أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

تحرير الصرف أخطر خيار لبلد مُدَولر كلبنان: الدولرة الشاملة أثبتت طغيانها!

في الواقع، حتى ما قبل حرب 1975-1990 في لبنان، في نهاية عام 1974، كانت الودائع بالعملات الأجنبية (823 مليون دولار أميركي) لم تتجاوز 18 ٪ من إجمالي الكتلة النقدية للبلاد، وكانت أقل بكثير من الأصول بالعملات الأجنبية للنظام المصرفي (2.11 مليار دولار). هذا يعني أنّ معظم العملات الأجنبية التي كانت تدخل إلى لبنان كانت تتحوّل إلى ليرة لبنانية، ما ساهمَ في ارتفاع قيمة العملة الوطنية. منذ اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، بدأت التحويلات من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية تتضاءل تدريجاً لينعكس الوضع مع بداية عملية الدولرة الجزئية غير الرسمية الناتجة عن الاختيار الحر للقطاع الخاص بعد التدهور للقوة الشرائية للعملة الوطنية وافتقاد الثقة بإمكانية ثباتها خلال الأزمة النقدية في الثمانينات.

قبل عام 1993، تخلّى لبنان عن نظام سعر الصرف العائم Free Floating. لذلك، وبعد اعتماد نظام ربط زاحِف حتى الانتقال عام 1998 الى Crawling peg، واعتمدَ على تخفيض سعر الصرف تدريجاً حتى تطبيق الربط التقليدي لنظام عملة واحد مُلزم Conventional soft peg to one currency LBP إلى USD بسعر 1501-1514 بمتوسط 1507.5 منذ 1997.

تؤكد الأدبيات الاقتصادية في جميع المنشورات الدولية في السياسة النقدية للبلدان المدولرة من ميشكن وسافاستانو (2001) مروراً بكالفو وفاك (2002)، كالفو وميشكن (2003)، غارسيا وسوتو (2004)، أوسيتفيلد (2006 و 2008، 2009)، اينشغرين (2007 و 2008 و 2009)، كالفو (2008)، اللييغريت (2011، 2015) وهوسمن (1999، 2000) وبونسو في مختلف منشوراته عن البلدان المدولرة جدا (2005… 2019) وجميع تقارير صندوق النقد الدولي والنظريات حول سياسات المصرف المركزي أنّ السياسة النقدية التي لا يمكن أن تكون فعّالة في ضبط الكتلة النقدية حيث معظم السيولة المتداولة هي بالدولار الأميركي وليس بالعملة الوطنية ما يُحتّم الانتقال الى ضبط سعر الصرف… وهذا بالأساس سبب الانتقال من نظام سعر الصرف العائم الى الربط المَرن في لبنان عام 1993 نظراً للمستوى المرتفع الذي بلغته الدولرة وتأكيد تقرير الاقتصادي مولير (1994) أن الدولرة في لبنان تعكس حالَ هيستيريا يَستحيل تخفيضها حتى بعد تعافي الاقتصاد… وهذه هي العبارة نفسها التي وردت في تقرير البنك الدولي في تشرين الثاني 2022 عن لبنان بالتأكيد على الطابع الثابت للدولرة وغير القابل للتراجع حتى بعد تعافي الاقتصادي اللبناني بعد الانهيار الذي أسقطَ منذ العام 2019 القدرة على الحفاظ على الربط المَرِن لسعر الصرف.

أما لماذا لا يتم العمل لتخفيض معدّل الجولرة بدلاً من اعتماده كمُعطى ثابت غير قابل للانخفاض، فالجواب وبكل بساطة أنّ الادبيات الاقتصادية أيضاً تؤكد أن ثمة عوامل تمنع تراجع الدولرة حتى بعد تعافي اقتصادات معينة منها ما يُعرف بحالة «الادمان على الدولرة وهيستيريا الدولرة»، وغياب عناصر الطمأنة في البلاد علماً أن معظم البلدان التي تشهد حالات مماثلة تكون قد عرفت حرباً أو أزمة هوية ونزاعات سياسية حادة وصراعات تفقد الثقة بالمناخ الاستثماري فيه، وتجعل العملة الوطنية هشّة، وهي معظمها أيضا بلدان صغيرة الحجم منفتحة الاسواق ويطغى فيه قطاع الخدمات ويَتَّكِل فيها ميزان المدفوعات على اجتذاب الرساميل أكثر منه على حجم التصدير…

إنّ تخفيض الدولرة كان يفترض أن يحصل في فترة الاستقرار النقدي ووجود احتياطات فعلية من الدولار في البنك المركزي أو بعد صدمات إيجابية، ولكن حتى وَقتذاك لم تَزدْ ثقة الناس بالليرة اللبنانية وبقيت معدلات الدولرة تفوق 70 %… فكيف اليوم بعد سقوط استقرار سعر الصرف واستنزاف احتياطات البنك المركزي حيث لا يبقى سوى جزء من الاحتياطات الالزامية وفق ميزانية المصرف المركزي؟

في تشرين الأول 2019 سقط نظام سعر الصرف القائم على الربط المَرن لليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، أي عملياً يعيش لبنان منذ ثلاث سنوات بدون أي نظام سعر صرف لتفادي الجميع الانغماس بمسؤولية اختيار النظام البديل في ظل هيستيريا الدولرة الجزئية الشرسة وغير الرسمية التي تفرض نفسها على وقع فوضى الأسواق، وتسحق كل من لا يصل الى يده سوى مدخول بالليرة اللبنانية، وذلك بدلاً من مواجهة الواقع من قبل السلطات الرسمية المعنية لحماية المساواة الاجتماعية بين المواطنين وحقّهم ببَدل أتعاب ومداخيل بنفس العملة التي يتكبّدون فيها تدريجاً كل المصاريف، لا سيما منهم العاملين في القطاع العام الذين أصبحوا عملياً على هامش النظام الاقتصادي – الاجتماعي ككل.

ووفق التقرير السنوي عن ترتيبات نظام الصرف وقيود الصرف (2018) تُمثِّل البلدان التي تعتمد تقييد أو ربط سعر الصرف حوالى 42 ٪ من مختلف البلدان، تليها البلدان التي تعتمد أطر السياسة النقدية الأخرى (24 ٪)، والبلدان التي تحدد مستوى التضخم (21 ٪)، وتلك التي تعتمد غيرها من الأهداف النقدية (13 ٪). وتحاول بعض الدول التي تستهدف سعر الصرف التحرك نحو مزيد من المرونة فيه، كما فعلت دول أخرى في السابق، في حين فَضّلت بعض البلدان الاستقرار في إطار تثبيت سعر الصرف بشكل مستدام…

في ظل حرية حركة الرساميل وسعر الصرف الثابت مقابل عملة واحدة، على سبيل المثال، يمكن للبنك المركزي أن يعتمد سياسة التدخّل فقط وفق مبدأ منع حصول انحرافات كبيرة في سعر الصرف أو شرط التكافؤ في أسعار الفائدة بين العملة المحلية والدولار الأميركي… في ظل نظام ربط موثوق به، من غير المتوقع أن تتغير الفائدة على العملة المحلية بالنسبة إلى العملة التي ترتبط بها سوى بفارق علاوة المخاطرة. وإذا كان هناك انحراف مقصود عن شرط تعادل سعر الفائدة، يمكن للرساميل، نظريًا، أن تتدفق إلى الدولة وهي ذات معدل الفائدة الأعلى والأقل خطرًا.

ومع ذلك، فإن السياسة النقدية في ظل ربط سعر الصرف أكثر تعقيدًا من رد الفعل البسيط وفقًا لقاعدة معينة من قواعد السياسة النقدية، إذ لا تحتاج السياسة فقط إلى إدارة فرق سعر الفائدة وسد فجوة التضخم مع البلدان التي تشهد استقرارا راسخا.

كما ينبغي على البلد، الذي يتمسّك بربط عملته المحلية بعملة أجنبية دولية مستقرة، أن يأخذ على عاتقه مستوى الاحتياطيات لديه بالعملات الأجنبية التي تعتبر كافية لدعم مصداقية الربط، وذلك يتطلّب الحرص على تأمين فائض سنوي بميزان المدفوعات ما يعني دخول عملات أجنبية أكثر من خروجها سنوياً من البلد المعني. أكثر من ذلك، تحتاج السياسة النقدية إلى معالجة الاختلالات المُحتملة في أسعار الصرف التي يمكن أن تنشأ عن التغيرات المتوقعة في العملات الأساسية، أو الاختلالات في أسواق المال والعملات الأجنبية.

وغالبًا ما يكون الحجم الإجمالي لتدفقات العملات الأجنبية – المرتبطة بالمعاملات الجارية وحسابات رأس المال – بدلاً من درجة حرية حركة الرساميل، هو المحرك للمراجحة بين أسواق المال وأسواق العملات الأجنبية، ما يؤدي بدوره إلى تشكيل طبيعة انتقال النقد. الصدمات الخارجية يمكن أن تكون صدمات االميزان الجاري أو ميزان الرساميل، ويمكن أن يكون للبلد حرية حركة الرساميل من دون أن يعني ذلك حتماً إمكانية تدفقها إليه. من ناحية أخرى، حتى عندما تكون حركة الرساميل مقيّدة نسبيًا، فإنّ قدرة البنك المركزي على التحكّم بالفائدة يمكن أن تكون صعبة، خاصةً عندما تكون احتياطيات العملات الأجنبية منخفضة، ويكون الاقتصاد معرّضًا لصدمات كبيرة في شروط التجارة والعملات، فيكون الخيار الأمثل باعتماد سعر صرف يتماهى مع طبيعة الصدمات – سواء كانت فعلية أو اسمية – ودرجة حرية حركة الرساميل.

ويلاحظ عادة خوف العديد من البلدان النامية من تعويم سعر الصرف وتسعى الى ربط سعر صرفها أو إدارته بإحكام لعدد من الأسباب، لا سيما منها زيادة احتياطياتها بالعملات الأجنبية، والحفاظ على التنافسية، والحد من الضغوط التضخمية في غياب ربطٍ اسمِيّ بَديل. وتربط بعض البلدان سعر الصرف الخاص بها بسعر الصرف للاقتصاد الأكبر والأكثر ثباتا وخاصة عندما يكون البلد المعني مُدَولراً…

وعادة ما يلعب سعر الصرف دورًا مُهَيمنًا في اقتصادات الأسواق النامية والناشئة مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، حيث تتم المعاملات الأجنبية بالعملة المحلية، وتكون الأسواق أعمق، والقطاع الخاص أكثر استعدادًا للتعامل مع مخاطر العملات الأجنبية.

يمكن إدارة سعر الصرف من خلال التدخلات التقديرية أو القائمة على القواعد، أو من خلال استخدام معدّل الفائدة الذي يقلّل من الحاجة إلى تدخلات كبيرة في العملات الأجنبية، وبالتالي الحفاظ على احتياطيات العملات الأجنبية. وتسمح السياسات النقدية وسياسات أسعار الصرف التقديرية بالكامل بتحقيق أكبر قدر من المرونة في الاستجابة للصدمات غير المتوقعة، ولكنها قد تؤدي إلى إشارات مُتضاربة حول أهداف البنك المركزي، ما يُقَوّض مصداقية السياسة النقدية.

طبعاً، من مدخولهم بالدولار الأميركي لن يتأثروا في حال اعتماد تحرير سعر الصرف وربما هم ينادون به! ماذا عن بقية اللبنانيين؟ كيف سيعيش من مدخول بالليرة اللبنانية وسط تأرجحها بنظام سعر صرف متحرر في بلد مدولر بأكثر من 80 %؟ كيف تحفظ القدرة الشرائية لرواتبهم وقيمة تعويضاتهم لنهاية الخدمة؟ كيف يمكن التبرير لهم أن تكون الدولرة شبه شاملة ولكن غير رسمية لكي لا تشملهم وهم عاملون في القطاع العام؟! هل نريد أن يمشي لبنان على خطى زمبابوي فتتفكّك فيه المؤسسات العامة وتفرط الدولة؟! أم الأفضل الاعتراف بنجاح نموذج الاكوادور حيث تم الاعتراف بالدولرة رسميا بعد أن أصبحت شبه شاملة، وتم فرض الضرائب بالدولار على الأرباح والمداخيل بالدولار حتى يصبح للدولة ايرادات بالدولار وموازنة تصمد لسنة ونفقات لموظفيها بالدولار حتى يقدموا الى العمل يومياً وليس مرة في الأسبوع ؟! بقيت في الأكوادور العملة الوطنية تطبع بكميات قليلة للابقاء على رمزيتها، ولتسديد مبالغ صغيرة لصعوبة استيراد العملات المعنية للسندات بالدولار… المسألة مسالة عدالة إجتماعية وحفاظ على ما تبقّى من دولة… ما من قطاع خاص يعيش في بلد بدون دولة!!!

د. سهام رزق الله

مصدر الخطر الحقيقي إذا طالت مرحلة الانتظار

من خلال ما نَشهده في ملف انتخابات رئاسة الجمهورية، ومن خلال طريقة التعاطي مع الاتفاق الأولّي الذي عُقِد مع صندوق النقد الدولي، مُضافاً الى ذلك، حال العَجز السائدة على مستوى تشريع القوانين المطلوبة لتنظيم المرحلة، ومن ثم تحضير الأرضية لاتفاق نهائي مع صندوق النقد، يبدو أنّ فترة الانتظار ستكون طويلة، ولا بدّ من تنظيم القطاع العام، الى أن يحين موعد الحل الشامل.

بعد ما يُقارب الأربع سنوات من بداية أزمة الانهيار المالي والاقتصادي، تَظَهّرت بعض الحقائق التي أفرزتها هذه الأزمة المُهملة من قبل الدولة، بحيث ان الوضع اصبح على الشكل التالي:

اولاً – إستعاد جزء من القطاع الخاص حيويته، بحيث ان الحركة في بعض المؤسسات عادت الى ما كانت عليه قبل الأزمة. لكنّ ذلك لا يمنع وجود قطاعات لا تزال بعيدة عن استعادة حيويتها السابقة. وقد ساهمت عوامل عدة في هذا الوضع، منها أن مؤسسات كثيرة استفادت من تسديد ديونها الدولارية بالليرة او باللولار، الامر الذي ساهم في استعادة هذه المؤسسات حيويتها.

ثانياً – بدأت في اواخر العام 2022، امتداداً الى النصف الاول من العام 2023، حركة تأسيس شركات ومؤسسات جديدة، خصوصاً في قطاعات يكفي اقتصاد الـ20 % لتشغيلها، او لديها قدرة التصدير الى الاسواق الخارجية. وهذا يعني عودة الاستثمارات، رغم استمرار غياب القطاع المصرفي عن المشهد. وفي حال عادت المصارف الى تأدية دورها في اللإقراض، فإنّ هذه الحركة، على تَواضعها حتى الان، سوف تتضاعف بسرعة تماهياً مع متطلبات السوق.

ثالثاً – أصبح هناك وَفرة من الدولارات في التداول، لأسباب متعددة، من ضمنها ضَخ مصرف لبنان للدولارات عبر “صيرفة”، بالاضافة الى التحويلات من الخارج والتي بات القسم الاكبر منها يتم إنفاقه، بدلاً من ادّخاره، كما كان يجري قبل الأزمة. وبالاضافة الى عودة الحركة الى قسم من القطاع الخاص.

رابعاً – تأقلم قسم من المواطنين مع الوضع، وبات انفاق الدولارات “أسهل” نفسياً مما كان في الفترة الاولى من الانهيار. طبعاً، هذا لا يمنع ان قسماً كبيراً من اللبنانيين ليس قادراً على التأقلم لأنه لا يملك القدرة على ذلك، والموضوع ليس نفسياً هنا.

هذا المشهد بكل تفرعاته يُقابله مشهد آخر يتعلق بالقطاع العام، الذي ينهار تباعاً، وأصبع عاجزاً بنسبةٍ كبيرة عن تأدية دوره في المساهمة في دعم الحركة الاقتصادية التي تنمو حاليا، قبل الانتقال الى خطة التعافي الشاملة. هذا العجز على مستوى القطاع العام، بات يشمل المخاطر التالية:

اولاً – عرقلة نمو حركة القطاع الخاص.

ثانياً – اعاقة الشؤون الحياتية اليومية للمواطنين.

ثالثاً – المساهمة في تقليص حماسة لبنانيي الخارج للعودة الدائمة والدورية الى البلد، مقابل تغذية نزعة الهجرة لدى الموجودين في البلد.

رابعاً – تشكيل خطر حقيقي على المستقبل. وقد تجلّى ذلك في الاضرابات التي شهدها قطاع التعليم، بما حَرم الطلاب من قسم من البرامج المقررة. واستُكمل امس بإلغاء الشهادة المتوسطة. وقد نشهد المزيد من الالغاءات والأزمات في الايام المقبلة، بما يهدد أهم “ثروة” يملكها لبنان وهي مستوى التعليم الذي يؤدي الى تخريج كادرات بشرية مميزة في دول المنطقة.

هذه الحقائق ينبغي ان تشكّل جرس إنذار للدولة. وبما ان تصريف الاعمال قد يستمر لفترة غير قصيرة، لا بد من تشكيل لجنة وزارية مهمتها إنجاز دراسة سريعة ولكن دقيقة يتم فيها تحديد الدوائر الحكومية الحيوية لهذه المرحلة. والمقصود هنا الدوائر التي تنجز معاملات الناس والشركات، والدوائر التي تساهم في إدخال الايرادات الى خزينة الدولة. وبعد تحديد هذه الدوائر، ينبغي تنظيم العمل فيها سواء لجهة تحديد ايام عمل اسبوعية دائمة، او تأمين مداخيل كافية للموظفين للتمكّن من القيام بعملهم. ويمكن الاستعانة بموظفين من قطاعات عامة مختلفة لملء الشواغر في الدوائر التي سيجري تصنيفها على اساس انها حيوية وحساسة، وينبغي ان تعمل وتنتج مهما كانت الظروف.

هذا التدبير المؤقت ينبغي ان يتم اعتماده في اقرب وقت ممكن. أما الاصلاح الشامل الذي ينبغي ان يشمل القطاع العام، والذي شكّل في السابق ثقلاً كبيراً ساهمَ في غرق السفينة بسبب الفائض الفوضوي الناتج عن الزبائنية والتوظيف الانتخابي والعشائري والسياسي وقلة الانتاجية والرشاوى والفساد، فإنّ وَقته سيكون بالتماهي مع بدء تنفيذ خطة التعافي الشاملة بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والدول المانحة والمجتمع الدولي.

يبقى انّ القوى الامنية والعسكرية في حاجة الى عناية خاصة، خصوصاً انها واصلت مهامها كالمعتاد، وكانت بمثابة اسثناء ايجابي ضمن القطاع العام.

كل هذه الاجراءات الفورية المطلوبة يمكن تنفيذها رغم الظروف الصعبة للخزينة، وستشكل نواة صلبة لتسهيل التعافي الشامل، يوم يعود الانتظام السياسي، ومن ثم الانتظام المالي والاقتصادي ضمن خطة الانقاذ الشاملة برعاية دولية. واذا تأخر الانقاذ الى مستويات غير متوقعة، فإنّ هذه الاجراءات ستكون محطة الانتظار الآمِن نسبياً، الى أن يأتي الفرج.

انطوان فرح

بين المدخل المالي… والمخرج النقدي: الأزمة اللبنانية أمام خيارات مصيرية…

من أبرز ما ينبغي التنبّه له أمام أزمة متعدّدة الأوجه كالأزمة الاقتصادية المالية-النقدية-المصرفية الشاملة الحالية في لبنان، هو أنّ المدخل الذي شكّل المسبّب الأساسي للولوج في الأزمة ليس بالضرورة نفس باب المخرج منها… صحيح أنّ رَصد مَكمَن الخلل الرئيسي يشكّل أولوية لحسن تشخيص المشكلة وتفادي تكرارها، لكن في خصوصية الاقتصاديات المدولرة لسنوات وبعد تكرار أزمات، من المهمّ معرفة أنّ تَشابُك أوجه الأزمة بالشكل الذي تطورت فيه الحال في لبنان مع «اشتراكات» تفشّت في الجسم الاقتصادي ونسفت «جهاز المناعة» الذي لطالما تمثّل بالجهاز المصرفي لديه، فهي تُحتّم أن يكون مفتاح مخرج الأزمة من خلال الشق النقدي تحديداً، أي خيارات المصرف المركزي للسياسة النقدية ونظام سعر الصرف الذي على أساسه يتم تحديد الموازنة الجديدة للدولة واحتساب القيمة الحقيقية للدين العام وميزانيات المصارف وكل المؤشرات الماكرو-إقتصادية… فكيف يمكن شرح هذا المسار من المدخل المالي الى المخرج النقدي للأزمة الحالية؟ وكيف تترجم الخيارات المصيرية للبنان من هنا؟

إنّ الأزمة في لبنان متعددة الأبعاد المالية والنقدية والخدمات المصرفية مع عجزٍ مزدوج (المالية العامة وميزان المدفوعات) مُتكرر في بلد شديد الاعتماد على الدولار، حتى أنه يعاني «الإدمان الذي يُحيل على الدولار الأميركي» لمدة أربعين عامًا، ويتعارض مع مبادئ عمل الثالوث المستحيل Mundell-Fleming نظرًا لأننا تحمّلنا الكثير من التكلفة واستنفدنا الكثير من الاحتياطيات بالدولار الأميركي من خلال الرغبة في إدراك بطريقة غير منطقية في نفس الوقت القمم الثلاث لهذا المثلث: ثبات سعر الصرف ، وحرية حركة رأس المال واستقلالية السياسة النقدية للبنك المركزي…

ومن الواضح أن استقلالية مصرف لبنان هي التي دفعت الثمن خاصة مع غياب الموازنة لمدة 12 عامًا (2005-2017) واستخدام التمويل النقدي لسد العجوزات المالية عبر إقرار «تخطي أنفاق» في المجالس النيابية… من ثم شراء الوقت من قبل «الهندسة المالية» من أجل تنفيذ الإصلاحات التي لم يتم إطلاقها من قبل… الودائع بالدولار الأميركي التي لم يتم تغطيتها من قبل صافي الأصول الأجنبية للنظام المصرفي (بسبب العجز المستمر في ميزان المدفوعات) تم توجيهها إلى سندات اليوروبوند الحكومية وشراء شهادات الإيداع بالدولار الأميركي من مصرف لبنان والاعتمادات بالدولار الأميركي إلى القطاع الخاص (وهي الخطيئة الأصلية التي فاقَمَت الأزمة من خلال التأثير المُضاعف لزيادتها من دون أن يغطّيها الدولار الأميركي، والذي يسمح بالتعويض بالدولار الأميركي…).

الأماكن الثلاثة التي وُضِعت فيها الودائع بالدولار الأميركي لم تُعدها بالدولار الأميركي حتى تتمكن المصارف من إعادتها بالدولار الأميركي إلى المودعين…

ثم استنفاد الاحتياطيات المتبقية بالدولار الأميركي بعد انهيار الاقتصاد بسبب سياسة الدعم التي تم تحديدها على مستوى كبار القادة السياسيين في اجتماعات صريحة في بعبدا والسرايا الكبير وطَبقها مصرف لبنان… حتى فترة البرلمان انتخابات لإرضاء الرأي العام… والتي تعرضت لانتقادات شديدة في تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي…

في عام 1993، تخلّى لبنان عن نظام سعر الصرف العائم الذي لا يتوافق مع الاقتصاد المرتفع للدولرة، وبلغت ذروة الدولرة في عام 1987 (92 ٪) بعد تضخّم مفرط بلغ 487 ٪… انتقلنا مؤقتًا إلى انزلاق نظام التكافؤ (الزحف إلى الربط المتحرّك) قبل الانتقال إلى الربط التقليدي مقابل العملة ربط ثابت تقليدي تجاه عملة واحدة بنطاق ضيق 1501-1514 وسعر متوسط 1507.5 من 1998 حتى شباط 2023 مع الانتقال إلى سعر رسمي مصطنع قدره 15000 لم يتم اعتماده وللسحب من البنوك…

في حين أنّ دَولرة الودائع كانت حاسمة للهيكل المالي الكلي لِما بعد الحرب، كذلك أدّت إلى دولرة الودائع الى دولرة أخرى في الاقتصاد، بما في ذلك دولرة الإقراض وكذلك الدين العام. يتم شرح هذه السببية بأنّ «دولرة الودائع تحفز الدولرة في القروض. تشجع المستويات المرتفعة من ودائع العملات الأجنبية لدى المصارف على إقراض المتعاملين المحليين بالعملة الأجنبية للمحافظة على مواضع الميزانية العمومية المتطابقة، ويسري مفعول ذلك بنقل عبء سعر الصرف الى المقترضين في حال تدهور سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي… أمّا في حال كان المُقترضون عاجزين عن التسديد نظراً لكون مداخيلهم بالعملة الوطنية فيكون الخطر انتقل الى المودعين، وهذا ما حصل فعلياً في لبنان حيث كل من وظفّت المصارف الدولارات لديهم توقّفوا عن تسديدها بالدولار (من الدولة وصولاً الى المقترضين من القطاع الخاص)…

أصل الأزمة هو الخلل في المالية العامة وعجوزات الموازنة أمّا مفتاح الخروج من الأزمة فهو نقدي… لماذا؟ لأنه بدون إخفاقات الميزانية وإشراك الأنظمة المصرفية في تمويلها وانعكاس وضع جميع مؤشرات الاقتصاد الكلي منذ عام 2011 على وجه الخصوص (إنخفاض في معدل النمو، والانتقال من سلسلة من الفوائض إلى تراكم العجز في ميزان المدفوعات…) لم تكن الأزمة النقدية لتحدث ولن تأخذ هذا الحجم أبدًا… علاوة على ذلك، من دون البدء بخيار نقدي ونظام سعر صرف جديد، من السخف أن تكون قادرًا على التعامل مع الركائز الأخرى (الميزانية والمصرفية للأزمة…) لأننا ببساطة نحتاج إلى معرفة كيفية حساب أرقام الموازنة لسنة واحدة وميزانيات البنوك قبل إعادة هيكلتها…

في تشرين الأول 2019 سقطَ نظام سعر الصرف القائم على الربط المَرن لليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، أي عملياً يعيش لبنان منذ ثلاث سنوات من دون أي نظام سعر صرف لتفادي الجميع الانغماس بمسؤولية اختيار النظام البديل في ظل هيستيرا الدولرة الجزئية الشرسة وغير الرسمية التي تفرض نفسها على وقع فوضى الأسواق وتسحق كل من لا يصل الى يده سوى مدخول بالليرة اللبنانية… ذلك بدلاً من مواجهة الواقع من قبل السلطات الرسمية المعنية لحماية المساواة الاجتماعية بين المواطنين وحقّهم ببدل أتعاب ومداخيل بنفس العملة التي يتكبّدون فيها تدريجاً كل المصاريف، لا سيما منهم العاملين في القطاع العام الذين أصبحوا عملياً على هامش النظام الاقتصادي-الاجتماعي كَكُل. السبب هو الخطأ الفادح التي تتم فيه مقاربة الأزمة من كل الزوايا إلا الزاوية التي يفترض البدء بها أي اعتماد نظام سعر صرف جديد قبل التطرّق لكل بقية نواحي الأزمة وحتى الموازنة التي يستحيل تقديمها بأرقام حقيقية قبل بَت نظام سعر الصرف والخيار النقدي للبلاد بما يتناسب مع دولرة تتخطى نسبة 80 %.

تعزّز الدولرة غير الرسمية شبه الكاملة اليوم «تطبيع الوضع» كما وردَ في تقرير صندوق النقد الدولي من دون السماح باستقرار فعّال في غياب قرار رئيسي بشأن نظام سعر الصرف الجديد (من خلال إدراك أن السوق يفرض ارتباطًا صارمًا (حمولة العملة أو الدولرة الكاملة). وفي حالة عدم وجود قرار من مجلس العملة، فإنّ الدولرة الكاملة الزاحفة هي التي تحظى بالأولوية بعد فترة من ازدواجية العملة وسط الثنائية بين الليرة اللبنانية والدولار الأميركي مع طغيان الدولار الذي يسود كل العاملات في الأسواق من التسعير الى الدفع والادخار واحتساب الرسوم ودفع الرواتب تدريجاً لدرجة تحويلات رواتب موظفي القطاع العام فوراً بالدولار وتحويل الحسابات المصرفية الى الدولار تلقائياً من دون حتى تَرك الخيار للموظف بين العملتين… إلى جانب تقرير صندوق النقد الدولي، يشير الفصل الثاني صراحةً إلى أنّ «الميزة الخاصة لمقاربة الأزمة في لبنان تسمح بتقديم تحليل للدولرة في لبنان، ويخلص إلى أن الأزمة الحالية من المرجّح أن تعزز مستويات الدولرة المرتفعة، حتى بعد التعافي الاقتصادي الشامل. تقليديًا، أدّت أزمات العملات المتعددة إلى تباطؤ الدولرة في البلاد، واتسع نطاقها بمرور الوقت بالنسبة للودائع والقروض والدين العام».

أدّى الفشل المنهجي للنظام المصرفي اللبناني وانهيار العملة إلى ظهور اقتصاد كبير قائم على النقد القائم على الدولار، تقدر قيمته بنحو 9.86 مليارات دولار، أو 45.7 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022. لا يزال القطاع المصرفي معسراً، حيث تجاوزت الخسائر المالية في النظام المصرفي 72 مليار دولار، أي ما يُعادل أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022. ولا يزال عجز الحساب الجاري يموّل، في الغالب، من الاحتياطيات إجمالي النقد الأجنبي من بنك دو لبنان. انخفض إجمالي احتياطي النقد الأجنبي لمصرف لبنان بمقدار 2.6 مليار دولار في عام 2022 ليبلغ 15.2 مليار دولار في نهاية عام 2022 (بما في ذلك ما يَقرب من 5 مليارات دولار في شكل سندات أجنبية). إنّ منصة الصيرفة للصرافة، الأداة النقدية الرئيسية التي يستخدمها مصرف لبنان لتحقيق الاستقرار في الليرة اللبنانية، لا يُساء استخدامها فقط كأداة نقدية، ولكن الآن أيضًا كآلية للاستفادة من معاملات الصرف الأجنبي. في هذا السياق، يُخفي تطبيع حالة الأزمة حقيقة أن الاقتصاد اللبناني مستمر في التدهور السريع للغاية، وهو على منحدر بعيد جدًا عن مسار يؤدي إلى الاستقرار، وبالأحرى إلى التعافي… البدء بمراجعة واتخاذ قرار بشأن نظام سعر الصرف الجديد وحساب جديد «بالدولار الحقيقي» لجميع الأرقام (العجز، الدين العام، الميزانيات العمومية للمصارف…) لإنهاء فترة من الأرقام المُصطنعة التي حجبت الواقع وإعادة البناء. اقتصاد بأرقام فعلية تعكس الواقع. يتعلّق الأمر بإعادة التشغيل مع اقتصاد أصغر ولكن اقتصاد حقيقي…

عند الافتقاد الكلي والمزمن للثقة بالعملة الوطنية وطغيان التعامل بالعملة البديلة لا يعود الخيار بينها وبين البديل أي الدولار الأميركي في حال لبنان بل يصبح الخيار في آلية الربط الصارم المناسبة وكيفية الانتقال التدريجي اليها بُغية نجاحها بأسرع وقت وأقلّ كلفة… عام 1993 فتح لبنان صفحة جديدة من خلال نظام سعر صرف جديد لأنّ الدولرة المرتفعة أفقدَت فعالية النظام العائم وعام 1998 اضطر لبنان لتعزيز هذا الخيار… اليوم تستحيل العودة الى تعويم رسمي حرّ لسعر الصرف كونه مُكلف وغير ملائم لاقتصاد جداً مُدولَر، كل يستحيل استعادة الثقة بنظام الربط المرن لسعر الصرف… حان وقت حسم الخيارات المنقدية المصيرية، كل تأخير في الطرح الجريء لضرورة الانتقال الى نظام الربط الصارم يزيد كلفته أكثر ولا تسمح بتفاديه حتى لو تعافى الاقتصاد كما تؤكده الادبيات الاقتصادية والتجارب الدولية والتقارير المتخصّصة…

د. سهام رزق الله

لماذا لدينا سعران رسميّان للدولار؟

نُدرك جميعاً أنّ في لبنان منذ بداية الأزمة المالية والنقدية، أسعار صرف عدّة، بدءاً من سعر الصرف الرسمي الذي ارتفع إلى 15 ألف ليرة، منذ شباط 2023، والذي يَتزامن الآن مع سعر تعميم 151، ولدينا سعر صرف تعميم 158، وسعر صيرفة الذي يتزامن مع تعميم 161، وسعر صرف السوق السوداء، وسعر صرف الشيك بالدولار، والشيك بالليرة اللبنانية وغيرها وغيرها.

لدينا سِعرا صرف رسميّان، الأول، هو السعر الرسمي المتداوَل بـ 15 ألفاً، والسعر الرسمي الآخر وهو سعر منصّة صيرفة والذي يُقارب الـ 90 ألفاً اليوم. فما هو الهدف الواضح المُبطّن جرّاء هذين السعرين الرسميين، حينما الكل يُنادي ويطالب بسعر صرف موحّد؟

شئنا أم أبينا، لقد أصبح من المستحيلات، تثبيت سعر الصرف، لأنّ هذه العملية ستتطلّب سيولة كبيرة بالعملات الأجنبية، المفقودة في الوقت الحالي، خصوصاً من جهة الدولة. ومن الصعوبة إعادة تكوينها على المَديين القصير والمتوسط. لذا، نحن تحت رحمة سعر صرف عائم، يستطيع أن يتحرّك صعوداً أو نزولاً، من دون أي مقدرة أو وسائل بُغيَة التحَكّم به.

لكن السؤال البديهي المطروح الراهن: لماذا لم نتحوّل مباشرة إلى توحيد سعر صرف رسمي وعائم؟ ولماذا لجأ الرسميون إلى الإختباء وراء سعرَين رسميين لتسعير الدولار، السعر الرسمي 15 ألفاً وسعر صيرفة العائم؟

الحقيقة المرّة جرّاء هذين التسعيرَين هي أنّ الأول (15 ألفاً) هدفه المبطّن تصفية ما تبقى من الودائع، لتُصرف بـ»هيركات» وخسارة مباشرة تتجاوز الـ 85 %. ويُمكن أن تزداد هذه الخسارة إذا أراد المودع المَطعون صرفها بأوراق نقدية، فيخسر حينها بين 15 % و20 %. فهذا السعر الرسمي الأول يُستعمل لهدر الودائع، أو أي مَدخول بالدولار اللبناني (اللولار). وقد أصبح سعر هذه المنصة لتسعير مدخول قسم كبير من اللبنانيين الذين سُرقوا وذُلّوا.

أما سعر الصرف الثاني المحدّد الذي لُقّب بمنصّة صيرفة، فهو سعر صرف عائم، يُقارب سعر صرف السوق السوداء، ويُستعمل كمنصّة جديدة بالتسعير، خصوصاً لكل التكاليف المعيشية. فسعر هذه المنصّة الجديدة بدأ يُستعمَل للضرائب والرسوم والجمارك، والضريبة على القيمة المضافة TVA، والأدوية والمحروقات… فأصبح سعر التسعير هذا يوماً بعد يوم سعر الصرف الجديد المعتمَد والذي يتقارب أكثر فأكثر مع السوق السوداء.

المُعادلة أصبحت واضحة: إنّ مداخيل وودائع اللبنانيين تُصرف حسب السعر الرسمي بـ15 ألفاً، أما كلفة معيشتهم ومصاريفهم فتُحتسب بحسب منصّة صيرفة، ما يعني بنحو 6 و7 أضعاف أكثر.

بالأرقام، من وراء هذين السعرَين الرسميين، يخسر قسم كبير من اللبنانيين 85 % من مداخيلهم وودائعهم وجنى أعمارهم، وتزداد كلفة معيشتهم أكثر من 700 %.

هذه هي الحقيقة المرة، التي نعيشها اليوم، والإستراتيجية المبطّنة لعدم توحيد سعر الصرف، لمتابعة أكبر جريمة مالية ونقدية في العصر الحالي.

إضافة إلى هذا الواقع الأليم، هناك نقاط استفهام عدّة، مفادها: كيف بعصا سِحرية فُوجِئنا بتقارب بين سعرَي صيرفة والسوق السوداء، والذي جُمّد في الوقت الحالي، بنحو 90 ألفاً إلى 100 ألف؟ هذا يعني، إذا قرأنا بين السطور، لا شك في أن هناك تقارباً لا بل تواطؤاً وعلاقة بين هذه المنصات، واحدة منها رسمية، والأخرى سوداوية. والواضح أيضاً أن هذه الدولارات والأوراق النقدية، تدور بين الأيادي وبالحلقة المُفرغة والمقفلة.

في النهاية، ما تصنعه المنصّات، سنشهده على الشاشات، وهو وعود وهميّة. أما الحقيقة فهي أن هناك استراتيجية وخطة واضحة لاستكمال التدمير الداخلي والذاتي.

عائدات الغاز تلامس الشعبوية… «أوعا» الأجيال المقبلة

لا نكتشف البارود عندما نقرر أن نُنشئ صندوقاً خاصاً بإدارة العائدات النفطية المتوقعة. ومن البديهي ان نستنسخ تجارب دول ناجحة لوضع هيكلية الصندوق وطريقة ادارة الاصول، لكنّ الاستنساخ لا يُغني عن التعاطي مع الخصوصية اللبنانية بعناية، وهذا هو بيت القصيد في نجاح مشاريع الصناديق المطروحة أو فشلها.

ما قامت به اللجنة الفرعية النيابية برئاسة النائب ابراهيم كنعان مميّز، لجهة البنية الهيكلية والتنظيمية التي أقرّتها لقانون الصندوق السيادي المتعلق بعائدات النفط والغاز المستقبلية. لكن، والى جانب تفاصيل الحوكمة والشفافية، لا بد من مراعاة مسألة اساسية ترتبط بالأزمة المالية والاقتصادية. اذ لا يكفي ان نَقتبِس نسَباً مئوية من التجارب الناجحة، (20% للتنمية، و80% للادخار والاستثمار)، لأن المطلوب من كل الخطوات التي يقوم بها المشرّع اليوم، أو حتى السلطة التنفيذية، ان تأخذ في الاعتبار اولوية تأمين الخروج الآمن من النفق، وضمان الانتقال الى وضع مالي واقتصادي طبيعي، ضمن جدول زمني مرتبط، بطريقة أو بأخرى، بخطة التعافي التي سيتم الاتفاق عليها في النتيجة.

وهنا لا بد من التركيز على أنّ مقولة ان عائدات النفط من حق الاجيال المقبلة، كلام حق، لكن لا يمكن تأمين هذا الحق من خلال نقل العائدات الى المستقبل فحسب. اذ انّ ضمان حقوق الاجيال يكمن في تأمين وطن قابل للحياة، ودولة سليمة يمنح اقتصادها هذه الاجيال الفرص الحياتية اللائقة. أمّا أن نفصل بشكل عَمودي بين الاحتفاظ بالعائدات للمستقبل، ونترك الاقتصاد مدمّراً، بذريعة عدم المَس بهذه الاموال، فهذه تصبح خطيئة لا تغتفر. والمقصود هنا، ليس التشجيع على انفاق العائدات، بل التسليم بأن الاولوية في كل ما تنتجه الدولة اليوم، يجب ان يصبّ في خانة الانقاذ وتطوير الدولة، لأنها الارث الأثمن الذي يمكن منحه للأجيال الطالعة.

ولا بد على الهامش من التأكيد انه مهما كانت قوانين الصندوق محبوكة بعناية لضمان الشفافية والحوكمة، فإنّ خطر الهدر يبقى قائماً في هيكلية الدولة بمفهومها السياسي، اي من خلال سلطاتها. والمقصود هنا، ورغم انّ قانون الصندوق يمنع ان تقترض منه الدولة المال، لزوم سَدّ حاجاتها المالية، لكن ذلك لا يؤدي الى مكان، لأنّ الدولة تستطيع ان تقترض من اي مكان آخر، وستكون اموال الصندوق مكشوفة لتغطية هذه القروض لاحقاً، طالما انها اموال عامة. ولا ننسى ان هذه الدولة اقترضت الاموال من الناس بالتحايُل، من خلال مصرفها المركزي، وهي تحاول اليوم التملّص من مسؤولية اعادة هذه الاموال لأصحابها. في حين ان الوضع سيكون مختلفاً مع الصندوق، لأنّ امواله ملك الدولة، بصرف النظر عن القوانين التي تحكم ادارة أصوله. هذا الكلام لا يقلّل من اهمية سنّ قانون مُحكَم لإدارة اصول الصندوق، بل يسلّط الضوء على ضرورة معالجة أصل المشكلة، أي فَرض الحوكمة والشفافية في السلطة التنفيذية، وبقية السلطات التي تتكوّن منها هيكلية الدولة.

ولأنّ الاولوية هي للانقاذ، وبناء دولة للأجيال المقبلة، لا بد من انشاء صندوقين إضافيين الى جانب صندوق النفط. واذا كانت تسمية صندوق تثير حساسية البعض بالنظر الى التجارب المريرة مع صناديق الهدر والفساد التي أُنشئت في السابق، يمكن استخدام كلمات اخرى، مثل مؤسسة او هيئة… والمقصود هنا، مؤسسة تدير كل اصول الدولة ومؤسساتها العامة، بقيادة قطاعٍ خاص قادر على تحقيق نقلة نوعية تسمح بزيادة العائدات بنسَب مرتفعة، وتؤدي الى زيادة قيمة هذه الاصول بنسَب مرتفعة ايضا. وهذه النتائج مضمونة، لأنّ عائدات الدولة وقيمة اصولها منخفضة جداً نتيجة الادارة السيئة القائمة منذ عقود من الزمن.

كذلك، ينبغي انشاء مؤسسة متخصصة لادارة الاحتياطي من الذهب، والذي وصلت قيمته حالياً الى اكثر من 18 مليار دولار. هذا الاحتياطي، وإن كان اللبنانيون يحرصون على منع التصرّف به، انطلاقاً من قناعتهم بأنه سيهدر كما هدرت اموال المودعين، من قِبل سلطة جاهِلة وغير مسؤولة، إلا انه لا بد من تغيير نمط التعاطي مع هذه الاصول، للافادة منها في تأمين عائدات اضافية، سواء من خلال حركة البيع واعادة الشراء ضمن ادارة استثمارية متخصصة قادرة على تأمين أرباح، او من خلال تجيير هذه الاصول الى مؤسسات استثمارية تضمن عائدات ثابتة ومضمونة، ولو انها قد تكون اقل من عائدات الاستثمار المباشر في السوق. ولا بد من التذكير انّ الذهب من الاصول الاكثر تحركاً وتأرجحاً هبوطاً وصعوداً، ولا بد من مواكبة هذه الحركة لتكبير الثروة. وعلى سبيل المثال، وصلت قيمة الذهب اللبناني في خلال العام 1999 الى حوالى مليارين ونصف مليار دولار، في حين ارتفعت الى حوالى 17 مليار دولار في العام 2011. هذه الارقام تعطي فكرة عن نسبة التغيير الدائمة في سعر المعدن الاصفر. وبالتالي، لا بد من الافادة من هذا الواقع لضمان عائدات وضمان نمو الثروة الذهبية.

ضمن هذا المثلّث: عائدات النفط والغاز المستقبلية، ادارة خاصة لأصول ومؤسسات الدولة، وادارة استثمارية للذهب، وفي ظل حوكمة وشفافية في الدولة، يمكن ضمان بناء دولة للمستقبل القريب والبعيد. امّا الاكتفاء بمقولة الثروة من حق الاجيال المقبلة، والمزايدات في هذا الاتجاه، فلا تختلف عن اللغة الشعبوية التي لا يجيد سواها غالبية من يتعاطى الشأن السياسي. والمشكلة الاكبر، انّ قسماً كبيراً من اللبنانيين يحبّذون هذه اللغة على لغة الوقائع والحقائق!

المقارنة بين أزمة الاقتصاد في اليونان ولبنان

تعتبر الأزمات الاقتصادية مصدر قلق عميق للدول والشعوب حول العالم، حيث تؤثر على حياة المواطنين وتهدد استقرار النظام الاقتصادي. ومن بين الأزمات الاقتصادية التي شهدتها البلدان في العقد الماضي، تبرز أزمتا اليونان ولبنان كأمثلة واضحة على التحديات التي تواجهها الدول في إدارة اقتصادها، وتعاملها مع الأوضاع الصعبة.

تشابَهت اليونان ولبنان في العديد من الجوانب فيما يتعلق بأزماتهما الاقتصادية. ومع ذلك، هناك أيضًا اختلافات بارزة تجعل كل بلد يواجه تحديات فريدة. في البداية، البلدان تعرّضا لمشاكل هيكلية في نظامهما المالي والاقتصادي، وتراكمت الديون وارتفعت نسَب البطالة بشكل كبير. وتعتبر التدابير الحكومية الخاطئة وإدارة الاقتصاد غير الفعّالة من بين العوامل التي أسهمت في تفاقم الأزمتين.

في اليونان، واجهت الحكومة صعوبات في سداد ديونها العالية، واحتاجت الى مساعدة من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. تمّ فرض عليهما إجراءات تقشف صارمة، مثل خفض الرواتب وزيادة الضرائب، مما أثر بشكل سلبي على المواطنين وأدّى إلى احتجاجات واسعة النطاق. وتعزّزت أزمة الثقة في النظام المالي اليوناني وتسبّبت في تراجع الاستثمارات وتدهور الأعمال التجارية.

من جهة أخرى، يعاني لبنان أزمة اقتصادية خانقة ومعقدة. تأثرت العملة اللبنانية بشدة وانخفضت قيمتها بشكل حاد، مما أدى إلى تضخم غير مسبوق وارتفاع تكاليف المعيشة. وتعتبر الديون العامة الضخمة والتضخم المفرط وسوء إدارة الاقتصاد، بين العوامل الرئيسية التي أدت إلى تفاقم الأزمة اللبنانية. وتعمل الحكومة على تنفيذ إجراءات التقشف وإجراءات الإصلاح الاقتصادي، ولكن التقدم بطيء وتأخذ الأزمة وقتًا أطول للتلاشي.

وعلى الرغم من تشابه الأزمتين، إلاّ أنّ هناك اختلافات أساسية بين اليونان ولبنان. ففي اليونان، تمكنت الحكومة من الحصول على مساعدة دولية وتطبيق بعض الإصلاحات الاقتصادية، ما أدى إلى تحسّن الوضع الاقتصادي والمالي. في المقابل، لا يزال لبنان يعاني تحديات هائلة وتأثيرات سلبية تستدعي تدخلًا سريعًا وفاعلًا للخروج من الأزمة.

بشكل عام، فإنّ أزمات اليونان ولبنان تعكس تحديات مشتركة يمكن أن تواجهها الدول في إدارة اقتصادها وتعزيز النمو المُستدام. ويجب على الحكومات أن تركز على تنفيذ سياسات اقتصادية مستدامة وإصلاحات هيكلية لتعزيز الاستقرار المالي وتعزيز النمو الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، يجب تعزيز التعاون الدولي والتضامن لدعم الدول التي تواجه أزمات اقتصادية حادة.

إن أزمة الاقتصاد في اليونان ولبنان تلقي الضوء على التحديات الكبيرة التي تواجه البلدان في إدارة اقتصادها وتجاوز الأزمات المالية. ويتطلّب التغلب على هذه التحديات تعاونًا قويًا بين الحكومات والمؤسسات المالية الدولية والمجتمع المحلي. من خلال التصميم على تنفيذ الإصلاحات اللازمة وتعزيز الشفافية وتعزيز الثقة، يمكن للبلدان تحقيق تَعافٍ اقتصادي مستدام واستقرار مالي يخدم مصالح المواطنين ويؤسس لمستقبل أفضل.

وتعتبر الديون العامة من التحديات الرئيسية التي تواجهها اليونان ولبنان، حيث يعاني البلدان تراكم ديون هائلة تهدد استقرار الاقتصاد والمالية العامة. سنقدّم هنا بعض الأرقام للمقارنة بين حجم الديون في البلدين والتدابير الممكنة لحل هذه المشكلة.

1 – اليونان:

• إجمالي الدين العام في اليونان يقدّر بنحو 334 مليار يورو (حوالى 392 مليار دولار) في عام 2021.

• نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليونان تصل إلى حوالى 205 ٪ ما يعني أن حجم الدين يفوق اثنين من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي.

• تم تنفيذ برامج إصلاح اقتصادي صارمة تشمل تخفيضات في الرواتب وزيادة الضرائب وتقليص الإنفاق الحكومي، بهدف تقليص الدين العام وتحسين الاستدامة المالية.

2 – لبنان:

• إجمالي الدين العام في لبنان يقدّر بنحو 94 مليار دولار في عام 2021.

• نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان تفوق 180 ٪ ما يشير إلى تفاوت كبير بين حجم الدين وحجم الاقتصاد.

• يعاني لبنان أزمة مالية واقتصادية خانقة، حيث تراجعت القدرة على سداد الدين بسبب تدهور العملة المحلية والتضخم المفرط والتلاعب في السياسات المالية.

لحل أزمة الديون في اليونان ولبنان، هناك بعض الإجراءات الممكنة التي يمكن اتخاذها:

1 – تعزيز النمو الاقتصادي: يجب تنفيذ سياسات اقتصادية تعزز النمو المستدام وتحفّز الاستثمار وتعزز القطاع الخاص، ما يساهم في زيادة الإيرادات وتحسين القدرة على سداد الديون.

2 – إصلاحات هيكلية: يجب تنفيذ إصلاحات هيكلية في القطاعات الحكومية والاقتصادية، مثل القطاع المصرفي والضرائب والنظام التشريعي، لتحسين الشفافية ومكافحة الفساد وتعزيز الكفاءة المالية.

3 – إعادة هيكلة الديون: يمكن النظر في إعادة هيكلة الديون من خلال تمديد فترة السداد أو تخفيض الفائدة أو تقديم شروط سداد أكثر مرونة، مع الحفاظ على التوازن بين حقوق الدائنين وقدرة البلد على سداد الديون.

4 – التعاون الدولي: يجب تعزيز التعاون الدولي والتضامن مع اليونان ولبنان من قبل المؤسسات المالية الدولية والدول الأخرى، من خلال تقديم الدعم المالي والتقني والمساعدة في تنفيذ إصلاحات هيكلية.

من الواضح أنّ حل أزمة الديون يتطلب جهودًا مشتركة وتضافر قوى الجميع، بما في ذلك الحكومات والمؤسسات المالية والمواطنين. يجب أن يكون الهدف النهائي هو تحقيق استقرار مالي واقتصادي يعود بالنفع على الجميع ويؤسّس لمستقبل مُستدام للبلدين.

قد تظهر اختلافات في القدرة على التعامل مع تلك الأزمات. لذلك سوف نستعرض الأسباب التي أدّت إلى نجاح اليونان في تجاوز أزمتها المالية، والتحديات التي تواجه لبنان في التعامل مع أزمته الحالية.

1 – التدخل الدولي والدعم المالي:

• اليونان: إستفادت من دعم مؤسسات مالية دولية، مثل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، حيث تم توفير حزمة مساعدات مالية لدعم الاقتصاد وتسديد الديون.

• لبنان: حتى الآن، لم يتمكن من الحصول على دعم مالي كبير من المؤسسات الدولية، ما يعرضه لتحديات كبيرة في تسديد الديون وتخفيف الأزمة المالية.

2 – تنفيذ إصلاحات اقتصادية وهيكلية:

• اليونان: إضطرّت لتنفيذ إصلاحات اقتصادية صارمة، بما في ذلك تقليص الإنفاق الحكومي وتحسين الشفافية وزيادة الضرائب. تم تحسين النظام المصرفي وتقليص الفساد، ما ساهمَ في تحسين الاستدامة المالية.

• لبنان: على الرغم من التحديات التي يواجهها، إلّا أن التنفيذ الفعال للإصلاحات الاقتصادية والهيكلية لم يتحقق بشكل كافٍ. يعاني لبنان تدهور العملة المحلية ونقصاً في السيولة المالية وضعف القطاع المصرفي، ما يؤثر على الاستقرار المالي.

3 – الاستقرار السياسي والقيادة الحكومية:

• اليونان: نجحت في الحفاظ على الاستقرار السياسي وتشكيل حكومات قادرة على تنفيذ الإصلاحات اللازمة. وتمكنت القيادة الحكومية من تحقيق توافق سياسي ومجتمعي في مواجهة الأزمة المالية.

• لبنان: يعاني عدم الاستقرار السياسي والتوافق السياسي المحدود، ما يعرقل تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة ويزيد من صعوبات التعامل مع الأزمة المالية.

4 – التكامل الاقتصادي والتنويع:

• اليونان: تمكنت من تعزيز التكامل الاقتصادي مع دول الاتحاد الأوروبي وزيادة الصادرات، ما ساهمَ في تنويع مصادر الإيرادات وتعزيز النمو الاقتصادي.

• لبنان: يعاني من اعتماده الشديد على القطاع المصرفي والاستيرادات، ما يعرضه للتذبذبات في الاقتصاد العالمي ويجعله أقل قدرة على التعامل مع الأزمة المالية.

باختصار، تمكنت اليونان من التغلب على أزمتها المالية بفضل تدخل المؤسسات الدولية وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية والاستقرار السياسي. بينما تواجه لبنان تحديات عديدة في التعامل مع أزمته المالية، ويحتاج إلى دعم مالي دولي، وتنفيذ إصلاحات شاملة لتحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي.

بروفسور غريتا صعب

إعادة إدراج لبنان على القائمة الرمادية ضربة قاضية لاقتصادنا

 

كانت هناك مخاوف ومخاطر وتهديدات جدية من المجتمع الدولي لإعادة لبنان وإدراجه على «القائمة الرمادية»، لعدم التنفيذ الجدي لمحاربة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وتمويل تجارة المخدرات. في آخر لحظة، مُنح لبنان فترة سماح قصيرة المدى، بِعَون اليد الإلهية التي تحميه.

مصير لبنان معلّق بخيط رفيع جداً: فمِن جهة يُمكن تمكينه بإصلاحات وتنفيذ المطالبات الدولية، ومن جهة أخرى قَطعه وفَصله نهائياً عن الدورة الإقتصادية والمالية والنقدية الدولية، والتي ستكون الضربة القاضية للبنان واقتصاده وشعبه.

بعد اندلاع ما أُطلِق عليها من قبل صندوق النقد الدولي، أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية في تاريخ العالم، منذ نحو ثلاث سنوات ونصف السنة، كانت الدولة اللبنانية المسؤولة المباشرة عن هذا التدمير الذاتي، أسوأ بإدارة الأزمة، وعدم اتخاذ أي عملية إصلاح، أو إعادة هيكلة، لوَقف النزف ومحاولة إعادة لبنان على السكة الصحيحة، لا بل سَرّعت في الإنهيار وباتت تحفر في الخندق عينه، العميق جداً نحو القعر.

على الصعيد الدولي، فقد صبرَ المجتمع الدولي ووكالات المراقبة وحتى أنها غَضّت النظر، عن اقتصادنا الذي أصبح عشوائياً، من دون ضوابط ومراقبة والذي تحوّل إلى إقتصاد الكاش وهو أخطر اقتصاد في العالم. فاقتصادنا النّامي والمُراقب الذي كان يجذب المبتكرين والرياديين والمستثمرين، تحوّل إلى اقتصاد أسود وغامض، يجذب المروجين والمهربين والمُبيّضين. فدول العالم فضلت إعطاءنا فترة سماح دامت ثلاث سنوات ونصف السنة، جراء مواجهتنا لهذه الأزمة الإقتصادية والإجتماعية الفريدة من نوعها، المتزامنة مع ثالث أكبر انفجار في العالم، والآتية في ظل محاربة جائجة كورونا، التي هزّت كل اقتصادات العالم.

لكن بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من دون إظهار أي رؤية أو نية جدية من قبل السياسيين اللبنانيين، وغياب أي خطة جدية لإعادة الهيكلة والإصلاح، ومتّبعة الإنزلاق نحو الأسوأ وتشجيع التهريب وتبييض الأموال، بدأت المنظمات الدولية تفقد الصبر ودقت آخر ناقوس الخطر قبل فصل لبنان نهائياً عن الدورة الإقتصادية الدولية.

من الواضح لهم أنّ هناك خسائر كبيرة، لكن الأموال غيّرت ملكيّتها وتحوّلت من الإقتصاد الأبيض المراقب ومن الودائع الشريفة المكتسبة بعرق الجبين، إلى الإقتصاد الأسود المدمر، وإلى الأرباح الفادحة للمافيات التي تنمو في ظل الأزمات. فحتى إذا لم ينزل على حدود «القائمة الرمادية»، فقد أصبح لبنان في عين العاصفة وتحت المجهر، في كل تحويلاته، وكل عمليات التصدير والإستيراد التي ستخضع لتدقيق مفصل، وسيكبد الإقتصاد خسائر أكبر. إضافة إلى ذلك، إن هذه المخاطر سيكون لها مردود ونتائج مباشرة على القطاع العقاري وتجميده، لأنّ أي عملية بيع أو شراء ستكون بالكاش، وهذا الأخير لن تقبل به المصارف الداخلية ولا الإقليمية أو الدولية، وحتى بتحويله أو استعماله في أي مكان.

إنّ إدراج لبنان على «القائمة الرمادية» سيكون المحطة الأخيرة قبل إدراجه على «القائمة السوداء»، ليصبح رسمياً بلد المافيات والتهريب والتبييض، ومنبع المخدرات.

في ظل هذه المخاطر الجدية والمخيفة، وإعادة إدراج لبنان على هذه القائمة، ومخاطر عقوبات جديدة علينا، لن نتوقع أي ردة فعل جدية من السياسيين الذين برهنوا في الماضي أنهم غير مُكترثين وغير مهتمين بهذه التصنيفات. وقد مررنا بالتجربة عينها منذ بضع سنوات، عندما تراجعنا في تصنيفات «ستاندرد أند بورز» (S&P)، و«موديز»، عندما أعادت إدراج لبنان من المرتبة الـ B-، إلى –B، ومن ثم إلى C+، ومن ثم C-، وصولاً إلى «التعثر المالي»، Restricted Default – RD ولم يرفّ لهم جفن، وبرهنوا في الماضي أنهم غير معنيين وغير مهتمين بتصنيف لبنان، وأولوياتهم هي توزيع المقاعد وتوزيع المشاريع وتوزيع المكاسب، وخلافاتهم الظاهرة وتحالفاتهم من وراء الستارة.

في المحصّلة، إن فترة السماح، التي مُنحت للبنان استثنائياً، لن تدوم وهي فقط محطة قبل عقوبات صارمة، ستقطع جذورنا، وأدوات تنفّسنا الإصطناعية، فنحن على مفترق طرق، فإمّا نعود إلى اقتصاد مراقَب دولياً يلحق كل المتطلبات الدولية، أو نكرّس وضعنا كبلد المافيا والمافيات، المُنعزِل عن الدورة الإقتصادية الدولية، وأخذ شعبنا رهينة هذه الجماعات الفاسدة والسوداوية.

د. فؤاد زمكحل

فوضى المالية العامة والدولرة منذ الحرب… الليرة والعدالة الاجتماعية تدفعان الثمن

 

عندما بدأت الحرب في لبنان، كانت جميع الموازنات تعاني عجزاً، باستثناء الأعوام 1971 و 1972 و1974 عشية اندلاع حرب 1975. ومنذ عام 1975 وحتى اليوم، أصبحت الموازنات اللبنانية المتتالية تعاني عجزاً مالياً… أول غياب لقطع حسابات الموازنات العامة وحسابات المهمة كان بين عامَي 1979 و1993. وحديثاً، تكرّر الأمر بوقف قطع الحسابات المستمر منذ عام 2004 مع توقّف إقرر الموازنات طيلة 12 سنة بين عامي 2005 و2017… وما أتت موازنة عام 2017 إلا بفوضى احتساب النفقات والايرادات وتكاليف سلسلة الرتب والرواتب وسُبل تمويل إلّا لِتطفح كَيل الفوضى المالية المتمادية منذ الحرب.

أمّا سابقة اللجوء الى طباعة العملة الوطنية والضغط على المصرف المركزي لتمويل عجز الدول وما نتج عنه من تضخّم مفرط عام 1987 وهروب الناس عفوياً من الليرة اللبنانية واستبدالها بالدولار الأميركي في التسعير والدفع والادّخار على شكل دَولرة غير رسمية شبه شاملة، ولو غير مُعلنة، فكان أيضاً في السنة نفسها 1987 حين بلغت ذروة الدولرة 92% من مجموع الودائع… وتَمَسّك المواطنين بالمستوى المرتفع للدولرة بالاقتصاد، هو ما اضطر لبنان الى التخلي عن نظام سعر الصرف العائم الحر وتَبنّي الثبات الزاحف بين 1993 و1998 من التثبيت المتشدّد على سعر صرف 1507.5 منذ حينها، كَون نظام الصرف الذي تدعو له كل الأدبيات الاقتصادية في حال الدولرة المرتفعة الثابتة.

وفي الحرب نفسها عرف لبنان أولى تجاربه في ضرب العدالة الاجتماعية بين حاملي الدولار وذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانية ونَسف الطبقة الوسطى، وهي أساس ديناميكية كل اقتصاد ومجتمع بكلّ ما تحمل من اجتهاد في العمل ونشاط في القطاعات وأصالة في الدفاع عن قيمة «أكل الخبز من عرق الجبين»… خلافاً لمفاهيم أصحاب الثروات المبنية على المضاربة والربح السريع بفرق العملة… وما ظَواهِر اليوم سوى تكرار مشاهد سابقة من المسار ولكن بأكثر شراسة نتيجة انغماس المصارف بتمويل انهيار القطاع العام وتدفيع الثمن للمودعين السابقين… مقابل استفادة المقترضين خاصة بالدولار!

يُخطئ ويبتعد عن الموضوعية العلمية كلّ من يُقارب المأزق المالي-النقدي المصرفي بشكل إستنسابي لفترة معينة: مثلاً اختيار البحث فقط بفترة ما بعد عام 1993 بغضّ النظر عن الخيارات الاقتصادية وكلفة إعادة الإعمار، أو منذ العام 2005 بالنظر حصراً للمشهد السياسي الجديد الذي تَبعَ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والضغوط المالية-النقدية التي رافقته، لا سيما منها إبقاء لبنان طيلة 12 سنة بدون إقرار موازنة وما نتج عنها من إغراق النظام المصرفي بتمويل الدولة، وتغطية ذلك بقرارات تخطّي سقف الانفاق العام مُصدّق عليها من مجلس النواب نَسَفت بنود قانون النقد والتسليف الذي كان يفترض أن يحفظ بالنصوص الحد الأدنى من استقلالية المصرف المركزي… كما يُخطئ من يحصر بحثه في الفترة التي ترجمت تدهور مؤشرات قدوم الانهيار منذ العام 2011 (في المالية العامة والدين العام/النمو الاقتصادي، وانقلاب ميزان المدفوعات واستنزاف الاحتياطي بالعملات الأجنبية…) وتم تأجيله عام 2016 عبر شراء الوقت من خلال الهندسات المالية (لإعطاء فرصة إصلاح لم تحصل) حتى انفجر الوضع في خريف 2019.

في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت، المُتوجّب على الخزينة اللبنانية، يُعادل حوالى ثلاثة مليارات دولار أميركي، منه 327.5 مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية. وباحتساب كلفة خدمة هذا الدين العام على أساس معدلات الفائدة السنوية المعتمدة من قبل مصرف لبنان على مدى السنوات 1992 -2011 والمدفوعة من قبل الخزينة اللبنانية، فإنّ تلك المبالغ المتوجّبة في نهاية العام 1992 وبعد إضافة الفائدة المتجمّعة على مدى كل سنة بين عامي 1992 و2001 بلغت 30 ألف مليار ليرة لبنانية. كذلك زاد الدين بالدولار الأميركي بفِعل تَراكم الفوائد، ليصبح رصيد الدين العام حوالى ملياري دولار أميركي وليتخطى مجموع الدين المقوّم بالدولار حدود 22 مليار دولار.

إرتفع الدين العام إلى 7 مليارات دولار بحلول عام 1994، وهو ما يمثّل نموًا سنويًا بنسبة 67%. بين عامي 1993 و2001، اعتمدت الحكومة اللبنانية في البداية على الاقتراض الكبير من السوق المحلية. وقد شكّل الدين العام بالليرة اللبنانية في تلك المرحلة 81.3% من إجمالي الدين بشكل متوسط مع ارتفاع تكاليف الاقتراض نظراً لعامل المخاطرة.

وتمّ إجبار المصارف على الاكتتاب بسندات الخزينة حتى 60% من إلتزاماتها بالليرة اللبنانية، وخُفِّض المعدل إلى 40% عام 1994 ثم أُلغِي عام 1997.

أما عن ارتفاع معدّلات الفوائد على الاقتراض، فلا بد من لفت الانتباه الى جملة العوامل المؤثرة فيها، لا سيما «مخاطر البلد». كذلك ارتفاع الفوائد الاسمية مع ارتفاع التضخم كي يبقى معدل الفوائد الفعلية إيجابياً… فضلاً عن سعي الدولة في السنوات الأخيرة الى رفع الفوائد لاجتذاب الرساميل ثم العمل على توظيف جزء كبير منها في تمويل الدولة المديونية على شكل كرة ثلج، فضلاً عن رفع المصرف المركزي الأميركي معدلات الفائدة لعام 2017، كلّ ذلك زادَ الضغط على معدلات متوسطة الأجل.

عجوزات مؤسسة الكهرباء

كما ساهم تراكم العجز السنوي لمؤسسة كهرباء لبنان على مدى الفترة الممتدة من نهاية العام 1992 وحتى العام 2011، والذي اضطرت الخزينة اللبنانية إلى تغطيته وتسديده عن المؤسسة، بزيادة حجم الدين العام وخدمته إذ سجّلت مؤسسة كهرباء لبنان عجوزات مالية سنوية كانت تتراوح بين ما يوازي مليار ونصف الى ملياري دولار أميركي، ما عدا تراكم كلفة فوائد الديون عليها…

وفي عام 2018، أظهر تقرير قُدِّم إلى مجلس الوزراء عن أوضاع قطاع الكهرباء أنّ إجمالي العجز على مدى 26 عامًا بلغ 36 مليار دولار، منها 20.6 مليار ديون مؤسسة كهرباء لبنان، و 15.4 مليار فوائد متراكمة على هذا الدين…

كلفة القطاع العام من رواتب وأجور

وفي الانفاق الجاري الذي يسيطر على مجمل الموازنة العامة في لبنان، لا بد من التوقف عند حجم القطاع العام، وعدم تحقيق الاصلاح المالي والاداري فيه يُثقِل الخزينة حتى تخطّت كلفته ثلث الموازنة في حين لا تتجاوز حصته 10 الى 15% من الموازنة في مختلف بلدان العالم.

ومنذ عام 1993، بدأت تَتنامى الفجوة النمو الودائع بالعملات الأجنبية والأصول الخارجية للنظام المصرفي وأخذت تتسع تدريجاً. تم إنشاء غرفة المُقاصّة للشيكات بالدولار الأميركي بدءاً من عام 1994. وبعدها، تطوّرت الدولرة باتجاه أجهزة الصراف الآلي التي أخذت تمتلئ بالدولار الأميركي، خلافاً لما هي حال جميع البلدان التي تخشى التداول الورقي بالعملة الأجنبية واستخدامها لتبييض الأموال والمضاربة على العملة الوطنية في السوق السوداء… وأدى استخدام العملة كأداة دفع إلى تطوير منح قروض مصرفية للقطاع الخاص بالدولار الأميركي للسوق الداخلية ومنحها حتى لِمَن كان مَدخولهم بالليرة اللبنانية، بما في ذلك من مخاطر تقلّب سعر الصرف وعدم إمكانية السداد كما حصل بعد 2019 حتى تم السماح لهم بالتسديد بالليرة اللبنانية وعلى سعر الصرف الرسمي، وهذه خيارات تؤدي في جميع مصادرها الى خلق المزيد من النقد عن طريق «مضاعف الائتمان»… حيث يتبيّن أن الودائع كانت تتزايد بالدولار، وهي مجرّد تحويل ودائع من الليرة الى الدولار من دون غطاء دخول دولار فِعلي، وتحديداً مِن تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ عام 2011. وكذلك عمدت الدولة اللبنانية الى دولرة متنامية للدين العام بما في ذلك من مخاطر صعوبة التسديد، وتَوّجَهتها من خلال «الهندسات المالية» التي كان من أهدافها تخفيض وَهمي لخدمة الدين العام، لأنّ الفوائد على الأوروبوند أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية (بفِعل فرق عامل المخاطرة بين العملتين)، فضلاً عن محاولة تسويق الأوروبوند في الأسواق المالية الدولية.

تمّ الحفاظ على الستاتيكو طالما كان ميزان المدفوعات فائضًا. لكن منذ عام 2011 اتسعَت الفجوة بطريقة بارزة بين الودائع بالدولار الأميركي، التي كانت تتزايد بوتيرة متسارعة، والأصول الخارجية للنظام المصرفي التي بدأت في الانخفاض، ما قَلّل تدريجاً من القدرة على تلبية جميع طلبات سَحب ودائع العملاء بالعملة الأجنبية في عام 2019، وسَلّط الضوء على انهيار نظام 2019، فتَعَدّد سعر الصرف، ودخلَ البلد في دوامة سياسة الدعم ومن ثمة منصة «صيرفة»…

ومع بداية عام 2023 أصبح من الواضح تأقلم الاقتصاد مع الدولرة المرتفعة وانعدام العدالة الاجتماعية بعد الانخفاض الحاد في قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي في بلد يستورد قرابة 80%، حيث انقسم المجتمع الى ثلاث فئات:

• فئة تنخفض قوتها الشرائية كل يوم لأنّ دخلها حصري بالليرة اللبنانية. هؤلاء هم في الأساس موظفون في القطاع العام، يسحبون الآن رواتبهم بالدولار الأميركي عبر منصة «صيرفة» الي تم إنشاؤها لهذا الغرض، ما يسمح بالتحويل التلقائي لرواتبهم إلى الدولار الأميركي بسعر صرف أقل من سعر السوق، ولكن التي تكون قيمتها بالدولار الأميركي أقل بكثير مما كانت عليه قبل تشرين الأول 2019.

• فئة يتم الحفاظ على قوتها الشرائية إلى حد ما نظرًا لأنّ أقله جزءًا من مدخولها بالعملة الأجنبية.

• فئة تزداد قوتها الشرائية لأنّ كل دخلها بالعملات الأجنبية (معدل التضخم لا يزال أقل من معدّل تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية).

يبقى القول انّ الحكم استمرارية، والأزمات المتراكمة لها أسباب وتداعيات وأحياناً كثيرة نتائج يصعب الخروج منها (كما هي الحال تحديداً بالدولرة منذ الثمانينات).

اليوم، وبغياب الاصلاح المالي، تأقلم السوق نقدياً على دَولرة شبه شاملة غير رسمية لتسيير القطاعات… لكنّ التأقلم لا يغني عن ضرورة معالجة جوهر الأزمة والعناية بالفروقات الاجتماعية التي وَلّدتها وتفادي تكرارها…

د. سهام رزق الله

الدولار مستقرّ حتّى بعد رحيل سلامة… بأيّ شروط؟

كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها اللبنانيون اليوم عن مصير سعر صرف الدولار بعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. هل يستمرّ بالاستقرار؟ أم رحيل سلامة خلال شهر تموز سيطلق صافرة “التحليق” مجدّداً إلى ما فوق 100 ألف ليرة؟
بحسب المعلومات الموثوقة، فإنّ الاستقرار مستمرّ، أقلّه حتّى نهاية الصيف. لن يؤثّر رحيل سلامة على سعر صرف الدولار في السوق، خصوصاً بعد الإجراءات التي اتّخذها المجلس المركزي في مصرف لبنان، والتي استطاعت أن تُرسي الاستقرار الحالي، وسنأتي على ذكرها أدناه.
قبل ذلك، أكثر من جهة سياسية وصحافية نقلت في مجالس خاصة عن الحاكم أنّ سعر الصرف سيصل إلى عتبة 100 ألف ليرة ويتوقّف. وتُنقل معلومات بالتواتر أنّ السير بالإصلاحات ربّما سيعيد سعر الصرف إلى ما دون 50 ألف ليرة، خصوصاً إن ترافقت تلك الإصلاحات الحكومية وتلك التي يتّخذها المجلس المركزي في مصرف لبنان، مع انتخاب رئيس مرضيّ عنه عربياً ودولياً ويستطيع أن يشكّل حكومة متجانسة يتّفق معها.
إلى حينه يمكن القول إنّه “لا ارتفاع في سعر الصرف حتى بعد رحيل سلامة” في المدى المنظور، أو أقلّه حتى نهاية فصل الصيف.
تفيد المعلومات أنّ المجلس المركزي في مصرف لبنان لم يكن راضياً على آليّة إدارة سلامة لعملية بيع الدولارات وشرائها عبر “صيرفة”، لأنّها كانت تتّسم بـ”الفوضى” و”الإفراط”، لكنّ الضغوط التي مارسها عدد من أعضاء المجلس، ثمّ التوليفات العديدة التي فرضوها على تلك الآليّة، استطاعت أن تُرسي آلية أخرى “أكثر تنظيماً” باتت قادرة على كبح “الشراهة” في شراء الدولارات “بلا سقف” التي أرساها سلامة طوال تلك المدّة، والتي تسبّبت إلى جانب عوامل أخرى بارتفاع سعر الصرف بالشكل العشوائي الذي شهدناه قبل بداية شهر آذار، وصولاً إلى نحو 140 ألفاً.

بحسب المعلومات الموثوقة، فإنّ الاستقرار مستمرّ، أقلّه حتّى نهاية الصيف. لن يؤثّر رحيل سلامة على سعر صرف الدولار في السوق

كيف تمّ تنظيم “صيرفة”؟
ما يحصل اليوم يُختصر بأنّ المصرف المركزي استطاع أن ينظّم آلية عمل “صيرفة”، وذلك بالموازنة بين:
1- منصّة “صيرفة”: التي باتت مهمّتها تنحصر بسحب الليرات من السوق لكبح تضخّم الكتلة النقدية.
2- الصرّافين: من خلال استخدام قدراتهم على جمع الدولارات من المواطنين مقابل الليرات اللبنانية التي ينفرد مصرف لبنان بضخّها في السوق، وهم بدورهم يسلّمونها إلى مصرف لبنان.
استطاع المجلس بذلك أن يوازن بين ما يضخّه من ليرات عبر الصرّافين، وما يمتصّه من دولارات بواسطة “صيرفة”، لكن طبعاً هناك كلفة يعترف بها مصرف لبنان ويقوم بتحمّلها و/أو تحميل جزء منها، أو ربّما كلّها، للدولة اللبنانية.
تؤكّد أوساط مصرف لبنان أنّ تلك الخسارة “هامشية” وبلا قيمة اليوم، إذا ما قورنت مع الاستقرار الذي استطاع “المركزي” أن يرسيه، ومقارنة بالفوائد الاقتصادية والإيجابيات التي يجنيها المواطن اللبناني، والتي فرضها ذاك الاستقرار، خصوصاً بعد فرض التقارب بين سعرَيْ “صيرفة” والسوق السوداء.
هذه الخسارة هي الفارق بين سعر السوق الحالي (94,500 ل. ل) وسعر “صيرفة” (86,300 ل.ل)، أي ما بين 10 و11 ألف ليرة يتحمّلها المركزي ويعتبر أن لا مفرّ منها من أجل فرض الاستقرار.
أمّا ما يساعد مصرف لبنان على إنجاح تلك الآليّة بعد الإجراءات التي اتّخذها المجلس المركزي، فهما عاملان ذهبيان:
1- وفرة الدولارات بين أيدي المواطنين.
2- حاجتهم إلى الليرات اللبنانية من أجل تسيير الأمور اليومية.
هذه “الوفرة” بالدولارات تقابلها “حاجة” إلى الليرات، وهو ما يدفع المواطنين إلى التوجّه إلى الصرّافين لاستبدال الدولارات بالليرات، ثمّ تصبّ بدورها هذه الدولارات عند مصرف لبنان عبر الصرّافين، لكنّ هذه المرّة “بهدوء” وضمن توازن دقيق أقرب إلى “المعجزة”.
تكشف مصادر مصرف لبنان لـ”أساس” أنّ حاجة مصرف لبنان السنويّة من الدولارات من أجل تسيير أمور الدولة (باعتباره حكومة الظلّ اليوم) هي 3 مليارات دولار التي تمثّل فعليّاً عجزاً في موازنة الدولة. وكانت الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة لناحية رفع الضرائب والرسوم باحتسابها على سعر منصّة “صيرفة”، وتحسين قيمة الجباية وغير ذلك، قد ساهمت في تقليص هذا العجز الذي كان بحدود 7 مليارات دولار قبل رفع الضرائب والرسوم.
بمعنى آخر، بات مصرف لبنان قادراً من خلال هذه العملية على تأمين (لنفسه وللدولة) نحو 250 مليون دولار شهرياً من أيدي المواطنين، بعدما كانت نحو 580 مليون دولار، من دون أن يتأثّر سعر الصرف سلباً.

تفيد المعلومات أنّ المجلس المركزي في مصرف لبنان لم يكن راضياً على آليّة إدارة سلامة لعملية بيع الدولارات وشرائها عبر “صيرفة”، لأنّها كانت تتّسم بـ”الفوضى” و”الإفراط”

هل هذا التوازن قابل للاستمرار؟
تؤكّد مصادر مصرف لبنان أنّنا ما زلنا في طور هبوط سعر الليرة، لكنّ سرعة هذا الهبوط تراجعت. ليس هذا الاستقرار استقراراً مستداماً وإنمّا مرحليّ ساهمت عوامل عدّة في إرسائه بما يشبه “المعجزة”. ومن بين تلك العوامل تراجع إضرابات المصارف، وانحسار هجمات القاضية غادة عون وغيرها على المصرف المركزي، والجوّ الإيجابي إقليمياً، الذي بدأت ملامحه تظهر في سوريا وتتسرّب إلى لبنان.
في نظر المصادر “الرسمية”، فإنّ “التوازن” السوري – العربي مهمّ جداً لإطالة أمد هذا الاستقرار. فكلّما وجد الداخل السوري متنفّساً اقتصادياً إضافياً، انعكس ذلك إيجاباً على سعر الصرف في لبنان. في حين أنّ انعدام هذه الأسباب سيتسبّب حتماً بعودة “انعدام الثقة” الذي سيدفع بدوره إلى ارتفاع سعر الصرف مجدّداً.
لا تقف الأجواء الإيجابية “المشروطة” عند هذا الحدّ. بل تكشف المصادر أنّ حجم الودائع الباقية لدى المصارف لا تتعدّى 90 مليار دولار من أصل ما يقارب 160 ملياراً. وهي لمودعين اختاروا أن يعطوا ما يشبه “فترة سماح” مضمرة، خصوصاً بعد تراجع هامش “صغار المودعين” كثيراً بفعل التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان، مثل التعاميم 158، 161، واليوم 165.
ترافقت كلّ هذه العوامل مع عودة القطاع الخاص إلى التكيّف مع الأزمة بشكل ملحوظ، على الرغم من تمنّع السلطة عن القيام بواجباتها في إقرار القوانين اللازمة مثل “الكابيتال كونترول” و”هيكلة المصارف” و”توحيد سعر الصرف”.

أمّا مستقبلاً فتعتبر المصادر أنّ دخول التعميم 165 الجديد، الذي يسعى إلى إعادة تحريك المياه الاقتصادية الراكدة من خلال إعادة خلق ودائع “فريش” بالليرة وبالدولار، حيّز التنفيذ، سيكون بمنزلة الخطوة الأولى لـ”تحضير الأرضيّة” في طريق عودة الحياة إلى القطاع المصرفي، ويمكن أن يُبنى عليها مع الوقت من أجل تحويل منصّة “صيرفة” إلى “منصّة مزدوجة” تمكّن المواطنين من شراء وبيع الدولارات عبرها في المصارف. وبذلك يكون قد أفل دور المضاربين بشكل نهائي إلى غير رجعة، وعندئذٍ يتراجع دور الصرّافين الذي انتفخ منذ بداية الأزمة إلى حدود بعض الفتات فقط.
بحسب المصادر، سيكون نجاح التعميم 165، مع أجواء سياسية إيجابية إضافية، كفيلاً بضخّ جرعات إضافية من “الثقة” تستطيع كلّها مجتمعة أن تفرض استقراراً في سعر الصرف، لكن بشرط أساسي هو إظهار الجدّيّة المطلوبة من قبل السلطة، وإثبات قدرتها على الالتزام بمسؤوليّاتها. بينما المواطنون ووسائل الإعلام سيكونون مطالبين ببثّ الـpositive Vibes المفقودة، من أجل الحفاظ على منسوب الثقة القليل الباقي لإعادة إحياء الاقتصاد الوطني، وعماده القطاع المصرفي.

عماد الشدياق

مجتمع الـ20% ينمو… كذلك خطر التفلُّت

في خلال السنوات التي تلت أزمة الإنهيار المالي في نهاية العام 2019، بدأ يتكوّن اقتصاد الـ20 في المئة بشكل مضطرد، وقد وصل اليوم إلى مرحلة بات واضحاً فيها بالعين المجرّدة. تقود قراءة مفاعيل هذا الاقتصاد، إلى فرز مجموعة من الفوائد والأضرار التي تواكب هذا الوضع الاستثنائي.

كلما اجتمع اثنان في هذه الفترة، يكون ثالثهما الحديث عن الأسعار في لبنان، وكيف انّها عادت إلى الارتفاع التدريجي، وبالدولار، وصولاً إلى اقترابها مما كانت عليه قبل الانهيار. وفي تلك الحقبة، كانت بيروت واحدة من أغلى المدن في العالم.

من الوجهة الاقتصادية، يعتبر مؤشر الأسعار، من المعايير التي تشير إلى وجود بحبوحة. بمعنى، انّ المنافسة في أي نظام اقتصادي حرّ، هي التي تقود إلى تحديد سعر السلعة. وعندما نتحدث عن سلع غير أساسية، مثل خدمات المطاعم والمنتجعات، فإنّ الموضوع لا يتعلق بجشع تجار، أو غياب رقابة حكومية، بل بمتطلبات وشروط السوق، الذي يفرض إيقاعه من خلال العرض والطلب، ولا شيء غير ذلك. وبالتالي، إذا كانت أسعار الخدمات المطعمية، وسائر الخدمات المصنفّة من الكماليات، وأحياناً من النوع الفاخر (Luxury services)، إرتفعت إلى مستويات، اقتربت معها من الأسعار القائمة في العواصم الاوروبية المصنّفة غالية، فهذا يؤكّد وجود قدرة شرائية لدى عدد من المواطنين يكفي لتشغيل السوق. ولولا ذلك، لكنا شهدنا انخفاضاً في الاسعار، وإقفالات اكثر للمؤسسات.

هذا الامر حصل في بداية الأزمة، لكن السوق تأقلم مع الوقت، ووصل إلى مرحلة بتنا نشهد فيها عودة افتتاح مؤسسات كانت قد أقفلت، او حتى فتح مؤسسات جديدة.
هذا الواقع الاقتصادي، ورغم غياب الإحصاءات والأرقام التي يمكن الاستناد اليها، يشير إلى تنامي عدد المواطنين الذين يمتلكون مداخيل مرتفعة بما يكفي لتشغيل هذه المؤسسات.

وهذا الوضع ليس عادياً، ولا يحصل عادة في الدول التي تعاني انهيارات مالية بحجم التي يعانيها لبنان. وعلى سبيل المثال، واجهت الارجنتين انهياراً مالياً حتّم تدخّل صندوق النقد الدولي اكثر من مرة لمساعدتها. وحصلت الارجنتين على اكبر قرض في تاريخ الصندوق في العام 2018 وصل إلى 57,1 مليار دولار. ومع ذلك، فإنّ اسعار الكماليات في بوينس ايريس منخفضة جداً قياساً بالأسعار في بيروت. مع الإشارة هنا إلى انّ الحدّ الأدنى للاجور في الارجنتين يقارب الـ300 دولار شهرياً، في حين انّه تدنّى في لبنان إلى حوالى 95 دولاراً، وفق سعر الدولار الحالي. بما يعني انّ مستوى مداخيل الموظفين في الارجنتين أعلى بثلاثة اضعاف منها لدى الموظف اللبناني. وبالتالي، فإنّ تفوّق بيروت في الغلاء لا يعتمد على مستويات الاجور، بل على وجود طبقة من اللبنانيين تتمتّع بمستويات دخل مرتفعة نسبياً، قادرة على دعم الطلب، ودفع الاسعار إلى الارتفاع.

ما يساعد في نمو هذه الطبقة من ذوي الدخل المرتفع قياساً بالوضع المالي في البلد، الحقائق التالية:
اولاً- كادرات بشرية ذات مستويات تعليم جيدة، قادرة على العمل في ما تبقّى من شركات عالمية تعمل عبر فروع او مكاتب لها في بيروت.

ثانياً- كادرات تعمل عن بُعد، في شركات عالمية لا تستهدف سوق بيروت او المنطقة. هذه الظاهرة نمت واستوعبت اعداداً اضافية من الموظفين بفضل السلوك الجديد الذي فرضته جائحة كورونا. هذا النمط من العمل انتشر واستمر بعد كورونا، وهو لا يزال قائماً في كل دول العالم.

ثالثاً- وجود لبناني نوعي وكمّي في دول الانتشار، ساعد في تأمين وظائف عن بُعد لعدد كبير من اللبنانيين.

رابعاً- قسم من اللبنانيين العاملين في الخارج، وتحديداً في دول الخليج العربي، بدّلوا في سلوكهم الحياتي لأسباب متنوعة، وباتوا يزورون لبنان اسبوعياً، او كل اسبوعين مرة. عدد هؤلاء لا يستهان به، وباتوا يشكّلون عنصراً داعماً للإنفاق في البلد، إذ لم يعد القدوم إلى لبنان في الاعياد فقط، اي مرة او مرتين فقط في السنة، كما كان الحال في العقود الماضية.

خامساً- قسم من الشركات اللبنانية التي تعمل عن بُعد، مثل شركات اقتصاد المعرفة وسواها، أعادت مستويات الأجور لديها إلى ما كانت عليه قبل الانهيار.
سادساً- مؤسسات وشركات لبنانية تستهدف الأسواق الخارجية والمحلية، وبفضل اتساع رقعة الذين يمتلكون قدرات شرائية مرتفعة، رفعت مستويات الاجور لديها وأصبحت بالفريش دولار، وتلامس مستويات الاجور قبل الأزمة.
بالإضافة طبعاً إلى طبقة الميسورين، او الذين سحبوا ايداعاتهم قبيل الأزمة، ويتمكنون اليوم من الإنفاق بحرّية اكبر.

كل هذه المعطيات سمحت بتكوّن مجتمع الـ20%. وهذا الأمر ايجابي من حيث المبدأ، لأنّه يساعد في التعافي لاحقاً بسرعة. لكن الناحية السلبية تكمن في اتساع الهوّة بين هذه الطبقة الجديدة، وبين المسحوقين الذين يعيشون تحت مستويات الفقر. وقد تمّ تقدير هؤلاء بحوالى 70% من السكان، فيما نسبة الفقراء في الارجنتين مثلاً هي 45%.

هذا الواقع يشكّل جرس إنذار، وينبغي الإسراع في الانتقال إلى خطة التعافي، وعودة الاقتصاد الى مسار طبيعي، لكي تتمكن السلطات من ردم الهوة بين الناس، لأنّ استمرارها على ما هي عليه، يهدّد المجتمع والأمن، ولا احد يستطيع ان يضبط وضعاً مماثلاً لفترة طويلة، لأنّ خطر التفلّت سيصبح أقوى من قدرات اي جهاز على ضبطه. انّها مسألة وقت، والوقت هو العنصر الذي لا تعيره السلطة الجاهلة اي اعتبار.

انطوان فرح

ماذا إذا تنحّى سلامة.. وماذا إذا استمر؟

لا تنفع المكابرة في قضية رياض سلامة. وينبغي الاعتراف أنه حان الوقت لاتخاذ قرار سريع، في شأن كيفية التعاطي مع هذا الملف، خصوصاً لجهة حسم إشكالية استمرار الرجل في منصبه حتى نهاية ولايته، أو المسارعة الى الاتفاق على صيغة حل يجنّب البلد المزيد من المخاطر والمجازفات.

لا شك في انه لا يحق لأحد ان ينظر الى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وكأنه مرتكب قبل ان يصدر حكم قضائي مُبرم في هذا الموضوع. ولكن، لا يمكن التعاطي مع هذا الملف، وكأن شيئاً لم يكن. فالحديث هنا عن حاكم بنك مركزي، يفترض ان يكون مثل امرأة قيصر، فوق الشبهات. أما أن يكون حاكم المركزي متهماً، بانتظار ان يُثبت براءته، وان تكون هناك مذكرة دولية في حقه، لسوقه امام القضاء الفرنسي، وأن يستمر على رأس مؤسسة بأهمية وحساسية البنك المركزي، فهذا أمر أقل ما يُقال فيه انه غير طبيعي. والمقصود هنا، ليس الاستقالة او الاقالة، بل مبادرة من قبل سلامة تقضي بتعليق مهامه مؤقتاً، بانتظار تبيان الخيط الاسود من الخيط الابيض في القضاء الفرنسي… واللبناني ايضاً.

ومع ذلك، فإنّ استمرارية سلامة مثل استبعاده، تطرح اشكاليات ومشاكل يصعب تجاوزها في الوضع الحالي. واذا كان بقاء سلامة سيزيد الشكوك في احتمال وقف تعاون المؤسسات المالية الدولية مع مصرف لبنان، طالما ان سلامة هو من يوقّع الاوراق والمستندات التابعة للمصرف، فإنّ ازاحته قد تؤدي الى ما يشبه الفراغ القاتل في سدة الحاكمية. وقد بات واضحاً ان المناخات السياسية، في غياب رئيس للجمهورية، لن تسهّل امكانية التوافق على البديل. ولا يبدو ان الرئيس بري في وارد التراجع عن رفض تسلّم الحاكم الاول وسيم منصوري مهام الحاكمية. وفي كل الاحوال، ليس مُستحباً، بالنسبة الى الاحزاب والقوى المسيحية، ان يتسلم الموقع شخص غير مسيحي، في غياب رئيسٍ للجمهورية، بما سيجعل الامور أصعب، لا سيما ان الملف الرئاسي مفتوح على احتمالات الاطالة بما يجعل مجرد التفكير بتسليم الحاكمية مؤقتاً الى غير مسيحي، مسألة معقدة.

يبقى السؤال، ما هي التداعيات المالية والاقتصادية لبقاء سلامة او لتنحّيه من دون تأمين بديل؟

من الوجهة العملية، لا يوجد فارق عملي بين الوضعين. بمعنى، انّ من يراهن على ان الدولار سيحلّق فور تَنحّي سلامة، او ان الاقتصاد سينهار اكثر، يكون واهِماً. سعر صرف الليرة لا علاقة له بوجود سلامة او غيابه، لأن ما يجري عبر منصة «صيرفة» بات واضحا للجميع. مصرف لبنان يتحمّل خسائر مالية من اموال المودعين، مقابل دعم الليرة للحفاظ على استقرار مبدئي. وهذا الامر يمكن مواصلته في كل الاحوال. لكن، من المستغرب ان يكون المطلوب الحفاظ على سعر الليرة بأيّ ثمن. وكيف يعطي مصرف لبنان او السلطة السياسية التي طلبت منه، أو غَطته، صلاحية الانفاق من اموال الناس للدفاع عن الليرة. صحيح ان العملة الوطنية للجميع، لكن الصحيح أكثر ان اموال المودعين ملكية خاصة لا يمكن المسّ بها تحت اي مسمّى. وقد تمّ إهدار حوالى 22 مليار دولار من هذه الاموال منذ بداية الأزمة. فهل المطلوب انفاق كل ما تبقّى؟

وبالتالي، المشكلة لا تتعلق بالحفاظ على استقرار الليرة، وهو استقرار مصطنع ومكلف وغير قانوني، ولم يتحقق سوى منذ بضعة اسابيع، وقد لا يستمر طويلا، لأنه ليس في مقدور المركزي مواصلة دعم الليرة بهذه الطريقة. لكن المشكلة تكمن في مكان آخر، اذ انّ اي شخص سيتم إسناد مسؤولية الحاكمية اليه، بشكل مؤقت، لن يكون قادرا على اتخاذ اي قرار يتطلب قدراً من الشجاعة والحزم. وهذا الامر واضح في المناقشات التي بات يشهدها المجلس المركزي في مصرف لبنان، اذ انّ التردّد والخوف وحسابات المصالح الخاصة تسيطر على ما عداها، بدليل انّ قرارا لتنظيم العلاقة بين المصارف والمودع، غَطّته الحكومة بقرار وتوصية الى البنك المركزي، لم يصدر حتى الآن، بسبب القلق غير المبرّر الذي يسيطر على الاعضاء. والبلد سيحتاج في الايام المقبلة الى من يجرؤ على اتخاذ القرارات، لأن الانهيار يتطلب اجراءات استثنائية بانتظار عودة الانتظام السياسي، وعودة المجلس النيابي الى ممارسة دوره التشريعي بشكل طبيعي، لكي يتم إقرار تشريعات تحاكي التغييرات التي فرضها الانهيار.

في المحصّلة، سيتبيّن بعد استعراض الاحتمالات، ان الضرر قائم، بوجود سلامة كما في غيابه، وسيكون الاختيار، في هذا الوقت، وقبل انتخاب رئيس للجمهورية، بين الاسوأ… والاسوأ، ولا شيء غير ذلك.

أنطوان فرح

مستقبل تجارة الشيكات باللولار

في بداية الأزمة الإقتصادية، والإجتماعية، والمالية، والنقدية في لبنان، والتي أصبحت اليوم من المتعارف عليها من أكبر الأزمات في العالم، تميّزنا أيضاً بوجود أكثر من 7 أو 8 منصات وأسواق صرف في السوق اللبنانية. سنُركز في هذا المقال على سوق صرف الشيكات بالدولار اللبناني في السوق اللبنانية، منذ بدايتها حتى وصولها إلى «هيركات» يُقارب الـ90%، ومستقبلها.

عندما بدأت الأزمة في أواخر العام 2019، وأُقفلت المصارف أكثر من 12 يوماً متتالياً، كان لدى المصارف اللبنانية ودائع بنحو 180 مليار دولار، كما كان أيضاً لديها ديون عند حدود الـ 55 ملياراً، الذي كان يشكل 110% من الناتج المحلي، والذي كان يقارب الـ 50 ملياراً.

فبعدما فتحت المصارف أبوابها بشكل خجول، هلع المودعون لسحب أموالهم أو تحويلها إلى الخارج، ومن المنطق أن هذه الودائع لم تكن موجودة، لأن قسماً منها كان مديناً للقطاع الخاص، وقسماً آخر كان مُستثمراً بسندات الخزينة والأوروبوندز، والقسم الثالث كودائع في البنك المركزي. فكان مستحيلاً تلبية الطلبات النقدية.

فبدأ المدين تسديد ديونه بتحويلات مصرفية أو بشراء شيكات من السوق. وبدأ بعض المودعين إستثمار ودائعهم بالشيكات، وشراء بعض العقارات، لحماية قسم من ودائعهم. هكذا بدأ تداول الشيكات بطريقة عشوائية وحادة.

فبدأ الشيك يُباع بـ 90% من قيمته في مقابل الكاش، ومن ثم انخفض إلى 85%، ومن ثم 80%، 70%، 60%، وصولاً إلى الـ 10% راهناً. وكان يلحق سوق العرض والطلب. فالواضح أن العرض كان يتزايد يوماً بعد يوم، والمودعون يقبلون الـ«هيركات» الذي يتزايد أكثر فأكثر حتى وصلت الخسائر إلى 90% اليوم.

فمَن كان يشتري الشيك، كان همّه تسديد ديونه بسعر أقل، والذي كان يبيع الشيك كان أولاً يريد الحصول على بعض الكاش، حتى بخسائر لحماية ما تبقّى من ودائعه، أو يراهن على استثماره في بعض العقارات لحماية رزقه بالحجارة والبناء، ويُهرّبه من وجه المؤسسات المالية. وكان هذا الرهان رابحاً وناجحاً، لأن مَن استثمر ودائعه بالعقار منذ بداية الأزمة، بات يستطيع بيعه اليوم بالفريش كاش، وإسترجاع بعض قيمته، حتى ولو بخسائر طفيفة.

كانت سوق الشيكات هذه نشطة جداً للأسباب المذكورة، فالناشطون كانوا يُسدّدون ديونهم، أو مَن يستثمر في العقار، أو مَن يهرب من السوق المالية لشراء الكاش، وبعض الجهات المجهولة التي كانت تراهن على تجميع هذه الشيكات، لربما بُغية أخذ حصص من المصارف يوماً ما إذا حصلت إعادة أي هيكلة، وتثبيت مشروع الـ Bill in. لكن مع مرور الوقت إنخفضت الودائع ووصلت إلى الـ 100 مليار دولار أو أقل.

أما ديون القطاع الخاص فإنخفضت أيضاً ووصلت إلى نحو 15 مليار دولار تقريباً. ففي النتيجة إنخفض العرض والطلب على هذه الشيكات باللولار، وإنخفضت قيمتها حتى وصلت إلى 10%.

من جهة، إن تسعير هذه الشيكات مربوطاً بصرفها بحسب تعميم 151، الذي يلحق التسعير الرسمي، والذي ارتفع إلى 15 ألفا في شباط 2023، ومقارنته بسعر السوق السوداء من جهة أخرى. فعندما تنخفض النسبة بين هذين العاملين ينخفض سوق صرف الشيكات، وإذا إرتفعت على نحو طفيف تلحقه. فالنسبة اليوم هي بتحويل الشيكات بالدولار إلى الليرة اللبنانية بحسب تعميم 151، ومن ثم بيع الشيك بالليرة لشراء العملة بالليرة اللبنانية، ومن ثم شراء الفريش كاش من السوق السوداء أو من منصة صيرفة، حيث يكون تقريباً نحو 12%-13%.

فهكذا يتقلّص سعر الشيكات بالدولار اللبناني من جهة بحسب العرض والطلب لتسديد الديون، ومن جهة أخرى بحسب تعميم 151، ومنصة السوق السوداء، التي توصل في النهاية إلى بعض الدولار الفريش. إضافة إلى كل هذه الضغوط، بدأت المصارف أكثر فأكثر ترفض استقبال الشيكات من غير المصارف، لتخفيف تعارضها ومخاطرها على المصرف المركزي، فتجارة الشيكات تطوّرت وأصبح هناك سعر مختلف بحسب أسماء المصارف، وبدأ عرض وطلب جديد بحسب طلبات السوق.

فيُمكن أن يُتاجر ببعض الشيكات بأسعار أعلى أو أقل بحسب متطلبات السوق والمدينين، وأصبح هناك خيارات انتقائية، في هذه المنصة والتجارة. فبعض الشيكات تُرفض، وبعضها الآخر يُبحث عنها، بعض الأسماء تُشطب، لبعض المخاطر والعقوبات، ولأسباب الإمتثال، وبعض الأسماء البيضاء يُرفع سعر شيكاتها.

الحقيقة المرّة وراء كل هذه التجارة الوهمية، وسوق الشيكات هذه، التي هي «هيركات» مبطّن، تعني أن هذه الدولارات اللبنانية أصبح يُتاجَر بها، كأنها بعض الودائع بالليرة اللبنانية، بحسب سعر الصرف الرسمي، الذي يبلغ أكثر من 85% من قيمته فقط، والإستحصال عليه يكون ببعض السيولة النقدية، حيث تزداد الخسارة إلى ما يقارب الـ5% إضافية. ونصل إلى خسارة 90%، ويتبقّى 10% مما تعب به اللبنانيون مدى حياتهم ولعقود مديدة.

في المحصّلة، إن تجارة الشيكات ستنخفض مع الوقت، تزامناً مع العرض والطلب، وسيتتابع تحويل الودائع باللولار اللبناني، بحسب التعاميم المتتالية، بأسعار بخسة، وبخسائر فادحة. فالكل يريد طمر رأسه بالتراب كالنعامة أمام هذه الجريمة المالية والنقدية وأكبر عملية نهب في تاريخ العالم.

د. فؤاد زمكحل