المودعين في لبنان

ثابتٌ أنّ المديونية العامة للدولة اللبنانية قد تكوّنت من الأموال التي اقترضتها من الداخل والخارج، بما في ذلك الأموال التي شكّلت ودائع المودعين في المصارف، وذلك بموجب قوانين أصدرتها السلطة المشترعة تباعاً، منذ مطلع التسعينات من الألفية الثانية.

إنّ الأموال المقترضة قد أنفقتها السلطة الإجرائية في السياسات المالية والنقدية التي أقرّتها تباعاً على مدى عقود، لاسيما في تغطية عجوزات موازناتها السنوية ومصاريفها التشغيلية، وفي دعم مؤسسة كهرباء لبنان وفي تحمّل تكلفة سياسة الدعم لفئات واسعة من السلع الاستهلاكية في كافة القطاعات، وفي تثبيت سعر صرف العملة الوطنية، مع ما رافق كل أوجه هذا الإنفاق العام من سوء إدارة وهدر وتبديد وفساد.

علماً أنّ كل هذه المديونية العامة التي تكوّنت قد تمّ إنفاقها لمصلحة الشعب اللبناني بأسره، وليس لمصلحة فئات محدّدة منه، بواسطة السلطات الدستورية والمؤسسات العامة المؤتمنة على إدارة شؤونه ورعايتها وتوفير الخدمات العامة له. بحيث يكون عبء إيفائها الواقع على الدولة اللبنانية والمقتطع تباعاً من إيرادات مرافقها العامة لغاية إيفائها كاملة، أمراً طبيعياً وسليماً يكتنز عدالة اجتماعية، حتى لو اقتضى الأمر بيع بعضٍ من أصولها حتى استكمال عملية الإيفاء تلك.

إنطلاقاً من هذه المعطيات، ولضمان ردّ ودائع المودعين في المصارف، لا بدّ من استصدار قانون من المجلس النيابي يتضمّن المواد (البنود) التالية:

مادة أولى: إعتبار ما تمّ تقاضيه من المودعين لودائعهم بالعملة الأجنبية استناداً الى تعاميم مصرف لبنان التي أصدرها بعد ١٧ تشرين أول ٢٠١٩، بمثابة دفعات من أصل مستحقاتهم الفعلية عن تلك الودائع بعملتها الأصلية او مقوّمة بالعملة الوطنية على سعر صرفها في السوق الحرّة يوم استيفائها.

(على اعتبار أنّ تلك التعاميم هي باطلة بطلاناً مطلقاً بحدّ ذاتها، لمخالفتها شرعة التعاقد القائم بين المودعين والمصارف، ومخالفتها كذلك لأحكام قانون الموجبات والعقود وقانون التجارة البريّة وقانون النقد والتسليف. وإنّ موافقة المودعين على استيفاء إجزاء من ودائعهم، إستناداً اليها، لا قيمة قانونية لها وهي باطلة أيضاً وساقطه وكأنّها لم تكن، لكونها تمّت في ظل الإكراه المعنوي الذي تعرّضوا له، والغبن الفاحش الذي لحق بهم، والاستغلال الموصوف الذي تمّ لضيق ذات يدهم).

مادة ثانية: تلتزم الدولة اللبنانية، ممثّلة بوزارة المالية ومصرف لبنان، بإيفاء مديونيتها العامة من المصارف بذات العملة التي استدانتها بها منهم، وبنسبة لا تقلّ عن خمسة بالمائة (٥%) من إيراداتها السنوية المتأتية من مرافقها العامة وإدارة أصولها، وذلك حتى إيفائها كاملة.

مادة ثالثة: تتولّى هيئة التحقيق الخاصة التابعة لمصرف لبنان التدقيق والبتّ، عند الاقتضاء او الشبهة، بمشروعيّة ودائع المودعين من عدمها، قبل إيفائها من مستحقّيها بواسطة المصارف المودعة لديها، وبذات عملة الإيداع.

مادة رابعة: تلتزم الدولة اللبنانية (وزارة المالية ومصرف لبنان) بالتعويض على المودعين بالليرة اللبنانية، بعد تقويم ودائعهم بالعملة الأجنبية على سعر صرفها قبل 17 تشرين الأول 2019، وذلك بمقدار ما لحقها من تدنٍّ بعد هذا التاريخ.

مادة خامسة: تضع جمعية المصارف، بموافقة لجنة الرقابة على المصارف، البرنامج الايفائي لودائع المودعين (المدقّقة) بالعملتين الوطنية والأجنبية، إستناداً إلى إيفاءات الدولة المتتالية (السنوية او الفصلية او الشهرية) لمديونيتها العامة تجاههم. فتقوم بدورها بتوزيعها على عملائها، بصورة عادلة، شطوراً تصاعدية، بما يتناسب ضمناً مع إحتياجاتهم الحياتية اليها.

ملاحظتان: الأولى، إنّ العمل على استصدار هذا القانون يكشف النوايا الفعلية للنواب المتعاطفين مع حقوق المودعين من عدمه. الثانية، إنّه غير قابل للإبطال من قِبل المجلس الدستوري لانطباقه على أحكام مقدّمته.

فرانسوا ضاهر

زيادة الأجور بالليرة والرشاوى بالدولار الفريش

إتخذت الدولة اللبنانية مؤخراً قرار رفع أجور موظفي القطاع العام بثلاثة وأربعة أضعاف. لن نُعلّق على هذه المطالب المحقة، في ظل التدهور الإقتصادي الكارثي وانعدام القوة الشرائية وانهيار مستوى العيش. سنُركّز على القرارات العشوائية المنفصلة عن كل خطة واقعية أو إستراتيجية متكاملة ومتجانسة، وأيضاً من أي رؤية إقتصادية – إجتماعية على المدى القصير، المتوسط والبعيد.

لا شك في أنه منذ نحو أربع سنوات يواجه لبنان واللبنانيون ما صُنّف ولُقّب من قبل المراصد الدولية بأكبر أزمة إقتصادية – إجتماعية في تاريخ العالم. وقرأنا أيضاً في تقارير البنك الدولي أنها أزمة معتمدة، وخطة تدمير ذاتي، تتوالى يوماً بعد يوم. فعوضاً عن مواجهة المشاكل الإقتصادية والإجتماعية من جذورها، تفضّل الدولة اللبنانية الهروب من مسؤولياتها، ومن كل الإصلاحات البنيوية، وتتخذ قرارات عشوائية لكسب الوقت أو ضياعه، تكون ضربة سيف في المياه، وتحفر في النفق المظلم عينه تحت القعر.

نذكّر أن جميع الموظفين خسروا نحو 95% من مداخيلهم ومدّخراتهم وجنى عمرهم، وهُدرت وسُرقت ودائعهم، وانجَرّوا إلى التسوّل الجبري، لتأمين أقلّ حاجاتهم الأساسية والإنسانية. فرفع الأجور بالعملة الوطنية، يعني، أنه مهما كانت القيمة والأضعاف فستعني طبع السيولة من العملة الوطنية، وضخّها في السوق، وزيادة الكتلة النقدية، وهذا يعني أيضاً التوجُّه نحو التضخم المفرط. بمعنى آخر ما أُعطي بيد، سيؤخَذ أضعافاً من اليد الأخرى، ويدفع ثمنها كل الإقتصاد واللبنانيين. فزيادة الكتلة النقدية في السوق ستؤدي إلى ارتفاع كل الأسعار المعيشية وستتبخّر أي زيادة قبل أن تصل إلى جيوب المستفيدين. ففي النهاية لن يستفيد أحد من هذه الزيادات الوهمية لكن سيدفع ثمنها كل الشعب والإقتصاد المنهار.

نذكّر بأسف أنه بعدما أُقرّت هذه الزيادة وحتى بدء دفعها، مع كل عيوبها وسلبياتها، المضرّة للجميع، إتُخذت هذه الزيادة وتوالت الإضرابات في كل مؤسسات الدولة، فنسأل أنفسنا: هذه الضغوط ضد مَن؟ ومَن يستفيد منها؟

لسوء الحظ، إنّ هذه الإضرابات مُبرمجة من وراء الستارة، من قبل الذين يريدون حجز بعض الموظفين في بيوتهم، لاستبدالهم بجماعاتهم، وإدارة بعض الوزارات الرئيسية «والمدهنة» بأيادي المافيات التي ستقبض الزيادة الوهمية، وأيضاً الرشاوى بالدولار الفريش بغية تنفيذ أي معاملة ضرورية.

في المحصّلة، لسوء الحظ، إنّ أي زيادة بالعملة الوطنية ستزيد التضخم المفرط وتضرب أكثر القيمة الشرائية ونسبة العيش، فهذه القرارات العشوائية هي فقط لدفع كرة النار إلى الأمام، وتأجيل الإنفجار الشعبي والإجتماعي. فهذه الزيادات الوهمية بالليرة اللبنانية يختبىء من ورائها رشاوى بالدولار الفريش، وأرباح فادحة بالأيادي السود نفسها التي تتلاعب بسعر الصرف وبالجمارك والتهريب والترويج، وتتلاعب خصوصاً بحياة اللبنانيين ومصيرهم.
د. فؤاد زمكحل

كيف يتعاطى المسؤولون مع تقرير صندوق النقد؟

يحتاج لبنان إلى مساعدة ماليّة وتقنيّة كبيرة للتغلّب على هذه الأزمة الإنسانية والإجتماعية والإقتصادية العميقة. ونحتاج لذلك البدء بجملة إصلاحات شاملة لتنظيم الماليّة العامّة وإعادة هيكلة الدين العام وإعادة تأهيل القطاع المصرفي وتوسيع شبكة الأمان الإجتماعي وإصلاح الشركات المملوكة للدولة وتحسين الحَوكمة وغيرها من أمور باتت بديهيّة، لا سيّما عمليات التدقيق في البنك المركزي وقطاع الكهرباء.

هذه أمور أصبح تردادها مُملّ في ظلّ غياب الحكومة والبرلمان والمسؤولين عن القيام بأدنى واجباتهم من أجل الخروج من النفق هذا. وقد يكون تقرير صندوق النقد الدولي، وما ورد فيه إعادة للتذكير بتقصير الدولة في هذا المجال.

وبحسب صندوق النقد الدولي، وآخر تقرير له في آذار 2023 أن لبنان يمر بمنعطف صعب لأكثر من ثلاث سنوات ويواجه أزمة غير مسبوقة مع اضطراب إقتصادي حاد وإنخفاض كبير في سعر صرف الليرة اللبنانية، وتضخّم من ثلاثة أرقام كان له تأثير كبير على حياة الناس وسبل عيشهم وارتفعت معه معدّلات البطالة والهجرة بشكل حاد، ووصل الفقر الى مستويات عالية تاريخيّاً. أضف الى ذلك تعطّل الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والصحة العامّة والتعليم العام وانهيار برامج الدعم الإجتماعي الأساسية والإستثمارات العامّة، وأصبحت المصارف غير قادرة على تقديم الائتمان للإقتصاد، والودائع المصرفية لا يمكن الوصول إليها. وتفاقمت الحالة مع وجود عدد كبير من اللاجئين الذين استوطنوا في هذا البلد.

يضيف تقرير الصندوق أنّه وعلى الرغم من خطورة الوضع الذي يستدعي اتخاذ إجراءات فوريّة وحاسمة إلا أنه كان هناك تقدّم محدود في تنفيذ حزمة الإصلاحات الإقتصاديّة الشاملة. هذا التقاعس يضرّ بشكل جدّي ذوي الدخل المحدود والمتوسّط ويقوّض الإمكانات الإقتصادية الطويلة المدى للبنان. لذلك يتوجّب على الحكومة والبرلمان والبنك المركزي العمل معاً، وبسرعة وحسم لمعالجة نقاط الضعف المؤسسيّة والهيكليّة لتحقيق الإستقرار في الإقتصاد، وتمهيد الطريق من أجل انتعاش قوي ومستدام.

يضيف التقرير أن استمرار الوضع الراهن من شأنه أن يقوّض الثقة في مؤسّسات الدولة مع عواقب لا رجعة عنها، وستؤدّي حالة عدم اليقين المرتفعة الى إضعاف الوضع بشكل أكبر مع تضخّم متصاعد، الأمر الذي يؤدّي إلى تسريع الدولرة النقديّة مع زيادة خطر ترسّخ الأنشطة غير المشروعة في الإقتصاد وخسارة البنك المركزي لاحتياطاته من العملات. ولن تتمكن المصارف من تقديم أي ائتمان، وسيواصل صغار المودعين تكبّد خسائر كبيرة في عمليات سحب العملات الأجنبيّة الخاصّة بهم بينما الودائع المتوسطة والكبيرة سيبقى مغلقاً عليها الى أجَل غير مسمّى.

ومن جملة اقتراحات صندوق النقد الدولي، والتي وردت في هذا التقرير، التركيز على إعادة هيكلة موثوقة للنظام المالي لاستعادة صلاحيته وهذا يتطلّب الإعتراف والمعالجة المُسبقة للخسائر الكبيرة التي يتكبّدها البنك المركزي والبنوك التجاريّة واحترام التسلسل الهرمي للمطالبات، وحماية صغار المودعين. كذلك يجب إعادة هيكلة البنوك القادرة على الإستمرار، أمّا غير القادرة فما عليها سوى الخروج من السوق. كذلك تعديل قانون السريّة المصرفيّة. بالإضافة إلى ذلك يجب تحديث الاطار القانوني والمؤسّسي للبنك المركزي والسلطات المصرفيّة الأخرى لتعزيز الحوكمة والمُساءلة حتى تتم إعادة بناء الثقة في المؤسّسات.

يضيف تقرير الصندوق أن توحيد أسعار الصرف وترشيد السياسة النقديّة عاملان أساسيّان لإعادة بناء المصداقيّة وتحسين الوضع الإقتصادي بما يقلّل من الضغوط على احتياطات البنك المركزي، ويمهّد الطريق لسعر صرف يحدّده السوق. كذلك يجب حظر تمويل البنك المركزي للحكومة وبشكل صارم، وأن يكتفي بتدخّلات محدودة للغاية على أن يكون الغرض منها معالجة ظروف السوق المضطربة لا غير.

وينتهي التقرير بالتركيز على تعزيز أطر الحوكمة ومكافحة الفساد وغسيل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب (AML/CFT) لاستعادة الثقة الإجتماعيّة في سياسات الحكومة، وتعزيز النمو الشامل الأمر الذي سوف يشكّل خارطة طريق للإصلاح بما في ذلك تعزيز إستقلاليّة ونزاهة النظام القضائي وتحسين المُساءلة لا سيّما في القطاع العام.

كلّها أمور تطرّق إليها صندوق النقد الدولي في تقرير مفصّل أشار فيه الى الطرق الواجب تَتبّعها من أجل الخروج من واحدة من أسوأ أزمات العصر الحديث.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ماذا تفعل الحكومة والبنك المركزي والمسؤولون على مختلف مستوياتهم للسير بهذا التقرير؟ والأمر البديهي أن التقرير لم يكن سياسياً، وبأي شكل، بل مُستند الى معطيات إقتصادية بحتة. قد تكون هذه الأمور بديهيّة في إعادة البلاد إلى مسارها الطبيعي والخروج من هذا النفق المظلم.

أما أن يكون بعضهم غير موافق على تدخّل صندوق النقد الدولي لغايات باتت معروفة، فهذا يعقّد الأمور ويزيد من التقسيم الحاصل ضمن دوائر الإدارة في الدولة ويتخطّى بديهيّات الإقتصاد ويضع البلد في المجهول، ولن يكون هناك حلّ بديل في ظلّ هذا الإنهيار الكامل.

إنّه هروب إلى الأمام ومحاولة للقضاء على آخر ركيزة في قيام الدولة، ومحاولات فاشلة من قبل بعضهم للتعويض عنها بمؤسّسات وهميّة لن تجرّ سوى الخراب على البلد، وخسائر إضافيّة على المواطنين.

بروفسور غريتا صعب

شريحة “معيّنة” تشتري الذهب في لبنان… فهل استثمار هذا المعدن آمن؟

برز في الفترة الأخيرة اهتمامٌ كبير محلياً وعالمياً بالـ”#المعدن الأصفر”، الذي شهد ارتفاعاً ملحوظاً نتيجة عدم الاستقرار العالمي، فتخطّت “#الأونصة” الألفي دولار أميركي، مع توقعاتٍ بمواصلة #الذهب تحقيق المكاسب.
ويلحظ هذا القطاع في #لبنان حركة نشطة، بحسب الجواهرجية، الذين يؤكدون بمعظمهم أن الأسواق تشهد طلباً واسعاً على الذهب، خصوصاً “الأونصة”، بعد جمود طويل نتيجة الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد. فما سبب هذا التهافت؟
نقيب معلمي صناعة الذهب والمجوهرات في لبنان، بوغوص كورديان، أكد أن “المعدن الأصفر” له أهمية بالغة ليس فقط الآن إنّما عبر التاريخ، لكونه “الملاذ الآمن” والعنصر الأساسي لحماية الاقتصاد ومواكبة عملية التضخم المالي.
وأضاف لـ”النهار” أن الوضع الاقتصادي العالمي يضغط باتجاه ارتفاع سعر الذهب، فتهافُت الناس جاء نتيجة الحرب الأوكرانية – الروسية والخوف من حروب إقليمية وعدم استقرار الاقتصاد العالمي بعد إفلاس عدد من المصارف، ممّا يُنشّط البورصة، ويرفع الطلب على الذهب، فترتفع حينها الأسعار لتصل إلى ما هي عليه اليوم.
اللبنانيون يستبدلون “الكاش” بالذهب
على الصّعيد المحلي، اعتبر كورديان أن شراء اللبناني للذهب جاء نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي، فعمد كثيرون، خصوصاً الفرد “المتموّل”، إلى استبدال العملة الورقية بـ”العملة الصفراء” الأكثر ضماناً، ومن لديه “الكاش” في داخل منزله أقدم على “تحجيم” جزء منه واستبداله بالأونصة، أما من استطاع تهريب أمواله إلى خارج البنوك فحمى نفسه بشراء الذهب.
ولفت إلى أن استمرار صعود الذهب مرتبط بعاملين: العرض والطلب من جهة، والاستقرار العالمي من جهة أخرى، مشيراً إلى أن الذهب اليوم يتأثر كثيراً بسرعة انتشار الخبر، في حين استقرّت “الأونصة” قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها، أي بحدود 32 عاماً، على سعر 18 دولاراً أميركياً بسبب غياب سرعة الخبر.
احتياطي مصرف لبنان
ومع الحديث عن المساس باحتياطي المركزي من الذهب الذي هو عبارة عن كمية من السبائك الذهبية التي يحتفظ بها المركزي، عاد كورديان إلى عام 1996، وأعطى مثالاً عمّا كان يجري حينها عبر اقتراح عدد من النواب بيع المخزون للخروج من الأزمة، فكانت “الأونصة” حينها بـ250 دولاراً فيما وصلت اليوم إلى أكثر من ألفين.
واعتبر أن بيع الاحتياطيّ يعني أننا “أصبحنا في الهواء”، واقترح حينها تأجير قسم منه للصناعات المحلية التي تحتاج إلى تمويل، فتلجأ بهذا العرض إلى استدانة الذهب عوض المال، ولكن “بحماية ورهن” كي تحافظ الخزينة على حالها، ويُعاد شراء الذهب بفوائد الدين لزيادة المخزون.
وتوقّع كورديان أن تستبدل مستقبلاً الأوراق النقدية بالعملات الرقمية، فيما سيبقى الذهب هو الضمان الوحيد.
لا ثقة بالعملات الرقمية
 من وجهة نظر اقتصادية، اعتبر الخبير الاقتصادي والمالي إيلي يشوعي أن العملات الرقمية برهنت عن عدم استقرار لأنها “مجهولة المرجعية”، ولا يمكن للمستثمر أن يثق بها، فكان لا بدّ له من العودة إلى العملة الورقية.
وأضاف لـ”النهار” أن تأثّر العملة الورقية بعوامل عديدة منها الحروب، عدم الاستقرار، الكوارث الطبيعية وغيرها، دفعت بالأشخاص إلى اللجوء لملاذ آمنٍ، وهو بطبيعية الحال الذهب الذي يحافظ على قيمته.
ولفت إلى أن الفرد لم يعد يهتمّ بقيمة الفوائد لأنها تتآكل بفعل التضخم، وبات التفكير فقط في كيفية الحفاظ على رأس المال، خصوصاً مع توقّع تراجع النمو العالمي 3 في المئة عام 2023.
وأكّد يشوعي أنه “كلما زادت الصراعات، تطلّع الناس إلى الذهب”.
مَن يشتري الذهب؟
وعن الشريحة التي تشتري الذهب، أكد صاحب أحد متاجر الذهب في زحلة – البقاع أن اللبناني الذي يلجأ إلى تحويل مدّخراته إلى ذهب هو صاحب المصالح الذي يجني الأموال، كأصحاب الأفران والصيدليات وقطاع المحروقات، بالإضافة إلى التجّار ومن تأتيهم الأموال من الخارج كالسوري الذي يعتمد كثيراً على تحويل أمواله إلى ذهب، وذلك ليس الآن فقط إنما منذ عشرات السنين.
وأكّد لـ”النهار” أن سوق الذهب يشهد أحياناً شحّاً في السبائك والأونصة والليرات كلما ارتفع سعرها، بسبب احتكارها من قبل التجار الكبار في بيروت، فيما تراجع الإقبال على شراء الذهب المشغول بشكل لافت جداً.
واعتبر أن سعر الذهب اليوم منخفض مقارنة بسعره المستقبليّ، في إشارة إلى أن سعر صرف الدولار اليوم ليس كما كان عليه في عام 1990، حين بات يساوي “10 سنتات” مقارنة بالتسعينيات.
الاستثمار بالذهب وتحقيق العوائد
وجاء في تقرير لمجلة “فوربس” الأميركية أن أسعار الذهب شهدت ارتفاعاً عالمياً ملحوظاً في آذار 2023 بعد إعلان المركزي الأميركي رفع سعر الفائدة للمرة التاسعة على التوالي.
وتوقّع محلّلون أن يستمر الذهب في هذا الأداء، بل سيتفوّق على فئات الأصول الأخرى عام 2023 في ضوء مشكلات التضخم المستمرة، في حين يُتوقع أن ترتفع أسعار الذهب على المدى المتوسط والطويل إلى نطاق يتراوح ما بين 2040 و2080 دولاراً للأونصة.
ووفقاً للتقرير، رأى محلّلون آخرون أن أسعار الذهب ستنخفض، وأن نسبة المخاطرة ليست مواتية بالنسبة إلى الذهب في الوقت الحالي، ويعتقدون كذلك أن هذا الارتفاع جاء بدعم من حدثين قصيري الأمد، وهما انهيار بنك وادي السيليكون، والبيع غير المتوقّع لبنك “كريدي سويس” لبنك “يو بي إس”.
باختصار، من الصعب التنبّؤ بما إذا كان يتعيّن على المستثمرين شراء الذهب الآن لتحقيق العوائد، إلّا أن الإقدام على شراء هذا “المعدن الأصفر” لحماية تبخّر الأموال بفعل التضخّم، قد لا يوقع أي ضرر بالفرد أو بالمصلحة الشخصية.
كارلا سماحة

ما من عصا سحرية لمصرف لبنان.. حتى بالدولرة الإصلاح المالي شرط للاستقرار النقدي!…

تُعتبر الدولرة الجزئية كما هي الحال في لبنان منذ الأزمة النقدية في الثمانينات، مرتبطة من ناحية بعمليات التضخم المفرط الناتجة من طباعة النقد تلبية للحاجات التمويلية، لا سيما للقطاع العام، في ظلّ ضعف سائر مصادر التمويل، ومن ناحية أخرى نتيجة التضخم “المستورد” بفعل تدهور سعر الصرف واعتماد الاستهلاك بشكل أساسي على البضائع المستوردة. علماً أنّ الدولرة الجزئية التي تكون في الوقت نفسه مرتفعة وتُنسب إلى “إزدواجية العملة” (استخدام مشترك للدولار الأميركي والليرة اللبنانية في نفس الوقت مع طغيان الأول بتفوّق في الأسواق) ولا تشكّل سوى خيار مرحلي.. وبذلك، تكون الدولرة الجزئية وسيلة لتجنّب عيوب عدم استقرار العملة الوطنية في فترة معينة، وملجأ وسيطاً بانتظار حلّ جذري: إما استعادة الثقة بالعملة الوطنية وصدقية سياسة المصرف المركزي وقدرته على تأمين الاستقرار النقدي، التي يجب أن تؤدي تلقائياً إلى التحرّر التدريجي من الدولرة والعودة التدريجية للعملة الوطنية، وإما أن تؤدي إلى تعميم دولرة شاملة في حالة صعوبة استعادة الثقة في العملة الوطنية والاستقرار النقدي المنشود، من خلال سياسة الاستقرار التي تتلاءم مع خصوصيات الاقتصاد الوطني.

منذ أزمة الثمانينات في لبنان، شكّل معدّل الدولرة المرتفع تقييدًا أيضًا للمصرف المركزي وسياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والتي كانت مكلفة للاقتصاد، من دون ضمان الاستقرار الفعلي. والبرهان على ذلك، عدم انخفاض مستوى الدولرة عن حدود 67% في أفضل الأحوال التي مرّ فيها لبنان، حتى في ظل الـ 22 عامًا من تثبيت سعر الصرف، فيما كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومتماهٍ، مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعًا بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي، لاسيما منذ بدء تسجيل تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ العام 2011..

من المعروف في الأدبيات العلمية كما في تجارب البلدان، أنّ نظام الربط الصارم لا يصح لمجرد حدوث أزمة في بلد معيّن، إنما يكون لبلدان تشهد أزمة ثقة مزمنة بعملتها وبكل السلطة السياسية والمالية والنقدية، ويتزامن ذلك مع أزمات سياسية وجيوسياسية وأحياناً أزمة هوية ودولرة جزئية مرتفعة وضعف في الاقتصاد وتركّزه على الخدمات أكثر منه على الانتاج وامكانيات التصدير… والدولرة الشاملة غير الرسمية تكون عادة مرتبطة بفترات صراع وأزمات تعرّض السيادة للخطر، كما حدث في تيمور الشرقية وكوسوفو قبل عام 2000. فيما تُظهر التجارب الدولية، أنّ الدولرة الشاملة الرسمية تكون أكثر نجاحاً، وغالباً ما تتبع فترة الدولرة غير الرسمية التي تفرض نفسها كأمر واقع تتقبّله وتنظّمه السلطات الرسمية، كما حدث في الإكوادور في عام 2000. ويمكن إدخالها مباشرة مع ظهور كيان سياسي جديد (الجبل الأسود وكوسوفو في عام 2002).

فالدولرة الشاملة تتميز بطابعها النهائي (غير القابل تقريبًا للرجوع عنه). واذا كانت المزايا الرئيسية للدولرة تنبع من صدقيتها في الدولرة الكاملة، مرادفة بالنسبة للدولة لخسارة أرباح طباعة العملة الوطنية seigneuriage (الناتج بشكل أساسي من الفرق بين تكلفة إنتاج العملات المعدنية والورقية وقوتها الشرائية، وهي عملياً، إذا تجاهلنا الحدّ الأدنى من تكلفة طباعة الأوراق النقدية والصناعة المعدنية، تصبح تساوي الزيادة في حجم العملة الوطنية المتداولة). فضلاً عن كون الدولرة الكاملة تلغي دور المصرف المركزي الوطني كملاذ أخير للإقراض المصرفي.. وبالتالي تجعل البلد المعني بالدولرة الشاملة والرسمية يخسر “السيادة النقدية” المتمثّلة بالعملة الوطنية، وهي إلى جانب العلم، تمثّل رمز استقلال وسيادة الوطن، وهنا يصبح الموضوع ذات أبعاد أوسع من الناحية النقدية البحتة.

من بين مزايا الدولرة الكاملة، نستشهد أيضًا باستحالة استمرار القادة في اتباع سياسات مالية توسعية تؤدي إلى حدوث تضخم، من خلال التخلّي عن امتياز طبع النقود، حيث لم يعد بإمكان الدولة اللجوء إلى طباعة النقود لتمويل عجزها. فهي ملزمة بخفض الإنفاق العام أو زيادة الإيرادات (أو اختيار مزيج من الاثنين)، أو حتى تفعيل برنامج الخصخصة، أو أقلّه مشاركة القطاع العام والقطاع الخاص في إدارة المرافق والخدمات التي لا تزال عامة كلياً. على أي حال، يخاطر القادة بتقلّص الطلب المحلي وحرمان أنفسهم من حرّية التدخّل في الاقتصاد.

هل بإمكان السلطات العامة الالتزام بالإصلاح المالي المطلوب وضبط المالية العامة؟ الحؤول دون العجز المالي وتزايد الدين العام لعدم الاضطرار إلى اللجوء مجدّداً لطباعة العملة، خصوصاً أنّ مجلس النقد او الدولرة الشاملة يمنعان ذلك؟؟ هل بالإمكان قبول تحدّي القيام بإصلاح القطاع العام باتجاه تخفيض جذري لحجمه الهائل والمصاريف الجارية التي يتسبّب بها، لا سيما منها الرواتب والأجور؟. هل السلطة السياسة تلتزم بتحدّي ضبط التهرّب الضريبي والتهريب عبر الحدود؟ هل النية والإمكانية موجودتان لإعادة انتظام الموازنات وقطوعات الحسابات؟

لوحظ أنّ الإنفاق العام تميز خلال سنوات الحرب بالفوضى وانعدام السيطرة المركزية. خلال تلك الفترة ، لم تكن الدولة تعرف بشكل دقيق لا مقدار نفقاتها ولا ناتج إيصالاتها، ولهذا توقفت عن إغلاق حسابات الموازنة من 1979 إلى 1993.

توقف نشر حسابات الموازنة على النحو الذي أقرّه الدستور وقانون الحسابات العامة استمر من 1979 حتى 1993. إذاً، اضطرت الدولة إلى اللجوء إلى الديون الخارجية والداخلية لتمويل تطوير المشاريع التي توقف تنفيذها على مجرى الأحداث.

وأدّت خاتمة فترة الحرب في عامي 1989 و 1990 إلى تفاقم وضع المالية العامة بشكل حاد. فأدّى انخفاض الإيرادات الضريبية إلى اعتماد الخزينة العامة ، بالإضافة إلى الديون، على أرباح مصرف لبنان التي يتمّ تحويلها إليه بموجب قانون النقد والتسليف. وبلغت حصة أرباح مصرف لبنان في تمويل الخزينة حوالى 62% من إيرادات الموازنة في عام 1989 و 38.5% من إيرادات الموازنة في عام 1990. ويبقى القول، إنّه في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت المتوجب على الخزينة اللبنانية يعادل نحو 3 مليارات دولار أميركي، منه 327.5 مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية.

وباحتساب كلفة خدمة هذا الدين العام على أساس معدلات الفائدة السنوية المعتمدة لدى مصرف لبنان على مدى السنوات 1992 -2011 والمدفوعة من الخزينة اللبنانية، فإنّ تلك المبالغ المتوجبة في نهاية العام 1992، وبعد إضافة الفائدة المتجمعة على مدى كل سنة بين عامي 1992 و2011، بلغت 30 ألف مليار ليرة لبنانية. كذلك ارتفع الدين بالدولار الأميركي بفعل تراكم الفوائد على رصيد الدين العام، فيما كان قطاع الكهرباء يراكم سلفات بالدولار الأميركي وفوائد عليها، واستمرت الكهرباء بتسجيل عجز مالي سنوي بحوالى 2 مليار دولار وتتراكم عليها الفوائد…

وما أن انتظم عمل المالية العامة منذ عام 2003 حتى عام 2005، حتى عاد وتوقّف إقرار الموازنات من عام 2005 حتى عام2017 وتمّت استعادته بعدها بغياب نشر قطوعات الحسابات التي تعكس الأرقام الفعلية…

وبذلك يتبيّن تخطّي السلطات العامة لقانون النقد والتسليف والالتفاف على المادة 13 التي تقرّ باستقلالية المصرف المركزي المالية، ثم المواد 91 و 92 التي تؤكّد على إمكانية تمسّك المصرف المركزي بتفادي التمويل المباشر لعجوزات المالية العامة حتى “في ظروف استثنائية الخطورة او في حالات الضرورة القصوى، اذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي، تحيط حاكم المصرف علماً بذلك”.

يدرس المصرف مع الحكومة امكانية استبدال مساعدته بوسائل اخرى، كإصدار قرض داخلي او عقد قرض خارجي او اجراء توفيرات في بعض بنود النفقات الاخرى او ايجاد موارد ضرائب جديدة الخ…

وفقط في الحالة التي يثبت فيها انّه لا يوجد أي حل آخر، وإذا ما اصرّت الحكومة، مع ذلك، على طلبها، يمكن المصرف المركزي ان يمنح القرض المطلوب.

حينئذٍ يقترح المصرف على الحكومة، إن لزم الامر، التدابير التي من شأنها الحدّ مما قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة وخصوصاً الحدّ من تأثيره، في الوضع الذي أُعطي فيه، على قوة النقد الشرائية الداخلية والخارجية.

كذلك لا بدّ من التذكير بالمادة 113 لقانون النقد والتسليف، التي تنصّ على أنّه يتألف الربح الصافي لمصرف لبنان من فائض الواردات على النفقات العامة والأعباء والاستهلاكات وسائر المؤونات.

يقيّد 50% من هذا الربح الصافي في حساب المصرف المركزي، يُدعى “الاحتياط العام” ويدفع 50% إلى الخزينة. وعندما يبلغ الاحتياط العام نصف رأسمال المصرف يوزع الربح الصافي بنسبة 20 % للاحتياط العام و80 % للخزينة.

وإذا كانت نتيجة سنة من السنين عجزاً، تُغطّى الخسارة من الاحتياط العام. وعند عدم وجود هذا الاحتياط او عدم كفايته، تُغطّى الخسارة بدفعة موازية من الخزينة (وهو ما تمّ تجاهله كلياً من قِبل السلطات المعنية عند الحديث عن “فجوة مصرف لبنان” دون تحمّل أي مسؤولية بتغطيتها).

وإذا اصبح رصيد حساب “الاحتياط العام” من جراء اقتطاع مبلغ بموجب الفقرة السابقة، اقلّ من نصف الرأسمال، يجري توزيع الربح الصافي مجدداً بنسبة 50% لهذا الحساب و50% للخزينة، الى ان يبلغ الحساب مجدداً نصف الرأسمال.

تدور الاعتراضات التي تمّت صياغتها ضدّ الدولرة الشاملة حول 5 أنواع من الحجج: فقدان استقلالية السياسة النقدية، التخلّي عن سياسة سعر الصرف، اختفاء المقرض الملاذ الأخير، والحدّ من الأدوات المضادة للتقّلبات الاقتصادية الدورية.

وسط انهيار بهذا الشكل وتقلّص الاحتياطات بالدولار الى حدود 9 مليارات دولار ونصف، أي ما يغطي حتى 6 أشهر استيراد فقط، يجعل من الصعب ايجاد حلول مثالية. وأي مخرج ستكون له فوائده وتكاليفه، ولكن لا يمكن الاكتفاء بالشق النقدي لمصرف لبنان كلاعب وحيد، بل يحتاج لإصلاحات مواكبة.

د. سهام رزق الله

أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف

لبنان “يسجل” أعلى نسبة للتضخم… وعملته “الأسوأ عالمياً”

تكفّلت الفواتير المضاعفة للهواتف المحمولة والمستحقة عن شهر مارس (آذار) الماضي، بتحديث واقعي ومؤلم للأعباء الثقيلة التي طرأت على أكلاف الخدمات العامة على المستهلكين في لبنان، بنتيجة قرارات احتساب أغلبها وفق سعر الدولار المعتمد على منصة «صيرفة»، مما سيضاعف تأثيرها في الارتفاعات القياسية المشهودة لأرقام موجات الغلاء المتتالية بوتيرة متسارعة في لبنان.

وشهدت تكلفة الاتصالات التي تعكس نسبة تثقيل تبلغ 4.5 في المائة من المؤشر العام للغلاء، ارتفاعات حادة خلال الأشهر الماضية بعد قرار احتسابها على سعر الدولار المعتمد على منصة «صيرفة». وبلغت نسبة الارتفاع التراكمية على أساس سنوي نحو 380 في المائة حتى نهاية شهر فبراير (شباط) الماضي. علماً بأن السعر المرجعي للدولار على المنصة ارتفع مجدداً من 70 ألف ليرة إلى نحو 90 ألف ليرة.

ويبلغ الحد الأدنى الساري حالياً لتكلفة الاتصالات في لبنان نحو 7 دولارات شهرياً، حيث يرتفع المتوسط العادي مع ضرورات إضافة تكلفة الاشتراك بالباقة الأدنى للإنترنت إلى نحو 15 دولاراً. وهو ما يعني أن الفواتير الجديدة لن تقل عن نحو 1.3 مليون ليرة. فيما تفرض ضرورات التواصل وجود خطين هاتفيين على الأقل لدى كل أسرة، أي بتكلفة شهرية تتعدّى 2.5 مليون ليرة.

وبالمثل، بدأ ورود فواتير الإمداد بالكهرباء العامة، ورغم اقتصارها على ما بين 4 و6 ساعات يومياً، انطلاقاً من حد أدنى سيقارب المليوني ليرة شهرياً، مقابل رسوم الاشتراك والتأهيل المحتسبة بنحو 12 دولاراً بالحدود الأدنى، ويضاف إليها احتساب 10 سنتات أميركية لكل كيلوواط من الاستهلاك لأوّل 100 كيلو، و27 سنتاً للاستهلاك الإضافي. وهو ما يعني أن الفاتورة الأدنى ستكون نحو 22 دولاراً وفق سعر «صيرفة».

وريثما تصدر الإحصاءات الموثقة لتطور مؤشر الغلاء للشهر الماضي، ومعها حصيلة الفصل الأول من العام الحالي، يمكن بسهولة استنباط الفوارق الطارئة على فواتير الاتصالات والكهرباء وسائر الرسوم الحكومية، ربطاً بتطور سعر صرف الليرة على المنصة التي يديرها البنك المركزي، الذي سجل انهيارات دراماتيكية متتالية ترجمها ارتفاع سعر الدولار المعروض من 38 ألف ليرة إلى 87 ألف ليرة حالياً، أي بارتفاع بلغ 49 ألف ليرة ونسبته نحو 129 في المائة.

وتظهر استطلاعات ميدانية، ارتفاعات مذهلة في التكلفة الشهرية للمعيشة في لبنان، وبما يتراوح بين 40 و70 مليون ليرة، بالحد الأدنى للأسرة المكونة من 4 أفراد، فيما لا تتعدى متوسطات المداخيل الواقعية والمدعومة بالزيادات أو المنح الطارئة والمساعدات الاجتماعية مجموع 20 إلى 25 مليون ليرة شهرياً للعاملين في القطاعين العام والخاص. مع التنويه بأن نحو 20 إلى 30 في المائة من إجمالي العاملين يتقاضون رواتبهم جزئياً أو كلياً بالدولار الأميركي، مما يمنحهم قوة توازن متكافئة مع تفاقم الأكلاف المعيشية.

وتثبت هذه الفجوات صدقية التقارير الدولية بأنّ 80 في المائة من سكّان لبنان يعيشون تحت خطّ الفقر وأنّ 70 في المائة من الأشخاص يواجهون صعوبات في التأقلم مع النفقات المتزايدة. كذلك أنّ ذوي الدخل المحدود هم الأكثر تأثّراً بالأزمة، في حين أنّ شبكة الأمان الاجتماعي تعاني من قصور في التمويل.

ومن شأن الأرقام المحدثة، أن تعزز تموضع لبنان في المرتبة الأولى لمؤشر التضخم في العالم، وبالمثل صدارة الليرة لقائمة «أسوأ» العملات على مستوى الأداء السلبي حول العالم، فيما ستنتج بالتوازي ارتقاء المؤشر التراكمي للغلاء إلى ما يتعدى ثلاثة آلاف في المائة بحصيلة سنوات الأزمات المتفاقمة.

وبالأسبقية، فقد سجّل لبنان أعلى نسبة تضخّم اسميّة في أسعار السلّة الغذائيّة حول العالم بالقياس السنوي المقارن حتى نهاية الشهر الأول من العام الحالي، محققاً رقم 139 في المائة نسبة تغيّر سنويّة في مؤشّر تضخّم أسعار الغذاء، ومتفوقاً بذلك على زيمبابوي التي سجلت نسبة 138 في المائة، لتتبعهما الأرجنتين بنسبة 103 في المائة، وإيران بنسبة 73 في المائة.

أمّا فيما خصّ نسبة التضخّم الحقيقيّ، التي تعكس، بحسب التقرير التحليلي الأحدث الصادر عن البنك الدولي، نسبة التضخّم الاسميّة في أسعار الغذاء ناقصا منها نسبة التضخّم الإجماليّة، فقد بلغت نسبة التغيّر السنويّة في أسعار الغذاء في زيمبابوي 45 في المائة في فترة المقارنة، تبعتها مصر ورواندا بنسبة متساوية بلغت 30 في المائة، وإيران بنسبة 20 في المائة، في حين بلغت هذه النسبة 15 في المائة في لبنان، وهي سابع أعلى نسبة في العالم.​

علي زين الدين

الدولرة الكاملة من الحلول المطروحة للنقاش

الدولرة بمفهومها العالمي هي عندما تبدأ الدولة بالاعتراف بالدولار الأميركي أو أي عملة أخرى، كوسيلة للتبادل أو المناقصة القانونية، إلى جانب أو بدل عملتها الوطنية. ويتمّ اعتماد الدولرة عادة، عندما تصبح العملة المحليّة غير مستقرّة وتفقد فائدتها كوسيلة للتبادل في معاملات السوق.

منذ نهاية نظام «بريتون وودز» لأسعار الصرف الثابتة منذ ما يقارب الثلاثين عاماً، أصبحت المعضلة التي تواجه الدول تكمن في إيجاد ترتيبات عمليّة لتبادل العملات أكثر تحدّياً وصعوبة.

وأصبحت الخيارات أكثر تنوّعاً، لاسيّما وأنّ التجارة العالميّة وأسواق رأس المال بدت أكثر تكاملاً. لذلك ظهرت مشاكل جديدة لمسألة أفضل نظام للتبادل، من أجل تعزيز أهداف التنمية لكلّ البلد. وقد تكون أحدث هذه الحلول هي الدولرة الكاملة، والتي بموجبها تتخلّى الدولة رسمياً عن عملتها الخاصّة، وتتبنّى عملة أكثر إستقراراً لبلد آخر -الدولار الأميركي هو الأكثر شيوعاً- كعملة قانونيّة لها. هذا ومن منظور أي بلد يعمل بالعملة الصعبة، قد تبدو الدولرة الكاملة أكثر جذرية مما هي عليه وتعني الدولرة الكاملة.

مستوى أعلى من الثقة

إتخاذ الخطوة التالية من الدولرة غير الرسمية والمحدودة إلى الاستخدام الرسمي الكامل للعملة الأجنبية – الدولار الأميركي- في جميع المعاملات.

وعامل الجذب الرئيسي للدولرة الكاملة هو القضاء على مخاطر حدوث انخفاض مفاجئ وحاد في سعر الصرف في البلاد، وتخفيض علاوة المخاطر المرتبطة بالاقتراض الدولي، ويمكّن الاقتصادات الدولارية من أن تتمتّع بمستوى أعلى من الثقة بين المستثمرين الدوليين وفروق أسعار فائدة أقل على الاقتراض الدولي وانخفاض التكاليف الماليّة والمزيد من النمو والإستثمار.

والسؤال الذي يطرح نفسه! هل يمكن لهذه المزايا أن تعوّض تكاليف تخلّي بلد عن عملته؟ الإجابات معقّدة، وفي النهاية تتحوّل إلى الظروف الخاصّة بكل بلد. لكن وعلى ما يبدو، المزيد والمزيد من البلدان تدرس، وبجديّة، الدولرة الكاملة، كونها تتعامل مع التغيّرات في الاقتصاد العالمي، لاسيّما على مدى السنوات العشرين الماضية.

وخلال ثمانينات القرن الماضي، عصفت بالعديد من الدول مشكلة التضخّم، الأمر الذي أثار الجدل حول أنظمة الصرف ودور ربط أسعار الصرف بعملة أو مجموعة عملات أجنبية، لاسيّما تلك الخاصّة بالشركاء التجاريين لهذه الدول. (ألدول الإفريقيّة والتي جعلت عملاتها مرتبطة بالفرنك الفرنسي). وعلى هذه الخلفية ومع ازدياد مشاكل الدول الاقتصاديّة، إقترح في العام 1999 الرئيس الأرجنتيني كارلوس منعم، أن تتبنّى الأرجنتين الدولار الأميركي كحلّ نهائي لتاريخها الطويل من الصعوبات مع السياسة النقدية وسياسة أسعار الصرف. وفي كانون الثاني من العام 2000 إعتمدت الإكوادور، في سياق أزمة اقتصاديّة وسياسيّة عميقة، الدولار الأميركي كعملة قانونيّة لها.

وهنا تختلف الآراء، ولكن وعلى ما يبدو، يتّفق الاقتصاديّون البارزون على القول، بأنّ جميع البلدان النامية يجب أن تستخدم الدولرة. وقد تمّ حثّ بعض الدول الصناعيّة على النظر في ذلك، والأمثلة هنا كثيرة، لاسيّما تخلّي الدول الأوروبيّة عن عملاتها الوطنيّة واستعمال اليورو، واقتراح البعض على كندا أن تتبنّى الدولار الأميركي مع تطوّر إتفاقيّة التجارة الحرّة لأميركا الشماليّة (NAFTA)، بينما بنما هي الدولة الوحيدة التي استخدمت الدولار الأميركي كعملة قانونيّة، لاسيّما وأنّ لها روابط تاريخيّة وسياسيّة واقتصادّية وثيقة جداً بالولايات المتّحدة. أمّا تقييم هذه العمليات وخيارات أسعار الصرف، فيجب أن تكون على فترات طويلة، وذلك لأنّ الدولرة شبه الكاملة وفوائدها لا يمكن جنيها إلّا على المدى الطويل.

«لا يوجد غذاء مجّاني»

وقد أصبحت الدولرة الكاملة واحدة من أكثر البدائل السياسية إثارة للجدل، لاسيّما في ظلّ انهيار مالي ونسب تضخّم مرتفعة وعدم يقين اقتصادي. وعلى سبيل المثال، إقترح الخبير الإقتصادي ستيف هانكي الدولرة الكاملة، باعتبارها واحدة من الأمور الضروريّة للمساعدة في حلّ أزمة الأرجنتين. ولكن، هل فوائد الدولرة الكاملة أكبر من تكاليفها. إنّ قرار الدولرة الكاملة من عدمه يعيد إلى الأذهان عبارة «لا يوجد غذاء مجّاني»، لاسيّما وأنّ الفوائد تأتي بكلفة. علماً أنّ فوائدها المتدنية كما سبق وذكرنا، هي تراجع معدّلات التضخّم والقضاء على مخاطر إنخفاض قيمة العملة المحليّة وتعزيز ملحوظ لصدقية السياسة الإقتصاديّة.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل لبنان بحاجة لمثل هذه السياسة، كونها الأنسب لمشاكلنا الاقتصاديّة والنقديّة الحاليّة، أم أنّه يبقى الأفضل التعافي مع الدولار الأميركي بهذا الشكل الجزئي، والذي لا يخدم كثيراً الإقتصاد إلّا من ناحية تصويب مسار التضخّم؟

كلّها أمور يجب التطلّع اليها في ظلّ أوضاع معيشيّة واقتصاديّة ونقديّة باتت لا تُطاق ولا تُحتمل. ونحن في الوضع هذا أمام العديد من الاحتمالات تكون فيها الدولرة الكاملة منفذاً للخلاص ولإعادة الثقة وتطوير سياسات اقتصاديّة أكثار كفاءة.

بروفسور غريتا صعب

إستقرار الليرة نسبياً بانتظار دولارات عطلات نيسان… والصيف

400 ألف وافد سيضخّون الكثير من الدولارات في خلال شهر

 

ارتفع متوسط التداول على منصة صيرفة في 3 أسابع من متوسط يومي يبلغ 23 مليون دولار الى 39 مليوناً ثم الى ما بين 85 و95 مليوناً كما الحال هذه الأيام. وهذا ما يفسر هبوط سعر صرف الدولار من ذروة بلغها عند 143 الف ليرة الى 110 آلاف ثم الى نحو 98 الفاً كما أمس. وهناك تعويل على قدوم 400 الف وافد خلال فترة العطلات لضخ المزيد من الدولارات التي يمكن ان يجمع منها مصرف لبنان كميات يضخها على منصة صيرفة، على أمل الوصول في هذه المعادلة الى فصل الصيف ايضاً والذي يتدفق معه الوافدون الى لبنان بأعداد تزيد على 1.5 مليون وافد.

 

قراءة تاريخية

 

بيد أنه تاريخياً، ومنذ إطلاق عمل منصة صيرفة في ايار2021، ومصرف لبنان يحاول جاهداً من خلال هدر الدولارات، مواكبة سعر صرف السوق السوداء وجعل سعر صرف صيرفة السعر الرسمي الوحيد المتداول به في السوق. إلا ان محاولاته منذ عامين ما زالت تبوء بالفشل رغم ان احتياطيه الصافي بالعملات الاجنبية وفقاً لما تظهره ميزانيته انخفض من 16 مليار دولار في ايار 2021 الى حوالى 9 مليارات دولار في اواخر آذار 2023، وبالتالي فان 7 مليارات دولار قد أُنفقت، بجزء كبير منها لتمويل صيرفة وجزء لتمويل بعض نفقات الدولة، ولكن من دون جدوى مالية او اقتصادية في الحالتين.

 

ترقيعات لم تنجحرنى سعرتي

 

لم تنجح سياسات الترقيع تلك، تارة عبر رفع سعر صيرفة بين ليلة وضحاها بقرار منفرد من قبل الحاكم، وطوراً عبر دعوة الجماهير لشراء الدولارات عبر المنصة وبسقوف غير محدودة، في استقرار سعر الصرف عند أي مستوى بلغه، ولا تزال الليرة تنهار بشكل متواصل رغم ان محاولة البنك المركزي الاخيرة مع نهاية كلّ شهر، نجحت في رفع سعر صرف الليرة مقابل الدولار من سقف قياسي عند 143 الفاً وصولا الى 98 الف ليرة، بعد ضخه حوالى 423 مليون دولار خلال آخر 5 ايام عمل للمنصة. ورغم ان سعر صرف صيرفة اصبح 88 الف ليرة، قرر البنك المركزي تسديد رواتب القطاع العام على سعر صرف 60 الف ليرة هذا الشهر، مراكماً خسائر اضافية عليه. علما ان هذين التبديد والتبذير في ما تبقى من احتياطي البنك المركزي من العملات الاجنبية او طباعة العملة وزيادة التضخم، لا يحظيان بموافقة كل اعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان وفقاً لما اكدته مصادر معنيّة. حيث ان قرارات الإنفاق على سياسات الترقيع لتثبيت سعر الصرف وغيرها هي قرارات منفردة تقريباً يتخذها حاكم البنك المركزي، مع الاشارة الى ضرورة التنبّه الى ان التعاميم والقرارات ذات الصلة لا تحمل توقيعات المجلس المركزي لمصرف لبنان، مع ذريعة ان للحاكم صلاحية خاصة في هذا الشأن وفقاً لقراءة خاصة لقانون النقد والتسليف.

 

باستطاعته التحكم لبعض الوقت أيضاً

 

في هذا الاطار، عزا عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي عدنان رمال ارتفاع سعر صرف الدولار فوق 140 الف ليرة اواخر الشهر الماضي الى تدخل مصرف لبنان والمصارف لشراء الدولارات المعروضة في السوق بالاضافة الى الدولارات المخزنة، عبر رفع السعر والتحفيز على بيعها. ورأى ان حجم الدولارات التي اشتراها البنك المركزي في الآونة الاخيرة يخوّله التحكم بسعر الصرف لفترة أطول من المرات السابقة، في وقت يشهد فيه السوق التجاري طلباً ضعيفاً على الدولار للاستيراد، نتيجة تراجع الاستهلاك ورفع الرسوم الجمركية بالاضافة الى تراجع القدرة الشرائية لموظفي القطاع العام بسبب تراجع قيمة رواتبهم بالدولار. (مصادر اخرى اشارت الى ان تراجع الاستيراد متعلق ايضاً بما تم تخزينه قبل رفع الدولار الجمركي).

 

كما اعتبر رمّال ان تقليص الفارق بين سعر صرف صيرفة وسعر السوق السوداء حدّ أيضا من عمليات المضاربة في السوق، وبالتالي تراجع الطلب على الدولار.

 

سيعود الدولار إلى الإرتفاع

 

وشدد على ان مصرف لبنان قادر لغاية اليوم على التحكّم في سعر الصرف، ولكنها فترة موقتة الى حين نفاد السيولة بالعملات الاجنبية التي كوّنها، حيث سيعاود سعر صرف الدولار الارتفاع طالما لا توجد مؤشرات سياسية او مالية او اقتصادية ايجابية. مشيراً الى ان البنك المركزي لا يستخدم احتياطيه للتدخل عبر صيرفة، والدليل على ذلك ان النقص بالدولار الذي تظهره ميزانية مصرف لبنان الاخيرة بين موجوداته ومطلوباته، زهيد ما بين 50 و60 مليون دولار، مما يدلّ على انه لا يستخدم احتياطيه لتمويل صيرفة وتسديد الرواتب والاجور بل لتمويل نفقات الدولة الاساسية، في حين ان عملية تمويل القطاع العام تتم من خلال السوق السوداء.

 

السيولة 17 مليار دولار

 

من جهته، شرح المصرفي محمد فحيلي ان تحسّن سعر صرف الليرة ليس له بالضرورة انعكاس ايجابي على معدل التضخم المتزايد، مشدداً على ان الارتكاز على حركة الدولار كمؤشر لتحسّن الاوضاع الاقتصادية هو مفهوم خاطئ.

 

واشار الى ان لبنان يتلقى 7 مليارات دولار سنوياً من التحويلات المالية من المغتربين وحوالى 3 مليارات من التحويلات المباشرة غير الرسمية، مما يعني ان التحويلات المالية من لبنان الاغتراب تشكل 50 في المئة من حجم الناتج القومي بالاضافة الى 3 مليارات دولار متأتية من الصادرات وما يقارب 4 الى 6 مليارات دولار مخزنة في البيوت يتم استخدامها لدى ارتفاع سعر صرف الدولار. موضحاً ان هناك سيولة بالعملة الاجنبية بحوالى 17 مليار دولار في لبنان، تشكل مدماكاً اساسياً وحاجزاً اساسياً بوجه اي ارتفاع جنوني في سعر صرف الدولار على غرار الارتفاع الذي بلغه عند 140 الف ليرة، وهي بمثابة ضوابط اقتصادية لسعر الصرف الدولار مقابل الليرة.

 

صيرفة سعر مركب

 

ورأى ان اي ارتفاع جنوني وغير طبيعي في سعر الصرف هو تفوّق لعامل اللاثقة على العوامل الاقتصادية، “إلا ان سعر الصرف عاود بلوغ مستوياته الطبيعية هذه الايام متأرجحاً بين 90 و 100 الف ليرة”.

 

ولفت فحيلي الى ان سعر صرف صيرفة ليس سعراً ناتجاً عن حجم العرض والطلب بل انه سعر مركب يحدده مصرف لبنان ويبيع على اساسه الدولار ولا يشتريه. علما ان البنك المركزي يشتري الدولار من السوق الموازي ويعتمد على احتياطيه من العملات الاجنبية من توظيفاته في الخارج وغيرها للتدخل في صيرفة. وقال انه عند موعد تسديد رواتب واجور القطاع العام، يعرض مصرف لبنان الدولارات في السوق، ويعاود بعد ذلك شراءها لاعادة تكوين كتلة نقدية توازي قيمة الرواتب والاجور بالدولار.

 

حاجات القطاعين العام والخاص

 

واوضح فحيلي ان الاجراء الاستثنائي الذي أضيف على عمل صيرفة (التعميم 161) أتاح تدخل مصرف لبنان في السوق من خلال المنصة بهدف تمكين موظفي القطاع العام من الانخراط بالدورة الاقتصادية بشكل فعال، بعد ان تمكن القطاع الخاص من التأقلم مع المتغيرات الاقتصادية ودولرة ايراداته ونفقاته في حين عانى القطاع العام من الاستبعاد الاقتصادي. لذلك، استُخدمت صيرفة لدعم استهلاك القطاع العام من خلال تسديد رواتب الموظفين وفقاً لسعر صرف دولار مدعوم على ان يتم بيع تلك الدولارات في السوق السوداء والاستفادة من فروقات السعر. واعتبر ان تدخلات مصرف لبنان الاستثنائية عبر صيرفة، ليست لضبط سعر صرف الدولار، بل بانتظار ان تضع الدولة حدّا للافراط في الانفاق واصدار موازنة متوازنة تخفف من عبء تمويل نفقاتها الملقاة على عاتقه من خلال طباعة العملة. واضاف: وبما ان تمويل نفقات الدولة عبر طباعة العملة يزيد من الضغوطات التضخمية، يسعى مصرف لبنان الى تسديد رواتب القطاع العام بالدولار للحدّ من تلك الضغوطات. إلا ان المشكلة الحالية تتمثل بان دولار صيرفة المدعوم هو دولار “سياسي” لان فروقات سعر الصرف بين السوق السوداء وصيرفة، يسجّل ديناً على الخزينة اللبنانية.

رنى سعرتي

ما هو الرقم المناسب لدولار رواتب القطاع العام؟

ما جرى في موضوع دفع رواتب موظفي القطاع العام على سعر 60 ألف ليرة للدولار، عبر منصة «صيرفة»، هو نوع من أنواع ربط الرواتب بالدولار وتثبيتها. فكيف سينعكس هذا الواقع على الوضع العام؟ وما هي إيجابيته وسلبياته؟

لا شك في انّ الاقتصاد الوطني يحتاج الى القطاع العام لكي يستمر بالحد الأدنى القائم حالياً، لا سيما أننا في دولة مركزية ترتبط كل المعاملات التي يحتاجها القطاع الخاص والافراد بمؤسسات القطاع العام. وبالتالي، إن المعادلة بسيطة: من دون قطاع عام سيسقط القطاع الخاص، ولو بعد حين، وسينتقل الوضع الى مشهد أشدّ تعقيداً.

هذا الواقع يعني انّ حماية موظفي القطاع العام، وتأمين القدرة على صمودهم واستمراريتهم للابقاء على المرفق العام شغّالاً، من المسلمات التي لا نقاش فيها. بالاضافة طبعاً، الى القسم المتعلق بالقوى العسكرية والامنية، حيث تصبح الحاجة الى ضمان الحد الأدنى للعناصر والضباط والمؤسسات العسكرية والامنية واجب الوجوب.

وبالتالي، فإن ربط رواتب القطاع العام بتسعيرة ثابتة للدولار، هو إجراء مطلوب في هذه المرحلة، طالما اننا لا نزال بعيدين من الحل الشامل الذي سيعالج اساس الأزمة وينفي الحاجة الى كل الاجراءات الاستثنائية، وبعضها شاذ، التي يتمّ اتخاذها مؤقتاً.

لكن مثل هذا الاجراء يحتاج الى عناية خاصة لئلّا يتحوّل الى عبء اضافي على البلد، من خلال دراسة هادئة للكلفة اولاً، ولكيفية تأمين الاموال. اذ انّ ما قيل قبَيل صدور قرار الدفع على سعر 60 الف ليرة للدولار، هو انّ وزارة المال ستتحمّل الفرق من خلال الدولارات التي تدخل الى الخزينة من ايرادات دولارية. (الموظفون لم يوافقوا على الرقم بعد، ويطالبون بدولار على سعر 45 الف ليرة). هذه الايرادات الدولارية ضئيلة طبعاً، والدولة تحتاج كل دولار منها لتسيير الضروريات القصوى. وبالتالي، لا بد من احتساب هذه الايرادات الدولارية بعناية، وضمان عدم تكبير فجوة العجز في الموازنة، لأنّ ذلك سيزيد الضغط على الاقتصاد الوطني المهترئ اصلاً، وسيتسبّب بتكبير فجوة الديون التي لا يبدو حتى الان انّ الحكومة تخطّط لتسديدها يوماً ما. وبالتالي، سيدفع المجتمع مجدداً ثمن هذا الانحدار.

في حسبة مبدئية لا ترتكز على ارقام دقيقة بسبب غياب الارقام في البلد، بما فيها ارقام اعداد موظفي القطاع العام، واستناداً الى بند الرواتب، يتبيّن انّ مجموع ما تدفعه الدولة من رواتب حالياً يصل الى 36 الف مليار ليرة. وهذا يساوي حوالى 350 مليون دولار وفق السعر الحقيقي للعملة الخضراء في السوق الحرة. هذا الرقم زهيد جدا قياسا بحجم الرواتب قبل الانهيار. وهو يساوي حوالى 490 مليون دولار اذا احتسبناه على «صيرفة» الـ60 الف ليرة. في المقابل، فإنّ حجم الايرادات المقدّرة في موازنة 2022 تبلغ 39 الف مليار ليرة، أي حوالى 380 مليون دولار. وتصل النفقات المقدرة الى حوالى 47 الف مليار ليرة، اي حوالى 460 مليون دولار. واذا أخذنا في الاعتبار ان الانفاق في موازنة 22 كان محتسباً وفق الرواتب السابقة، اي قبل زيادة اساس الراتب ثلاثة اضعاف، وزيادة بدل النقل والتوابع، فهذا يعني ان الانفاق في العام 2023 سيصل الى 60 الف مليار من دون احتساب الزيادات التي ستطرأ جرّاء الخطأ في تقدير الواردات وكذلك في تقدير الانفاق.

هذه الارقام، تقود الى حقيقة واحدة، وهي انّ استمرار الامور كما هي اليوم سترفع نسبة العجز في الموازنة الى مستويات قياسية لم تشهدها الموازنات قبل الانهيار، وهي موازنات كانت تدفع خلالها الدولة فوائد على الدين العام بما يُقارب الـ5 مليارات دولار، اي ما يوازي 10 موازنات من الحجم الحالي!

في الاستنتاج، لا بد من ربط رواتب القطاع العام بسعر ثابت للدولار للحفاظ على حد أدنى يضمن استمرارية العمل في القطاع، ولكن لا بد من إجراءات مواكبة تضمن ألا يتحول هذا الاجراء الى فجوة تتم ترجمتها من خلال الاستعانة مجدداً بالدولارات الاحتياطية العائدة الى المودعين، والتي لا تزال موجودة في مصرف لبنان. وبالمناسبة، هذه الدولارات، والتي تعتبر ملكية خاصة للمودعين، تصرّفت بها الحكومات منذ الانهيار وكأنها ملكٌ عام، وهي بذلك أمّمت اموال الناس وأنفقتها بلا حسيب او رقيب، بحيث فقد المودعون حوالى 20 مليار دولار من الاموال العائدة لهم، والمودعة قسراً في بنك الدولة المركزي.

تثبيت دولار رواتب القطاع العام سيرتّب خسائر لا تقل عن 20 الف مليار ليرة، وعلى الحكومة ان تتخذ اجراءات مواكبة تؤمّن مثل هذا المبلغ، لا ان تَستسهِل مدّ يدها مجدداً على اموال الناس، وبقوة الأمر الواقع. وهذا هو المطلوب اليوم لضمان الحد الادنى من حقوق الموظفين، والمحافظة على الحد الأدنى من حقوق المودعين.

أنطوان فرح