متابعة قراءة نائب رئيس وزراء لبنان: على البنوك أن “تبدأ أولا” في تحمل الخسائر
أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية
ملاحظات عن «استراتيجية النهوض بالقطاع المالي» للحكومة اللبنانية
هذه هي الخيارات النقدية الممكنة للبنان: أيّها يعتمد المصرف المركزي؟
من المعلوم أنّ التجربة القاسية لتضخّم الثمانينيات أرخت بظلالها بقوة على خيارات السياسة النقدية مطلع التسعينيات، إذ تلقّى المصرف المركزي كرة النار، فكان عليه امتصاص التضخّم، الذي أسهم هو نفسه في حدوثه بشكل أساسي، بسبب زيادة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، إن لتمويل الدولة أو لتلبية احتياجات تمويلية تحت كل ضغوط تلك الحقبة من الحرب وعدم الاستقرار على جميع المستويات…هكذا بدأ تأثير ذكرى فترة التضخّم والدولرة الجزئية غير الرسمية التي اختارها اللبنانيون، حفاظاً على قدرتهم الشرائية على سلوك السلطات النقدية والمالية والسياسية، بحثًا عن تثبيت استقرار قيمة العملة الوطنية وقدرتها الشرائية في مطلع التسعينيات، بعد انتهاء الحرب ميدانيًا..أما وقد سقط ستاتيكو «الدولرة الجزئية مع ربط سعر صرف الليرة بالدولار»، وفقدت السيطرة على السوق لصالح «مهنة جديدة» قائمة على المضاربات على العملة الوطنية بدلاً من التمسّك بها كرمز السيادة الاقتصادية، أي خيارات نقدية ممكنة اليوم للبنان؟ كيف نقارن بين السياسة التقليدية للمصرف المركزي والانتقال الى مجلس نقد، أو الذهاب للدولرة الشاملة؟ ما هي ميزات كل منها ليفضّلها المصرف المركزي؟
تُجمع كل الأدبيات الاقتصادية والتجارب الدولية على استحالة اعتماد نظام سعر صرف حرّ عائم، في ظلّ دولرة مرتفعة، في بلدان تعتمد أيضاً بشكل كبير على الاستيراد، وأيضاً الاستدانة بالدولار الأميركي، وإلّا تكون النتيجة زيادة تعميق الأزمة، كما حصل في دول عديدة حاولت المضي بهذا الاتجاه..
من هنا، الأزمة الحالية ليست نتيجة اعتماد سياسة ربط سعر الصرف، إذ كان أكثر الخيارات فعالية في ظلّ اقتصاد مدولر بحدود 80٪، إنما الأزمة بالتشدّد بهامش 1501-1514 وسعر متوسّطي 1507.5، بغض النظر عن وضع «ميزان المدفوعات» والاحتياطي بالعملات الأجنبية. من هنا، بقي الوضع متماسكاً طالما كان لبنان يسجّل فوائض في ميزان المدفوعات حتى عام 2011، حيث بدأت سلسلة عجوزات بشكل متراكم (ما عدا السنوات 2016-2017 بفضل «الهندسات المالية»).
أما أبرز المقترحات التي كانت تطُرح للبنان، فكانت إما اعتماد ربط الليرة بسلّة من العملات لأبرز الشركاء التجاريين للبنان (أكثر البلدان التي تربطنا بها التجارة الخارجية)، وفق ثقل يوازي النسبة المئوية للعلاقات التجارية مع كل منهم (مثلاً 40٪ تجاه اليورو، إذا كانت نسبة التبادل التجاري مع أوروبا توازي 40% من مجموع تجارتنا الخارجية)، وإما كان اقتراح الارتكاز على التوسّع التدريجي لهامش سعر الصرف، وفق نهج ويليامسون Williamson (2000) للاقتصادات النامية، مقارنة بالحالة في لبنان، ما يسمح بالانتقال التدريجي من نظام التثبيت الجامد لسعر الصرف إلى نظام أكثر مرونة، يسمح بتحديد أولويات هدف التضخم، وفق تحليلات غولدشتاي Goldstein (2002). وفي الوقت نفسه، تعلّق هذه الدروس أهمية كبيرة على تنفيذ الإصلاحات المالية الموصى بها، للحدّ من وزن الدين العام، الذي يتحمّله البنك المركزي والمصارف التجارية، أي الجهاز المصرفي ككل، وبالتالي تجنّب التوقعات التضخمية المرتبطة بتوقعات تسييل الدين العام.
أما اليوم، بعد سقوط تثبيت سعر الصرف على أساس ربط الليرة بالدولار في ظلّ معادلة الدولرة الجزئية غير الرسمية، يبرز إقتراح إنشاء «مجلس النقد» Currency Board/Caisse d’Emission تنصّ هذه القاعدة على أنّ القاعدة النقدية – المكوّنة من الودائع التي تحتفظ بها البنوك والأوراق النقدية الصادرة عن مجلس العملة – يجب تغطيتها بالكامل وهامشياً بالعملة الاحتياطية. تؤسس قاعدة الاحتياطيات 100% هذه عدم مرونة فعليًا للعملة الأساسية، ومن المفترض أن تثبت صدقية السلطات النقدية بشكل دائم وعدم قابلية سعر الصرف للنقض. على مستوى الأدوات، فإنّ مجلس النقد يضمن أنّ مجلس العملة وحده يضمن قابلية التحويل على قدم المساواة (على سبيل المثال، بمعدل واحد إلى واحد) لإصداراته بالعملة الاحتياطية، وبالتالي يشكّل احتياطيًا واحدًا.
عملياً، يغطي مجلس النقد طباعة الليرة اللبنانية بنسبة 100٪ بالموجودات الخارجية (احتياطي بالعملات الاجنبية واحتياطي الذهب)، فيعيد الثقة المفقودة بالليرة، لأنّه يضمن القدرة على تحويلها من دون قيود، ما يجذب المستثمرين الأجانب ويزيد من إيرادات الدولة. والأهم في هذا الخيار، هو أنّه يقيّد المصرف المركزي، فيمنعه تحديداً من طباعة العملة الوطنية بشكل استنسابي من تمويل الحكومة Discretionnaire، ما من شأنه أن يرغم الدولة على القيام بالإصلاحات المالية، نظراً لتوقف إمكانية تحميل السياسة النقدية تبعات عجزها المالي وتحميل النظام المصرفي مدّها بالسيولة، إن بالتسليفات المباشرة أو عبر شراء سندات خزينتها بشكل متواصل دون ضوابط، كما حصل.
فعلياً، ووفق الأرقام المعلنة، يملك مصرف لبنان احتياطياً ضئيلاً من العملات الأجنبية (لم يعد يتخطّى 11.5 مليار دولار أميركي)، ولكنه يملك أيضاً احتياطياً من الذهب يفوق 24 تريليون ليرة. وقد شبّه الخبير الاقتصادي الدولي في أزمات العملات «ستيف هانك»، وضع البلاد الحالي بأزمة بلغاريا في أوائل التسعينيات، التي تخلّفت عن سداد ديونها مرات عدة بين 1991 و1997، فيما تخطّت نسبة التضخّم السنوي في بلغاريا 1230٪ ، وبلغ عجز الموازنة العامة 14.2٪. وبعد إقرار مجلس النقد، إنخفض التضخم إلى 1.6٪ ومعدلات الفائدة إلى 2.43٪، وتحول عجز الموازنة إلى فائض، وارتفع احتياط العملات الأجنبية من 864 مليون دولار إلى 3.1 مليارات دولار، داعياً الى إنشاء مجلس نقد Currency Board في لبنان، دون أن يلقى تجاوباً من السلطات المعنية.
في الواقع، من المقبول عمومًا، أنّ اختيار الثبات غير القابل للإلغاء لسعر الصرف يجب أن يأخذ في الاعتبار هيكل الاقتصاد الكلي، ويكون أكثر ملاءمة للاقتصادات الصغيرة المتكاملة تجاريًا وماليًا. كما ثمة تساؤلات تتعلّق بشكل أساسي بمسألة الإقراض كملاذ أخير Preteur en dernier ressort في هذا النوع من النظام النقدي. ومجلس النقد يمثل إشكالية في هذا الصدد، لأنّ من شأنه أن يحرم النظام المصرفي من قرض الملاذ الأخير للمصارف التجارية عند حاجاتها التمويلية. ويعتقد المدافعون عن مجلس النقد، أنّه إذا كان مجلس العملة يحتفظ باحتياطيات «فائضة»، فيمكنه في النهاية حشدها للتدخّل لدى المصارف. ومع ذلك، وكما رأينا في المقدمة، فإنّ مثل هذا الإجراء لا يتوافق مع قرض الملاذ الأخير ؛ إنّه يتوافق مع تحويل الاحتياطيات، والذي يظلّ مشروطًا للغاية وينطوي على عدم مرونة العملة الأساسية.
كما يعتقد المدافعون عن مجلس النقد، أنّ أي انحراف عن التشدّد النقدي من شأنه أن يقلّل من صدقية مجلس العملة، وبالتالي يعرّض لمخاطر العملة. نظرًا لإشكالية السيولة «غير المرغوب فيها» من قِبل مجلس النقد. فقد دعا بعض الاقتصاديين إلى التحوّل إلى الدولرة الرسمية للحدّ من ضخ المزيد من العملة الوطنية وضمان التشدّد في ضبط السيولة المتداولة.
إلّا أنّ افتقاد الثقة كلياً بعد عامين ونصف على انفجار الأزمة، بغياب أي طرح منذ إعلان لبنان «التوقّف عن سداد ديونه»، تعايش معظم الناس مع الواقع، والبحث عن حلول فردياً، لتأمين مصادر عائلية بالدولار من قِبل شريحة متنامية من العائلات، لا بل نجاح تعاميم المصرف المركزي باستقطاب موظفي القطاع العام لأخذ رواتبهم بالدولار على سعر المنصّة وتفضيلهم الحصول عليها بالدولار أياً كان المبلغ بدلاً من الليرة، وكذلك إقبال الناس حاملي الليرة على شراء الدولار عبر منصة «صيرفة» ضمن الشروط والمطالبة بتوسيعها للعموم، بل غياب الطلب على الليرة ومطالبة الجميع بالدولار، ليس فقط لشراء بضائع مستوردة إنما أيضاً لـ»تسعير» العمال المياومين في كل المهن الحرة (عمال البناء، الزراعة…) أجرهم وفق الدولار أو سعره في السوق السوداء.. هذه العوامل تدلّ إلى رغبة الجميع بـ»الدولرة الشاملة» حفاظاً على قدرتهم الشرائية..
الدولرة الرسمية الشاملة هي نظام يتمّ فيه دمج الأموال التي يصدرها بنك مركزي خارجي مع دمج النقود يدويًا. تؤدي هذه الخاصية إلى عدم مرونة عرض النقود اليدوية، بمعنى أنّه عندما يزداد الطلب على النقود اليدوية وينشأ نقص في السيولة، فإنّ النظام المصرفي غير قادر على تلبيتها. والنتيجة هي عدم استقرار في احتياطيات المصارف والقروض التي تقدّمها، وعدم استقرار في طبيعة انكماشية. من ناحية أخرى، يُلاحظ في هذا الصدد أنّ مجلس العملة يمكن أن يستجيب – ولكن إلى حدٍ معين فقط – للتغيّرات في الطلب على النقود اليدوية، من خلال تعديل شكل التزاماته (زيادة تداول الأوراق النقدية وانخفاض في الودائع بين المصارف).
إستناداً الى نموذج الاكوادور، تبيّن أنّ الشرط الأساس لنجاح عملية الانتقال الى «الدولرة الشاملة» يتطلّب أولاً امتلاك المصرف المركزي احتياطاً بالعملات الأجنبية الدولية (بالدولار الأميركي) يكفي لتغطية التزاماته تجاه القطاع الخاص، أي بنحو أساسي «القاعدة النقدية» (base monetaire) (الأوراق النقدية المطبوعة من المصرف المركزي بالعملة الوطنية + احتياطي المصارف لدى المصرف المركزي).
ممّا يعني أولاً، إعتماد سعر صرف تتمّ على أساسه عملية التحويل. وثانياً التأكّد من توافر الاحتياطي المطلوب لاستبدال القاعدة النقدية بالعملة الأجنبية، أو إمكانية استدانته، وإلّا ترك العملة الوطنية تنخفض، أي أن يرتفع سعر الصرف حتّى المستوى الذي يسمح للمصرف المركزي بتغطية القاعدة النقدية بما يتوافر لديه من عملات أجنبية. وثالثاً تحويل الموجودات والأصول في الجهاز المصرفي إلى العملة الأجنبية وفق سعر الصرف المعتمد في لحظة التحوّل الى الدولرة الشاملة.
يبقى القول، إنّ لكل من الخيارات المذكورة ميزاته وشروطه وظروفه، مما يعني أنّه لا يوجد نموذج وحيد صالح لكل البلدان في كل الظروف وأنواع الأزمات.. تطوّر المعطيات وخيارات بقية الفرقاء، من سياسة حكومية وسلطة مالية، لها أيضاً وقعها قبل اتخاذ السلطة النقدية خيارها النقدي الأنسب لمستقبل لبنان..
د. سهام رزق الله
سلامة يُعيد الدولار الى ٢٣ ألفاً… ولكن كيفما كان الجواب، هناك مصيبة ستقع فوق رؤوس الناس.
لسبب أو لآخر، توحي الاجواء بأنّ البلد على وشك الدخول في مرحلة جديدة من الانهيار أشد قساوة وصعوبة من المراحل السابقة التي اجتازها حتى الآن. فهل هذا الخطر حقيقي؟ وما هي مؤشراته؟
لم تكد الانتخابات النيابية تنتهي وتبرز نتائجها، حتى خطفَ الوضع المعيشي الاضواء، بعدما قاده الدولار المنفلت الى قعرٍ لم يسبق أن بلغه من قبل.
لكن في الحقيقة، ولأنّ غبار المعركة الانتخابية غطّى على ما سواه، لم يلاحظ البعض انّ الدولار بدأ رحلة الارتفاع منذ ما قبل الانتخابات، واستمر في منحى تصاعدي بعد انتهائها. فهل من رابط مباشر بين الانتخابات وسعر صرف الدولار؟
في الواقع، هناك مجموعة من العوامل تجمّعت، ويمكن من خلالها تفسير ما جرى قبل قرار مصرف لبنان التدخل بقوة، وما قد يجري بعد القرار.
أولاً – منذ ما قبل الانتخابات، باشَر الدولار مرحلة الارتفاع التدريجي، مدفوعاً بالتقنين غير المعلن الذي بدأه مصرف لبنان لتخفيف خسائره اليومية، خصوصاً بعدما اضطر الى تجاوز التقديرات السابقة التي وضعها عندما قرّر اعادة دعم الليرة في كانون الاول ٢٠٢١. هذه الزيادة في إنفاق الدولارات ناتجة عن الزيادة في الاعتمادات المطلوبة من قبل المستوردين. وبالتالي، لجأ مصرف لبنان الى خفض كوتا الدولارات اليومية للمصارف. ونشأت هوة Gap بين العرض والطلب بما أدى الى بدء ارتفاع الدولار في السوق السوداء. وبدأ الفارق في السعر بين منصة صيرفة والسوق السوداء يتّسع.
ثانياً – سادت اجواء مفادها انّ دعم الليرة سيتوقف بعد الانتخابات مباشرة، وان الدولار سيحلّق فوراً، الامر الذي دفع الجميع الى شراء الدولار قبَيل الانتحابات وبعدها.
ثالثاً – أوحى المناخ السياسي الذي أعقبَ الانتخابات انّ الأفق مسدود على عكس التوقعات المتفائلة. وقد عزّز مناخ التشاؤم هذا ردود الفعل الخارجية التي جاءت فاترة، فيما لم تكن الاجواء في صندوق النقد الدولي متفائلة بدورها. ولا يبدو انّ الصندوق يخطّط لإرسال وفد الى لبنان عمّا قريب للاطلاع على المناخ السائد بعد الانتخابات، اذ يبدو انّ المسؤولين في الصندوق يعتبرون انهم أنجزوا مهمتهم، وانهم سينتظرون ما سيفعله المسؤولون اللبنانيون قبل الاقدام على اي مبادرة جديدة.
رابعاً – رغم انّ مصرف لبنان أعلن تمديد العمل بالتعميم ١٦١ حتى نهاية تموز في محاولة لتهدئة السوق، الا أنّ ذلك لم ينفع في لجم اندفاعة الدولار، لأنّ المركزي لم يرفق قرار التمديد بضَخ دولارات اضافية، الأمر الذي أبقى على الخلل في التوازن بين العرض والطلب.
خامساً – مع انخفاض حجم الاحتياطي في المركزي من العملة الصعبة، ازدادت المخاوف من اقتناء الليرة، الامر الذي زاد في الطلب على الدولار.
كل هذه الاسباب تضافرت ودفعت الدولار الى التحليق حتى انه اقترب من الاربعين الف ليرة، قبل أن يلجمه قرار المركزي الأخير.
اللافت هنا، انّ مصرف لبنان لم يضخ الدولارات الاضافية بعد، لكن بمجرد ان اعلن انه سيضخ العملة الخضراء بلا سقف بدءاً من اليوم الاثنين، شهد الدولار عملية هبوط سريع ناتج عن تَهافت الناس الى بيع دولاراتهم لِتحاشي الخسائر أو تحقيق الارباح التي قد تنتج عن اعادة شراء الدولارات عبر منصة صيرفة كما وعد مصرف لبنان.
والسؤال هنا، كم سيجمع المركزي من الدولارات المُباعة في الويك اند، وما هي الخسائر التي سيتحملها نتيجة إعادة بيع هذه الدولارات الى الناس؟
لمَن يتساءل الى أي مدى سيهبط الدولار، عليه ان يعرف انّ الجواب لدى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وسبق لسلامة أن أسقطَ الدولار من ٣٣ الف ليرة الى حوالى ٢٢ الف ليرة. وبالتالي، الجواب بسيط لأن سلامة قادر على اعادة الدولار الى ٢٣ الف ليرة قبل نهاية الاسبوع. لكن السؤال ليس هنا، بل كم سيضطرّ الى ان يدفع من الاموال المتبقية لتحقيق هذا الخفض، والى متى يمكن ان يستمر هذا الخفض، وماذا سيحصل بعد استنفاد الاموال؟ والأهم من كل ذلك، هل يملك سلامة حرية قرار من هذا النوع؟ وهل من جهةٍ سياسية طلبت أو وافقت على قرار ضخ الدولارات المتبقية، وبسخاء؟ كيفما كان الجواب، هناك مصيبة ستقع فوق رؤوس الناس.
المشهد من واشنطن: خطة الانقاذ أول اختبار
ينتظر المجتمع الدولي، وفي مقدمه الولايات المتحدة وفرنسا، تقليعة المجلس النيابي الجديد، وطريقة التعاطي مع الملفات الحيوية المتعلقة بالاصلاحات المطلوبة للانقاذ الاقتصادي والمالي، لكي يُبنى على الشيء مقتضاه. والتفاؤل الذي ساد في بيروت ربطاً بنتائج الانتخابات، يُقابله حذر في واشنطن، خشية ان تكون الاوضاع قد انتقلت الى مرحلة اكثر تعقيداً وغموضاً من المرحلة السابقة.
مَرّرت الحكومة في جلستها الأخيرة خطة التعافي التي سبق وان اتفقت على تنفيذها مع صندوق النقد الدولي. وليس واضحاً بعد، ما اذا كانت هذه الخطة التي تعرّضت لنيران الخصوم والاصدقاء في آن، قادرة على اجتياز حقول الالغام التي تنتظرها في المجلس النيابي الجديد. واللافت انّ لائحة المعترضين على الخطة تتضمّن فيما تتضمّن المصارف والمودعين في آن. وقد أصبح الطرفان في خندق واحد، بحيث يصعب على أيّ طرف فيهما ان يفصل «مصلحته» عن الطرف الآخر. إذ بمجرد أن أخرجت الدولة نفسها من معادلة المشاركة في دفع الخسائر، أصبح الحمل ثقيلاً على المصارف والمودعين في آن.
في موازاة اعتراضات المعنيين، تبرز الاعتراضات السياسية. واذا كان «حزب الله» وحركة أمل قد سجّلا اعتراضهما على الخطة داخل مجلس الوزراء، فإنّ الاعتراضات في المجلس النيابي الجديد قد تتشعّب اكثر.
في الاجواء السائدة في واشنطن، لدى الدوائر المالية، لا شيء يدعو الى الاطمئنان الى انّ المجلس النيابي الجديد سيكون اكثر دينامية من المجلس السابق. اذ انّ «حزب الله» الذي خسر الاكثرية النيابية، أصبح برأيهم اكثر تحرراً في الاعتراض والعرقلة، فهو كان يشعر في السابق بثِقل مسؤولية إعاقة الاتفاق مع صندوق النقد، لأنه كان سيتحمّل المسؤولية المباشرة عن استمرار الانهيار، وصولاً الى المشهد الأقسى، حيث قد يفقد اللبنانيون القدرة على تأمين الحد الأدنى من مقومات العيش. لكنه اليوم، وبعد خسارته الاكثرية النيابية مع حلفائه، أصبح في وضعٍ أفضل للاعتراض ووقف تنفيذ الخطط، اذا كان ذلك ضمن مخططاته.
في المقابل، فإنّ شريحة واسعة من النواب المستقلين قد يلاقوه في الاعتراض على الخطة، ولو من زاوية أخرى تتعلق بحقوق المودعين. ومعظم الوجوه الجديدة في المجلس سبق وتعهّدت برفض أي خطة قد تمسّ بحقوق المودعين. وهذا الامر قد يسري على اطراف سياسية اخرى، بحيث سيصبح المعترضون اكثرية في المجلس النيابي.
هذه الصورة تُقدّمها أوساط متابعة للوضع اللبناني في واشنطن. وهي تسأل كيف سيتمّ حل هذه المعضلة، اذ أن الطروحات التي قد يجري تقديمها من قبل المعترضين لتعديل خطة التعافي، قد لا تكون مُقنعة لصندوق النقد الذي يعطي الاولوية لخطة تمنح الاقتصاد القدرة على الاقلاع مجدداً، ولا تكبّله بالتزامات قد تؤدّي الى سقوط الهيكل فوق رؤوس الجميع. اذ انّ إنشاء صندوق استثماري يستخدم مقدرات الدولة لإعادة الاموال الى المودعين كافة، ليس مُقنعاً بالنسبة الى خبراء صندوق النقد، على اعتبار انّ هذه المقدرات ليست بالحجم الحقيقي الذي قد يظنه البعض. كما أنّ المرحلة التي بلغها الوضع المالي في لبنان لا تسمح بإطالة أمد المعالجات. وفي هذا الاطار، يسأل هؤلاء كيف سيتم تقسيم خسائر بقيمة 70 مليار دولار على اقتصاد أصبح حجمه اليوم حوالى 18 مليار دولار. وحتى اذا ما تمّ تقسيط دفع الودائع على 10 أو 15 سنة، فهل ان اقتصاداً مثل الاقتصاد اللبناني قادر على تأمين ما بين 5 الى 7 مليارات دولار سنوياً، لتسديد حقوق المودعين؟
لذلك، ترى الاوساط نفسها انّ المسألة أصبحت أبعد وأعمق من حقوق المودعين، وتحولت الى المعادلة التالية: ينبغي الاختيار بين إنقاذ كل اموال المودعين، أو انقاذ 4 ملايين لبناني مهددين بمعيشتهم. في حين انّ في الامكان انقاذ اموال المودعين من سقف مئة ألف دولار وما دون، وهم يشكّلون عددياً القسم الاكبر من مجموع المودعين، وسيكون على البقية تحمّل نسبة من الخسائر تقتضيها ظروف الانقاذ.
ويبقى السؤال، هل انّ هذه المعادلة قادرة على أن تمر في مجلس نيابي لا توجد فيه اكثرية لأي طرف؟ وكيف ستتعاطى الكتل، من كل الاشكال والالوان، مع هذا الملف الحسّاس. انها مسؤولية وطنية كبيرة، لكنّ الأكيد ان صندوق النقد ليس هو مَن وضع خطة الانقاذ، وهو مستعد لمناقشة اية تعديلات مقترحة، شرط أن تكون واقعية وتستند الى اسس اقتصادية قابلة للحياة.
اذا كان هناك من يريد فعلاً إنقاذ الاقتصاد والبلد، والحفاظ في الوقت نفسه على حقوق المودعين، فإنّ الوقت مناسب لتقديم دراسات جدية في هذا السياق. وأي اعتراض لا تُواكبه خطة بديلة، سيكون بمثابة انتحار من اجل الانتحار.
انطوان فرح
نجاح قوى التغيير يفرض نهجاً اقتصاديّاً جديداً
لا شك ان غالبية النواب يمكن تصنيفها بانها من قوى #التغيير، وافضل برهان على ذلك ان الوزير السابق جبران باسيل لم يكن لينجح في البترون لولا تشويه قانون الانتخاب بالصوت التفضيلي وهو لم يتمكن من تأخير انتخاب مرشح القوات اللبنانية في البترون.
بالمقابل الغيارى على الحكم السوري تناقص عددهم وحتى تاريخه تصريحاتهم وهذه النتيجة ستساهم في تحسن البرامج السياسية على شاشات التلفزة.
اهم من كل ذلك ان الانتخابات اسهمت في نجاح وجوه جديدة واعدة، واصبحت تفرض استقالة الحكومة الحالية بتاريخ 21 الجاري، هذا مع العلم ان الرئيس نجيب ميقاتي في حديثه مع رئيسة تحرير “النهار” يوم الانتخاب، اوصى بانه في حال التخلي عن تمكينه من ممارسة الحكم بحكومة لا تستطيع اقرار قوانين واجراءات اساسية، قد يوافق على تشكيل الحكومة المقبلة، اذا لم يتوافر الدليل على توافر رئيس من المنتخبين. والحقيقة ان استمرار حكم الرئيس الميقاتي اصبح من مستوجبات التحسين المطلوب، سواء على صعيد برنامج انعاش الاقتصاد واستعادة الثقة والابتعاد عن مسايرة اقتصاد اعتبر ان على البلد اعتماد سياسة البلدان الممانعة اي سوريا او ايران، هذا في وقت تتصاعد فيه الشكاوى في ايران من تردي الاوضاع، ويواجه الرئيس السوري صعوبة في الحصول على معونات سواء من ايران او روسيا في الوقت الحاضر، وحتى ايداعات الحكومة السورية في البنوك الروسية اصبحت مجمدة حتى انهاء محاولات عزل روسيا عن الاسواق العالمية.
ربما من المناسب ادراج تعليق على نتائج العقوبات على روسيا، فهذه العقوبات تصيب البلدان الاوروبية بالضرر الاكبر وهذا الرأي لاقتصادي اميركي مميز، والبلد الوحيد الذي يحقق افادة من العقوبات هو الولايات المتحدة التي تحوز القدرة على كفاية حاجاتها من النفط والغاز وتحوز امكانية تصدير كميات توفر لها ارباحًا كبيرة، والسؤال المطروح هو لماذا لا تشارك الصين في العقوبات وقد اصبحت باقتصادها وتوظيفاتها في سندات الدين الاميركية، الاقتصاد الطبيعي الذي ينافس الاقتصاد الاميركي، وفي عصر انتشار التكنولوجيات الالكترونية وبتقدير اختصاصية اميركية بما يحدث عالميًا، يبدو ان الصين اصبحت سباقة في النشاطات المستحدثة والتي تتطور يوميًا وستشكل هذه المنتجات سواء منها الخاصة بتسهيل عمليات التبادل واختصار المعاملات المصرفية وتنظيم برامج الطيران والنقل بحرا وجوا المرتكز الذي يستند الى قياسه تقييم الانجاز الاقتصادي. ويبدو ان الصين تجاوزت الولايات المتحدة ولا تتجاوب مع الضغوط الاميركية، وستستمر في الحصول على الغاز الروسي عبر خط انجز حديثًا وبكلفة باهظة.
نعود الى لبنان وحاجاته الملحة واولها تفعيل اجهزة الدولة كما فعلت قيادة الجيش خلال فترة التحضير للانتخابات وفترة انجازها، وكي تتحقق خطوات اصلاح ادارية لا بد من تحفيز الموظفين المنتجين وتسريح اعداد الموظفين الذين تسلقوا السلطة.
من المستوجبات الملحة تفادي انتقاء وزير للطاقة في الحكومة الجديدة من الفريق نفسه. ولا بد من انجاز الحكومة في اقرب وقت وبرئاسة رئيس جديد كليًا، وملتزم انهاض الاقتصاد قبل ان يقوم بضبط الاستهلاك، والرئيس ميقاتي كان على قناعة بان ضبط انفاق اللبنانيين يؤدي الى تخفيض عجز ميزان المدفوعات وهذا ما يهدف لتحقيقه، وهو يعلم ان عجز ميزان المدفوعات انخفض بنسبة 50% عام 2021 وان العجز لن ينخفض هذه السنة لان اسعار المشتقات النفطية، وهذه تشكل النسبة الاهم من المستوردات، تضاعفت، ويجب ان يعلم ويستدرك ان العائلات اللبنانية، لا تستطيع تأمين ثلاث وجبات لافرادها وخاصة منهم الاطفال.
لبنان يحتاج الى حكومة تقبل على احياء مؤسساتها وتستطيع تحقيق النمو، وتبتعد عن الكابيتال كونترول التنظيم الذي يقرب نظامنا الاقتصادي الى النظام السوري وبدلاً من انتظار انبلاج برنامج اصلاحي مع صندوق النقد الدولي لحيازة 3 مليارات دولار على فترة اربع سنوات، يمكن لحكومة حائزة الثقة الدولية ان تستدرج الاستثمار في مشاريع حيوية كإنعاش مرفأ طرابلس وتخصيص قطاع الاتصالات واشراك شركات المانية في تملك نسبة من اسهم الريجي وذلك بعد سماح المانيا باستهلاك الحشيشة ان للهواية او لاغراض اخرى، ويمكن ان تتوسع معونات الهيئات الدولية سواء من حكومات معنية كما يبدو حال المعونات السعودية الفرنسية، او معونات السوق الاوروبية، وبنك الانماء الاوروبي، ويضاف الى كل ذلك انعاش القطاع المصرفي بتأمين استثمار من بنك تجاري دولي في تملك غالبية اسهم اكبر خمس بنوك واكثرها خسارة وهذه بنوك تحتوي على 60% من ودائع اللبنانيين، ودون استعادة هذه البنوك نشاطها سينخفض سوق لبنان، رغم ان التحويلات اليه، في حال الثقة بحكمه وحكامه، مرشحة للتزايد مع تزايد هجرة الفنيين خاصة الى البلدان العربية الخليجية. ومن الواضح ان العلاقات العربية تستوجب حكومة جديدة لا تشمل وزراء تابعين لمؤسسات وهيئات تلتزم مصالح دول اخرى، ورئيس جديد للحكومة لا يمكن وصف نشاطه بالتردد وعدم الاقدام على خطوات جريئة، والحقيقة ان الرئيس ميقاتي الذي تأخر كثيرًا ومدد طويلاً خطوات الاصلاح الجذري ولا نظنه قادرًا على ذلك بحسب تكوين شخصيته.
الوقت للتغيير حان، والتغيير يجب ان يكون باتجاه الاصلاح الجذري، الاداري، والسياسي، والمالي والاقتصادي وحكومة اليوم بعيدة عن هذا الاستهداف، مع العلم ان من اعضائها وزراء يستحقون التقدير، كوزير الداخلية، ووزير التربية، ووزير الاشغال، ووزير الاعلام ووزير المال وكل من هؤلاء يستحق التوزير مع رئيس جديد مقدام وصاحب مخيلة.
مروان اسكندر
مصرف لبنان يقترح تسديد أموال المصارف بالليرة
يبدو انّ المعركة ستُفتح على مصراعيها بين جميعة المصارف ومصرف لبنان، وستبدأ الدعاوى القضائية تتوالى بين الطرفين بدءاً من رفض المصارف لخطة التعافي الاقتصادي التي حمّلتها الجزء الاكبر من الخسائر المالية، وصولاً الى الكتاب الاخير المُرسل من قبل مصرف لبنان الى جمعية المصارف، والذي يطرح خيار تسديد موجودات المصارف المودعة بالدولار لدى مصرف لبنان، بالليرة اللبنانية!
برّر مصرف لبنان قيامه باستنزاف الاحتياطي الالزامي للمصارف بالعملة الاجنبية، مُتذرعاً بقانون النقد والتسليف، وبحجة انه استخدم تلك الاموال بهدف المحافظة على الاستقرار الاقتصادي وعلى سلامة النقد وعلى سلامة اوضاع النظام المصرفي ومن أجل تأمين نمو اقتصادي واجتماعي دائم. كما افاد مصرف لبنان المصارف علماً، انه يمكن، ووفقاً للقوانين المرعية الاجراء، تسديد اموال المصارف المودعة لديه بالدولار الاميركي، بالليرة اللبنانية. فهل ستقبل الاخيرة، ان يحلّ باموالها ما حلّ باموال المودعين لديها؟ وعن أي استقرار اقتصادي ونمو اجتماعي وسلامة مصرفية يتكلّم مصرف لبنان؟
في التفاصيل، أرسل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كتابا الى رئيس جمعية المصارف سليم صفير في 11 من الشهر الحالي، يتعلّق بموضوع احتياطي المصارف الالزامي في العملة الاجنبية في مصرف لبنان بالاشارة الى كتاب الجمعية المرسل اليه في 4 نيسان الماضي والمتعلق بالموضوع نفسه.
واوضح الحاكم لجمعية المصارف في كتابه ان «مصرف لبنان يتمتع بصلاحية تحديد نسب الاحتياطي الالزامي المفروضة على المصارف وقد أوجَب على هذا الاساس على المصارف تكوين احتياطي إلزامي نقدي بالليرة وايداعه في حسابات مفتوحة لديه. كما افاد انه يعود لمصرف لبنان وفقاً للسياسة النقدية والمصرفية المعتمدة من قبله، حق تحديد حجم وشروط تسليفات المصارف. وفي هذا الاطار، فرض مصرف لبنان على المصارف، اضافة الى موجب تكوين احتياطي الزامي بالليرة، موجب القيام بتوظيفات الزامية تُودَع لديه بالعملات الاجنبية وذلك لقاء فوائد وضمن نسب محددة.
وقال انه «باستثناء نص المادة 69 من قانون النقد والتسليف الذي يفرض على مصرف لبنان ان يُبقي في موجوداته نسبة من الذهب ومن العملات الاجنبية حفاظا على سلامة تغطية النقد اللبناني، لم يفرض هذا القانون على مصرف لبنان موجب الاحتفاظ بأي نسبة كاحتياط على موجودات المصارف المودعة لديه (من احتياطي وودائع وتوظيفات إلزامية). وبالتالي، يمكن لمصرف لبنان استعمال هذه الاموال طالما انه يتقيّد بالنسبتين موضوع المادة 69 المذكورة، وطالما ان هذا الاستعمال يبقى في اطار تحقيق مهام مصرف لبنان وفقاً للصلاحيات المعطاة له بموجب القوانين المرعية الاجراء، لا سيما في المادة 70 من قانون النقد والتسليف التي توجِب على مصرف لبنان المحافظة على الاستقرار الاقتصادي وعلى سلامة النقد بهدف تأمين نمو اقتصادي واجتماعي دائم».
اضاف كتاب الحاكم: إلا انه، وبالرغم مما سبق، فإنّ الاموال التي يتم توظيفها من قبل المصارف في مصرف لبنان، وإن بشكل إلزامي، والتي تصبح من ضمن موجوداته، تبقى ديناً لصالح هذه المصارف بذمة مصرف لبنان الذي سيتولى اعادتها للمصارف عند استحقاقها. لذلك، وباستثناء ما تنص عليه القوانين العامة، وفي ظل غياب أي نص قانوني واضح يحدد طريقة تسديد أموال المصارف المودعة أو الموظفة لدى مصرف لبنان، يمكن لمصرف لبنان، وبغية تسديد قيمة هذه الاموال، عند استحقاقها، الى المصارف المعنية:
– إمّا تسديد المبالغ المتوجبة عليه بالشكل والخصائص ذاتها التي قامت المصارف بتوظيفها لديه وذلك استرشاداً بمبدأ توازي الصيغ والاصول وبأحكام المادتين 745 و761 من قانون الموجبات والعقود، التي توجِب على من يقترض مبلغا من النقود ان يرد ما يضارع هذا المبلغ نوعا وصفة.
– وإما التسديد بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الاميركي.
في هذا الاطار، أوضح رئيس مؤسسة جوستيسيا الحقوقية المحامي د. بول مرقص ان ما اشار اليه مصرف لبنان بانه يعود له ان يوظّف الاموال المودعة لديه من المصارف على نحو يؤدي الى الاستقرار وسلامة النقد وتأمين الضرورات الاقتصادية للبلاد، هو أمر صحيح مع ضرورة ان يكون قد تم ذلك في حالة إقراض الدولة اللبنانية على نحو اصولي ونظامي، اي ان يكون قد اتخذ بذلك قرارات من المجلس المركزي في مصرف لبنان بناء على التشريعات القانونية والمراسيم الحكومية اللازمة.
اما بالنسبة الى ما يتعلّق بالجزء الاخير من كتاب مصرف لبنان الى المصارف والذي ينص على اعادة اموال الاحتياطي الالزامي وفق قاعدة توازي الاصول والصيغ، اشار مرقص لـ«الجمهورية» الى انّ «المقصود بذلك فعليا او عمليا هو امكانية او خيار مصرف لبنان يُعيد هذه الاموال من خلال الشيكات او بالتحويلات الداخلية وليس من خلال السيولة النقدية». واعتبر ان اللافت الاكثر في كتاب مصرف لبنان هو الخيار الثاني الذي يشير الى انه يعود لمصرف لبنان تسديد تلك الاموال المقترضة بالدولار الاميركي، بالليرة اللبنانية، لافتاً الى ان الكتاب ترك المجال مفتوحا امام تحديد سعر الصرف، «وهنا بيت القصيد. هل ترك مصرف لبنان الخيار له بأن يُسدّد للمصارف الاموال المقترضة منها بالدولار، على اساس سعر الصرف الرسمي عند 1500 ليرة، اي بشكل لا يتطابق مع الواقع الاقتصادي والنقدي الراهن؟ او وفقاً لاسعار صرف اخرى يحددها أيضا بنفسه، تبدأ بمنصة صيرفة ولا تنتهي بالسعر الرائج في السوق؟»
رنر سعرتي
إقتصاد لبنان إلى الدولرة الشاملة
أكثر من عامين ونصف مرّت على بدء الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعصف بلبنان. أزمة اشتدت بعد امتناع الدولة اللبنانية عن سداد ديونها في آذار من العام 2020، في ظل شحّ مقلق للسيولة، لم يقتصر على العملات الأجنبية وإنما طال ايضاً الليرة اللبنانية.
في المؤشرات الاقتصادية والقطاعات الانتاجية هناك انهيار شامل. حجم الاقتصاد اللبناني تقلّص من حدود 60 مليار دولار في العام 2018 إلى أقل من 20 ملياراً في العام 2021، أي بثلث الحجم السابق.
البطالة سجّلت مستويات تُعتبر قياسية عالمياً، فانتقلت من مستويات تتحرّك بين 20% و25% إلى أكثر من 50% في العام 2022. كذلك ازداد معدل الفقر وأصبح يطال اكثر من 70% من اللبنانيين بحسب التقرير الأخير الصادر عن البنك الدولي.
إنهيار ترافق مع تخبّط مستمر من قِبل الدولة اللبنانية، خصوصاً سلطتها التنفيذية، أي الحكومة كما المجلس النيابي، الغارق في دراسة مشاريع قوانين، بدءاً من مشروع «الكابيتال كونترول» الذي طُرح منذ اكثرمن عامين ولم يُقرّ حتى اليوم، مروراً بقانون السرية المصرفية وصولاً الى خطة التعافي.
وما فاقم الخسائر أكثر، قرار إهدار اكثر من 25 مليار دولار من الاحتياطات من العملات الأجنبية في مصرف لبنان منذ بدء الأزمة وحتى اليوم، تحت راية دعم المواد الأساسية، والتي تبين انّها أُهدرت لصالح التهريب وتنفيع كبار التجار.
اما اليوم، فيبقى السؤال الأهم عن مستقبل الاقتصاد؟ ماذا يخبئ الغد للمواطن اللبناني الذي أنهكته الأزمة وسرقت تعبه وشقاه وقدرته على العيش الكريم؟ هل من حلول؟ هل وصلنا إلى القعر؟
الجواب غير سهل. وإنما المؤشرات واضحة. فبحسب الواقع المالي والأرقام التي يمكن يمكن البناء عليها، فإنّ الاقتصاد اللبناني سوف يتجّه إلى الدولرة بشكل كامل مع نهاية هذا العام، خصوصاً انّ المتابعة تشير الى انّ سعر صرف الدولار سوف يحلّق ويبقى مرتفعاً، ولا يمكن وضع سقف له في ظل شح العملات الاجنبية المتبقية في مصرف لبنان التي تُقدّر باقل من 8 مليارات دولار حالياً.
بداية الدولرة ستنطلق من القطاع الخاص، حيث سنشهد وقريباً، تحوّل تسديد رواتب الموظفين في القطاع الخاص الى الدولار الفريش، بعدما كانت تُدفع بالليرة لبنانية او بشيكات مصرفية أو بالدولار المحلي. وإنما التسديد لن يكون كاملاً. فتراجع حجم الاقتصاد وقيمة العملة المحلية سيلقي بظلاله على الرواتب والاجور التي ستُسدّد نقداً، ولكن بنسبة قدرها 35% من قيمتها الاصلية بالدولار في العام 2019، اي إذا كان الموظف يتقاضى مليوناً ونصف مليون ليرة لبنانية في العام 2019، والتي كانت توازي 1000 دولار اميركي في ذلك الحين، فهو سوف يتقاضى اليوم ولنفس العمل 350 دولاراً أميركياً.
إلى الرواتب ستطال الدولة ايضاً الخدمات. فالتصحيح سيطال الاقتصاد بكافة قطاعاته. وفي مثال على ذلك القطاع التربوي، الذي سيتحول بدوره الى الفريش دولار. فإذا كان قسط المدرسة في السابق يعادل 9 ملايين ليرة لبنانية أي 6000 دولار بحسب السعر الرسمي قبل الأزمة، فسيتحول القسط المدرسي الى 2000 دولار فريش، أي ثلث ما كان عليه في السابق…
معادلة الثلث التي ستحدّد الواقع الاقتصادي الجديد للبنان ستستمر لبضع سنوات، وهي مرشحة للارتفاع سنوياً من 35% في العام 2022 إلى 45% في العام 2023، إلى 55% في العام 2024، وإلى 65% في العام 2025. ولكن الاقتصاد لن يعود الى التوازن، أي إلى نسبة 100% قبل العام 2030 وذلك في افضل الاحوال.
غياب الدولة عن مسؤولياتها والتخبّط والفشل بإدارة الملفات كبّدت الاقتصاد واللبنانيين خسائر سيصعب تعويضها. ولا سبيل اليوم للحدّ من المعاناة الاجتماعية الاّ عبر الاعتراف اولاً بالواقع الاقتصادي ومشكلاته، ثم الانتقال بالفعل وليس بالقول نحو الاقتصاد المنتج، عبر العمل على زيادة الانتاج المحلي والتصدير الخارجي، كخطوة لا بدّ منها لإطلاق عجلة الاقتصاد، عبر استعادة الوظائف كما إدخال العملة الاجنبية الى البلد.
د. باسم بواب
أين الطبقة الوسطى من مذكرة التفاهم مع صندوق النقد الدولي؟
استراتيجية “الصندوق”: إغراء الحكومة بـ 3 مليارات مقابل شطب 72 مليار دولار من الودائع
من الواضح انّ صندوق النقد الدولي يحاول جاهداً إبرام عقد مع الدولة، ولكن هذا الإنجاز المبدئي مع بعثة الصندوق وليس مع إدارة الصندوق، تصحبه إجراءات وشروط مسبقة تحتوي على فجوات كبيرة، ووعود من دولة فاقدة الصدقية.
انّ محاكاة الصندوق تركّز في الدرجة الاولى على إدارة الخسارة بدلاً من ان تتجّه نحو الإجراءات التي تؤدي الى تعافي الاقتصاد واستعادة الثقة. انّ الاعتقاد السائد انّ صندوق النقد هو المخلّص والمنقذ للأزمة هو محض افتراض وهمي، وقد ساهم في تأجيل الإصلاح. الحاجة الماسة هي في التوصل الى حل يحافظ على إدخار المواطن وليس هدمه، لأنّ المواطن هو عماد الوطن وليس السلطة. ويتوجب على السلطة وصندوق النقد ان يلتزما الشفافية التامة، وان يبتعدا عن أسلوب إمرار القوانين والتشريعات تحت شعارات زائفة.
تُطالعنا الحكومة والصندوق انّهما ينويان توزيع الخسائر بنحو عادل، ولكن قوام العدل عندهما يخضع للمساومة والاستنسابية، ويبدو في نظرهما تكريماً للمذنب واتهاماً للبريء. ويتابع صندوق النقد الدولي، انّ توزيع الخسائر هو أحد ركائز الحلول المهمة للجهاز المصرفي وللأزمة المالية. وانتاب المواطن الغضب والرعب، لأنّ مؤسسة دولية مثل صندوق النقد، تقف الى جانب سلطة تُعتبر من الأفسد في العالم، ويطلب شروطاً مسبقة تخدم المصارف والسلطة وليس المواطن. انّ الاتفاق المبدئي يشكّل شهادة إبراء للسلطة كونها تستهدف تحميل عبء تكلفة الإصلاح على المواطن.
إنّ التعداد لثمانية إجراءات مسبقة في الاتفاق بين بعثة الصندوق ورئيس الحكومة لن تؤدي الى تعافي الاقتصاد، وستكون لها آثار مغايرة، واهمها تدهور الثقة واستمرار الكساد. إذ لم يؤخذ في الاعتبار: المعرفة المحدودة بالإصلاح، غياب الرغبة والقدرة على إصلاح السلطة.
انّ اهم الإجراءات المقترحة تتمثل بتحميل معظم الخسارات للمواطن، واستمرار تعدّد أسعار الصرف وتنفيذ قانون «الكابيتال كونترول» الذي سيقمع الاستثمارات الخاصة. انّ الضوابط على تدفقات رأس المال الخارجية تساهم في الحدّ من الانضباط المالي والنقدي، وتؤدي إلى تشوهات تؤثر سلبًا على النمو والتوظيف، وتثبط الاستثمار، وترفع تكاليف التمويل، وتحدّ من تدفقات رأس المال من الخارج. كما انّ القانون المقترح في حدّ ذاته ينبع من مفهوم سوء تصوره. إنّه مزيج غريب من القيود المفروضة على عمليات سحب الودائع المصرفية والرقابة على تدفقات رؤوس الأموال الخارجية ومعاملات الحساب الجاري. وغالبية الاقتراحات المتبقية تتكون من استراتيجيات وقوانين وليست إجراءات فعلية. وهي كفيلة بلجم الاقتصاد ولا تبني قاعدة للنمو، كما أنّها لا تبني الثفة، وستهدم الركائز الأساسية للاقتصاد اللبناني.
انّ شطب الودائع كحلّ يدل في وضوح الى انّ الحكومة تفتقد الرؤية الصحيحة للإصلاح. فشطب 72 مليار دولار على الأقل من الودائع من خصوم ميزانية المصارف سيقابله شطب موازٍ من أصول المصارف والتزامات مصرف لبنان ودين الدولة. المصارف رحّبت به، فقد اعلنت انّها تؤيّد الاتفاق المبدئي مع بعثة الصندوق لكونها بُرأت من ديونها.
ولأننا لا نملك ترف الوقت، كما تردّد الحكومة، فعليها عدم الانتظار والتحلّي بالجرأة والقيام فوراً بالآتي:
التحرير الكامل لسعر الصرف، ولهذا الإجراء وقع مباشر وايجابي وأهمه، انّه:
– يوحّد الدولار المصرفي القديم والجديد حسب سعر السوق، ويُنهي هذه البدعة التي تستهدف شطب الودائع.
– يحلّ أزمة الودائع. فالتحرير سيسمح السحب من الودائع بالدولار بالليرة اللبنانية حسب سعر السوق.
– يُحسّن أداء ميزان المدفوعات، وخصوصاً في السلع والخدمات البديلة.
– يدعم الإدخار وكذلك الاستثمار للقطاع الخاص.
– يدعم النمو الحقيقي في كل القطاعات وخصوصاً قطاعات إنتاج السلع البديلة للمستوردات.
– يحسّن الوضع المالي للدولة لأثره المباشر على زيادة الإيرادات.
– يخفّض الدين العام المطلق.
– يوقف الدعم غير المباشر من خلال تعدّد أسعار الصرف.
– يؤدي الى توقف تدهور سعر الصرف، وإلى ثبات الاسعار.
– يعيد الثقة للجهاز المصرفي إذا أدركت المصارف كيف تتعامل مع المودعين.
– يحدّ من مسؤولية مصرف لبنان وحصرها في مجال السياسة النقدية وتجريده من الاستنسابية في تسعير الليرة.
إنّ خروقات المصارف المتعددة للقوانين واستهتارها بالمودعين لن تعيد الثقة مرة أُخرى ولن تكون سهلة المنال.
إنّ اتباع سياسة موازنات متوازنة سيكون لها أثر ايجابي:
– تساهم في دعم التوازن لميزان المدفوعات.
– تحسين القدرة على استمرارية خدمة الدين.
– توقف الهدر في القطاع العام وتحسّن انتاجية القطاع الخاص ونموه.
ـ إعادة جدولة كل الاصول والخصوم المالية للقطاع العام والخاص، وهذا ينظم القطاع المالي ويعيد الثقة اليه، وينهي ضرورة وضع قيود على انتقال رؤوس الاموال ويوفر بديلاً عادلاً لشطب خصوم واصول المصارف.
ـ البدء في تخصيص القطاع العام ما ينهي الفساد المستشري في هذا القطاع الذي ساهم بمقدار كبير في تراكم الدين وتدهور الاقتصاد، فتصبح ملكيته للمواطنين على نطاق واسع، (ولا يكون احتكاراً للأغنياء)، من خلال سرد أسهمه في بورصة بيروت، مع وضع حدّ أقصى للملكية الفردية. ومن يعتقد انّ الدولة يجب ان تحتفظ بالقطاع العام يكون قد تجاهل او دعم سوء الادارة والفساد السائدين فيه منذ عقود.
اما الانتظار غير المؤكّد حتى التوصل الى اتفاق مع صندوق النقد للحصول على 850 مليون دولار سنوياً لأربع سنوات، فستكون تكلفته باهظة جداً وعلى حساب المواطن.
د. منير راشد محاضر في الاقتصاد في الجامعة الأميركية
«إفلاس» لبنان ليس حديثاً ولا عابراً
أطلعنا أحد المسؤولين الموكلين على إدارة البلد أنّ لبنان قد أفلس، والحقّ يُقال، أنّه سرعان ما تراجع عمّا صرّح به، وحاول تفسير مقصده. وكان وقعه لدى المواطن اللبنانيّ أليماً، وانتشر الخبر عبر وسائط التواصل الاجتماعيّ، والقنوات الإخباريّة بسرعة، لدسامته، ولأنّ البلد ضعيف و«جسمو لبّيس» لأيّ نوع من الإشاعات. اليوم، وبعيدًا من تاريخ الإعلان «المشبوه» الذي ابتغى تمرير قانون الحجز على الأموال «الكابيتال كونترول»، سنتناول مصطلح الإفلاس، ونبحث في إمكانيّة إطلاقه على دولة ما، لأنّ هذا الأمر ليس بحديث، فالدولة اللبنانيّة توقّفت عن دفع مستحقّاتها منذ سنتين، ولا يمكن أن يكون حديثًا عابرًا، ونعاود حياتنا وكأنّ شيئاً لم يكن، وقبول الشعب بأيّ قرار يستّر على سمعة بلده «المفلس».
إنّ قائمة البلدان «المفلسة»، أي الّتي تخلّفت عن السداد عبر التاريخ طويلة. ففرنسا، على سبيل المثال، تخلّفت عن الدفع 8 مرّات، كان آخرها العام 1812، عندما تركت التوسّعات النابوليونيّة البلاد منهكة اقتصاديًّا، وغير قادرة على الوفاء بالتزاماتها الماليّة تُجاه دائنيها. بين عامي 1975 و2008، تخلّفت ما لا يقل عن 71 دولة عن سداد ديونها السياديّة، على سبيل المثال لا الحصر: كرواتيا في العام 1996، روسيا في 1998، أوكرانيا في 2000، وفنزويلا في 2004، وجميعها أثبتت عدم قدرتها على سداد ديونها. كما أنّ اليونان ليست غريبة عن هذه الظاهرة، حيث انّ الحكومة اليونانيّة، لم تفِ بالتزاماتها الماليّة في كلّ عام من أصل عامين.
ويمكن الحديث عن سريلانكا، فهي على وشك أن تُعلن عدم إمكانيّة سداد التزاماتها الماليّة. فقد وافقت الحكومة على اللجوء إلى صندوق النقد الدوليّ، وأعلن الرئيس السريلانكيّ أنّه سيعمل مع الأخير لإيجاد حلّ للأزمة الاقتصاديّة والماليّة غير المسبوقة الّتي تمرّ فيها البلاد منذ أشهر عدة، إذ يتصاعد الغضب في ظلّ شحّ كبير في السيولة، وانقطاع الكهرباء الّذي يقطع وتيرة الحياة اليوميّة للمواطنين، الّذين يفتقرون إلى الأدوية والبنزين، وكذلك بعض المنتجات الغذائيّة الأساسيّة. كما لم تَعُد الدولة قادرة على تمويل وارداتها. كما انخفضت احتياطات النقد الأجنبيّ في العامين المنصرمين بنسبة 70% مع خفض التصنيف الإئتمانيّ من قِبل وكالات التصنيف العالميّة، فلم يعد بإمكان سريلانكا الاقتراض من الأسواق الماليّة. كذلك، كانت الدولة قد خفّضت الضرائب قبل أن تنتشر جائحة كوڤيد-19، الضربة الّتي ألحقت الضرر بالقطاع السياحيّ بوجهٍ كبير، وهي مصدر رئيسيّ للنقد الأجنبيّ. وبحلول العام 2020، كانت الحكومة قد فرضت قيودًا صارمة على واردات السلع غير الأساسيّة. وللتذكير، فإنّنا نتكلّم عن سريلانكا، وليس عن لبنان!!!
بوجهٍ عامّ، ثمّة أسباب يمكن أن تؤدّي إلى تخلّف الدولة عن السداد: السبب الأوّل، ظهور حالة غير متوقّعة، مثل حربٍ ما أو أزمةٍ ماليّة من شأنها أن تؤثّر فجأة في سيادة الدولة، وتمنعها من سداد ديونها كما خُطّط لها. وأشهر حالة كانت روسيا في 1917، التي رفضت بعد الثورة البولشفيّة سداد ديون النظام القيصريّ، وفي الوقت نفسه تسبّبت في خسارة مدّخرات العديد من الأُسر الفرنسيّة الّتي استثمرت في القروض الروسيّة. أمّا السبب الثاني، يمكن لدولة ما أن تتّخذ قراراً في التخلّف عن السداد بطريقة «باردة»، مثل الإكوادور في 2000، فاقترحت الحكومة، بسرعة ومن جانب واحد، إعادة هيكلة ديونها، وإعادة جدولتها.
في العودة إلى موضوعنا الرئيسيّ، نجد أنّ مصطلح «الإفلاس» بات يُستخدم بانتظام في وسائل الإعلام، للإشارة إلى حالة الدولة الّتي تمرّ بصعوبات اقتصاديّة كبيرة، ولا سيّما في ما يتعلّق بديونها. كانت هذه حالة اليونان، وإسبانيا، وفنزويلا أخّيرًا، والكثير من البلدان الأُخرى الّتي ذكرناها. والسؤال الّذي يُطرح هنا: هل يمكن أن يُفلس بلدٌ ما؟ وإذا بحثنا من كثب، هل يمكننا القول إنّ لبنان دولة مفلسة؟
لذلك، يجب أن نحدّد مصطلح الإفلاس أوّلًا، فهو يُشير إلى إجراء قانونيّ يتعلّق بشخص، أو شركة غير قادرة على سداد ديونها المستحقّة. إنّه ينطوي على جرد جميع أصول المَدين وتقييمها، الّتي سيتمّ استخدامها بعد ذلك لسداد الديون. وبالتالي، فإنّ حالة الإفلاس تعني العناصر التالية: وجود سلطة أعلى (قاضٍ) تُلزم بفعل شيء ما، وبيع الأصول لدفع الدائنين.
فنستنتج أنّه لا يمكن تطبيق التعريف السابق على بلدٍ ما. أوّلًا، بسبب مفهوم السلطة العليا: فبحكم سيادة الدول، لا توجد سلطة عليا يمكنها إجبار بلد ما على سداد ديونه. حتّى في حالة الاتّحاد الأوروبيّ، تبقى الدول ذات سيادة. إذ يمكن للمنظّمات الدوليّة تقديم المشورة والتشجيع، لكنها لا تملك القدرة على إلزام الدول بأيّ قرار. ومع ذلك، يمكن ممارسة الضغوط، ممّا سيؤدي إلى تلازم السمعة السيّئة بهذه الدولة على الساحة العالميّة، ولن توافق أيّ حكومة أُخرى على إقراضها المال بعدها، أو مجرّد القيام بالتبادل التجاريّ.
وثانيًا، الأمر الّذي لا ينفصل عن مفهوم الإفلاس، هو تحويل الأصول لدفع الالتزامات، أي بيع ممتلكات المَدين من أجل السداد للدائنين: مثلًا، إذا كانت الحالة تخصّ شركة أو فرداً، يمكننا أن نفهم جيّدًا ما يمكن أن يعنيه مصطلح الأصول (آلة، أو منتج، أو المباني، أو المواد، إلخ …). وفي حالة بلدٍ ما، فإنّ المفهوم أقلّ وضوحًا. إذ أنّ أصول الدولة لها شكل معقّد، لأنّ بعضها لا يمكن استبداله، أي لا يمكن بيعه، مثل شبكة الطرق، أو الأرض نفسها، أو حتّى المعالم الأثريّة. وبالتالي، فإنّ العنصرين الأساسيّين المرتبطَين بالإفلاس لا يتوافقان مع مفهوم سيادة الدولة. لذلك، فإنّ المصطلح غير مناسب، ولا يمكن لأيّ دولة أن تُفلس، بمن فيها لبنان، وإن عُرف عن شعبه إبداعاته، وعن حكومته بدعاتها.
لكن يجب علينا التمييز بين حالات التخلّف عن السداد، الّتي يمكن أن تكون متنوّعة تمامًا. عادة ما نتحدّث عن سداد الديون. ولكن في بعض الأحيان، هناك دول ليس لديها أيّ أموال متبقيّة في خزائنها، حتّى لو كان ذلك لشراء الأدوية، أو الطعام فقط. إذا «أفلست» دولة ما إن صحّ التعبير، فلا يمكن تصفيتها مثل أيّ شركة أو مصرف، لأنّ الشركة يمكن أن تتوقف عن الوجود، لكن الدولة لا يمكنها «الاختفاء»، وهذا هو الاختلاف الأساسيّ.
بهذا المعنى، لا يمكن للدولة أن تفلس. فالدولة بحكم تعريفها سياديّة، ولا يمكن حساب أصولها أو جردها. حتّى في أسوأ الأوضاع الاقتصاديّة (الحرب، أو التضخّم المفرِط، إلخ …)، يمكن أن تلجأ الدول إلى ضرائب خاصّة (أو قروض وطنيّة)، أو حتّى التخلّي عن عملتها الوطنيّة من أجل السماح للعجلة الاقتصاديّة معاودة عملها، وبالتالي إيجاد موارد جديدة.
علاوة على ذلك، لا توجد هيئة تنظيميّة على مستوى أعلى من المستوى الوطنيّ يمكنها اتّخاذ قرار بشأن «إفلاس» الدولة. في نهاية القرن الماضي، حاول صندوق النقد الدوليّ تعريف مفهوم «عجز الدولة عن السداد» من أجل طمأنة الدائنين، وكذلك لتخفيف وطأة الدين عن المدينين في صعوبات التدفّق النقديّ، لكنّ المحاولة باءت بالفشل.
بعد هذا العرض، من الّذي يقرّر إذا كانت دولة ما في وضع التخلّف عن السداد؟ أولًّا، الحكومة نفسها، يمكنها، على سبيل المثال، أن تعلن عن تقصيرها بالإعلان عن تخلّفها بالتزاماتها المتعلّقة بالديون. هذا ما فعله لبنان في 9 آذار 2020، وقد كان يتكبّد ديونًا تقدّر بـ 92 مليار دولار أميركيّ، أي نحو 170% من ناتجه المحليّ الإجماليّ. لم تكن الحكومة قادرة حينها على دفع 1,2 مليار دولار أميركيّ من سندات اليوروبوند – سندات الخزانة الصادرة عن الحكومة – المستحقّة عليها. كما وجدت روسيا في العام 1998، والأرجنتين في 2001 نفسيهما أيضًا في الوضع عينه، بعد إعلان وقف سداد ديونهما.
ثانيًا، يمكن لوكالة تصنيف عالميّة أن تعلن رسميًّا عن حالة العجز أو التقصير عن السداد. لأنّ وكالات التصنيف العالميّة هي من تقيّم الملاءة الماليّة لكلّ بلد، بواسطة تصنيف التزاماته، بحيث تخوّل المستثمرين تكوين فكرة حقيقيّة عن الائتمان في الدولة.
أخيرًا، يمكن أن يُعلَن عن التقصير في السداد من قِبل رابطة «إيسدا» (ISDA) الّتي مقرّها في الولايات المتّحدة الأميركيّة، والّتي تضبط مقايضات الإئتمان، وهو نوع من التأمين ضدّ تعثر دولة، أو شركة، أو من دائن خاصّ، فتكشف أنّ الدولة قد توقّفت عن السداد.
لذلك، عندما تعلن دولة ما عن تخلّفها عن السداد، يجتمع دائنوها للتفاوض ومحاولة استرداد جزء من رؤوس أموالهم. وثمّة خياران: يمكن الدائنون اختيار إعادة هيكلة ديون الدولة أو شطبها. على أيّ حال، فإنّ التخلّف عن السداد لا يخلو من عواقب. فالدول الّتي تُعلِن عن تقصيرها في السداد، تخاطر بالتعرّض لعقوبات دوليّة، أو عدم قدرتها على الاقتراض من الأسواق الماليّة في المستقبل.
في المواقف الاقتصاديّة الخطيرة للغاية (وما أخطر حالتنا في لبنان)، عندما يغرق بلد ما عميقًا في تعثّره الاقتصاديّ، من الممكن مطالبته بالمساهمة الجزئيّة، فقد لا يكون قادرًا، في لحظة معينة، على سداد ما عليه، حينها إمّا يحاول أن يجد الأموال بوجهٍ عاجل عن طريق الخصخصة، أو الاقتراض. أو أنّ البلد لا يستطيع إيجاد مستثمر يقرضه، لأنّه فقد الثقة لدى الدائنين في قدرته على سداد المزيد من القروض.
كما يمكن الدولة أن تسعى للحصول على تمويل من دول أُخرى، لكن قد تُفرَض عقوبات دوليّة على البلد، أو الأفراد، أو حتّى مصادرة أصول الدولة خارج أراضيها. على الرغم من نجاح المساهمات التعدّديّة، سيُترك الأمر لصندوق النقد الدوليّ لإقراض الدولة. فدوره يتمثّل في ضمان الاستقرار الماليّ الدوليّ. وسيتمّ الاقتراض بشرط أن «يتعافى» البلد، وهذا ما يتمّ الآن في لبنان بعد أن حصل على 3 مليارات دولار أميركيّ ضمن خطّة إنقاذ يُفاوض عليها. من ناحية أُخرى، لطالما اتُّهم صندوق النقد الدوليّ بالتركيز أكثر على الإنفاق من أجل هذا «الانتعاش»، وبأنّه يمتلك تنظيمًا اقتصاديًّا ليبراليًّا مفرطًا، وهو الآن في موقع أضعف، بسبب طرقه الخاطئة وشحّ موارده.
هكذا، نجد أنّ الوضع الاقتصاديّ المُزري في لبنان ليس «حديثًا»، فيعود الأمر إلى سنين كان المواطن فيها يُعطي الفرصة تلو الأُخرى للتشكيلة الحاكمة نفسها، كما أنّ ضياع تعب اللبنانيّ في مهبّ الريح ليس أمرًا «عابرًا»، وهو حقّ سيستردّه…
أخيرًا، في ظلّ تعثّر البلد عن استحقاقاته الماليّة، نراه أمام استحقاقٍ آخر «انتخابيّ». وللبنان دينٌ علينا يجب أن نُسدّده بكلّ امتنان. فحرّيّتنا الّتي وُهِبنا أغلى من أن تُثمّن، وأسمى من أن تُدفن من دون أن تُستثمر في صناديق الاقتراع. وليطمئن اللبنانيّ، فمهما حاولوا تهويل المشهد قبل الاستحقاق الانتخابيّ، ثمّة حقيقة دامغة لا تتغيّر في تاريخ لبنان بالرغم من تعثّراته الماليّة… البلد يبقى والمسؤولون الفاسدون هم وحدهم من يُفلسون، فلا يمكنهم أن يقايضوا أرزه وجماله وآثاره، أو يقامروا بإرثه وثرواته، أو يتاجروا بأرضه وثبات شعبه، أو يبيعوا قيمه وأصالته. فهذه الكنوز ملك الشعب الحرّ، ولن يسلبها منه أحد.
ب.ندى ملاح البستاني
ما بعد الانتخابات… 8 حقائق لا مفرَّ منها
لماذا يتعاظم القلق حيال المرحلة التي قد تلي الانتخابات النيابية، وهل صحيح انّ الأسوأ سيأتي بعد انتهاء استحقاق ايار، وان ما عاناه اللبنانيون حتى الآن ليس سوى البداية؟ وما هي المؤشرات الواقعية التي قد تسمح وتبرّر هذا القلق الشعبي القائم؟
ليس من السهل قراءة المعطيات المتعلقة بمرحلة ما بعد الانتخابات النيابية لأسباب عدة، لا علاقة لها بالنتائج التي قد تفرزها هذه الانتخابات على صعيد موازين القوى السياسية في المرحلة المقبلة، بقدر ما لها علاقة بالسيناريوهات التي قد تطرأ على المشهد، وتجعل كل القراءات غير دقيقة. والمقصود هنا، ما قد يجري خارجياً، وينعكس مباشرة على المشهد الداخلي اللبناني.
ومع ذلك، يمكن سرد المعطيات المتوفرة حالياً، بصرف النظر عن اي متغيّر قد يستجد لاحقاً، ومن أهمها ما يلي:
اولاً- سيستفيق اللبنانيون في حزيران المقبل على حقيقة جديدة تتعلق بحجم احتياطي العملات الأجنبية المتوفرة في مصرف لبنان. وسيتبيّن انّها تراجعت بنسبة لا يُستهان بها قياساً بما كانت عليه في نهاية 2021، (حوالى 12 مليار دولار)، وستتراوح بين 6 و7 مليار دولار. ومع احتساب الفواتير المؤجّلة الدفع، قد تتراجع ما دون هذا الرقم. وهذا يعني، وإذا ما اعتبرنا انّ خطة التعافي التي تمّ الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي، سوف تُنفّذ، انّ المبلغ المتبقي بالكاد يكفي لتسديد الودائع الصغيرة ما دون الـ100 الف دولار.
ثانياً- ما ان تنتهي الانتخابات النيابية حتى يبدأ التجاذب السياسي تحضيراً للانتخابات الرئاسية. ولن تكون الأجواء السياسية في حال استرخاء للمراهنة على انّ الملف الاقتصادي والمالي سيحظى بالاهتمام الذي يستحق.
ثالثاً- من المعروف انّ الملفات القضائية الساخنة المتعلقة بحاكم مصرف لبنان، والتي يرى البعض انّها متصلة بالسياسة، سوف يُعاد تحريكها، على اعتبار انّ «الاتفاق» الذي فرض تجميد هذه القضية، تنتهي مهلته مع انتهاء الانتخابات.
رابعاً- تماماً، كما هي الحال بالنسبة الى الشعبوية التي فرضت نفسها قبل الانتخابات لاسترضاء الناخبين، فإنّ الشعبوية بمفهوم آخر يتعلق بحسابات إرضاء القوى في الداخل، ودول في الخارج، قد تؤدي بدورها الى عرقلة اتخاذ القرارات الإنقاذية بموضوعية، ونكون قد عُدنا الى مربع اتخاذ القرارات على خلفية الحسابات والمصالح السياسية، بما يُصعِّب الوصول إلى معالجات جذرية للكارثة المالية والاقتصادية التي وصل اليها الوضع.
خامساً – إذا كانت الضغوطات الطارئة قد أدّت اليوم، ورغم قرار ضخ الدولارات من قِبل مصرف لبنان في السوق لتهدئة سوق الصرف، الى اهتزاز الاستقرار النسبي في سعر الدولار، وعودته الى الارتفاع التدريجي، حيث لامس عتبة الـ28 الف ليرة، فكيف سيكون الحال عندما يوقف مصرف لبنان نهائياً ضخ الدولارات، ويعود الى موقفه السابق الذي كان يتبعه قبل الاتفاق الذي تمّ بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة في كانون الاول 2021، وباشر بموجبه المركزي ضخ الدولارات في السوق، ونجح في خفض الدولار من 33 الف ليرة، الى ما بين 21 و22 الف ليرة، قبل ان يعاود التفلّت الجزئي في الايام القليلة الماضية؟
سادساً- تفيد التقارير والوقائع، انّ الحرب الروسية على اوكرانيا طويلة المدى، ولن تنتهي في الاسابيع القليلة المقبلة. وبالتالي، ستبقى أرقام التضخّم على مستوى الاقتصاد العالمي تنحو في اتجاه الارتفاع، بما سيؤدّي الى ضغط مالي اضافي على اللبنانيين، بسبب ارتفاع اسعار كل السلع المستوردة، وفي طليعتها النفط، بحيث ستكون القطاعات الإنتاجية تحت الضغط، وكذلك الخدمات المتعلقة بالكهرباء وما يتفرّع عنها. وإذا أضفنا الى هذا الواقع، انّ العقد الموقّع مع العراق لاستيراد الزيت الثقيل لتشغيل معامل الكهرباء بالحدّ الأدنى، سينتهي في الصيف المقبل، نستطيع ان نرسم في مخيلتنا صورة الوضع الذي سيكون سائداً في لبنان.
سابعاً- مع وجود نسبة مرتفعة من اللبنانيين العاملين في الخارج، وهي نسبة تكاد تكون الاكبر في العالم، ورغم إيجابيات هذا الوضع الذي يساهم في دخول كميات جيدة من العملات الصعبة الى البلد، إلّا أنّ الوجه الآخر السلبي يتمثل في نوع من الطبقية الجديدة التي قد تساهم في تنمية الإهتزازات الأمنية على خلفية «الصراع» بين فئة لا تزال تتمتّع بقدراتها الشرائية المرتفعة، وفئة مُعدمة شبه «جائعة» ارتفعت نسبتها من حوالى 10% قبل الأزمة في العام 2019، الى حوالى 35% اليوم، وفئة فقيرة ارتفعت نسبتها من حوالى 35% قبل الأزمة الى حوالى 70% بعدها.
ثامناً- يبدو انّ لبنان قد حُذف عن خارطة الدول التي يُعوّل عليها في عملية المساهمة في إمدادات الغاز، وبالتالي، قد تكون الآمال بالإفادة من الثروة الغازية في البحر اقتربت لتصبح سراباً.
كل هذه الوقائع تبرّر القلق والرعب حيال ما سيكون عليه المشهد في الصيف المقبل. مع الإشارة، الى انّ السيناريو الإيجابي يبقى قائماً، في حال حصل اتفاق في الخارج على تسهيل انتخاب رئيس لا ينتمي الى أي من المحورين المتصارعين، يترافق مع قرار بتسهيل حصول الإصلاحات المطلوبة تمهيداً لبدء عملية الإنقاذ والخروج التمهيدي من النفق. ومع ذلك، لن تكون مرحلة الخروج سهلة او سريعة، والأصعب أن لا مؤشرات حتى الآن انّ هذا الاحتمال مُرجّح.
انطوان فرح
الكابيتال كونترول هدية ملغومة أو إصلاح بنّاء؟
«الكابيتـال كونترول» هو مجموعة ضوابط وقيود إستثنائية ومؤقتة تضعها الحكومة ويقرّها مجلس النواب بموجب قانون لضبط تهريب الرساميل والعملات في الأزمات لتحقيق الإستقرار النقديّ والماليّ، والحدّ من حالات الهلع والذعر.
جاء المشروع الأخير لقانون الكبيتال كونترول متأخراً كثيراً، بعد اكثر من سنتين ونصف السنة من المراوحة وضياع الوقت بسبب عدم الواقعية بالدرجة الأولى، وايضا لأسباب مشبوهة وخصوصاً لطمر الرأس في التراب وعدم مواجهة وعدم إدارة أكبر أزمة إقتصادية في العالم.
لا شك في أنّه لا يوجد مشروع «الكابيتال كونترول» ومن المستحيل إقرار مشروع ينال موافقة ودعم جميع الأفرقاء. فبعد مرور فترة زمنية طويلة على بداية الأزمة، إن الهدف الأساسي هو ضبط العملات الصعبة في البلاد شرعياً ورسمياً وعادلاً، وعدم تحويلها الى الخارج باستثناء ما هو مرتبط بالقضايا الإستشفائية والضرائب والتعليم وخصوصا التجارية والصناعية. لكن المهم عدم المَس بما يسمّى «الفريش كاش» وعدم إقرار أي ضوابط عليها لأن ذلك سيُهرب كل المستثمرين والاستثنارات.
من جهة أخرى من المهم جداً أن يكون هناك لجنة لتنفيذ وملاحقة هذا المشروع مكوّنة من مدقّقين مستقلين دوليين وليس من أصحاب المصالح الداخلية.
كما يجب أن يتزامن هذا المشروع مع إعادة هيكلة المصارف وعودة الثقة بالقطاع المصرفي لأنه من دون القطاع المالي والنقدي لا يوجد إقتصاد ولا تبادل تجاري ولا تصدير ولا إستيراد. الجدير بالذكر أيضاً أن على هذا المشروع أن يُطبّق لفترة محددّة وإستثنائية تتزامن مع إصلاحات جديّة، وليس لفترة طويلة، وأن يكون محفّزاً للإقتصاد، فلا يتعارض مع النظام الليبرالي الحرّ الذي يتمتع به ويعتمده لبنان، وأن يُقيم المساواة بالتعامل بين كل اللبنانيين، ونشدد على اننا متمسكون بالاقتصاد الحر والتبادل التجاري وسنواجه اي محاولة لجَرّنا الى اقتصاد موجه لا يشبه لبنان ولا تاريخنا ولا جذورنا.
فالكابيتال كونترول هو شر لا بد منه لكن الشيطان يكمن في التفاصيل، أما في لبنان فيكمن أيضاً بالتنفيذ والملاحقة.
د. فؤاد زمكحل
تصنيف لبنان من الدول الأكثر فشلاً في العالم … بالارقام
يبدو وكأنّ الدولة اللبنانية أو ما تبقّى من اشلائها منهمكة في أمور قد تكون أكثر أهمية مما نحن عليه الآن، لاسيما وأنّ المحادثات مع صندوق النقد ورغم تقدّمها الخجول، ومعضلة الكهرباء التي ما زالت تفتش عن حلول آنية، غير جدّية.
قد يكون تصنيفنا من الدول الأكثر فشلاً في العالم بعد السودان واليمن والصومال ليس بالشيء الغريب، لاسيما وأنّ المسؤولين عندنا في الدولة العتيدة غير مسؤولين إلّا عن خرابنا وانهيارنا، وباتوا يشكّلون عبئاً كبيراً يستلزم ثورة جدّية تطيحهم كلهم وأعني كلهم. وإذا كانت الأرقام تعبّر ولو بالشكل عن واقع الحال، فإنّ واقعنا مرير وأرقامنا باتت واضحة للعيان.
– من حيث الفشل، وحسب أرقام 2021 نحن في المركز 34 دولياً.
– من حيث مشكلة اللاجئين، لدينا 1.7 مليون لاجئ، وهي أكبر نسبة عالمية قياساً إلى مساحة البلد وعدد سكانه.
– من حيث الدين العام بات يشكّل 161 بالمائة من الناتج المحلي.
– من حيث الخدمات العامة، تجاوز انقطاع التيار الكهربائي الـ20 ساعة في النهار وبالتحديد 22 ساعة.
– من حيث تهريب الأموال للخارج، فقد تخطّت نسبتها 9 مليارات دولار، وكلها تعدّ لأصحاب النفوذ من سياسيين وأصحاب مصارف وقلة قليلة من المودعين.
– من حيث الفساد، نعدّ من أكثر الدول فساداً، فمرتبتنا 154، وتعدّ هذه المرتبة من أعلى المراتب.
– من حيث التصنيف من قِبل مؤسسات التصنيف العالمية فنحن بمستوى C وD .
– من حيث التضخم، أصبحت مستوياته في مرحلة الخطر وتخطّى عتبة الـ200%.
– من حيث البطالة، فقد تكون الأرقام خيالية، ولكنها وحسب مركز الإحصاء 6.5%، وفي الواقع قد تكون تخطّت الـ60%.
– من حيث الدول المستدينة، نأتي في الدرجة الثالثة بعد اليابان واليونان، علماً أنّ اليابان عندها اقتصاد قوي، واليونان بدأت سداد ديونها لصندوق النقد الدولي، وعلماً أنّ لبنان وحسب إحصاءات 2020 بلغ معدل ديونه 61.8% مقارنة بالناتج المحلي.
كلها معلومات دولية وإحصاءات يمكن الركون إليها، كون الإحصاءات اللبنانية غير موجودة وغير متفق عليها، وكأنّها مشكلة وجب حلّها وليست واقعاً وجب تحديده.
الدول الفاشلة تشمل سلسلة واسعة من الحالات: ضعيفة بطبيعتها بسبب قيود جغرافية أو مادية أو اقتصادية – قوية أساساً ولكنها ضعيفة مؤقتاً، أو ظاهرياً بسبب العداوات الداخلية أو عيوب الإدارة، الجشع والفساد وإمّا خليط من الإثنين، وهذا ما ينطبق فعلاً على لبنان، لاسيما مع حدود غير مضبوطة ووضعية هشة وسوء في الإدارة وجشع وفساد، وأقل ما يُقال فيه أننا أصبحنا في جمهورية الموز .
وفي تصنيف الدول الفاشلة، هو أنّ الحكومات أصبحت غير قادرة على توفير الوظائف والمسؤوليات الأساسية لدولة ذات سيادة، مثل الدفاع العسكري أو تطبيق القانون أو العدالة أو التعليم أو الاستقرار الإقتصادي. وكلها أمور مشكوك في أمرها. لبنان لا يطبّق القانون العادل بل القانون الاستنسابي، وهو يُطبّق على بعضهم ويستثني البعض الآخر، ولا الإستقرار الإقتصادي موجود ولا أدنى مقومات العدالة والتعليم والطبابة متوفرة، وفي حالات كهذه تفقد الدول مقوماتها البديهية وتدخل في متاهة الانحلال.
والأهم يبقى أنّ الدول الفاشلة تفقد ثقة الناس، وتعاني من الفساد والفقر والبنية التحتية المتداعية وعدم الكفاءة القضائية والتدخّل الميليشياوي في السلطة والقضاء. وخير مثال على هذه الدول اليمن، التي تُعتبر منذ العام 2019 الدولة الأكثر فشلاً في العالم، تليها الصومال وجنوب السودان وسوريا وحالياً لبنان. وأبسط الأمور أننا أصبحنا دولة مفلسة غير قادرة على تأمين أدنى مقومات الحياة الكريمة، لاسيما مع الضغوطات الديمغرافية (الإمدادات الغذائية والوصول الى المياه الصالحة للشرب) مع التدخّل الخارجي وتأثير الجهات الخارجية السرية والعلنية. والخدمات العامة الأساسية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، كلها أمور غائبة.
بالإضافة الى مؤشرات الانهيار الإقتصادي والتنمية غير المتكافئة وعدم المساواة في الداخل، أضف إلى ذلك هجرة الأدمغة والانقسامات في فئات المجتمع. ويبدو أنّ تسلسل لبنان في مؤشر هشاشة الدولة العام يتراجع بشكل مخيف، مع انهيار مالي كامل وسقوط آخر حصن في ميزات لبنان، القطاع المصرفي، وعدم قدرة البنك المركزي على المواجهة ومع إصداره تعاميم فاقت المعقول.
وإذا كان مؤشر الدول يعتمد على 12 مؤشراً إجتماعياً – إقتصادياً وسياسياً، بما في ذلك الضغوط الديمغرافية والفقر والتدهور الإقتصادي وشرعية الدولة وحقوق الإنسان وسيادة القانون والنخب المنقسمة والتدخّل الخارجي، نرى أنّ ذلك ينطبق حرفياً على لبنان، كوننا استوفينا جميع الشروط.
ومن الواضح أنّ هناك حاجة إلى مبادرات جديدة تتخطّى نطاق صندوق النقد الدولي – تكون مبتكرة وجذرية، حيث تنتقل البلدان من حالة الفشل إلى حالة الإستقرار – وقد لا يكون ذلك في ظل رهبة السلاح المتفلت والجماعات الإرهابية، مما يؤدّي من بين أمور أخرى إلى مستنقع محفوف بالمخاطر يستدعي تدخّل القوى الأجنبية لرعاية الدولة الفاشلة وقد تكون الأمم المتحدة الشرعية، الوحيدة في هذه الحال.
بقي القول إننا في مرحلة زوال لكيان الدولة، وسببها زمرة سياسية فاشلة غلّبت مصالحها الخاصة على مصالح البلد. وقد نكون بحاجة لاستفتاء عام عن أي لبنان نريد، وقد تكون الفيدرالية واحدة منها، كوننا أستوفينا جمبع شروط الدول الفاشلة وبالأرقام.