أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

نوعية جديدة من المواجهات بين المصارف و«الدولة»

 

لا شك في انّ قراءة متأنية في مضمون البيان الصادر عن المصارف في 3 آذار الجاري، تُظهر انّ أسلوب المصارف في مقاربة الأزمة بدأ يتبدّل، وأن المقتنعين في صفوف المصرفيين بضرورة اتخاذ موقف صَلب حيال السلطتين السياسية والنقدية، بدأ يزيد عددهم. وهذا يعني ان نوعية المواجهات في المرحلة المقبلة قد تتغيّر. لماذا هذا التغيير الآن؟ والى أين يمكن أن يصل في النتيجة؟

يبدو انّ ادارات المصارف أُصيبت بصدمة بعدما لاحظت انّ المسؤولين لا يقدّرون حجم المخاطر التي تهدّد القطاع المالي، جرّاء بعض الممارسات القضائية، وبعض الاستهتار القائم، سواء من السلطات القضائية المختصة، او من قبل السلطات السياسية. وشهدت المصارف على حالة من العقم في اتخاذ القرارات، وشعرت في فترة من الفترات بأن القطاع المصرفي قد ينهار بخفّة غير مسبوقة. وهذا ما يفسّر اللجوء الى الاضراب، مع علمها المسبق بأنّ الاغلاق سيؤدي الى زيادة النقمة الشعبية ضدها. لكنها اعتبرت انها الطريقة الوحيدة التي قد توقِظ من يعنيهم الامر من سباتهم العميق.

اليوم، تبدو المصارف وكأنها انتقلت الى مرحلة جديدة عنوانها الضغط والمواجهة مع الطرفين اللذين يرتبط الحل بالقرارات التي سيتخذانها، وهما «الدولة» ومصرفها المركزي. وهنا، يعتبر البعض ان لا وجود لطرفين، بل لطرف واحد هي الدولة على اعتبار انّ البنك المركزي، وإن كان يتمتع بالاستقلالية في عمله، الا أنه جزء من هذه الدولة، بل انّ الدولة مسؤولة عنه وفق ما ينص القانون. وهذا ما يفسّر ورود المادة 113 من قانون النقد والتسليف في بيان المصارف الاخير. وهو البند الذي ينصّ على مسؤولية الدولة في تسديد الخسائر التي قد يُمنى بها مصرفها المركزي.

بالاضافة الى خسائر المركزي، باتت المصارف تصرّ على ان تحسم الدولة أمرها من مسألة الديون المترتبة عليها، وان تعلن كيف ستتعاطى مع هذه الديون. ولا بد من البدء في التفاوض مع الاطراف الداخليين والخارجيين حول مصير هذه الديون، لأنّ ذلك سيشكّل خارطة طريق لمعرفة الاتجاه الذي ستسلكه الأزمة في المرحلة المقبلة.
إنطلاقاً من هذه المواقف المصرفية، يمكن توقّع مرحلة عضّ اصابع قاسية في الفترة المقبلة، بين المصارف والدولة ومعها مصرف لبنان. فقد وصلنا الى ساعة الحسم، خصوصاً ان المودع، وإن أدرك ان امواله أنفقتها الدولة، إلا أنه يعتبر، وهذا حقه الطبيعي، انّ المصرف هو المسؤول تجاهه عن ضياع وديعته. وبالتالي، أدركت المصارف بدورها ان سياسة المهادنة الدائمة مع الدولة ومع مصرف لبنان قد تجعلها تدفع الثمن لوحدها. وبالتالي، سيدفع المودع ايضا الثمن الأكبر، بحيث سيفقد امواله، وسيفقد البلد قطاعه المصرفي.

هذه الوقائع التي شكّلت الدافع الاساسي نحو اعلان الاضراب، ومن ثم إصدار البيان الأخير، تعني عملياً انّ المصارف تتخلى تدريجاً عن سياسة التحفّظ والمهادنة، وقد نشهد في المستقبل القريب قرارات لم تكن واردة من قبل. هذه القرارات يمكن ان تأخذ سياق محاولة تحديد المسؤوليات، لكي لا يبقى القطاع لوحده في المواجهة، في حين انّ الطرف الاساسي في الأزمة (الدولة) تلعب دور الحَكَمْ، وأحياناً المُحرّض. وما هو مُستغرب اكثر ان الدولة تتعاطى مع مصرفها المركزي وكأنه كيان غريب عنها، اذ انّ قسماً ممّن في السلطة يهاجم البنك المركزي ويحمّله مسؤولة الانهيار، من دون ان يَعي انّ الدولة، والسلطة السياسية التي تمثل هذه الدولة، بموجب نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة، هي المسؤولة قانونياً وأخلاقياً عن النتائج التي قد تتمخّض عن اي سياسة يتبعها البنك المركزي.

في المرحلة الجديدة، لن يكون مستبعداً ان ينتقل «الصراع» بين الدولة ومصرفها المركزي من جهة، وبين المصارف من جهة أخرى، الى القضاء، سواء المحلي او الدولي. وهناك من يعتقد ان الوصول الى هذه المواجهة قد لا يكون كارثياً، لأنه قد يحسم الجدل في تحديد المسؤوليات، وفي توزيع الخسائر، ويعطي دفعاً لتسريع الاتفاق على خطة للتعافي، تسمح بإعادة الحقوق الى المودعين المستحقين، وتمنع انهيار القطاع المصرفي، وتعيد الاقتصاد الى سكة
التعافي.

انطوان فرح

لبنان لم يعد في أولويات الدول الكبرى وأجنداتها

ينتظر بعض اللبنانيين الأيادي الدولية للتدخّل المباشر وحل مشاكلنا السياسية والإقتصادية والإجتماعية والمالية والنقدية، لأنهم اعتادوا عبر العقود الأخيرة، على واقع أنّ فك العقد يأتي من الخارج وليس من الداخل.

علينا أن نُدرك أن العالم قد تغيّر، كذلك حكّامه واستراتيجياتهم، وأولوياتهم وطريقة إدارتهم وأيضاً أجنداتهم. أما في لبنان فم يتغير شيء، ولا حكامنا ولا إداراتهم الفاسدة والسيئة، ولا أولوياتهم الغامضة، ولا وعودهم الوهمية، ولا تشنجاتهم التدميرية.

إن أولويات دول العالم اليوم، تركّز على إعادة هيكلتها الداخلية، من بعد مواجهة وباء «كوفيد-19» وإعادة بناء اقتصاداتها والإتفاقات التجارية، وإعادة نموها الداخلي.
إن أولوياتها الثانية هي الحد من التضخم الجامح، والذي سيصل إلى التضخم المفرط والذي يُسمّى بالـ Hyperinflation، المتزامن مع الإنكماش والركود، والذي سيصل إلى Stagflation، فدول العالم تواجه زيادة خانقة في أسعار صناعتها ومنتجاتها الأولية، والإنحدار بالإستهلاك.

أما الأولوية الثالثة والأهم فهي مواكبة الحرب الروسية – الأوكرانية، والتي مرت الذكرى السنوية الأولى على اندلاعها، والتي زعزعت استقرار أوروبا والعالم، ودفعت كل الأسعار النفطية والغازية وحتى المواد الزراعية، وتحولت إلى حرب عالمية ثالثة، باردة مع تدخلات عظمى.

إن تداعيات هذا الخلاف الدولي، يؤثر مباشرة على أكثرية الدول ونلاحظ تدخلاً كبيراً أميركياً – صينياً وطبعاً أوروبياً في أرض هذه المعركة الشرسة.
أما الأولوية الجديدة فهي المساعدات الإنسانية لسوريا وتركيا من بعد «زلزال القرن»، الذي خلّف دماراً كبيراً بالأرواح والممتلكات.

فمن ينتظر في لبنان أو يَعِد نفسه بأنه ستعقد مؤتمرات إستثمارية ومالية لمساعدة لبنان مثل الماضي، فهو واهِم لأن هذا البلد لم يعد، ليس فقط في سلم الأولويات، لكن أيضاً في الأجندات الدولية.

ومَن يعتقد أن دول العالم ستنتخب لنا رئيساً للجمهورية وحكومة فاعلة وخطة إنقاذ إقتصادية وإجتماعية هو واهم أيضاً، لأننا لم نعد تحت الأضواء والهموم بعدما أهدرَ السياسيون كل المساعدات السابقة وأفسدوها، بينما بنوا منها قصوراً لهم ودمّروا بيوت شعبهم.

فلبنان واللبنانيون الذين يواجهون أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية في تاريخ العالم، وخسروا 90% من مداخيلهم، وودائعهم ونسبة عيشهم، ونجوا من أكبر ثالث انفجار في تاريخ العالم، ها هم متروكون لوحدهم لمواجهة إدارة المافيات والإقتصاد الأسود وهم أسرى التهريب والترويج وتمويل الإرهاب، وينظرون عاجزين إلى انهيار عملتهم المتجهة نحو آفاق مجهولة ومخيفة.

العالم من حولنا قد تعب من سياسيينا وإدارتهم الفاسدة وليس لهم عندئذ شبه ثقة ولن يستثمروا سنتاً واحداً لِمن أهدروا مئات المليارات. فالذي ينتظر التدخل الإقليمي والدولي واهِم وكاذب، وسينتظر سنوات عديدة وطويلة. لقد حان الوقت ليصبح لبنان أولوية اللبنانيين وقرار لبنان يُصنع في لبنان، وليس في الخارج، والذين سينتظرون الحل المستورد يكونون في الحقيقة يحفرون بالنفق الأسود ذاته المظلم. فالحل الوحيد هو بالإتفاق الداخلي والحل اللبناني، واستراتيجية إعادة البناء عوضاً عن استراتيجية الشلل والتدمير الذاتي.

 

د. فؤاد زمكحل

رئيس الإتحاد الدولي لرجال وسيدات الأعمال اللبنانيين MIDEL وعميد كلية إدارة الأعمال في جامعة القديس يوسف USJ

فرصة نادرة لوقف السرقــة وإنقاذ المودعين

مِن ضمن الاشكاليات المطروحة في إطار البحث عن حلول للأزمة المالية والاقتصادية، النقطة المتعلقة بإنشاء صندوق لاستعادة الودائع، مهمته تأمين إيرادات، عبر وسائل متنوعة، لتكوين أصول مالية تُستخدم في تأمين إعادة الودائع الى أصحابها.

هذا الصندوق مدار نقاشات وخلافات انطلاقاً من نظريتين تتجاذبانه: النظرية الاولى تقول انه لا يجوز استغلال اي مرفق عام، وتحويل إيراداته لسد الفجوة المالية، على اعتبار انّ هذه الايرادات هي من حق كل اللبنانيين، ولا يمكن تجييرها للمودعين دون سواهم. النظرية الثانية تقول ان ايرادات هذا الصندوق لن تُجيّر للمودعين حصراً، بل انّ الفائض، او نسبة مئوية مُتفق عليها مسبقاً، ستذهب الى المودعين. ومثل هذا الامر لا يؤمّن اعادة الحقوق الى أصحابها فحسب، بل يساهم في تسريع التعافي الاقتصادي.

في الواقع، ما ينبغي التركيز عليه في هذا الموضوع، هو الفرصة المتاحة امام اللبنانيين للتخلّص من قسم أساسي من الفساد السائد في البلد. والواقعية تحتّم القول ان السياسيين الذين يرفضون كل انواع الشراكة او خَصخصة الادارة في المرافق العامة، لا يتخذون هذا الموقف انطلاقاً من حرصهم على أصول ومؤسسات الدولة، بل بسبب تمسّكهم بالسيطرة على هذه المؤسسات العامة. ويعتبر البعض ان هؤلاء السياسيين يتصرفون وكأنّ المؤسسات العامة هي ملكية خاصة لهم. لكنّ الواقع غير ذلك تماماً، لأنّ مَن يمتلك مؤسسة يرفض تعريضها للخسائر والافلاس. ما يفعله هؤلاء انهم يعتبرون أنفسهم شركاء مُضاربين في هذه المؤسسات العامة، يوظفون فيها المحاسيب بلا سقف، ويسرقون من إيراداتها ما تَيسّر، ويسمحون للأزلام بالسرقة والهدر، من دون أن يخشوا التعرّض للخسائر كما يفعل اصحاب المؤسسات. في المرفق العام، الأرباح للمضاربين، والخسائر على عاتق الخزينة والناس. وهذا ما جرى في كل المؤسسات، ومن ضمنها الكهرباء، وهذا هو السبب الحقيقي للانهيار الذي أصاب البلد منذ أواخر 2019.

من هنا، لا ينبغي مناقشة ملف صندوق استعادة الودائع وفق منطق افادة المودعين على حساب بقية المواطنين غير المودعين، بل ان حقوق المودعين فرصة للضغط على القوى السياسية التي تَستسيغ استمرار السرقة وتشغيل المحاسيب من كيس الدولة، لإجبارهم على رفع أيديهم عن كل المؤسسات العامة. وتأسيس ادارة جديدة تقوم على مبدأ الشراكة بين القطاعين الخاص والعام (PPP)، او تخصيص ادارات كل هذه المؤسسات، أو اللجوء الى الـBOT… كل الافكار التي تسمح برفع هيمنة القوى السياسية عن كل المرافق والمؤسسات العامة مقبولة، وهي تشكّل عامل خير للمواطن وللبلد، على عكس ما يدّعيه من يتحدث عن حماية أصول الدولة.

في الواقع، ليس مُستحبّاً فصل صندوق استعادة الودائع، عن صندوق «ضرب الفساد»، ولو أنّ الفصل يبدو عملياً وواقعياً اكثر. لكن هذه الفرصة للضغط على جهات سياسية تريد استمرار الفساد في المؤسسات العامة، قد لا تتكرّر، لذلك ينبغي الجمع بين الصندوقين، أي اعتماد مبدأ سحب كل المؤسسات والمرافق العامة من هيمنة السياسيين، وإقامة مشروع شراكة حقيقية مع القطاع الخاص.

وبالمناسبة، أصبح النواب اليوم أمام الامتحان الصعب. وما قالوه في «قدسية» الودائع حانَ الوقت لترجمته في القوانين الماثِلة أمامهم، ومن أهمها اقتراح قانون اعادة التوازن الى الانتظام المالي. ولا شك في انّ الزيارة التي قام بها النواب الاربعة الى واشنطن ترتدي أهمية استثنائية. والمواقف التي أعلنها هؤلاء مشجعة لجهة الحرص على حقوق المودعين، وعلى استمرارية القطاع المالي في البلد. لكنّ عملية إقناع صندوق النقد الدولي تحتاج الى دراسة مفصّلة عن مشروع صندوق استعادة الودائع وخفض الفساد، ضمن مؤسسة واحدة تتولى إدارة كل المرافق العامة، ومن ضمنها المطارات، المرافئ، الاتصالات، النقل، الطرقات، الكهرباء، المياه، الضمان الاجتماعي، استثمار الاراضي… هذه الدراسة ينبغي ان تقوم بها جهة مُحايدة، وان تكون ثمرة عمل مشترك بين جهات لبنانية متخصصة، وشركات عالمية معروفة، للخروج بخطة عمل تتضمّن خارطة طريق واضحة، قادرة على إعطاء توقعات علمية للتطوير المُبرمج الذي يمكن إدخاله الى المؤسسات العامة ومرافق الدولة. ومن خلال هذا البرنامج، لن يصعب إعطاء تقديرات مبدئية لتطور الايرادات المتوقعة خلال السنوات الخمس الاولى بعد بدء تنفيذ المشروع، ومن ثم تقديرات مُمنهجة على مدى عشر سنوات الى الامام. بهذه الطريقة، لا يتم إقناع صندوق النقد فحسب، بل ايضاً كل الدول الراغبة في مساعدة لبنان، والأهم ان اللبنانيين، المودعين وغير المودعين، سيقتنعون بأن هذا الطريق هو الأسلم والأنجع في الانقاذ واستعادة الثقة والازهار، وتقليص مجالات الفساد والسرقة والسمسرات لقسم كبير من الطبقة السياسية الحاكمة والفاسدة. أمّا الكلام عن صندوق لاستعادة الودائع من خلال استعادة الاموال المنهوبة والمهرّبة وما الى ذلك، فكلامٌ يُدغدغ المشاعر ليس إلّا. وفي حال النجاح في مهمة مستحيلة من هذا النوع، فخيرٌ وبركة. ولكن، لا يمكن الاعتماد على «الرومانسية» أو الشعبوية لإنقاذ البلد.

أنطوان فرح

لبنان بلد فريد وفق كل المعايير

لبنان بلد فريد على أصعدة عدّة، إيجابياً وسلبياً، فاجأ ويُفاجىء، وسيفاجىء العالم. نفخر باللبنانيين، الذين يتميّزون بفرادتهم في دول المنطقة والعالم، ويُصدرّون ليس فقط سلعهم، لكن خصوصاً نجاحاتهم وإبداعاتهم. نجحوا بزرع علم الأرز حول الكرة الأرضية، وحتى لو هربوا من لبنان، يأساً واضطراباً، فقد بنوا لبناناً صغيراً، إينما حطّوا، في العالم. نفخر باللبنانيين والرياديين والمستثمرين والمغتربين الفريدين.

من الجهة السلبية، إنّ لبنان البلد الوحيد والفريد من نوعه الذي صنع بيديه أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية في تاريخ العالم، بحسب مرصد البنك الدولي، وعوضاً عن المحاولة لوقف الإنهيار والتدمير الذاتي، يتابعون الحفر عميقاً في النفق السوداوي عينه، نحو القعر والإرتطام.

إن لبنان، البلد الوحيد في العالم، الذي بنى داخلياً قنبلة نووية، وجرّبها بشعبه، وطمر الحقيقة، ويُحاول طيّ الصفحة، كأنّ شيئاً لم يكن.

إن لبنان البلد الفريد من نوعه الذي أهدر وأفسد وسرق ليس فقط مئات المليارات من الدولارات، من البلدان المانحة، والتي كانت مخصصة لبناء البنى التحتية، لكنه أهدر أيضاً أموال وجنى عمر شعبه وودائعهم. وبعد صرف مليارات الدولارات، لتأمين التيار الكهربائي لشعبه، وهدر مليارات الوعود الفاسدة والوهمية، نفّذ وعده، لكنه بالعكس، وها هو يؤمّن 23 ساعة من الظلام، والذل والإحباط والحرمان.

لبنان البلد الفريد من نوعه، الذي وعد بالخصخصة، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، ونفّذ خصخصة المافيات، والشراكة بين المهربين والمروجين، عوضاً عن المستثمرين والرياديين.

لبنان البلد الوحيد من نوعه، الذي دمّر بيوت شعبه مرات عدة، ومن نواح عدة، ولا يزال يخلق الإستراتيجيات للتدمير الذاتي الشامل.

لبنان البلد الوحيد الذي خلق عبارات جديدة، للحرية والديموقراطية، واخترع بدعة الديموقراطية التوافقية، التي تناقض بعضها وهي بالحقيقة، تطعن بمعنى الديموقراطية وأساس التوافق.

لبنان البلد الوحيد الذي دمر قطاعه الخاص، واقتصاده الأبيض على حساب قطاع التهريب والترويج، والإقتصاد الأسود.

لبنان البلد الوحيد، الذي يريد قطع جذوره وطمر تاريخه على حساب شعبه، وماضيه وحاضره ومستقبله.

لبنان البلد الوحيد الذي يلحق شعبه ويصفّق لجلاديه وبعد عقود من الشعارات الكاذبة والوهمية والفارغة، لا يزال يلحق الذين طمروه بالوحول والرمال المتحركة، التي تغرقه يوماً بعد يوم.

في المحصّلة، لبنان واللبنانيون هم الشعب الوحيد الذي لم ولن يستسلم، فاقتصاده يلين، ينزف، لكن لن ينكسر ولن ينهار. أولاده يهربون باحثين عن حياة أفضل، لكن يعودون إليه ولن يتخلّوا عن أرضهم الأم. لبنان البلد الوحيد، الذي مات مرات عدة، لكنه قام من جديد ونَما نحو آفاق أبعد. إننا واثقون من أنّ اللبنانيين سيصمدون ويُثابرون وسيتغلبون على كل الأزمات، مسلّحين بحبهم للحياة وشرفهم وعزيمتهم، وطموحاتهم، وريادتهم، خصوصاً أنهم مباركون ومحميّون من اليد الإلهية التي تحمي لبنان وهذه الأرض المقدسة.

د. فؤاد زمكحل

هل يُرفع دولار المصارف الى 45 ألفاً؟

يوم أقرّ الدولار الجمركي على 15 الف ليرة اتخذ قرار برفع دولار المصارف من 8000 ليرة الى 15 الفاً للمساواة بين الدولار الذي يحتسب للمواطن وذلك الذي يدفع على اساسه. الاول دخل حيّز التنفيذ في كانون الاول 2022 والثاني في شهر شباط الماضي، فهل يرفع الدولار المصرفي الى 45 الفاً على غرار الدولار الجمركي؟ وإلّا كيف يمكن ان يطلب من المواطن ان يدفع ضرائبه بسعر صرف 45 الفاً في حين انّ قدرته على سحب امواله محدودة ودولاره المحجوز في المصارف مُسعّر بـ 15 الفاً؟

مَرّر وزير المالية يوسف الخليل، بطلبٍ من المصرف المركزي وبموافقة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عصر امس الاول، قرار رفع الدولار الجمركي من 15 الف ليرة الى 45 الفاً على «السكت»، عكس المرة الاولى عندما رفعه الى 15 الفا حيث تم التداول به أكثر من عام قبل ان يدخل حيّز التنفيذ في الاول من كانون الاول 2022. هذا واحتمال رفعه مع بداية كل شهر وارد وفق ما تقتضيه الحاجة بالنظر الى سعر الدولار في السوق السوداء، والى حاجة الخزينة الى واردات لتأمين التمويل اللازم للعطاءات والزيادات التي أقرّت والتي ستقر لاحقاً لموظفي القطاع العام. ويطال الدولار الجمركي السلع المستوردة كافة لا سيما منها السيارات، وقطع الغيار، والهواتف الخلوية، والأدوات والمعدات الكهربائية، ويستثنى منه غالبية المواد الغذائية.

وكان رفد الدولار الجمركي لدى إقراره اي منذ نحو الثلاثة اشهر الخزينة بما بين 1500 و1600 مليار ليرة شهرياً، وهو لدى إقراره في كانون الاول كان سعر الصرف في السوق السوداء بنحو 41 الفا وشكّل يومها الدولار الجمركي ما نسبته 37.5% من سعر الدولار في السوق السوداء، أما اليوم ومع ارتفاع الدولار في السوق السوداء الى 90 الفاً بات الدولار الجمركي يشكّل نحو 50% من سعر الدولار الحقيقي، وهي فعلياً لن تؤثر كثيراً على ذوي المداخيل بالدولار الاميركي، علماً أنّ هذه الزيادة لن تلبث ان تتآكل مع استمرار ارتفاع الدولار في السوق السوداء، الا انها بدون شك سيكون لها وَقعها الثقيل على ذوي المداخيل بالليرة اللبنانية والذين يشكلون ما يزيد عن 85 % من المواطنين، بما من شأنه ان يعمّق الفجوة الطبقية بين الافراد والذي ينقسمون ما بين «جماعة الفريش» وبقية اللبنانيين الذين هم بغالبيتهم من موظفي القطاع العام والقوى الامنية والعسكرية.

في هذا السياق، أكد عضو المجلس الاقتصادي الاجتماعي عدنان رمال لـ»الجمهورية» انّ هذا القرار سيؤدي الى خفض اضافي في القدرة الشرائية للمواطن خصوصا انّ مداخيل الافراد لم تزيد. وتابع: صحيح انّ هذه الزيادة لن تؤثر على من يقبض راتبه بالفريش دولار الا ان هؤلاء لا تتعدى نسبتهم 15 الى 20%، فماذا عن بقية الشعب؟ الواضح ان 80% من اللبنانيين ظلموا بهذا القرار الذي يهدف الى تأمين رواتب واجور القطاع العام. وإذ أكد انّ هذه الزيادة حق لموظفي القطاع العام الذين باتت قدرتهم الشرائية معدومة انما لا يجوز ان نظلم 5 ملايين لبناني من اجل تأمين مداخيل من خلال التضخم الذي سيأكل هذه الزيادة ويلتهم القدرة الشرائية مجدداً، فالدولة تعطي بيد وتأخذ من الموظف ومن كل الشعب باليد الاخرى من دون اي رؤية اقتصادية او استراتيجية الى الامام، والمؤسف انّ الدولة لا تزال تسير باتجاه استسهال فرض الضرائب، فنحن لم ننس بعد كيف انّ موزانة 2017 فرضت 17 بنداً ضريبياً، والنتيجة ما وصلنا اليه اليوم.

زيادة بين 5 و15%

وتوقّع رمال ان يؤدي قرار رفع الدولار الجمركي الى زيادة في اسعار السلع المستوردة تتراوح ما بين 5 و15%، مُتسائلاً كيف يمكن دفع الدولار الجمركي وفواتير الكهرباء والخلوي وفق سعر صيرفة او 45 الفاً للدولار بينما يبقى دولار المصارف بـ 15 الفاً؟ واعتبر انّ الدولار الجمركي هو بمثابة «دعسة ناقصة في التوقيت الخاطئ» لأن التضخم سيقضي مجدداً على القدرة الشرائية للمواطن، ويصعب بعدها الاستدراك والعودة بالدولار الى سقوف معقولة. وأكد ان كل هذه القرارات التي تتخذ تأخذنا الى أزمة طويلة ومفتوحة.

وحذّر رمال من انه في كل مرة تعمد فيها الدولة الى رفع الدولار الجمركي يزيد في المقابل التهريب ويتراجع الاستهلاك ويضيق الخناق أكثر على القطاع الخاص الذي لا يتأخر عن دفع ضرائبه وجمركه، والذي بات لا يشكل اليوم أكثر من 30% في مقابل 70% سوق مكتوم اي غير شرعي، الى جانب تكاثر ظاهرة التجار غير اللبنانيين الذين ينافسون اللبناني ويزاحمونه على رأسماله.

تقييم دولار الـ 15 ألفاً

وعن تقييمه لتجربة الدولار الجمركي خلال الاشهر الثلاثة الماضية، وعن تداعياتها على السوق، يقول رمال: في الشهرين الاوّلين من العام الحالي كانت السوق صعبة للغاية، صحيح ان تأثير رفع الدولار الجمركي الى 15 الفاً تبخّر أمام ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء ولكن في المقابل لم ترتفع القدرة الشرائية بالقدر نفسه الذي ارتفعت فيه الضرائب. تابع: خلال الفترة الاولى من تطبيق الدولار الجمركي ارتفعت الاسعار قليلاً، الا انها لم تلبث ان تراجعت مع ارتفاع الدولار في السوق السوداء وتراجع كلفة الشحن العالمية من 15 و16 ألف دولار للمستوعب من الصين الى ما بين 3000 و4000 دولار، فانخفضت اسعار الكثير من السلع. على سبيل المثال تراجَع سعر التلفاز من 500 دولار الى 350 دولاراً.

ورأى انّ انعكاس سعر الدولار الجمركي الجديد لن يظهر بسرعة لا سيما على اسعار السلع الاستهلاكية، لأنّ السوق مُشبعة بالبضاعة وحركة البيع شبه معدومة منذ مطلع العام.

خفض الدولار بدءاً من اليوم… خيارات المركزي

هل توجد اجراءات فعلية في هذه المرحلة للحَد من انهيار سعر صرف الليرة؟ وماذا سيفعل مصرف لبنان في الفترة التي ستفتح خلالها المصارف أبوابها من جديد، لتسيير شؤون الناس؟

منذ بدأت الاجتماعات المالية في السرايا، بهدف البحث عن حل للأزمة المستجدة، والتي تمثّلت بإضراب القطاع المصرفي، وبارتفاع سعر صرف الدولار وفق وتيرة سريعة تجاوزت المعدلات السابقة، يتم الترويج لمقولة انّ مصرف لبنان رسم خطة للجم الدولار، وانه ينتظر وقف إضراب المصارف لكي يبدأ في تنفيذها.

بدءاً من اليوم الاثنين، سوف تكون المصارف قد فتحت أبوابها، للعمل بشكل اعتيادي لمدة اسبوع مبدئياً، بانتظار ما سيفعله رئيس حكومة تصريف الاعمال لمعالجة الاشكالية القائمة بين بعض القضاء والقطاع المصرفي. فهل سيتمكن المركزي من خفض سعر صرف الدولار في هذه الفترة؟ وما هي الخطوات التي سيقوم بها؟

لا توجد إجراءات سحرية لوقف انهيار الليرة، وكل ما يستطيع ان يبتكره المركزي لن يخرج عن اطار ضَخ دولارات اضافية في السوق. وأيّ اجراء آخر، لا يتضمّن مبدأ ضخ الدولارات ملهاة ومضيعة للوقت، ولن يوصِل الى النتائج المستهدفة.

انطلاقاً من هذا المبدأ، هل سيضخ مصرف لبنان الدولارات بسخاء اعتباراً من اليوم الاثنين؟

لا بد من الاشارة اولاً، الى انّ المركزي سبق وأوقف ضخ الدولارات عبر «صيرفة» قبل إضراب المصارف. وقد خرج من السوق بشكل عشوائي، مما اثار القلق، وزاد الضغط على الليرة، بعدما أعطى الانطباع بأنّ مصرف لبنان أصبح عاجزا عن التدخّل مرة أخرى. في هذه الفترة، قفز سعر الدولار بسرعة اكبر من السابق. وما جرى فعلياً، هو انّ الدولار أعاد تموضعه في السوق، وأخذ سعره الحقيقي، بعدما كان في السابق اصطناعياً، بسبب تدخلات مصرف لبنان الدائمة لِلَجمه. بالاضافة طبعاً الى عوامل ترتبط ببدء اعتماد سعر الـ15 الف ليرة لسحب الودائع الدولارية بدلاً من 8 آلاف.

ما قد يفعله مصرف لبنان اليوم هو ان يعيد العمل في «صيرفة»، وان يسمح من جديد بسحب الرواتب عبر صيرفة لموظفي القطاعَين العام والخاص. كما يستطيع ان يعيد العمل في السماح للشركات المستوردة بأن تشتري الدولار عبر «صيرفة»، فيكون بذلك قد خفّف الضغط على الليرة، بما سيساهم في خفض الدولار قليلاً، في الايام القليلة المقبلة.

لكن هذه الاجراءات، وعلى بساطتها، لن تكون متاحة بسهولة، بسبب الفارق الشاسع في السعر بين السوق السوداء ومنصة صيرفة. هذا الامر سيؤدّي الى اشكالات سيعجز المركزي عن التصدّي لها. وسينتج عن هذا الفارق في الاسعار ما يلي:

أولاً – ستكون خسائر المركزي كبيرة في كل دولار يبيعه عبر «صيرفة». (حوالى 45% على السعر الحالي). وهذا يعني انّ كل 100 مليون دولار يبيعها مصرف لبنان سيخسر فيها حوالى 45 مليون دولار. في حين انّ خسائره في السابق، عندما كان سِعرا صيرفة والسوق السوداء متقاربين، (15% كمعدل عام) لم تكن تتجاوز الـ15 مليوناً لكل 100 مليون دولار يبيعها عبر «صيرفة».

ثانياً – سيعمد بعض أصحاب الشركات المستوردة الى الافادة من الوضع لتحقيق ارباح غير مشروعة، سواء عبر الاستيراد عبر «صيرفة» وبيع البضائع على سعر السوق السوداء، او عبر الاستيراد ومن ثم اعادة التصدير لتحقيق ارباح وتهريب الدولارات الى خارج البلاد.

ثالثاً – ستتعرّض مؤسسة الكهرباء لنكسة في تنفيذ خطة الجباية لتأمين اسعار الفيول، لأنّ فواتيرها مُسعّرة على «صيرفة بلاس»، في حين انّ الدولار الحقيقي سعره أعلى بنحو 30 % من «صيرفة بلاس». وهنا، امّا ستعجز المؤسسة عن الاستمرار في خطتها، أو سيضطر المركزي الى بيعها الدولار عبر صيرفة، بما يعني المزيد من الخسائر الجسيمة.

إذا أضفنا الى هذه الاشكاليات الثلاث، مسألة استمرار تراجع الاحتياطي في مصرف لبنان، ووصوله الى مستويات مقلقة، على اعتبار انّ هذا الاحتياطي مخصّص لتغطية جزء من الودائع، ولتنفيذ التشريعات القائمة ومنها التعميم 158، ومستقبلاً سيتم استخدام هذا الاحتياطي لتنفيذ مندرجات الكابيتال كونترول بعد إقراره، سيتبيّن ان المركزي لن يكون مرتاحاً لتنفيذ وعوده بلجم الدولار فور اعادة فتح ابواب المصارف.

يبقى، انّ الغموض يكتنف السعر الذي سيحدده مصرف لبنان لـ«صيرفة» صباح اليوم الاثنين. اذا حافظ السعر على ثباته ولم يتجاوز الـ46 الف ليرة، فهذا يعني ان مصرف لبنان لن يستطيع ضخ كميات كبيرة من الدولارات، وان الاجراءات الموعودة لن تتجاوز مبدأ رَش القليل من الدولارات على الموظفين في نهاية الشهر. أما اذا عمد المركزي الى تغيير سعر «صيرفة» بشكل جذري، ورفع السعر بنسبة كبيرة، فسيكون ذلك بمثابة مؤشّر على وجود نية لضخ كمية كبيرة من الدولارات، وفي هذه الحالة قد نشهد تراجعاً مقبولاً لسعر صرف العملة الخضراء. لكن ذلك لا يعني القدرة على الحفاظ على ثبات نسبي للسعر لفترة طويلة. اذ انّ ذلك يحتاج، ومثل إبر المورفين، الى ضَخ إضافي في كل فترة، وهذا ما لا يستطيع فعله مصرف لبنان لفترة طويلة.

توزيع الخسائر أم توزيع الأرباح؟

يتحدث الجميع عن توزيع الخسائر بين الدولة اللبنانية والمصارف والمودعين، الذين يدفعون 85% من الخسائر حتى الساعة. لكن أحداً لا يتناول موضوع الأرباح المخفية في مقابل هذه الخسائر الفادحة. لأن الأموال لا تتبخّر بل تنتقل من يد إلى أخرى.

لا شك في أنّ هذه الخسائر، جرّاء أكبر أزمة إقتصادية، وإجتماعية، ومالية، ونقدية في تاريخ العالم، تُعدّ باهظة، وقد تخطّت الـ 70 مليار دولار محاسبياً بحسب صندوق النقد الدولي. لكن الهدر والفساد تعدّى مئات المليارات. وقد هُدرت وسُرقت كل المساعدات والإستثمارات التي أُرسلت إلى لبنان من البلدان المانحة والمؤتمرات الإستثمارية والتنموية، ولم يُستثمر سنت واحد في البنى التحتية، لكن الإستثمار الأكبر كان إستثماراً سياسياً، وحزبياً، وطائفياً وشخصياً.

يجب أن نُدرك تماماً أنه عندما تتزايد وتتراكم الخسائر محاسبياً، يُقابلها من جهة أخرى أرباح. فالأموال تنتقل من خانة إلى أخرى، ومن جيب إلى آخر، ومن يد إلى أخرى.

هذا يعني أننا عندما نتحدّث عن خسائر تعدّت نحو 85% من الإيداعات، هناك مَن استفاد ويستفيد حتى تاريخه من أرباح. هذا يُفسّر لماذا تحدث البنك الدولي، في آخر تقرير له، عن أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية لا مثيل لها في العالم، وشدّد على أنها أكبر أزمة معتمدة، يُمكن أن نصفها بأكبر أزمة نهب في تاريخ العالم التي خلقت فقراء جدداً وخصوصاً أغنياء جدداً.

عندما نقرأ ونتحدّث بأن هذه الأزمة معتمدة، لسنا محققين لكي نضع أصابع الإتهام على أحد، لكن من البديهي أن نرى في العين المجرّدة مَن المستفيد الأول والأساسي في كل هذا الإنهيار، ومَن هو الخاسر الأكبر، ومَن هو في المقابل الرابح الأكبر.

هناك مواطنون أُجبروا على أن يبيعوا أصولهم وسياراتهم وجواهرهم، وعقاراتهم، وحتى أموالهم عبر شيكات مخصومة، إلى حدّ الـ 87 %، لكن علينا التركيز على مَن اشترى ويستثمر حتى الساعة، ويستفيد من هذه الخسائر الفادحة، لتهريب وتبييض الأموال، في ظل أكبر جريمة إقتصادية وإجتماعية في تاريخ العالم.

أما على الصعيد الإقليمي، فإننا نفخر ونتكل على أصدقاء لبنان، لكن نُدرك تماما أن لديه أعداء، البعض منهم مباشر وغير مختبىء مع أهداف مبطنة. ولا شك أيضاً في أن هناك بعض المصالح الإقليمية وحتى الدولية، تهدف إلى طعن لبنان، وتركيعه وتهديم كل القطاعات الإنتاجية فيه، على المدى القصير والمتوسط والبعيد. فالهدف هو كسر أسطورته التاريخية، ومنصة الشرق والغرب والمنصة التجارية، الإقتصادية والتكنولوجية. فمَن صدّر الحرف إلى العالم لا يريدون له أن يُصدّر نجاحاته وأفكاره البنّاءة.

دولياً، لقد تعبت وأُرهقت البلدان المانحة من لبنان، فبعدما هُدرت وسُرقت كل الأموال الإستثمارية، والإنمائية، التي خُصصت للبنان في مؤتمرات باريس (1 و2 و3)، وروما، وستوكهولم، وبروكسيل، ولندن وأخيراً «سيدر»، قرّرت هذه البلدان المانحة على حق، وقف كل التمويل والإتجاه نحو صندوق النقد الدولي، لإجبار الدولة بالإصلاحات المرجوّة منذ عقود، والحدّ من الإهدار والفساد.

في الخلاصة، إننا نخرج يوماً بعد يوم من كل المنصّات الدولية، والإنمائية والإستثمارية، وننزلق أكثر فأكثر نحو المنصّات التخريبية، والسوداوية وغير الرسمية. فالأموال والإستثمارات تنتقل من الإقتصاد الأبيض إلى الإقتصاد الأسود، إذ عوضاً عن التركيز على توزيع الخسائر، علينا أن نُركز على مَن يستفيد ويُوزع الأرباح.

د. فؤاد زمكحل

هكذا يتمّ تضليل المودع في متاهات الكابيتال كونترول

يعود قانون الكابيتال كونترول الى التداول، في مناخ من التصعيد يُعمي البصيرة، ويحوّل الابيض الى أسود، والعكس بالعكس. وتطفو المزايدات الشعبوية، في سباق محموم لتضليل الناس أكثر فأكثر. القانون يجب ان يمر، وبسرعة، بعد تنقيته من الأفخاخ، التي يقول البعض، عن جهل أو خبث، انها تحفظ حقوق المودع، في حين انها في الواقع قد تقضي عليه.

إقتراح قانون الكابيتال كونترول، وفي حال باشر المجلس النيابي في عقد جلسات تشريعية، سيكون «نجم» النقاشات النيابية، بعد مروره في اللجان من دون تنقيته من بعض الالغام، التي تحتاج الى معالجة لكي يأتي إقراره متماهياً مع المبدأ العام الذي من أجله تُقر مثل هذه القوانين. وهنا لا بدّ من إعادة التذكير بأن هذا القانون، كما تفهمه كل دول العالم، هو بمثابة «تجميد» للوضع المالي، وتحديد الاستثناءات، بانتظار إيجاد حل للأزمة التي استدعت إقراره. وهو أشبَه بخطوة الدوس على الفرامل في السيارة، عندما يظهر امام السائق فجأة، مهوار أو حائط. وليس من المنطق، ان يتردّد السائق في محاولة ايقاف السيارة، بانتظار ان يجد حلاً يسمح له بالعبور، لأن الانتظار يعني السقوط في الهاوية او الاصطدام بالحائط. وعندها لا معنى للدوس على الفرامل.

هذا المفهوم البسيط، يعقّده البعض بطريقة غير مبرّرة. سواء لأنه يجهل هذا المفهوم، أو لأنه يريد إرضاء الناس الذين يتوهّم بعضهم ان هذا التدبير يستهدفهم، لسلبهم حقوقهم، أو لمنعهم من الوصول يوماً الى تحصيل هذه الحقوق. ومن غرائب الامور ان هذا البعض ربط بين الكابيتال كونترول وبين خطة الانقاذ لاستعادة التوازن المالي والتعافي الاقتصادي. والربط بين الاثنين ضرب من ضروب الوهم او التضليل، لأن المطلوب وقف النزف ومن ثم إيجاد الحل. وهذا الوقت المستقطع الذي يؤمّنه الكابيتال كونترول، ينبغي أن يشكّل الفرصة لتقديم المعالجة التي وحدها تضمن حقوق الجميع.

هناك نماذج متعدّدة يمكن تقديمها حول سوء الفهم، لكن النافر بينها، النقطة التي تتعلق بالدعاوى التي رفعها، أو قد يرفعها مودعون للمطالبة باسترداد ودائعهم. هذه المسألة يجب ان تُعالج بمنطق وعقل بارد بعيد من الشعبوية. وهي ينبغي ان تنطلق من المنطق نفسه الذي يفسّر ماهية قانون الكابيتال كونترول. إذ، عندما تقرّ دولة ما، قانوناً لتنظيم التحويلات المالية، وسحب الاموال، لفترة محدّدة، يكون ذلك بمثابة قوننة لمبدأ تجميد امكانية حصول المودع، أي مودع (بخلاف استثناءات يحددها هذا القانون) على وديعته، بانتظار أن تنجلي صورة الوضع المالي لاحقاً، ويُصار الى إلغاء القانون، وتعود الامور الى طبيعتها. أما ان تقول الدولة عبر قانون، ان الحصول على الودائع كاملة، غير مسموح مؤقتاً من اجل المصلحة العامة، ومن ثم تعمد الى القول للمودعين انّ في إمكانهم رفع دعاوى لتحصيل ودائعهم رغم وجود القانون، فهذه هرطقة لا يمكن تفسيرها. أما الفصل بين الدعاوى التي رفعت، وبين الدعاوى التي قد تُرفع لاحقاً، فلا يستقيم. وحتى لو تمّ اللجوء الى نوع من المناورة عبر القول ان رفع الدعاوى مسموح، ولكن يُصار الى تجميد التنفيذ، فهذا الامر لا يمكن أن يشكّل حلاً. أولاً، لأن وقف التنفيذ في الخارج قد لا يكون ممكناً، وبالتالي، سيتمّ وقف تنفيذ الاحكام في الداخل، وتركها على غاربها في الخارج، وهذا أمر خطير ويؤدي الى اللامساواة، والى تسريع الانهيار بحيث تضيع حقوق بقية المودعين. وثانياً، لأن حقوق المودعين محفوظة، وليس صحيحاً انّ وقف الدعاوى خلال فترة تطبيق الكابيتال كونترول هو بمثابة براءة ذمة تُمنح للمصارف.

ما هو صحيح ومنطقي، انّ الكابيتال كونترول يفرض المساواة بين المودعين، وينظّم التحويلات والسحب، بانتظار الحل النهائي للأزمة. وبعد ذلك، يعود حق التقاضي الى وضعه الطبيعي. واذا كان هناك مسؤوليات قانونية تترتب على أي مصرف أخلّ بالقوانين، ويثبت انه أضرّ بمصالح مودعيه، فمن حق المودع ان يقاضيه، ويقاضي إدارته، ويأخذ حقه عبر القضاء. كما ان القضاء قادر على المحاسبة واصدار الأحكام التي يتيحها القانون لمعاقبة كل من يثبت انه أهدر اموال الناس. أما الكذب على الناس، وتصوير الحرص على استمرارية السماح برفع الدعاوى بأنه ضمانة لحقوق المودعين، فلا يتعدّى كونه فخاً مُحكماً سيدفع ثمنه المودع والقطاع المالي، والاقتصاد بشكل عام.

انطوان فرح

إزدواجية العملة رسمياً… حتى الدولرة الشاملة

في علم النقد للبلدان المدولرة جداً، من المؤكد وغير القابل للنقاش ومن منطلق حقيقة علمية مُثبة وليس رأي قابل للتداول، أنه بعد ثبات الدولرة المرتفعة لسنوات طويلة على الرغم من تثبيت سعر الصرف وعدم إمكانية استعادة الثقة بالعملة الوطنية، يستحيل إعادة تعويم سعر الصرف كما يستحيل إعادة إقناع الاقتصاد باعتماد نظام صرف قائم على الربط المَرِن أو تثبيت سعر الصرف على أي مستوى جديد. الخيار الوحيد المتبقّي، والذي لا خيار فعّال ممكن سواه، هو بالانتقال المنظّم نحو الربط الصارم أي إمّا إنشاء مجلس نقد إذا حصل الوعي باكراً مطلع الأزمة وتَبنّته السلطات الرسمية سريعاً، وإلا لا يبقى سوى الدولرة الشاملة الرسمية وفق آلية تدريجية ناجحة كما في الكوادور مهما كانت الاحتياطات المتبقية بالدولار الأميركي هزيلة (وليس الدولرة الفوضوية التي يفرضها السوق بشكل عشوائي رهيب الكلفة على الموطنين كما حصل في زمبابوي وفنزويلا وسواهما، حيث لم يعد من هدف لطباعة العملة الوطنية لسوى لاستخدامها لشراء الدولار).

هناك ثلاثة أشكال من الدولرة الشاملة:

1) أحادية الجانب.

2) من خلال اتحاد نقدي كامل مع الولايات المتحدة

3) من خلال اتفاقية ثنائية أو معاهدة مع الولايات المتحدة.

يعكس الاتحاد النقدي الكامل الوضع في منطقة اليورو. تمثّل الدولرة أحادية الجانب سياسة تبني الدولار الأميركي من دون أي اعتراف رسمي أو التزامات ذات مغزى. الاحتمال الثالث هو اعتماد الدولار في إطار اتفاقية محدودة بين الدولة التي تقوم بالدولرة والولايات المتحدة. أو أقلّه صندوق النقد الدولي لدعم ومواكبة عملية الانتقال الى نظام الصرف الصارم الجديد.

وفق «خارطة الطريق نحو الدولرة الشاملة» التي سبق ونشرتها في مقالات علمية دولية مع ملخّص في جريدة «الجمهورية» في 11 أيار 2022 لتوعية الرأي العام عمّا نحو واصلون إليه تباعاً، لقد أصبح لبنان اليوم في محطة استراتيجية وهي ما يعرف علمياً بـ«إزدواجية العملة»، أي أنه بات مقبولاً التعامل مع العملتين الليرة اللبنانية والدولار الأميركي على نفس المستوى من المقبولية العلنية الرسمية. بعد تخطي الدولرة عتبة الـ 90 % للمرة الثانية اليوم (المرة الأولى كانت عام 1987) والذهاب أبعد من غرفة مقاصّة للدولار في مصرف لبنان الى درجة تبنّيه تحويل تلقائي للرواتب من الليرة اللبنانية الى الدولار الأميركي لا سيما لموظفي الدولة اللبنانية بالفرعين المدني والعسكري! وبعد «تجربة» فتح منصة الصيرفة من دون سقف للجميع، كإشارة الى أن المصرف المركزي يمكنه تجفيف السيولة بالليرة اللبنانية من السوق واستبدالها كلها بالدولار الأميركي بأي لحظة يتم فيها اتخاذ وتغطية هكذا قرار مصيري في تاريخ لبنان، وبعد قبول حصرية عقود التأمين الصحي والطبابة وغيرها بالدولار الأميركي والاضطرار لازدواجية الرواتب بين قسم بالليرة وقسم بالدولار للحفاظ على حد أدنى من القدرة الشرائية، بلغت الأمور حدّ تسعير جميع المنتوجات بالدولار الأميركي وصولاً الى المواد الغذائية… اليوم لبنان بانتظار الخطوات والشروط العديدة للدولرة الشاملة على النحو التالي:

1 – تطوير إجماع وطني حول الدولرة الشاملة.

2 – إستكشاف إمكانية عقد معاهدة ارتباط نقدي مع الإدارة الأميركية أو أقلّه دعم صندوق النقد الدولي للنظام الربط الصارم الجديد.

3 – الإعلان عن برنامج دولرة مسبوق باعتماد سياسات تضمن نجاحه.

4 – إعتماد برنامج إصلاح السياسات ضمان الملاءة والسيولة للقطاع المالي وقدرة سوق العمل على مواجهة الصدمات الحقيقية.

5 – وضع جدولة، لمدة سنتين أو ثلاث سنوات للوصول إلى الدولرة الشاملة.

6 – التأكد من أن البنك المركزي سيكون لديه دولارات كافية لتحويل جميع العملات المتداولة وكذلك مخزون السندات، ولو تدريجاً، كَون معظم البلدان التي تصل الى هذا الخيار لا يكون لديها الاحتياطي الكافي لتغطية كامل القاعدة النقدية بالدولار، ولكن الآلية العلمية الصحيحة للدولرة الشاملة الرسمية تسمح لها بتحقيق عملية الانتقال التدريجي بنجاح…

7 – تنفيذ إصلاح النظام المصرفي قبل الدولرة الرسمية الشاملة وضمان الملاءة والسيولة للنظام.

8 – البحث عن بديل لمقرض الملاذ الأخير، وهو نوع من التمويل، لتجنّب تحويل المخاطر إلى دول أخرى.

تستفيد الدولة المدولرة من حصة من المعروض من العملات الأجنبية التي حلّت مكان عملتها الوطنية كما لو كانت منطقة إضافية في البلد «الوصي» الذي ينشئ هذه العملة، في حالة الدولار الأميريكي، الولايات المتحدة. لا يحتاج البلد المعتمد على الدولار إلى وجود فائض في الحساب الجاري لتجميع الدولارات؛ يمكن أن يؤدي تدفق الاستثمار الأجنبي إلى تعويض عجز الحساب الجاري.

في بلد يعتمد على الدولار، تميل أسعار السلع والخدمات إلى الحفاظ على مستوى أسعارها في الولايات المتحدة. قد يختلف تضخم أسعار المستهلك بين الدولة المُدولرة والبلد «الوصي» تمامًا كما يختلف بين منطقتين في الولايات المتحدة نفسها.

بعض الاقتصاديين (Hanke and Schuler، 1999) الذين نادوا دولياً لإنشاء مجلس نقد للحالات لمماثلة لوضع لبنان، باتوا أنفسهم يدافعون الآن عن الدولرة الشاملة الرسمية. تقضي الدولرة الشاملة الرسمية على سعر الصرف بسبب إلغاء الاحتياطي المنفرد، وقد يظهر مُقرض الملاذ الأخير في شكل الخزانة أو غرفة المقاصّة بغياب إمكانية طباعة العملة…

العيب الأكثر وضوحاً للدولرة الرسمية هو فقدان إيرادات طباعة العملة، وهي في الوقت عينه فضيلة لأن البلدان التي تصل للدولرة الشاملة تكون غالباً قد استنفدت بشكل مبالغ به بطباعة العملة الى حد التدني الكلي لقيمة عملتها وباتت تطبعها بالكميات لشراء الدولار بها من السوق لتعزيز احتياطي بالدولار لا يلبث أن يُستهلك… ترتبط هذه الخسارة بنوعين من التكاليف: من ناحية، تكلفة المخزون، والتي تتوافق مع التكلفة المباشرة للحصول على الأوراق النقدية من المؤسسة الأجنبية التي تصدر العملة الأجنبية التي ستحل مكان العملة الوطنية؛ من ناحية أخرى، تكلفة التدفق، والتي تتوافق مع خسارة الفائدة السنوية للمقابل من القاعدة النقدية.

يفقد الاقتصاد القائم على الدولرة بالشامل سيطرته، أي الإيرادات التي يمكن للبنك المركزي أن يستمدّها من امتيازه في إصدار الأموال. تُقسم هذه الخسارة إلى فئتين. فمن ناحية، إن «التكلفة الإجمالية للتدفق» أو «تكلفة المخزون» تعادل النفقات المتولدة لشراء عملات معدنية جديدة وأوراق نقدية جديدة من البنك المركزي الأجنبي لاستبدال العملة المحلية التي تحتفظ بها البنوك والعملاء الاقتصاديون الآخرون. من ناحية أخرى، إن «صافي تكلفة الملكية» أو «تكلفة التدفق» تمثل خسارة الإيرادات الناتجة عن استبعاد الدخل من الفوائد المكتسبة على احتياطيات النقد الأجنبي.

إذا اختار بلد ما الدولرة الشاملة للتحكم في معدل التضخم، فإنه يقدر أن فوائد خفض التضخم تتجاوز الخسائر في الدخل من طباعة النقدي (مكاسب السيولة) والتضخم المستدام.

تُظهر الأدبيات الاقتصادية أن عائدات الحكومة لا تختلف كثيرًا من بلد إلى آخر. وتظهر الدراسات التجريبية أن متوسط الدخل من طباعة النقد في المجموعات المختلفة للاقتصادات المدولرة يتراوح من 1 إلى 2 % من الناتج المحلي الإجمالي.

إن عائدات الدولة من طباعة العملة هي أعلى باستمرار في البلدان ذات الدرجات العالية من الدولرة أكثر منها في البلدان ذات الدولرة المنخفضة أو المعتدلة، مما يعكس أداء تضخّمها المختلف. وهكذا، بلغ الناتج المحلي الإجمالي في لبنان، الذي يعتمد على الدولرة بشكل كبير، 23.13 مليار دولار في عام 2021، بحسب البنك الدولي، وانكمش بنسبة 5.4 % في عام 2022 ليصبح حوالى 21.88 مليار دولار. وبالتالي يجب ألا يتجاوز دخل السندات 0.328 و0.438 مليار دولار أميركي، وتُقاس إيرادات طباعة النقد في الفرق بين قيمة إنتاج العملة والقيمة الاسمية للأوراق النقدية. مثلاً، إذا كانت تكلفة طباعة ورقة 100000 ليرة لبنانية هي 0.06 دولار أميركي وعلى أساس مثلاً سعر صرف الدولار الأميركي / الليرة اللبنانية البالغ 50000، فإنّ كل 100000 ورقة تكلّف 3000 ليرة لبنانية، وبالتالي توفّر ما يقرب من 97000 ليرة لبنانية أو 1.94 دولار أميركي… يستمر هذا الفائض من طباعة النقد من قبل مصرف لبنان في زيادة التضخم وانخفاض قيمة الليرة. في الجولة التالية، يضطر المصرف المركزي إلى طباعة المزيد من الليرات لشراء المليار دولار…

أما بشأن أثر الدولرة الشاملة الرسمية على استقلالية المصرف المركزي، فالمعروف أنّه في ظلّ حرية حركة الرساميل التي كان يضمنها نظام الاقتصاد الحر المنفتح في لبنان، من الضروري الاختيار بين التضحية بثبات سعر الصرف والإبقاء على مرونته، لترك هامش تحرّك للمصرف المركزي لاعتماد الاستقلالية في تحديد وتنفيذ سياسته النقدية الهادفة الى المحافظة على القدرة الشرائية للعملة الوطنية ومكافحة التضخّم وإدارة السيولة في السوق، أو القيام بالعكس تماماً، أي التضحية باسقلالية المصرف المركزي عبر توجيه خياراته للحفاظ على تثبيت سعر الصرف عبر ربط سعر صرف العملة الوطنية بالعملة الأجنبية الأكثر تداولاً واستقراراً وتعاملاً دولياً وهي الدولار الأميركي، خصوصاً بعد اعتماده كعملة ثانية إلى جانب الليرة اللبنانية منذ الأزمة النقدية التي عرفها لبنان في الثمانينات، والتي أطلق على أثرها مسار دولرة مرتفعة غير رسمية ولكنها «مفروضة» من قِبل القطاع الخاص كأمرٍ واقع منذ ذلك الحين، بغَرض الهروب من خطر تقلّبات سعر الصرف وافتقاد العملة الوطنية لمهامها الأساسية في الثمانينات كأداة تسعير وتسديد للعمليات الشرائية الكبرى والمحافظة على القدرة الشرائية على المدى البعيد وصعوبة استعادة الثقة منذ ذلك الحين، على الرغم من جهود وكلفة تثبيت سعر الصرف على مدى 22 عاماً. علماً أنّه الخيار الأكثر فعالية لتحقيق الاستقرار النقدي في ظل اقتصاد مدولر كما هي الحال في لبنان، حيث لا نفع من الاكتفاء بإدارة السيولة بالليرة اللبنانية طالما الحصة الأكبر من السيولة المتداولة في السوق هي بالدولار الأميركي.

يبقى القول انّ الدولرة الشاملة لم تعد خياراً بل مسألة مسار، والتقدّم واضح خطوة خطوة وفق خارطة الطريق التي تعكس الآلية الدولية للتجارب المشابهة… المهم أن تتمّ بلورة المسار والاعتراف الرسمي بكل خطوة منه تدريجاً لضبط مخاطر فوضى الأسواق وعشوائية التعامل بين العملاء الاقتصاديين… عندما يصبح المسار أمراً واقعاً ينحصر البحث في تنظيمه بأقلّ كلفة على الناس وأفضل نتائج ضمن الممكن.

د. سهام رزق الله

من اقتصاد مُراقب إلى اقتصاد كاش عشوائي وخطر

 

تحوّل الإقتصاد اللبناني منذ نحو ثلاث سنوات ونصف السنة، من اقتصاد مُراقب ومُنظّم دولياً يلحق القواعد العالمية، إلى اقتصاد “الكاش” العشوائي والخطر على المدى المتوسط والبعيد.

إقتصاد الكاش هو أخطر إقتصاد في العالم، لأنه من المستحيل تنظيمه أو مراقبته، داخلياً، إقليمياً أو حتى دولياً. لذا، تهرب أكثرية الإقتصادات المتقدمة من التبادل عبر النقد، وتخفّف قدر المستطاع اقتصاد الكاش، الذي ليس له رقابة، ويمكن إستعماله لأهداف غامضة.

في لبنان، تحولنا إلى إقتصاد الكاش، عندما بدأت الأزمة الإقتصادية والإجتماعية في أواخر العام 2019، وانعدمت الثقة بالقطاع المصرفي، وأيضاً الثقة بين الأفراد والشركات، وبين بعضهم البعض، وأصبح الكاش الآمر الأول والأخير، وقد مُحيت الديون المتراكمة القديمة، الحالية وحتى المستقبلية من الدورة الإقتصادية.

إنّ هذا التحوّل وردّة الفعل هذه، منطقية على المدى القصير ويُمكن تفهمها، لكن عندما تصبح من ضمن الإقتصاد على المدى المتوسط والبعيد، تصبح خطرة جداً، ليس فقط في بلدنا لكن أيضاً في البلدان المجاورة وحتى الدولية. لأنّ إقتصاد الكاش يُستعمل لتبييض الأموال والتهريب وتمويل الإرهاب.

كنّا نفخر بمنصتنا التجارية والدولية التي كانت تجذب الإستثمارات والمستثمرين ورؤوس الأموال والرياديين، لِخلق النمو والتطور. للأسف، إنّ تحولنا الى اقتصاد الكاش يُهرّب المستثمرين الشفافين ويجذب غاسلي الأموال، ومموّلي الإرهاب، والمهربين والمروجين، في اقتصادنا الأسود الطاغي الجديد.

كان اقتصادنا يخلق وينمّي رواد الأعمال والمبتكرين والرياديين وقد أصبح إقتصاد الكاش يطور المهربين والمروجين والصرافين الفاسدين.

لذا علينا أن نكون حذرين جداً، لأنّ اقتصادنا الكاش الجديد أصبح تحت مجهر الدول المنظمة والمراقبة وراداراتها، ويمكن في أي وقت فرض عقوبات علينا، ومنع التحويلات، وحتى ما تبقّى من المصارف المراسلة، قد توقف التعاون مع لبنان والشركات اللبنانية واللبنانيين. فهذا يمكن أن يوجّه رصاصة الرحمة على ما تبقّى من أملنا ونيتنا بإعادة النهوض.

في الخلاصة، لا نزال نحفر في النفق السوداوي عينه، وتزداد المخاطر والضغوط، والهجوم المتتالي، على الإقتصاد الأبيض، ضد الإقتصاد الأسود المتمثّل باقتصاد الكاش الذي يكسب الأرض يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة.

د. فؤاد زمكحل

إتجاهات الدولار… وخيارات مصرف لبنان

لا تبدو الخيارات المتاحة امام مصرف لبنان كبيرة في موضوع انهيار الليرة، خصوصاً ان أي تدخّل لضخّ دولارات في السوق أصبح عملية معقدة اكثر من السابق، ومفعولها محدود نسبياً، للأسباب التالية :

اولاً – نمو الكتلة النقدية الى حوالى 80 تريليون ليرة، بما يعني ان كلفة سحب جزء اساسي من هذه الكتلة بات يكلّف دولارات اضافية لا يستطيع المركزي رميها اذا كان مفعولها لن يستمر سوى لفترة قصيرة.

ثانياً – انّ القدرة على تقليص حجم الكتلة النقدية بالليرة، لم تعد مُتاحة بالنسبة نفسها التي كانت قائمة في السابق، بسبب حاجة السوق بعد رفع الرواتب في القطاع العام، وارتفاع الاسعار بالليرة في كل المجالات، بما أدّى الى الحاجة الى كتلة كبيرة بالليرة. هذا الامر معرّض للتضخّم اكثر في الايام المقبلة، ربطاً بالارتفاعات المستمرة في المداخيل والانفاق بالليرة.

ثالثاً – عندما يصل سعر صرف الدولار الى مستويات معينة، ويستقر عليها لفترة، تصبح عملية اعادة خفضه، ولفترة طويلة، شبه مستحيلة، على اعتبار ان الاقتصاد القائم، على تواضعه، بالاضافة الى متطلبات السوق، وبالاضافة الى الاجور وبدلات النقل، كلها تتغيّر لمواكبة الارتفاع. وبالتالي، لا مصلحة اقتصادية في اعادة خفض الدولار اصطناعياً، من خلال عمليات ضخ دولارات بكميات كبيرة، لأنه لا يمكن دفع الاسواق الى اعادة تصحيح نفسها نزولاً. وبالتالي، تنشأ مشكلة اضافية امام الوضع المالي، بما من شأنه الانعكاس سلباً على مجمل الدورة الاقتصادية والمالية في البلد. لذلك تلجأ الدول التي تصل في مرحلة ما الى التضخّم والى ما يشبه الانهيار الكامل في عملتها الوطنية، الى واحد من حلّين: شطب أصفار، أو خلق عملة جديدة رديفة. وبالنسبة الى لبنان، لم يحن الوقت بعد لأي من هذين الخيارين.

هذه الوقائع تعني ببساطة ان عملية اعادة قدرات الليرة ترتبط حصراً بالحل الشامل، أي وضع حدّ للانهيار، والانتقال الى مرحلة جديدة من خلال تنفيذ خطة للتعافي مع صندوق النقد، ومع المجتمع الدولي.

في هذا الوقت، سيواصل مصرف لبنان مساعيه للتخفيف قدر المستطاع من سرعة انهيار الليرة، مع علمه المسبق بمحدودية كل الاجراءات التي يمكن اتخاذها، من حيث نسبة خفض الدولار، او من حيث الفترة الزمنية الذي قد يصمد فيها هذا الخفض الاصطناعي. وفي الايام الأخيرة قام المركزي بمحاولات غير مكلفة، لتخفيف اندفاعة الدولار من خلال تسعير سعر شراء وبيع الدولار في المراكز التي يعتمدها لجمع الدولارات من السوق. لكن هذه المحاولة لم تساعد كثيراً. ويبدو انّ مصرف لبنان كان يكتفي في الايام القليلة الماضية بشراء كميات محدودة من الدولارات وبأسعار أقل من سعر السوق السوداء. لكن هذه السياسة لن تجدي نفعاً مع الوقت، لأن الكميات التي سينجح في جَمعها ستتراجع مع الوقت، وسيكون محتاجاً الى كميات اضافية بما سيضطره لاحقاً الى تعديل سعر شراء الدولار الى مستويات السوق.

يبقى ان مصرف لبنان مضطر الى معالجة مشكلة الاموال العالقة في المصارف، والتي أودعها أصحابها بالليرة للحصول في المقابل على دولارات بسعر منصة صيرفة (38 ألف ليرة). ومن خلال الداتا الموجودة لديه، على اعتبار ان كل عمليات الشراء يتمّ تسجيلها من قبل المصارف، وتُرسل فوراً الى البنك المركزي، فهو يدرك كمية هذه الاموال، ومن واجبه تأمين الدولارات لإنجاز عملية الاستبدال، لأنّ نسب الخسائر التي سيتعرّض لها الناس الذين وثقوا ببيان مصرف لبنان أصبحت كبيرة. في كل الاحوال، وفي المعلومات المتوفرة انّ المركزي بدأ في تأمين الدولارات لإنجاز هذه العمليات، وانه سيعالج هذا المأزق ولو بالتقسيط، وليس بدفعة واحدة أو في وقت واحد.

في المحصّلة، هل من تقديرات منطقية للمسار الذي سيسلكه الدولار في الفترة القصيرة المقبلة؟

من خلال تقدير حجم الكتلة النقدية بالليرة، ومن خلال حركة السوق، ولأنّ الارتفاعات أو الانخفاضات في اسواق المال، لا تتم وفق خط مستقيم، فهذا يعني ان احتمالات عودة السوق الى الهدوء النسبي محتملة. وقد يكون الدولار وصل الى سقف هذه الموجة من الارتفاع، وقد يستريح قليلاً عند محطة الـ60 الف ليرة، او ما حولها، (حوالى 5% نزولاً او صعوداً)، تمهيداً لموجة ارتفاعات جديدة، قد تبدأ في مرحلة لاحقة.

انطوان فرح