أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

ما سرّ سكوت الدائنين… وماذا يُحضِّرون للبنان؟

هل هناك لغز أو أسباب منطقية في ملف الديون الخارجية (اليوروبوند)، حالت حتى الآن دون تحرُّك الدائنين الأجانب، لمطالبة لبنان بمليارات الدولارات العالقة في محافظهم الاستثمارية؟

11 شهراً مرت على اعلان حكومة حسان دياب المستقيلة التوقّف عن دفع الديون السيادية بالدولار، والتي تبلغ قيمتها حوالى 31 مليار دولار موزّعة بين صناديق استثمار أجنبية ومصارف لبنانية ومصرف لبنان، بالإضافة الى نسبة قليلة بين يدي أفراد أجانب أو لبنانيين. ومن المعروف انّ عملية التوقّف عن دفع هذه السندات، أدّت الى خفض تصنيف البلد الى مستوى التعثّر، في حين انّ الامر ليس مماثلاً بالنسبة الى سندات الدين بالليرة، والتي لم تعلن الدولة حتى اليوم التوقّف عن دفعها. وقد بادرت المصارف اللبنانية التي تحمل القسم الأكبر من هذه السندات (بالليرة)، الى الطلب من الدولة عدم اتخاذ أي خطوة في اتجاه اعلان وقف الدفع، وتعهّدت المصارف بتقديم التسهيلات اللازمة لجهة تجميد الفوائد، وتأجيل الاستحقاقات لتسهيل المهمة على الدولة.

هذا الواقع يعني انّ الكارثة المالية التي حلّت بالبلد، جزءٌ أساسي منها يرتبط بالتوقف عن دفع اليوروبوند. وعندما قرّرت حكومة دياب وقف الدفع، كانت التقديرات تشير الى حوالى 7 مليارات دولار فقط يحملها مستثمرون أجانب، في حين انّ بقية المبلغ كانت في حوزة المصارف التي كان يمكن الاتفاق معها على تسوية تجنّب البلد اعلان الافلاس، مع ما يستتبعه من تداعيات يعرفها أصحاب الخبرة، بناء على تجارب كل دول العالم التي واجهت وضعاً مماثلاً. والمفارقة هنا، انّ سياسة الدعم التي اتُبعت بعد آذار 2020، كلّفت حتى الآن، وفي خلال الـ11 شهراً الماضية، حوالى 7 مليارات دولار، الذي من أجله قرّرت الحكومة اعلان الافلاس!

اليوم، ليس أكيداً ما هو حجم سندات اليوروبوند التي أصبحت في حوزة الأجانب، خصوصاً انّ البعض يؤكّد انّ المبلغ ارتفع بسبب عمليات شراء اضافية قامت بها المؤسسات التي تحمل السندات بأسعار متهاودة، بهدف خفض كلفة السندات، بحيث ينخفض المعدل الوسطي في المحافظ الاستثمارية من 78 سنتاً الى 50. وهو سعر يعتبر المستثمرون انّه يسهل تحصيله مع ارباح عندما يحين موعد التسوية.

لكن المفارقة التي بدأت تثير تساؤلات، ترتبط بسياسة الجمود التي يتّبعها المستثمرون الاجانب حَمَلة اليوروبوند، وهم غائبون عن السمع، لا يدلون بتصريح، ولا يقومون بأي تحرّك. فهل هناك ما يُقلق في هذا الموقف؟

جرت العادة في مواقف مماثلة أن تكون الحكومات هي المستعجلة على فتح قنوات التفاوض مع الدائنين، بهدف الانتهاء من المشكلة للتمكّن من بدء خطة الخروج من المأزق، والعودة الى الاسواق العالمية. فما هي الاسباب والمعطيات التي تدفع حَمَلة اليوروبوند الأجانب الى هذه البرودة في التعاطي مع الملف؟

التفسيرات التي يمكن أن توضح خلفيات هذا الوضع، ترتبط بالاحتمالات التالية:

اولاً- جائحة «كوفيد- 19» التي جمّدت الكثير من التحركات، وأوجدت أزمات قد تكون أكبر وأخطر من ملف متابعة تحصيل دين من دولة مُفلسة. ومن المعروف انّ الجائحة تؤدّي الى تمديد المِهَل على كل الأصعدة، وبالتالي، يمكن اعتبار موقف الصناديق المستثمرة في الدين السيادي اللبناني بمثابة تمديد قسري للمِهَل، ليس إلّا.

ثانياً – حال التخبّط والانهيار في البلد، وعدم وجود حكومة لتحصيل الحقوق، قد يدفع المستثمرين الى التريث، بانتظار ولادة حكومة يمكن التفاوض معها.

ثالثاً – عدم توفّر موجودات واضحة للدولة في الخارج (اذا استثنينا الذهب) تسمح بوضع اليد عليها، قد يندرج في لائحة الأسباب التي تعيق أي تحرّك للدائنين. أما استثناء الذهب، والذي توجد منه كمية في الخارج كافية لتأمين 6 أو 7 مليارات دولار، فيعود الى انّ المعدن الاصفر لا يزال تحت وصاية المصرف المركزي الذي يتمتّع بحصانة لا تسمح للدائنين بمصادرة أي من موجوداته لتعويض دين على الدولة.

رابعاً – انتظار بدء تفاوض لبنان مع صندوق النقد الدولي لتبيان خطوط الخطة الإنقاذية، والمبالغ التي ستُؤمّن للتمويل، لأنّها قد تشكّل مرتكزاً يتمّ الإستناد اليه لتحديد السقف الذي يمكن بلوغه في تعويضات الدين.

خامساً – قد يكون من مصلحة الدائنين تمرير الوقت، طالما انّ الدولة توقفت عن دفع الفوائد على اليوروبوند، وبالتالي سيكون من حق حاملي السندات المطالبة بتعويضات اضافية بدلاً من الفوائد غير المُسدّدة.

سادساً – ليس مستبعداً أن يستفيد حاملو السندات من مرور الوقت، وتراجع قدرة حاملي السندات المحليين على الصمود، بما قد يضطرهم الى بيع المزيد من هذه السندات بأسعار زهيدة جداً، تسمح بالاعتقاد انّ امكانات الربح تصبح أكبر عندما يحين موعد التسوية مع الجهة المُصدِّرة لهذه السندات.

كل هذه الاحتمالات واردة، بعضها أقرب الى المنطق من بعضها الآخر، وقد تجتمع عوامل عدة لتعطي النتيجة نفسها. لكن الواضح انّ الدولة اللبنانية لا تشعر بالضغط، وانّ الدائنين ينامون على دينهم المتعثّر، حتى أنّهم لم ينجزوا بعد الخطوات الاولى المتمثلة بتكوين مجموعات عمل قانونية تمثل الدائنين، ليكونوا جاهزين للتفاوض أو التوجّه الى القضاء عند الحاجة. وليس معروفاً بعد، اذا كان يمكن الاستنتاج انّ البلد محظوظ وانّ موقف الدائنين يُريحه ولو الى حين، ام انّ ما يُحضّر في هذا الملف أخطر من ذلك، وستتضح خطوطه بعد حين.

انطوان فرح.

تحرير الليرة “كلام فارغ”

بعدما أضحى سؤال، “قديش الدولار اليوم”، كالرغيف اليومي، طالع حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة الشعب اللبناني بتحرير سعر الصرف المرتقب، ليوضح لاحقاً أن التحرير مرهون بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. التوضيح وما قبله يصبان في الإطار ذاته، “انتهاء عصر تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار”، لكن كيف ينعكس الأمر على الاقتصاد اللبناني والمواطن المنهكين أساساً؟

بالعودة إلى أساس المعضلة التي ستحُل بتلبية أول شروط نقد الدولي بتحرير سعر الصرف، يرى الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي، أن “الخطأ الأساسي بدأ عام 1993 مع اعتماد مصرف لبنان المركزي سياسية تثبيت سعر الصرف، عبر تقويته بقرار مركزي وتثبيته لاحقاً من خلال اعتماد سياسة الفوائد المرتفعة جداً التي رُبطت عضوياً بثبات سعر صرف الليرة اللبنانية”.

“سياسة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كانت مكلفة جداً”، برأي يشوعي، معتبراً أنه “كان يجب تثبيت سعر الصرف لغاية عام 1995 ومن ثم اعتماد نظام القطع المرن، إذ انفقنا عشرات ملايين الدولارات لدعم سعر وهمي لليرة اللبنانية، ما فصل النقد عن الاقتصاد على الرغم من عدم انفصالهما، ومنع بناء اقتصاد منتج”.

يؤكد الخبير الاقتصادي، أن “ثبات سعر صرف النقد يتعارض مع السياسة الاقتصادية النقدية العالمية بعد سقوط اتفاقBretton woods ، وربط سعر العملات بنتائج الاقتصاد ولا بقرارات المصرف المركزي أو الذهب. هذا الخطأ دمّر اقتصاد لبنان وفاقم الديون على القطاعين العام والخاص، ولم يعد للمركزي قدرة السيطرة على سعر الصرف، إذ نشأت السوق الحقيقية ـ أي الحرة ـ التي تحدد سعر الصرف المرن”، مشيراً إلى أن “الدولار مفقود بسبب فجوة الـ54 مليار دولار الموجودة في البنك المركزي”.

“سقط قرار المركزي بتحرير سعر الصرف، لصالح اقتصاد السوق الحرة وسوق العرض والطلب، إذ ان الأسواق تفرض نفسها”، بهذه الكلمات يختصر يشوعي في حديثه لموقعنا، موضوع تحرير سعر صرف الليرة.

“لينزل سلامة عن منصاته”

السوق الحرة وإمكانية حكومة جديدة باستقدام الرساميل من الخارج، يحددان سعر الصرف، بحسب يشوعي، الذي ينتقد منصة مصرف لبنان، قائلاً “لينزل سلامة عن منصاته”، مشيراً إلى أن أسعار المنصة غير مجدية وغير واقعية.

ويعتبر الخبير الاقتصادي أن سعر الصرف في لبنان تحرر أصلاً، والحديث عن تحرير سعر الصرف “كلام فارغ”، موضحاً أن “المركزي اليوم أصبح أضعف من أضعف مضارب في السوق الحرة، مع الأسف”.

لا سقف لسعر الصرف

للحفاظ على سقف الـ8500 ليرة لبنانية أو أدنى للدولار الواحد، يطالب يشوعي باسترداد الـ18 مليار دولار أي الرصيد المتبقي للناس عند مصرف لبنان، إذ يسترد المودعون بالدولار الذي يبلغ عددهم ما يقارب المليون، أموالهم تدريجياً من خلال استرداد المصارف لهذه الأموال تدريجياً من المركزي. ويشدد الخبير الاقتصادي على استرداد الأموال قبل التفريط بها وتوزيعها منافعاً يميناً ويساراً، محذراً من أن عدم اتباع الخطوات أعلاه، لن يبقي سقفاً لسعر صرف الدولار.

وعن تصحيح الرواتب والأجور كما الضرائب، و”زوال صيغة الـ1515 والـ3900″، يشرح يشوعي، أن تصحيح الدولة للضرائب بما يتناسب وسعر صرف السوق الحرة وتراجع قيمة الليرة أمام دولار، سيضعنا أمام ثورة شعبية، ويسأل، “مين معو يدفع ضرائب مضروبة بـ5 أضعاف؟”.

“سيتهرب الناس أكثر وأكثر من دفع الضرائب عندها، إذ ان المواطن بالكاد يدفع ما يتوجب عليه للدولة اللبنانية”، يقول يشوعي، ويتابع “لو ان الاقتصاد سليم لرُفعت نسبة الصادرات 5 أو 6 مرات مما يسمح بتصحيح الأجور في القطاعين الخاص والعام”. ويضيف، “المصارف قد تخفض سقوف السحوبات أكثر وأكثر وتعدل قيودها لأنها متوقفة عن الدفع، بما يتناسب والواقع”.

ولادة فئات جديدة من الأوراق النقدية؟

“لا قيمة لفئات جديدة من الأوراق النقدية، إذ ان الأمر تقني وعملاني، لا أكثر ولا أقل، ولا يؤثر على قيمة الليرة”، يشرح يشوعي، ويعطي مثلا عن الفرنك الفرنسي عندما كبرت الكتلة النقدية تم استحداث قيمة جديدة للفرنك.

ويبقى استقدام رساميل جديدة بالعملة الصعبة من دون ديون جديدة كما تلزيم الخدمات العامة بآلية دولية، بعيداً عن تدخل الحكومة لمنع المحاصصة والتنفيعات، من دون بيع، الحل الوحيد لـ”بناء رأس المال الوطني”، بحسب الخبير ذاته.

فراس صليبا

السوق عائم على بحر من الدولارات

لم يعد حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية  المتواجد في السوق قادراً على خلق المزيد من الطلب الفعّال على الدولار في السوق السوداء، وبالتالي فإنّ سعر صرف الليرة سيحافظ على استقراره الحالي ولن يتأثر بالعوامل النفسية التي تتحكّم بها المراكز المالية البديلة العائمة على بحر من الدولارات.

مع توقّف المصارف بشكل كامل عن العمل نتيجة الاقفال العام الذي تم تمديده لغاية 8 شباط، شُلّت التحويلات المالية من الخارج عبر القطاع المصرفي وتوقف تدفّقها عبر تلك القناة، إلا انها ما زالت سارية عبر شركات تحويل الاموال ولو بأحجام أقل من المصارف وعبر المطار الذي يشكّل المنفذ الاكبر لدخول العملة الصعبة الى البلاد.

وفي غياب الاحصاءات والارقام الدقيقة الرسمية، ذكر المستشار الاقتصادي في صندوق النقد الدولي لأميركا اللاتينية، رند غياض، أن تحويلات المغتربين إلى لبنان بلغت في العام 2020 ما يقارب الـ 7 مليارات دولار مُتخطّية بذلك معدل السنوات الـ 15 الماضية البالغ 6.8 مليارات دولار، في حين سجلت التحويلات المالية الى لبنان عبر شركات تحويل الاموال ارتفاعاً الى 1.2 مليار دولار في 2020 مقارنة مع 1.1 مليار في 2019. وقد أكدت مصادر شركة OMT لـ«الجمهورية» انّ حوالى 150 ألف عائلة بالحد الادنى تستفيد شهرياً من التحويلات الواردة من الخارج نقداً وبالدولار الأميركي بمعدل 300 دولار أميركي لـ 60% من التحاويل الآتية من الخارج. وقد سجلت التحويلات عبر الشركة زيادة بنسبة 50% بعد انفجار مرفأ بيروت، وتحديداً خلال آب وأيلول 2020، بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2019، نتيجة تضامن المغتربين مع أهلهم وأقاربهم في لبنان.

ولكن مع توقّف محركات الانتاج في البلاد، وما يُفترض ان يؤدّي الى تراجع في الطلب على الدولار في السوق السوداء، لم يشهد سعر صرف الليرة اللبنانية تحسّناً لغاية اليوم وما زال مستقراً عند معدل 8800 و8900 ليرة مقابل الدولار. فلماذا لم تتخطّ الليرة بعد سقوفها القصوى في ظلّ أسوأ فترة يمكن ان تمرّ بها البلاد على كافة الاصعدة السياسية والاقتصادية والمالية والصحية؟

شرح الخبير الاقتصادي بيار الخوري ان لبنان يسير منذ أواخر العام 2019 في مسار انحداري اقتصادي شامل طويل الأجل، لا ينحصر فقط بسعر صرف العملة المحلية بل بالمؤشرات الاقتصادية كافة: الناتج المحلي الاجمالي، معدل التضخم ومعدل البطالة أي قدرة البلاد على إنتاج قيَم مضافة وخلق الوظائف بالاضافة الى قدرتها على ضبط مستوى الاسعار.

ورأى انه في ظل تدهور تلك المؤشرات الاقتصادية، فإنه «من المستغرب انّ سعر صرف الليرة مقابل الدولار في السوق السوداء ما زال محافظاً على استقراره نسبياً، وهو امر لا يمكن تفسيره بالتوازي مع اتجاه الأزمة الطويل الأمد».

وفي هذا الاطار، شدّد الخوري لـ»الجمهورية» على ضرورة التمييز بين الرغبة باقتناء الدولارات والقدرة الفعلية على اقتنائها، اي الطلب الفعّال الذي انعدم نسبياً اليوم في سوق بيروت نتيجة تراجع القيمة الفعلية لكتلة السيولة الساخنة بالليرة اللبنانية في السوق M0 الى ما دون الـ3 مليارات دولار، رغم الارتفاع الهائل في طباعة العملة، والذي حصل خلال العام الماضي وبداية العام الحالي، علماً انّ حجم تلك الكتلة يبلغ اليوم 27 تريليون ليرة، وكان ليوازي اكثر من 18 مليار دولار في حال تم احتسابه وفقاً لسعر الصرف السابق عند 1500 ليرة.

واوضح انّ سعر صرف الليرة مقابل الدولار الاميركي والعملات الاجنبية في بيروت يُفتَرض أن يكون محكوماً بعاملين اثنين:

– عامل حجم السيولة المتوفرة بالليرة اللبنانية لخلق الطلب على العملات الاجنبية.

– عامل الثقة

وشدّد الخوري على انّ الطلب الفعّال على الدولار غير قائم في السوق بسبب عدم توفّر السيولة النقدية بالليرة، مشيراً الى انّ الطلب على الدولار قائم فقط لدى منصّة مصرف لبنان التي تقوم بامتصاص السيولة بالليرة المتواجِدة في السوق.

في المقابل، ذكر الخوري انّ الطلب المضارب، الذي تتحكّم به المراكز المالية الكبيرة الموجودة في السوق، هو الذي يعمل على التلاعب بسعر الصرف صعوداً ونزولاً تَماشياً مع التطورات السياسية او الامنية او الاقتصادية، موضحاً انّ أي تدهور إضافي في سعر الصرف وصولاً الى سقف الـ10 آلاف ليرة، على سبيل المثال، سيتبعه ارتفاع في سعر صرف الليرة، لأنه سيكون ناتجاً عن عمليات مضاربة وليس عن عمليات تعكس القيمة الحقيقية للنقد الموجود في السوق، والمُستَخدم في جزء كبير منه للاستهلاك المحلي وليس لاقتناء الدولارات وتخزينها، مشدداً على انّ الكتلة النقدية الساخنة لم تعد قادرة على صنع تغييرات جوهرية في سعر الصرف.

ولفت الى انّ السوق تعوم اليوم على بحر من الدولارات ناتجة في معظمها عن عمليات تبييض أموال، وتتحكّم بها المراكز المالية الكبرى التي تملك دولارات أكثر من حجم السوق اللبناني، وباتت اليوم بمثابة السلطة النقدية البديلة التي تتحكّم بسعر صرف الليرة تماشياً مع مصالحها، وبهامشٍ يتراوح بين 7 و10 آلاف ليرة منذ 7 أشهر، وهي قادرة على ضبط العوامل النفسية لمنع أي انهيار إضافي لليرة في ظلّ غياب الطلب الفعّال على الدولار.

رنى سعرتي

بين استدامة الدين العام وتمويله من الجهاز المصرفي…

تتطلب قراءة بداية الأزمة تعميق الاقتران بين الظواهر المختلفة التي هيّأتها والقيود التي طغت على السياسة النقدية طوال الفترة السابقة، بما في ذلك على وجه الخصوص عدم استدامة الدين العام، والذي يمثل ثلثه الدولار الأميركي، والذي يحتفظ به إلى حد كبير في النظام المصرفي اللبناني، الدولرة القوية للاقتصاد اللبناني بأكمله بعد الحرب والتي استمرت على الرغم من تثبيت سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية عند 1507.5، والتدهور الحاد في ميزان المدفوعات منذ عام 2011 ونتيجة لذلك تَنامي العلاقة بين الودائع بالدولار والموجودات بالعملات الأجنبية في النظام المصرفي – أي تلك التي تحتفظ بها المصارف مع مراسليها الأجانب لتسوية المعاملات بالعملات الأجنبية واحتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي. فعلام تم الاستناد لدولرة الدين العام تدريجاً وزيادة طبع النقد؟ وكيف انعكست كل هذه الخيارات على الجهاز المصرفي؟ وأي خلاصات للمستقبل؟

من المعروف أنّ المَيل لدولرة جزء متزايد من الدين العام يستند على كون إصدار سندات اليوروبوندز يتم بأقل فائدة من تلك المعتمدة لسندات الخزينة بالعملة الوطنية (نظراً لهامش المخاطرة بين العملتين).

وتجدر الإشارة إلى أنّ الدول الناشئة التي تلجأ إلى زيادة حصتها من الديون بالعملات الأجنبية لتقليل تكلفة خدمة الدين وتأمين المشتركين في الأسواق الخارجية، مثل لبنان، لا تستطيع بسهولة جذب الدولار، خاصة إذا كانت الدول تعتمد على الواردات وكانت صادراتها منخفضة… فيتعيّن عليها بالتالي جذب تدفقات النقد الأجنبي باستمرار حتى تتمكن من تسوية ديونها الخارجية على أساس السياحة وجذب رأس المال والاستثمار الأجنبي، على الأقل من المغتربين. وبالتالي، فإنّ فائض ميزان الرساميل يجب أن يعوّض باستمرار العجز التجاري التقليدي للحفاظ على توازن إيجابي لميزان المدفوعات الذي شهد عجوزات متراكمة في لبنان منذ عام 2011، لا سيما منذ اندلاع الأزمة في سوريا عام 2019.

في الوقت نفسه، كلما زادت مخاطر سداد الدين العام في أعين وكالات التصنيف الدولية (فيتش وموديز وستاندرد آند بورز)، كلما تدهور التصنيف السيادي الممنوح لسندات اليوروبوندز اللبنانية (وهي بالدولار الأميركي)، ما يتطلّب زيادة أخرى في أسعار الفائدة لإقناعها الدائنين المستقبليين للاشتراك في الإصدارات الجديدة، ما يساهم في نمط يعرفه بونزي بالتوازي مع الحفاظ على تأثير سقاطة الدولرة مدعوماً بذاكرة الأزمة السابقة في الثمانينات والفارق المنخفض في العائد بين الجنيه الدولار اللبناني والدولار الأميركي، بالإضافة إلى عجز تراكمي في ميزان مدفوعات لبنان منذ بداية الأزمة في سوريا عام 2011، ممّا نتج عنه تدفّق صافٍ سنوي للعملة الأجنبية من البلاد ما حَدّ من هامش التدخل.

البنك المركزي في السيطرة على استقرار الصرف

من المعروف أنه في بيئة «استنسابية»، من الممكن بشكل خاص للحكومة إعادة تحسين سلوكها والحفاظ على معلومات أكثر من القطاع الخاص الذي يتوقّع سياسة نقدية متساهلة. تتعدد أسباب التراخي النقدي المتوقّع بين خلق فرص التوظيف، التمويل النقدي لعجز الميزانية عن طريق خفض قيمة العملة أو تحقيق التوازن الخارجي عن طريق تخفيض قيمة العملة بشكل تنافسي.

بالنسبة للبنان، كان اللجوء إلى التراخي خلال سنوات الحرب يرجع بالدرجة الأولى إلى التمويل النقدي لعجز الميزانية بسبب تدهور إيرادات الموازنة في ما يتعلق بزيادة الإنفاق خلال هذه الفترة الاستثنائية وغياب التحصيل الفعّال لجميع الضرائب والرسوم، وفي غياب الاحتمالات الواسعة للجوء إلى الديون في حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي لا يشجّع على اكتساب الثقة في المَلاءة المالية للدولة في نظر أي مُقرض مقيم أو غير مقيم. ثانياً، كان التساهل النقدي خلال سنوات الحرب اللبنانية مدفوعاً بإحياء النشاط الاقتصادي وخلق فرص عمل في ظل تدهور النشاط في مختلف القطاعات الاقتصادية التي تأثرت بشدة في الأحداث. بعد الحرب، شهد لبنان حالة من المديونية المفرطة، ومنها جزء متزايد بالدولار الأميركي وسياسة جذب رؤوس الأموال بالعملة الأجنبية لتزويد الاحتياطي الأجنبي لمصرف لبنان بقدرته على الحفاظ على ربط سعر الصرف.

وقد ظل الوضع مقبولاً حتى عام 2011 عندما اندلع الصراع في سوريا وتدفق مئات الآلاف من اللاجئين على لبنان مع تدهور النمو الاقتصادي وبدء منحى تراكم عجز ميزان المدفوعات. منذ عام 2011، ارتفعت نسبة الدين العام/الناتج المحلي الإجمالي بشكل مستمر لتتجاوز 176 % في نهاية عام 2019 مع تدهور وضع المالية العامة وزيادة الدين العام مع تراجع معدل النمو الاقتصادي من حوالى 8.5 % في 2011 إلى أقل من 1 % في نهاية 2019. في الواقع، يظهر التفاوت الكبير في أوضاع الدين العام عبر العالم صعوبة تحديد عتبة لإفلاس أو عدم استدامة المالية العامة، ويتعلق اثنان من «معايير ماستريخت» الخمسة بالمالية العامة: سقوف بنسبة 3 % من الناتج المحلي الإجمالي للعجز العام و60 % من الناتج المحلي الإجمالي للدين العام.

وقد أظهرت الدراسات أنّ حافز مفاجآت التضخم يزداد مع زيادة حجم الدين العام. من هذا المنظور، يمكن للدين العام أن يواجه أي التزام بمكافحة التضخم بمشاكل المصداقية؛ ستكون مسألة دراسة مصداقية مزيج السياسات وليس فقط مصداقية السياسة النقدية.

وبذلك انّ أي محاولة أحادية الجانب لتثبيت التضخم من خلال السياسة النقدية وحدها سيكون مصيرها الفشل، عاجلاً أم آجلاً، طالما بقي هناك عجز في الميزانية. وفي غياب التنسيق بين السياسة النقدية والسياسة المالية، ستكون السياسة النقدية مسؤولة عن ضمان خلق النقد لمنع عدم استدامة الدين العام، ويمكن في أحسن الأحوال تأخير التضخم.

وتؤكد الدراسات الكلاسيكية الجديدة لسارجنت ووالاس (1981) أنه حتى لو كان البنك المركزي يسيطر بصرامة على معدل نمو المعروض النقدي على المدى القصير، فإنّ المديونية المتزايدة للدولة يمكن أن تثير توقعات خلق نقد لإيفائه. وبالتالي، المزيد من التضخّم وتدهور القدرة الشرائية للمداخيل، وهو ما يعكس أحد أكثر المقاربات ملاءمة لحالة لبنان في الفترة الأخيرة من التسعينات الى اليوم.

إنّ إصدار الدين العام ناتج عن وجود عجز في الموازنة، أي عدم كفاية الإيرادات الضريبية مقارنة بإجمالي إنفاق الدولة خلال فترة معينة. من ناحية أخرى، إذا تجاوزت الإيرادات الإنفاق العام (فائض الميزانية)، ستكون الدولة قادرة على سحب مبلغ معادل من الدين العام القائم. وتسمّى هذه العلاقة بين إصدار / سحب الدين العام وحالة الميزانية في كل فترة: قيود ميزانية الدولة من حيث التدفق المالي.

يُذكر أنّ الإطار الطبيعي لتحليل العلاقة بين عجز الميزانية والديون هو قيود ميزانية الدولة. إحدى النقاط المهمة هي إمكانية الدولة تسييل عجزها (من خلال إصدار العملة المركزية). من أجل مراعاة هذه القدرة على خلق النقد، من الممكن بشكل مسبق النظر في قيود الميزانية الموحدة للدولة والسلطات النقدية. ومع ذلك، في هذه الحالة، سيكون من الضروري دمج كلّ من الموجودات والمطلوبات، وهذا يعني على وجه الخصوص دمج المطلوبات التي يحتفظ بها البنك المركزي بشأن الاقتصاد (ولكن ليس المطلوبات على الدولة).

ويلاحظ أنه كلما انخفضت الفجوة بين معدل النمو وسعر الفائدة، كلما ارتفعت نسبة الدين / التوازن طويل الأجل. وفي هذه الحالة من النمو القوي، لا يعاني الاقتصاد قيود الملاءة الزمنية. وفي هذه الحالة، لا نشهد مشكلة تتعلق بالقدرة على تحمّل الدين العام، ولكن على العكس من ذلك سنشهد حالة توازن تُعرف باسم حالة Ponzi». إنّ عدم وجود مخطط Ponzi، الذي يتكوّن من الاقتراض، لِدَفع، على وجه الخصوص، رسوم الفائدة على الديون القديمة المستحقة، ضروري لمواجهة قيود الميزانية بين فترات زمنية. إذا كان سعر الفائدة الحقيقي أعلى من معدل النمو، فإنّ نسبة الدين/الدخل تكون في البداية على مسار متفجّر، وبالتالي غير مستدام، وتعني قيود الملاءة المالية للدولة أنّ الدين العام الحالي يحتاج إلى فوائض أولية للموازنة.

في ظل ظروف الأزمة المالية والدين العام غير المستدام، ستكون هناك زيادة في الفائدة على الدين العام في شكل تأثير «كرة الثلج»، ما يؤدي إلى انفجار الدين العام، وقد يؤدي أيضاً إلى فقدان الثقة في قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها لسداد ديونها. من هنا يكون اللجوء إلى الديون لتمويل القطاع العام صعباً، وتكون النتيجة الوحيدة الممكنة هي تحويل جزء من الدين العام إلى نقود ما يؤدي إلى تضخم مفرط. وتُظهر معايير القدرة على تحمّل الديون التي تم تطويرها سابقاً أنّ تضخم التوازن الأعلى يتيح مجالاً أكبر للمناورة في السياسة المالية. وبالتالي، مع النمو غير المتغيّر ومعدلات الفائدة الاسمية، يسمح ارتفاع التضخم بتطبيق سياسة مالية أقل صرامة (السياسة المالية وسياسة الإنفاق) من دون أن يصبح الدين العام غير مستدام. لذلك نشهد «ضريبة تضخمية»، حيث يوفّر التضخم إيرادات ضمنية للدولة عن طريق تخفيض الدين العام القائم بالعملة الوطنية.

يبقى أنّ ثمن «إطفاء» الدين العام بالعملة الوطنية، عبر طباعة النقد من جهة والإعلان عن التخلّف عن سداد ديون العملات الأجنبية من جهة أخرى، ينعكس تراكماً في الخسائر في النظام المصرفي ككل بين خسارة قيمة دَينه بالليرة اللبنانية للدولة وعدم القدرة على تحصيل دينه لها بالعملات الأجنبية ولا حتى شهادات إيداعه بالعملات الأجنبية في الوقت الحالي لدى المصرف المركزي… صحيح أنّ استعراض تراكم عدم استدامة الدين العام وسُبل تمويله كانت تُهيّء لانهيار دراماتيكي للقصر المبني من رمل أمام أمواج البحر، إلّا أنّ العبرة تبقى في اتخاذ الخلاصات لإعادة البناء السليم والصخري للمستقبل.

د. سهام رزق الله.

أي اتجاه للدولرة الجزئية في لبنان؟ بين التعميم والإلغاء…

من المعروف أنّ الدولرة الجزئية كما هي الحال في لبنان منذ الأزمة النقدية في الثمانينات، هي نتيجة عمليات التضخم المرتفع أو التضخم المفرط، خصوصاً خلال فترات عدم الاستقرار الاقتصادي المرتبط بالعوامل المؤسساتية (التحكّم في حيازة الأصول بالدولار مع التدابير التي تحدّ أو تشجع مثل هذه الحيازة، وتحرير الأسواق المالية النقدية…) ومع ذلك، فإنّ الدولرة الجزئية التي تكون في الوقت نفسه عالية، يجب أن تكون إما وسيلة لتجنّب عيوب عدم استقرار العملة الوطنية في فترة معينة، وملجأ وسيطاً للعملاء الاقتصاديين، في انتظار استعادة الصدقية في العملة الوطنية، التي يجب أن تؤدي تلقائيًا الى التحرّر التدريجي من الدولرة والعودة التدريجية للعملة الوطنية، وإما أن تؤدي إلى تعميم دولرة شاملة في حالة صعوبة استعادة الثقة في العملة الوطنية والاستقرار النقدي المنشود، من خلال سياسة الاستقرار التي تتلاءم مع خصوصيات الاقتصاد الوطني. فما هي خصوصيات ومحاذير كل من هذين الخيارين والاتجاه نحوها؟

بعد سنوات من تثبيت سعر الصرف في لبنان، مع تطبيق سياسة نقدية متشدّدة منذ العام 1993 بمتوسط 1507.5 دولارات أميركية / ليرة لبنانية، ومنذ العام 1997، وعلى الرغم من الأزمات والتوترات السياسية التي مرّت بها البلاد، لم تُظهر فترات الاستقرار السياسي والاقتصادي توجّهاً فعّالاً نحو فك الدولرة، مما يدلّ الى الحاجة للسعي إلى سياسة استقرار نقدي فعلي في البلاد، أكثر فعالية في استعادة الثقة بالعملة الوطنية وصدقية السياسة النقدية التي من شأنها الغاء الدولرة وتحرير الاقتصاد الوطني من قيود السياسة الحالية.

إذا كانت الدولرة الجزئية، على الرغم من ارتفاعها كما هي الحال في لبنان، تشكّل «ملجأ» للعملاء الاقتصاديين من عدم استقرار القوة الشرائية لليرة اللبنانية، بعد تجربة تضخمية شديدة وانخفاض حاد في سعر الصرف للعملة الوطنية والاستقرار النقدي، وخصوصاً استقرار سعر الصرف لسنوات عدة، يجب أن يوفّر البيئة المناسبة للتراجع التدريجي عن الدولار المصاحب لعودة الثقة في العملة الوطنية. ومع ذلك، قد يكون من الصعب إزالة الدولار، حتى لو استمرت الدولة في استخدام عملتها الخاصة بالتوازي واستقرت قيمتها. ويتبيّن أنّه في حين أنّ الدولار يمكن أن يؤدي إلى مقدار أكبر من الاستقرار الاقتصادي الكلي، فإنّه يمكن أن يجعل النظام المالي أكثر عرضة للخطر. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الاستقرار الذي تعد به الدولرة نسبي في حدّ ذاته، لأنّ الدولار الأميركي (مثل أي عملة أخرى تختارها الدولة كمرجع وعملة بديلة أو موازية لعملتها الوطنية) يمكن أن يشهد تقلّباً في قيمته، مقارنة بسائر العملات الأجنبية.

في لبنان، وبدءاً من العام 1992، اتجّه نحو برنامج التثبيت التدريجي لسعر الصرف الاسمي، حتى اعتماد الهامش الضيّق 1501-1514 مع معدّل وسطي 1507.5 عام 1997، مما شجّع عودة الثقة النسبية، ومعدلات الفائدة المرتفعة على سندات الخزينة والتوقعات الإيجابية للقطاعات الاقتصادية، ولا سيما منها قطاع البناء، وازدياد صافي تدفق رأس المال الذي بلغ إجماله نحو 25 مليار دولار بين 1993 و 1997. وسمحت هذه التدفقات الرأسمالية للدولة بالحفاظ على سعر الصرف الإسمي وتقويته، والمساعدة في تحقيق معدل نمو سنوي خلال السنوات الأولى من إعادة الإعمار بنحو 40% من الإنفاق. ومع ذلك، فقد وصلت نِسَب العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من 20% و 90% على التوالي، ولم يتمّ حينها الشروع في إزالة الدولرة تلقائيًا (من دون إجراءات إلزامية ولكن بنتيجة استقرار العملة الوطنية). ولكن من أجل ذلك، كان من الضروري اختيار مرحلة عالية من الدورة الاقتصادية لإحراز تقدّم في خفض الدولرة، إن في الدين العام أو التعامل الاقتصادي في القطاع الخاص. إنّ الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي مقترنًا بعودة الثقة في العملة الوطنية يخلق الظروف اللازمة لتعزيز هذا الانقطاع عن الدولار، ومنع مخاطر عدم التوافق بين العملات، من أن يكون له تأثير سلبي على الملاءة المالية والسيولة للدولة والعملاء الاقتصاديين.

في الواقع، تتطلب الأزمة الاقتصادية الحالية في لبنان من الاقتصاد اللبناني، أن يحرّر نفسه أقلّه من إحدى القيود الرئيسية الثلاثة للسياسة النقدية التي سبق ذكرها: تثبيت سعر الصرف والدولرة والدين العام.

من ناحية، كان ولا يزال من الصعب فرض الخروج من مظلة دولرة الاقتصاد والتكامل المالي الدولي للبنان مع العالم. علماً أنّ إلغاء دولرة الاقتصاد إجبارياً يتضمن فرض تحويل الأصول والديون الى العملة الوطنية، بما يمكن إعتباره اعتداء على ملكية العملاء الاقتصادية وخياراتهم، مما يمكن أن يشجع النشاط الاقتصادي الموازي وغير المعلن، للاحتفاظ بالتعامل بالعملات الأجنبية، كما يمكن أن يؤدي إلى هروب رؤوس الأموال والاستثمار الأجنبي في ظلّ حرية حركة الرساميل التي كانت سائدة حتى انفجار الأزمة أواخر العام 2019. أما بالنسبة الى دين الدولة، فلا يمكن تحويله أحادياً الى العملة الوطنية، خصوصاً وان كان على شكل سندات «يوروبوند» يتمّ تداولها عالمياً بالعملة الأجنبية للإصدار، وهي غالباً الدولار الأميركي، أما العجز عن تأمين الدولار للدائنين عند استحقاق هذه السندات، فيُعتبر ذلك تخلّفاً عن السداد مثلما حصل أخيراً في آذار 2020.

من ناحية أخرى، فإنّ التخلّي عن تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، وبالتالي السماح بتعويم الليرة اللبنانية بعد تحويل ما قد يكون أصولًا مالية محلية، من المحتمل أن يؤدي إلى انخفاض قيمتها، وجعل ثقل الدين العام غير قابل للضبط. فيما يبقى من ناحية هاجس الدين العام بالدولار الأميركي للدولة، ومن ناحية هواجس الجهاز المصرفي إزاء الدولة غير القادرة على السداد، مثلما هي حال من جهة مصرف لبنان، الذي يحمل سندات «يوروبوند» بأكثر من 5 مليارات دولار على الدولة اللبنانية العاجزة عن السداد منذ آذار 2020، والمصارف اللبنانية التي كانت تحمل «يوروبوند» بأكثر من 14 مليار دولار على الدولة اللبنانية، فضلاً عن توظيف أكثر من 70 مليار دولار لدى المصرف المركزي، بين 17.5 مليار دولار إحتياطي الزامي، يمثّل 15% من الودائع بالدولار الأميركي في المصارف التجارية (والتي تفوق 76% من مجموع الودائع، وهي تمثّل معدّل الدولرة مثلما هو متعارف عليه)، وأكثر من 52.5 مليار دولار كشهادات إيداع بالدولار الأميركي لدى مصرف لبنان.

أما في ميزات ومحاذير تقنيات الخروج من الدولرة التي اعتُمدت عالمياً فنذكر:

• التحويل الإلزامي للودائع بالعملات الأجنبية (الودائع بالعملات الأجنبية) من العملات الأجنبية إلى العملة الوطنية. وقد أدّت هذه الإجراءات في كثير من الأحيان إلى زيادة هروب رأس المال وعدم الوساطة (بوليفيا والمكسيك في عام 1982 وبيرو في عام 1985). وفي بعض الحالات، اضطرت السلطات إلى عكس ذلك (بوليفيا وبيرو).

• تعليق استخدام الودائع بالعملات الأجنبية، يمنع هذا الإجراء المودعين من سحب ودائعهم بالدولار وتحويلها من المصارف لفترة معينة (لا يتمّ تحديد المدة دائمًا مسبقًا). يمكن ربط الودائع بالعملات الأجنبية المجمدة بمستوى التضخم (الأرجنتين)، أو جعلها قابلة للاسترداد بالعملة المحلية (باكستان). تقوّض هذه الإجراءات الثقة في النظام المصرفي الوطني، وغالباً ما تؤدي إلى عدم الوساطة وهروب رأس المال.

أما الإجراءات التي تحقق النتائج المتوقعة في كثير من الأحيان، فيمكن اختصارها بـ:

• فترة الاحتفاظ (الحجب) الإلزامية للودائع بالعملات الأجنبية. وقد يرتبط هذا الإجراء بإدخال أدوات للعملة الوطنية مربوطة بسعر الصرف… الجانب السلبي المحتمل لهذا الإجراء هو أنّه سيشجع العملاء الاقتصاديين على تفضيل الاحتفاظ بالأوراق النقدية بالعملة الأجنبية بدلاً من إيداعها في حساباتهم المصرفية.

• الاستخدام الإلزامي للعملة المحلية في المعاملات الوطنية ولقائمة أسعار السلع والخدمات: يرتبط الالتزام بإدراج الالتزام بإجراء المعاملات والمدفوعات بالعملة الوطنية حصرياً. يُعد حظر استخدام العملات الأجنبية في المعاملات الداخلية إجراءً شائعًا (أنغولا وبيرو وغيرهما الكثير). ومع ذلك حتى إذا استمرت المدفوعات بالعملة الأجنبية، فإنّ عرض الأسعار بالعملة المحلية يمكن أن يعطي زخمًا إضافيًا لإلغاء الدولرة قسرياً وليس نتيجة استعادة الثقة بالعملة الوطنية.

• الإجراءات الاستنسابية ضدّ استخدام العملات الأجنبية ، قد تشمل فرض قيود على الاقتراض أو الإقراض بالعملة الأجنبية (أنغولا والأرجنتين وفيتنام) وباستثناء الودائع بالدولار من نظام ضمان الودائع، وما لم يكن الجمهور على دراية جيدة باستبعاد الودائع بالعملات الأجنبية من نظام ضمان الودائع، قد تشجع هذه الخطوات المصارف على استقطاب مزيد من الودائع بالعملات الأجنبية.

• ضوابط على أسعار الفائدة على الودائع بالعملات الأجنبية، التي تحدّد الحدّ الأقصى للفائدة التي يمكن أن تقدّمها المصارف المحلية على الودائع بالعملات الأجنبية، لتشجيع إزالة الدولرة عن الالتزامات.

• ضوابط على حركة الرساميل – يمكن أن يؤدي الفرض المؤقت للالتزامات لإعادة شراء منتجات العملات الأجنبية من المقيمين إلى انخفاض تدفقات الودائع بالعملات الأجنبية بنحو سريع.

قد يقتصر الوصول إلى الودائع بالعملات الأجنبية على وكلاء اقتصاديين معينين (مثلما جرى في المكسيك) أو على مصارف عابرة للحدود، وقد يتمّ حظر عمليات الائتمان أو ربطها بموافقة مسبقة.

وبذلك يتبيّن، انّ الدولرة الجزئية المرتفعة المتزامنة مع تثبيت سعر الصرف ليست خياراً دائما بل مرحلة إنتقالية نحو، إما تعميم الدولرة الشاملة واستبدال العملة الوطنية كلياً بالعملة الأجنبية، مع ما يعني ذلك من فقدان للسيادة النقدية ودور المصرف المركزي كـ»ملاذ أخير» لتمويل المصارف، وإما سبيلاً لإلغاء الدولرة والعودة كلياً الى العملة الوطنية.

ويبقى أنّ الخروج من الدولرة السليم يحتاج الى استعادة الثقة بالعملة الوطنية كخيار تلقائي للعملاء الاقتصاديين وليس كقرار إلزامي قسري تفرضه الدولة عليهم، حتى لا يؤدي ذلك الى افتقاد الثقة الأشمل بالنظام المصرفي ككل وتفلّته من الضوابط… فهل يشكلّ هول الأزمة الحالية صحوة في اتجاه خيار العودة الى اعتماد العملة الوطنية فرضاً، أم باستعادة الثقة بها، ضمن خطة إصلاحية متكاملة مالياً-نقدياً-مصرفياً-اقتصادياً؟

د. سهام رزق الله.

أزمة لبنان المالية: ماذا يريد سلامة؟ ولماذا قال ما قاله؟

كثيرون اعتبروا أنّ ما نُسب الى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في شأن انتهاء زمن تثبيت سعر صرف الليرة، أمرٌ صادم. لكن الصدمة الحقيقية تكمن في ردود الفعل على ما قيل، وليس في مضمون الكلام نفسه.

ليس مُستبعداً ان يكون حاكم البنك المركزي قد اضطر الى تصحيح كلامه الى «فرانس 24»، بعدما فوجئ بردود الفعل الصاخبة على قوله انّ سعر الليرة سيكون في المرحلة المقبلة مُعوّماً، بحيث أنّ السوق سيقرّر هذا السعر.

بصرف النظر عمّا اذا كان الكلام قد فُهم على غير مقصده من خلال عدم وضعه في الاطار التسلسلي الدقيق، تبدو المشكلة في مكان آخر، وتكمن تحديداً في عدم الوعي الى المرحلة التي بلغها الوضع المالي والاقتصادي حتى الآن.

ويمكن تقسيم ما جرى الى قسمين: الاول يتعلّق بردود الفعل الشعبية على مسألة وقف تثبيت سعر الصرف، والثانية ترتبط بموقف سلامة حيال موضوع الليرة.

في الشق المتعلّق بتفاعل الناس مع مسألة سعر الصرف، يمكن الاستنتاج، انّ المواقف التي برزت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تكشف الحقائق التالية:

اولاً- وجود حالة إنكار لدى قسم من اللبنانيين تشبه الى حدٍ ما حالة الإنكار القائمة لدى اركان المنظومة السياسية حيال الدَرك الذي بلغته الأزمة. وهم يؤمنون حتى اليوم بإمكانية اعادة الليرة الى سعر صرفها الرسمي والاسمي القائم حالياً، أي 1515 ليرة للدولار. وهؤلاء ينتمون الى الشريحة المؤمنة بنظرية المؤامرة، ويعتقد اتباعها انّ كل ما يحصل مُصطنع، وستعود الامور الى طبيعتها فور انتفاء اسباب الحصار المفروض على البلد.

ثانياً- يعتقد البعض الآخر انّ نمط تثبيت سعر صرف العملة الوطنية على سعر لا يتماهى وسعرها الحقيقي الذي يحدّده السوق، لا يزال مُتاحاً، ولا يريدون أن يصدّقوا انّ العودة الى سياسة دعم الليرة أصبحت من الماضي ولن تحصل، على الأقل في المستقبل القريب، وبالتزامن مع بدء تنفيذ أي خطة للإنقاذ.

ثالثاً- تبيّن من بعض ردود الفعل، انّ قسماً من الناس يتسلّى بالمأساة، ويريد ان يلعب لعبة تسجيل النقاط، من خلال التصويب على حاكم المركزي في موضوع سعر الصرف، على اعتبار انّ سلامة هو «أب الليرة»- وهذا اللقب هو من باب التهكّم- وكان يرفض تحريك سعر صرفها، وبقي يعد بالحفاظ على قيمتها، حتى انهار الوضع المالي برمته.

في الشق المتعلق بتفسير مضمون كلام سلامة، يمكن استنتاج ما يلي:

اولاً- رغبة الرجل بإرسال اشارة اولى الى تخلّيه عن مبدأ تثبيت سعر الصرف. وقد يكون ذلك بمثابة اعتراف ضمني بأنّ سياسة دعم الليرة شكّلت أحد العوامل التي ساهمت مع عوامل أخرى كثيرة في انهيار الوضع المالي. وهذا الامر لا يعني انّ السياسة النقدية كانت خاطئة بشكل عام، لكنه يعني انّ سياسة التثبيت التي شكّلت مرتكزاً للاستقرار وساهمت لحقبة طويلة في تأمين مستوى معيشي لائق للبنانيين، وفي تشجيع الاسثمار من خلال الاستقرار النقدي، استنفدت فرصها منذ العام 2017، وكان يُستحسن في حينه التفكير في تعويم الليرة، لوقف دعمها واستنزاف العملة الصعبة بلا جدوى.

ثانياً- أراد سلامة من خلال موقفه ان يردّ، ولو بطريقة غير مباشرة، على الاقتراحات والاصوات التي ارتفعت في الفترة الأخيرة بشكل لافت، للمطالبة باعتماد سياسة نقدية قائمة على مبدأ إنشاء مجلسٍ للنقد بهدف تثبيت سعر صرف الليرة من خلال ربطها بعملة أجنبية أخرى. وهو بذلك، أراد أن يسلّط الضوء على تعذّر تثبيت سعر الصرف من خلال الربط الكلي بالدولار أو سواه. وقد تكون هناك أسباب عدة لهذا الرفض، من ضمنها الصعوبات التي تعترض هذا الربط لجهة تأمين كتلة ثابتة من العملات الصعبة، بالإضافة الى الضرر الذي قد يلحقه الربط بالاقتصاد وبالقطاع المصرفي، عندما تبدأ مرحلة التعافي والخروج من الأزمة. بالإضافة أيضاً، الى انّ اعتماد سعرٍ ثابت منخفض يستند الى حجم الكتلة النقدية القائمة حالياً في السوق (M1+M2) سيؤدّي الى شطب عامودي للودائع في البنوك، والتي يتمّ السحب منها حالياً بواسطة الليرة، وعلى سعر صرف 3900 للدولار.

في المقابل، واذا أسقطنا من الحسبان التحفظات المتعلقة بصراع الافكار الاقتصادية حول الحلول الأفضل التي ينبغي اعتمادها للخروج من الأزمة، نستطيع ان نلاحظ انّ حاكم مصرف لبنان لا يمكن ان يكون متحمساً لفكرة مجلس النقد، على اعتبار انّ المجلس يسلب البنك المركزي القسم الأهم من وظيفته المتعلقة بالسياسة النقدية. ومن البديهي، أنّ أي حاكم لمصرفٍ مركزي في العالم، لا يميل الى دعم أي فكرة يمكن ان تقلّص من مهام المركزي، خصوصاً انّ مجالس النقد غير موجودة سوى في الدول المأزومة وشبه المتخلفة، في حين انّ الدول الصناعية والدول المتطورة تعتمد على مصارف مركزية في ادارة السياسة النقدية.

في النتيجة، ما قاله سلامة، وبصرف النظر عمّا اذا كان صادراً عن حُسن أو سوء نية، يمثّل حقيقة لا يمكن الهروب منها، مفادها انّ سعر صرف الليرة في المستقبل، وعندما يبدأ تنفيذ خطة للتعافي، سيحدّده السوق، ولا شيء غير ذلك.

انطوان فرح.

دولار العام 2021: 25 ألفاً أو 8 آلاف؟

لا يوجد حاجز فعلي بين سنة وسنة، لكي نتحدث عمّا سيشهده البلد في العام 2021، مقارنة مع العام الذي طوى صفحته الأخيرة قبل 4 أيام. وكأنّ ما حصل في 2020، وقبلها في 2019 و2018 و2017 وقبل ذلك بسنوات، مُنفصل عمّا سيجري في العام الجديد.

في الواقع، هناك استمرارية حتمية لمسار التطورات الاقتصادية والمالية من دون أن يعني ذلك انّ الامور محسومة، في تفاصيلها. هناك ثوابت، وهناك مُتحركات يمكن أن تصنع الفرق. لكن، ليس صحيحاً انّ الاستمرار في الهبوط قَدَرٌ لا بد منه للوصول الى القعر، ومن ثم بدء مرحلة الصعود. عملياً، ومن خلال ما يمكن أن نتعلمه من تاريخ الدول التي واجهت أعاصير إفلاس وتعثّر ووضعاً مالياً معقّداً، وحتى حِصارات، يتبيّن انّ القعر تحدّده سياسة السلطة السياسية وإجراءاتها. على سبيل المثال لا الحصر، القعر الذي وصلت اليه اليونان، رسمته القرارات التي اتخذتها السلطات اليونانية، بالتماهي مع الاجراءات التي قامت بها المجموعة الاوروربية وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الاوروبي.

وبالتالي، لو لم تُتخذ هذه الاجراءات لكان القعر أعمق، ولربما كانت اليونان مستمرة حتى اليوم في الانحدار. وهناك أمثلة أخرى تبيّن انّ دولاً، مثل فنزويلا، مستمرة في الهبوط منذ سنوات طويلة، وهي لم ولن تصل الى القعر قبل أن تقرر السلطات فيها وقف الهبوط. انه قعر افتراضي ترسم حدوده سياسة الدولة المعنية بالأزمة.

في لبنان، وبصرف النظر عن الاجراءات التي قد يتمّ اتخاذها في خلال العام 2021، يمكن ايراد الثوابت التالية:

اولا – سعر صرف الليرة لن يتحسّن، حتى لو تبدّل المشهد بشكل جذري، وأوقفنا مسيرة الانحدار نحو جهنم، لأنّ حجم الاقتصاد، والتداعيات التي حصلت حتى الآن جراء الانهيار الحاصل، لا تسمح بالاعتقاد بأن يكون سعر الليرة أفضل ممّا هو عليه اليوم في السوق السوداء.

ثانيا – الاستثمارات وفرص العمل في القطاع الخاص لن تشهد تغييراً يُذكر، ونسَب البطالة ستبقى مرتفعة.

ثالثا – حجم القطاع المصرفي سيتقلّص بنسبة كبيرة تتماهى مع حجم الاقتصاد الجديد. وسيتم الاستغناء عن الانتشار الخارجي، وستجري عملية اعادة تصميم (reshaping) تناسب معطيات السوق اللبناني الذي صار مختلفاً عن السابق.

رابعا – القدرة الشرائية للمواطن ستتراجع اكثر، حتى لو لم يتراجع سعر صرف الليرة عن معدله الحالي في السوق السوداء، بسبب رفع أو ترشيد الدعم، لأنّ الاستمرار كما كان في 2020 شبه مستحيل.

في موازاة هذه الثوابت التي لا بد من مواجهتها بصرف النظر عن المسار السياسي، والاجراءات التي قد تتخذها المنظومة السياسية بهدف وقف الانهيار، هناك مجموعة متحركات تجعل الفارق شاسعاً بين سيناريو وآخر.

في السيناريو السيئ، لا تغيّر المنظومة السياسية في سلوكها قيد أنملة، وبصرف النظر عن تشكيل حكومة أم لا، سيكون المواطن في مواجهة ضغوطات اضافية، حيث سيستمر ارتفاع سعر صرف الدولار، وقد يصل الى مستويات قياسية حتى نهاية العام لا تقل عن 25 الف ليرة. ذلك انّ الحاجة الى طباعة المزيد من الليرات ستكون أكيدة، كذلك فإنّ موجة التخلّي عن الليرة ومحاولة استبدالها بالدولار ستصبح راسخة أكثر مما هي عليه اليوم. وبالتالي، سيتم تحويل كل ليرة تُسحب من المصارف الى دولار ورقي (banknote).

في المقابل، سيواصل حجم الاقتصاد تراجعه. ورغم انه وصل في 2020 الى رقم قياسي لم تسجله سوى قلة من الدول الفاشلة، حيث هبط من 52 مليار دولار عام 2019 الى حوالى 20 ملياراً في نهاية 2020، إلا انه قد يشهد المزيد من الانكماش، خصوصاً في ظل غياب الثقة وانسداد الأفق، لأنّ هذا الوضع لن يسمح حتى بتحسين الانتاج الصناعي المحلي، ذلك انّ الصناعيين، وهم في أزمة من هذا النوع، مصدر أساسي لتأمين العملات الصعبة، لن يتحمّسوا لتوسيع أعمالهم كثيراً، او لإدخال دولارات طازجة الى البلد. كذلك قد يستمر بعضهم في محاولة الافادة من القدرة على التصدير لإخراج دولارات اضافية الى الخارج، وهذا أمر بديهي لا يمكن ضبطه سوى من خلال البدء في ورشة اعادة ترميم الثقة.

في السيناريو الجيد. يتبدّل المشهد السياسي ولو جزئياً، ويبدأ التعاون مع صندوق النقد ومجموعة الدعم الدولية والبنك الدولي لإرساء خطة للنهوض. في هذه الحالة، ورغم ان الفقر سيستمر في العام 2021، إلا انّ مسيرة الانحدار السريع قد تتوقف أو تتباطأ الى مستويات متقدمة تسمح بتحديد القعر الذي سيتوقف عنده الهبوط.

في الاثناء، يمكن أن يشهد البلد ايجابيات من نوع توحيد سعر صرف الدولار وفق سعر متحرّك يعكس الواقع الاقتصادي الحقيقي، في موازاة خطة إنقاذ يبدأ تنفيذها. ويمكن ان يبدأ ضَخ الدولارات من الخارج في غضون 3 أو 4 أشهر اذا ما حزمت السلطة السياسية أمرها، وغيّرت المسار في اتجاه الانقاذ. كذلك ستشكّل اموال القوى اللبنانية العاملة في الخارج، خصوصاً في الخليج، ورقة رابحة بعدما تبيّن انّ هذه الدولارات تكاد تكون اليوم المصدر الاساسي للدولارات التي تتوفر في السوق السوداء. وقد قدّر البنك الدولي حجم الاموال التي دخلت الى البلد في 2020 بحوالى 6,9 مليارات دولار. وهو رقم جيد قياساً بحجم اقتصاد تدنّى الى 20 مليار دولار.

في العام 2021، ستكون هناك محطات مفصلية في تقرير مصير المسار المالي والاقتصادي الذي ستتخذه التطورات، ورغم انّ الوضع سيكون صعباً وقاسياً في كل الحالات، الا انّ الفرق شاسع بين استمرار الانهيار، أو وقفه عند قعرٍ مُحدّد.​

انطوان فرح.

تثبيت الليرة على 5500 مشروع قابل للتنفيذ؟

بعد رواج مصطلحات التدقيق الجنائي، ومن ثمّ الدعم، دخل مصطلح جديد الى «الساحة» المفتوحة على التجارب اللفظية، اسمه «مجلس النقد». وهو مصطلح بدأ يسمع به اللبنانيون بقوة في الأيام القليلة الماضية، ويتمّ تصويره وكأنه الحل السحري الذي سيُعيد الى الليرة رونقها، ويحمي البلد من «جهنم» الموعود.

فيما يستمر المشهد السياسي على مساره المعقّد، وتمضي الامور على رتابتها القاتلة، وتبقى البلاد بلا حكومة رغم دقة الوضع الذي وصل الى مرحلة بات يُسمح معها بالقول انّ لبنان يواجه خطر الزوال، يتمّ ملء الفراغ باقتراحات وأفكار لا ترتقي الى مستويات المرحلة. هذه الأفكار، على أهميتها أحياناً، تأتي في سياق منفصل عن الحل الشامل الذي باتت خارطة طريقه معروفة، وهي ترتكز على حكومة مستقلة تتولى وضع خطة إنقاذ شاملة، تتماهى ومتطلبات المجتمع المحلي والدولي، وتمرّ حُكماً في صندوق النقد الدولي.

خارج هذا الاطار، يَجهَد البعض في تقديم أفكار واقتراحات، يتلقّفها المجتمع المحلي المُتعطّش الى خشبة خلاص يمكن أن تنشله من حال الغرق المستمر منذ أشهر طويلة. آخر وأحدث الاقتراحات التي يجري التداول بها تتعلق بتشكيل مجلس للنقد (currency board) يتولى عملية انتشال الليرة من انهيارها، ويُثبّت سعر صرفها منعاً لمزيد من التراجع في قيمتها في المستقبل. ويعطي المتحمّسون للفكرة أرقاماً مُسبقة عن السعر الذي يمكن اعتماده لتثبيت الليرة، وهو بين 5000 أو خمسة 5500 ليرة للدولار الواحد. (سعر الصرف حالياً في السوق السوداء حوالى 8300).

ما قصّة مجلس النقد هذا، القادِر على اجتراح العجائب، وهل صحيح انه المَمر الآمن نحو سعر صرف ثابت في هذه الظروف الصعبة، التي يخشى معها اللبناني ان يستمر تدهور سعر صرف عملته الوطنية في المرحلة المقبلة، وصولاً الى أرقام تضخمية خطيرة تشبه تلك التي بلغتها دول تعرّضت للانهيار المالي والحصار الاقتصادي؟

قبل الوصول الى الحكم النهائي على دور وأهمية مجلس النقد الذي يتمّ الترويج له، لا بد من تقديم لمحة ولو موجزة عن ماهية هذه المؤسسة، كيف تعمل؟ أين عملت؟ وما كانت النتائج؟ وعليه، يمكن إيراد الملاحظات والحقائق التالية:

اولاً – عبر التاريخ، كانت مجالس النقد قائمة فقط في الدول المُستَعمَرة. وانتشرت بصورة خاصة في دولٍ استعمرتها بريطانيا، وبقيت تابعة لسلطتها. وفي كل مرة حصلت فيها دولة على استقلالها، كانت تتخلى عن مجلس النقد، وتؤسّس مصرفاً مركزياً. وهكذا تحوّل وجود مصرف مركزي الى مؤشّر لاستقلالية الدولة من الوجهة المالية والاقتصادية. وعليه، لا يمكن تقييم نتائج تجارب هذه المجالس ومقارنتها بالوضع الراهن للدول، بعد زوال حقبة الاستعمار في العالم.

ثانياً – في العصر الحديث، توجد تجارب عدة في موضوع مجلس النقد، منها ما اعتُبر فاشلاً مثل التجربة الارجنتينية التي بدأت في العام 1991 وانتهت في 2002. وبعضها يعتبره البعض ناجحاً، ولو انه يحتاج الى مزيد من التدقيق مثل التجربة البلغارية. كذلك خاضت تجربة مجلس النقد كل من ليتوانيا واستونيا والبوسنة. وكل هذه التجارب لا تزال تخضع لعملية تقييم لمعرفة نتائجها الحقيقية على الاقتصاد، خصوصاً انّ هذا النوع من السياسات النقدية يحتاج فترة زمنية طويلة للحُكم على نتائجه.

ثالثاً – لا توجد دول متطورة ومستقرة تعتمد في سياستها على مجلسٍ للنقد، بل ينحصر وجود هذه المجالس في دول تعاني أزمات وأوضاعاً استثنائية، ولذلك يُستخدم مصطلح CBA currency board arrangement للدلالة على الطابع الاستثنائي والتسيوي لإنشاء هذا النوع من المؤسسات.

في المحصّلة، ينبغي أن يكون معروفاً انّ الدور الحصري تقريباً لمجلس النقد هو المحافظة على سعر صرفٍ ثابت من خلال ربط عملة البلد المُستهدف بعملةِ بلد آخر متطور. ويستند هذا المبدأ على فكرة الربط الكامل بين عملتين: واحدة تابعة وأخرى مَتبوعة. ولا يمكن تطبيق هذا المبدأ من دون الاستناد الى تغطية بالعملة التي يختارها أي مجلس نقد لتشكّل الاحتياطي الذي يمكن الاستناد اليه لطباعة العملة وتحديد حجم الكتلة النقدية. والمبدأ بسيط، ويقضي بعدم طباعة أي ورقة نقدية لا تُؤمَّن تغطيتها بالعملة الصعبة. ويبقى الهدف من هذا الاجراء وقف نمو التضخّم، وتحديد سعر منخفض للفوائد.

لكن هذا المبدأ على بساطته لا يمكن تطبيقه بالبساطة نفسها، ويكاد يكون نجاح تجربة مجالس النقد أو فشلها شبيهاً بتجارب النجاح والفشل في تعاون الدول مع صندوق النقد. البعض ينجح والبعض الآخر يفشل، والمعيار هنا في الاجمال، التطبيق الدقيق للخطط والقوانين، ووضعية كل دولة.

هل تنطبق معايير نجاح تجربة مجلس النقد على الوضع اللبناني؟

اسئلة كثيرة ينبغي أن تتأمّن الاجابة عنها لمعرفة الجواب، منها:

أولاً – ما الفرق بين تجربة تثبيت سعر صرف الليرة التي قد يتولاها مجلس النقد، وتجربة التثبيت التي قام بها مصرف لبنان على مدى عشرين عاماً؟

ثانياً – ما هو الاحتياطي النقدي من العملات الصعبة التي سيستند اليها مجلس النقد لتحديد سعر صرف الليرة، وهل انّ الاحتياطي الالزامي الباقي في المركزي ثابت لاعتماده، ام انه متحرّك وبتصرّف السلطة التي تفكر في استخدامه لاستكمال الدعم ولو تحت مُسمّى الترشيد؟

ثالثاً – ما تأثير وجود مجلس للنقد على القطاع المصرفي الذي سيتم الاعتماد عليه، رغم فقدان الثقة به حالياً، للنهوض بالبلد مجدداً عندما يحين موعد تنفيذ خطة للانقاذ؟

رابعاً – ما رأي صندوق النقد الدولي بهذا الموضوع، وهل يمكن اعتماد هذا الخيار من دون موافقته؟

هناك اسئلة اضافية ينبغي أن تُطرح قبل إبداء الحماسة لإنشاء مجلس للنقد، والأمر يحتاج الى دراسة مُعمّقة وهادئة، وليس الى مزايدات في طرح الاقتراحات، على طريقة «أنا اقترح إذن أنا موجود».

انطوان فرح.

عن ازمة لبنان المالية: المستثمرون في الأسهم يقبضون بـ”اللولار”.. ويدفعون الثمن الأكبر

شركات التداول تُجبر المساهمين على بيع أسهمهم بـ”اللولار”
نقمة الدفع بـ”اللولار” بدلاً من الدولار بنسبة تقل، اليوم، 50 في المئة عن السعر الحقيقي.. تحولت إلى فرصة لقلة قليلة من المضاربين. فبين السعرين هامش كبير من الإستفادة ممكن ان “تقطفه” شركات تداول الأسهم بجرة قلم إغلاق الحسابات، وتصفية الاستثمارات وإرجاعها بـ… “اللولار” طبعاً.

بكثير من الدهشة والإستغراب تلقّى المستثمرون مع شركة Royal Financials المتخصصة في تجارة الأسهم والسندات، كتاب إغلاق جميع حسابات الأسهم والعقود الآجلة. وذلك “بسبب التغييرات غير المتوقعة التي طرأت على الأنظمة المصرفية اللبنانية والأسواق المالية بشكل عام”، بحسب نص الكتاب. الخبر يبدو لغاية الآن عادياً. وهو يحصل مع الكثير من الشركات التي توظف وتستثمر أموال العملاء في الأسواق المالية وتجارة الأسهم والعملات والسندات وخلافه.. إنما المفاجأة كانت ان الشركة التي طلبت من العملاء إغلاق جميع مراكزهم في غضون 30 يوماً من تاريخ تلقي الكتاب وعدم اتخاذ أي مراكز جديدة، حددت بما لا لبس فيه ان العملاء سيتمكنون من سحب أموالهم أو استرجاعها عبر شيك أو حوالة مصرفية إلى أيٍ من المصارف اللبنانية. بعبارة أخرى، فان المستثمرين سيخسرون نصف المبالغ المدفوعة بالدولار عند الاستثمار بفعل الفارق الكبير بين الدولار الطازج والدولار المحلي أو اللولار.

الأسهم موظفة في الخارج
قد يكون مفهوماً أن تلجأ شركة ما توظف أو تستثمر في اسهم الشركات اللبنانية، على قلتها، اللجوء إلى مثل هذا التدبير. إنما وبحسب أحد العملاء فان الشركة توظف الأموال في الخارج، وهي تشتري باسمها لصالحهم أسهماً تتداول في الأسواق العالمية. لذا من واجبها إرجاع الأموال بالدولار النقدي “الطازج” كما ستقبضه من الخارج.
إصرار الشركة على ضرورة إقفال العملاء لحساباتهم فوراً لانها “مباشرة” ستقفل جميع الحسابات، قوبل برفض حاملي الأسهم التوقيع على الكتاب في الوقت المحدد وإبراء ذمة الشركة.. مما اضطرها، بما يناقض إدعاءاتها السابقة، إلى تمديد فترة الإغلاق شهرين إضافيين بشرط قبول العملاء تقاضي أموالهم بشيك مصرفي، وهذا ما أثار أيضاً العديد من التساؤلات.

العملاء مجبرون على البيع بـ”اللولار”
عادة في مثل هذه الحالات التي تضطر فيها شركات التداول إلى الإقفال أو وقف التداول بالأسهم والسندات لمختلف الأسباب، تُترك الحرية متاحة أمام العملاء الذين لا يرغبون في بيع أسهمهم، نقلها إلى شركة أخرى. وهذا ما لم توفره شركة “رويال فاينانشل”، بحسب العملاء. فهي تجبر العملاء على البيع وقبض الثمن بشيك أو حوالة، بحجة أنهم (المستثمرون) اشتروا الأسهم بنفس الطريقة منذ نحو 3 سنوات. ولكن من وجهة نظر العملاء فانه “عند الشراء لم يكن هناك من فرق بين شيك الدولار أو الحوالة، والدولار الفعلي، هذا أولاً. أما ثانياً فان حجة الشركة أنها اشترت الأسهم بأموالها وأبقت أموال المستثمرين في لبنان، تنافي المنطق”.

الاستدانة على الأسهم!
أحد الخبراء في الأسواق المالية يلفت إلى انه “من المستحيل لمن يملك سهماً يُتداول خارج لبنان أن يتقاضى ثمنه بغير الدولار الطازج. وذلك لأن أرباح الأسهم في الخارج او عائد بيعها يسدد في الخارج. وأي عملية دفع لحاملي الأسهم بغير هذه الطريقة تعتبر سرقة موصوفة، لان قيمة الدولار الداخلي تقل بنحو 50 في المئة أو حتى أكثر عن قيمة الدولار الخارجي. وبالتالي فان الفارق بين الدولار المحلي والدولار الطازج يذهب لصالح الشركة في حين يخسر المستثمر ما لا يقل عن نصف أمواله”.
هناك الكثير من الحالات المشابهة تحصل مؤخراً في لبنان بشكل كبير. لكن ما حصل ان الكثير من شركات التداول استدانت على أسهم عملائها، ووظفت الأموال في لبنان وتحديداً في المصارف للاستفادة من الفوائد الخيالية على الدولار التي كانت تعطيها البنوك. في هذه الحالة لا يعود للشركة من مفر إلا الدفع بـ”اللولار”. انما هذا يعتبر بحسب احد المصادر “إساءة أمانة”. لان الأسهم تعتبر “أمانة” بحسب قانون الوساطة المالية، ولا يحق للشركة الاستدانة على أسهم الزبون أو العميل لصالح الشركة. فالاخيرة ملزمة بالاستدانة لصالح الزبون وليس العكس”. وبحسب المصدر ليس من المستبعد ان يكون حصل الأمر نفسه مع “رويال”.
أمّا في ما خص إدعاء الشركة أنها اشترت الأسهم بأموالها وليس بأموال العميل فهي مخالفة واضحة للقانون. إذ انه يمنع منعاً باتاً الخلط بين الحسابات الخاصة للشركة وحسابات عملائها، بحسب قوانين تنظيم الأسواق المالية في لبنان ومختلف الدول.

إساءة أمانة
من الملاحظ إرتفاع وتيرة التهرب والإحتيال في تجارة الأسهم والسندات بشكل كبير في الآونة الأخيرة، توضح مصادر قانونية قائلة: “صرلنا سنة عم نعاني من هالموضوع”. “فهناك الكثير من الدعاوى وخصوصاً على إحدى الشركات التابعة لمصرف كبير، حيث استدانت على أسهم عملائها وعجزت عن السداد لهم ثمن الأسهم في حالة البيع أو حتى تسديد الأرباح بالدولار “الطازج”. لكن المشكلة برأيه ان “بعض القضاة لا يفرّقون بين دعاوى تسديد الودائع بالدولار الطازج ودعاوى الأسهم. والفرق بينهما كبير جداً. فالوديعة تعتبر حساباً دائناً بامكان المصرف إعادتها بالليرة الوطنية التي تملك قوة إبراء، أو بـ”الدولار المحلي”، كما يقول حاكم “المركزي”. وفي حال التخلف عن سداد الودائع بامكان المودعين رفع دعوى إفلاس في وجه المصرف. أما في ما خص القيم المنقولة من أسهم وسندات فهي تعتبر أمانة، وليست حساباً دائناً والمصرف أو الشركة مجبران على اعادتها بقيمتها الفعلية كما هي وإلا يتهمان بالجرم الجزائي.
المشكلة ان مثل هذه الدعاوى تتطلب سنوات طويلة بحسب الحقوقيين وقليلة جداً القضايا التي رفعت ووصلت إلى خواتيمها السعيدة. وذلك على الرغم من انه يفترض إعطاء الحق الى حامل السهم، وتجريم الشركة بتهمة إساءة الامانة.

خالد ابو شقرا.

أين تبخرت أموال اللبنانيين؟

يتساءل المرء: أين تبخرت أموال اللبنانيين أو ذهبت أو هُدرت؟ أين ودائعهم المصرفية التي بلغت نحو أكثر من 170 مليار دولار، والتي كنا نتباهى عالمياً بها؟ لا شك في أنّ قسماً كبيراً من هذه الودائع ذهب نحو كلفة الفساد، والتهريب والصفقات والمحاصصة، وتمويل المشاريع الوهمية وتبييض الأموال وغيرها، لكن تقنياً وواقعياً، كيف صُرفت هذه الاموال وهُدرت عبر الموازنات المتعاقبة؟

ندرك جميعاً أنّ جزءاً كبيراً من الموازنة العامة كان يذهب إلى تمويل شركة كهرباء لبنان، إذ ليس سراً على أحد أنّ نحو ملياري دولار سنوياً (في السنوات العشرين الأخيرة) كانا يذهبان إلى تمويل قطاع الكهرباء العام، والذي كان يتدهور يوماً بعد يوم من دون أي إصلاح أو تقدم. ومن بعد كل هذه الاستثمارات غير البنّاءة وغير المنتجة، لا يصل التيار الكهربائي إلى المواطنين في أحسن حالاته، سوى بنحو 50 %، فيما الشعب ملزَم بدفع الفواتير المزدوجة العائدة إلى المولدات الخاصة، حيث يخضع المواطنون إلى مافيات أصحاب المولدات المرتبطة بخيوط السياسة والسياسيين أيضاً.

وإذا حسبنا الملياري دولار التي تتكبّدها الدولة اللبنانية خلال نحو آخر 20 عاماً فقط، تُفيدنا النتيجة الواقعية بأنّ نحو ما بين 40 مليار دولار و45 ملياراً، صُرفت وأُهدرت من أجل إنشاء كهرباء وهمية غير متوافرة أصلاً للمواطنين.

إنّ تمويل الكهرباء يُشكل نحو أكثر من 43 % من الدين العام. وهذا ما حصر القسم الاكبر من العجز والدين العام، وهنا صُرف القسم الأكبر من أموال المودعين التي استُثمرت في الدولة وأموال البلدان المانحة التي استُثمرت في هذا القطاع المهترئ. هذه الاستثمارات استُعملت بالفساد والمحاصصة الموجودين في كل مراحل هذه الادارة: من التوظيف إلى الصيانة، إلى المعدّات، إلى شراء الفيول، إلى المعامل… والذي ستدفع ثمنه أيضاً الأجيال المقبلة، وهو ثمن الاستثمارات الوهمية التي موّلت الأحزاب والسياسيين منذ سنوات عدة.

من جهة أخرى، علينا ألّا ننسى ونتناسى أنه في كل الموازنات الاخيرة كان يتراكم سنوياً عجز مالي يفوق نحو 6 مليارات دولار تقريباً، ما يعني أنّ الدولة اللبنانية كانت تتكبّد سنوياً خسائر فادحة من دون أي إصلاح أو إعادة هيكلية لوقف هذا النزف، الذي كان يُغطى وهمياً وشكلياً باستبدال دين بدين آخر (سواب – SWAP)، وإعادة جدولة، ومن ثم ندور في الدوامة نفسها من سنة الى سنة، حتى تراكم الدين العام وتبخّرت مدّخرات اللبنانيين والبلدان المانحة، لتمويل العجز غير البنّاء وغير المنتج، حتى وصلنا الى دين عام تعدّى نحو 100 مليار دولار، وهُدرت معه أموال اللبنانيين.

كذلك الأمر بالنسبة إلى حجم الدولة وموظفي القطاع العام، فقد بلغت كلفتهم ثلث الموازنات الأخيرة. لا شك في أنّ هناك موظفين في القطاع العام شرفاء ونزيهون، ولا نريد أن نشمل الجميع ونضعهم في سلّة واحدة، لكن في المقابل ذهبت الدولة إلى مغامرة مشروع سلسلة الرتب والرواتب، وباتت ترمي كرة النار من منصّة إلى أخرى، ومن حزب إلى آخر، ومن مسؤول الى آخر، والكل كان يُدرك أنها “شيك من دون رصيد”، ولا تستطيع الدولة تحمّلها، وصرفت هنا أيضاً أموال المودعين التي كانت مستثمرة في هذه الدولة، من دون أي شفافية أو حوكمة رشيدة.

نسمع البعض يتحدث وينتظر ويأمل من المبادرة الفرنسية، أو من مؤتمر “سيدر” أو حتى من تمويل صندوق النقد الدولي، لكن علينا أن نكون واقعيين وشفافين، ونقول بصوت عال: إن أي تمويل في حال حلمنا به، أو وصلنا من هذه المنظمات الدولية، لم ولن يكون لتمويل العجز، أو لتمويل شركات عامة وفاسدة، لكن سيكون لتمويل مشاريع إنمائية بنّاءة، مع دفاتر شروط مدروسة، ومع تدقيق داخلي وخارجي وتقني. ليعلم الجميع أن لا أحد سيُموّل شركات مهترئة، وطبقة سياسية فاسدة مسؤولة عن هذا الإنهيار.

إن الوعود التي نسمعها اليوم هي فقط للهروب إلى الأمام، وهدر الوقت وكسبه، لأنه واقعياً لا أحد سيغامر ويساعد لبنان اذا كان أركان سلطة الفساد والانهيار أنفسهم يُريدون أن يقودوا الإصلاح وإدارة الأزمة التي تسبّبوا بها.

في النهاية، كنا نعيش في اقتصاد وناتج محلي حجمه نحو 55 مليار دولار سنوياً، لكن بات في الوقت الراهن، لسوء الحظ، بحسب مرصد البنك الدولي، لا يتعدى الـ 20 مليار دولار، يعني أقل من النصف، جرّاء تراجع الإستثمارات والنمو، ما سيؤدّي إلى بطالة مخيفة وتراجع في نسبة العيش.

من الضروري أن نبدأ في اعادة هيكلة شركاتنا وأعمالنا وحتى حياتنا اليومية وطريقة عيشنا، ونتعايش مع هذه الوقائع الجديدة حتى تعبر العاصفة وننمو من جديد.

إنّ العالم ككل يعبر أزمة اقتصادية واجتماعية تاريخية وغير مسبوقة جراء جائحة “كوفيد – 19″، لكنّ اللقاح بات قريباً، وستكون 2021 سنة إعادة النهوض والنمو العالمي، لكن في لبنان حين سنستيقظ في نهاية هذا الوباء، ستكون مشكلتنا الاقتصادية والاجتماعية والمالية والنقدية، وباء أصعب بكثير، وسيعوزه لقاحات كثيرة على المدى القصير والمتوسط والطويل.​

د. فؤاد زمكحل

القيود على الليرة باقية رغم أزمات قطاعي الصحة والغذاء

أكّدت مصادر في البنك المركزي، انّ الاجراءات التي اتخذها مصرف لبنان لضبط سعر صرف الليرة أتت ثمارها، رغم تفاقم الاوضاع السياسية، مشيرة الى انّه من دون تلك التدابير كان سعر الصرف ليبلغ مستويات قياسية جديدة. وشدّدت المصادر على انّ مصرف لبنان لن يسمح بتهديد الأمن الصحي والغذائي جراء تقييد السحوبات، بل انّه على يقين بأنّ حجم الكتلة النقدية الموجودة في السوق يكفي لتأمين السيولة النقدية لمستوردي السلع الاساسية.

الأمن الغذائي مُهدّد والأمن الصحي أيضاً، وعلى جبهات عدّة، نتيجة تعميم مصرف لبنان الذي ألزم مستوردي السلع الاساسية المدعومة (محروقات، أدوية، معدات طبية، مواد غذائية) تأمين السيولة النقدية بالليرة لتمويل المستوردات. كذلك الامر بالنسبة لمستوردي مختلف السلع الغذائية والاستهلاكية غير المدعومة، والذين يعجزون عن شراء العملة لتمويل المستوردات بسبب خفض السحوبات بالليرة اللبنانية بالقطاع المصرفي.

هذه السياسة المتّبعة من مصرف لبنان لخفض الضغط الحاصل على الليرة اللبنانية في السوق السوداء ولجم انهيار سعر صرفها، تهدف أيضاً الى لجم الاستهلاك المحلي من اجل خفض حجم الاستيراد وخفض وتيرة الاستنزاف الحاصل لاحتياطي البنك المركزي من العملات الاجنبية، وتمديد مهلة وقف الدعم عن السلع الاساسية لاطول فترة ممكنة، على أمل التوصل الى توافق سياسي وتأليف حكومة تبدأ بالإصلاحات وتؤمّن الدعم المالي الخارجي المطلوب لإعادة ضبط الوضع المالي والاقتصادي.

إلاّ انّ سياسة شراء الوقت باتت تهدّد الامن الصحي والغذائي للمواطن اللبناني، بعد تراجع حجم الاستيراد بنسبة 93 في المئة، حيث انخفضت قيمة الإعتمادات المستنديّة المفتوحة للاستيراد خلال الاشهر التسعة الاولى من العام الحالي من 5 مليارات و678 مليون دولار في ايلول 2019 الى حوالى 547 مليون دولار فقط في ايلول 2020 وفقاً لإحصاءات مصرف لبنان، أي انّ عمليات الاستيراد منذ عام ولغاية اليوم باتت تقتصر على المواد الغذائية الاساسية والمحروقات والادوية والمعدات الطبية، وانقرضت كافة السلع الاستهلاكية المصنّفة كماليات.

ولكن بغض النظر عن ضرورة وجود الكماليات، فإنّ مستوردي المواد الغذائية يقولون انّ تعميم مصرف لبنان سيخفّض حجم استيراد المواد الغذائية الى النصف، مما يهدّد الامن الغذائي، كذلك الامر بالنسبة لمستوردي الادوية والمعدات الطبية، الذين يحذّرون من تراجع مخزونهم ونقص مرتقب في الادوية والمستلزمات الطبية، في حال لم يتمّ تأمين السيولة النقدية بالليرة من قِبل القطاع المصرفي. إلّا انّ مصادر في مصرف لبنان أكّدت لـ»الجمهورية»، انّ سياسة خفض السحوبات النقدية بالليرة وإلزام المستوردين تأمين السيولة النقدية للاستيراد، مستمرّان الى حين تأليف حكومة جديدة، يتمّ التوافق معها على خطة واضحة للأزمة المالية والاقتصادية.

واوضح المصدر المصرفي، انّ هدف ودور البنك المركزي الاساس اليوم هو ضبط سعر العملة المحلية ولجم الانهيار الحاصل بسعر صرفها، في ظلّ الأزمة السياسية القائمة، وقد اتخذ هذا الاجراء من اجل امتصاص الكتلة النقدية الضخمة الموجودة في السوق والبالغة 24 ألف مليار ليرة، وذلك عبر التجار والمستوردين. مشيراً الى انّ المستوردين والتجار ما زالوا قادرين على تأمين السيولة النقدية بالليرة من السوق، «والبنك المركزي يعمل جاهداً لمساعدتهم، ولن يسمح بتهديد الأمن الغذائي والصحي». لافتاً الى انّ تقييد السحوبات النقدية سيؤدي حتماً الى ترشيد الإنفاق والاستيراد.

وعمّا اذا نجح مصرف لبنان في ضبط سعر صرف الليرة نتيجة تقييد السحوبات بالليرة، أكّد المصدر المصرفي انّه في ظلّ تصاعد وتيرة التجاذبات السياسية حالياً، ووسط عدم تأليف حكومة او حتى تأكيدات حول امكانية تأليفها قريباً او قبل نهاية العام الحالي، «يمكننا القول انّ الاجراءات المتّبعة نجحت في ضبط سعر الليرة في السوق عند حوالى 7500 ليرة، والدليل على ذلك انّه عندما كانت الاجواء السياسية افضل من اليوم، بلغ سعر الصرف 9000 ليرة مقابل الدولار».

أضاف: «لو لم يتخذ البنك المركزي هذا التدبير في ظلّ الوضع السياسي الحالي، لكان سعر الصرف قد تخطّى مستوياته القياسية السابقة».

وبالنسبة لإمكانية رفع الدعم عن المحروقات، اشار المصدر الى انّ الدعم لا يمكن ان يستمرّ، «إلّا انّ القرار ليس من مسؤولية البنك المركزي، فهو قرار حكومي وسياسي، لا يمكن تحميل مسؤوليته لحاكم مصرف لبنان عبر رمي الكرة في ملعبه من اجل اتخاذه «. مشدّداً على انّ الأمن الغذائي والصحي أولوية، أهمّ من دعم استيراد المحروقات الذي تستفيد منه الطبقة الميسورة اكثر من الطبقة الفقيرة.

الأمن الغذائي مهدّد

بعد تحذير المستشفيات من خطر يهدّد الامن الصحي نتيجة عدم امكانية تأمين السيولة النقدية لشراء الادوية والمستلزمات الطبية، مما اجبر بعض المستشفيات على تأجيل العمليات الجراحية أو عدم تقديم بعض العلاجات بسبب نقص المعدات الطبية اللازمة وأدوية الامراض المستعصية، جاء امس دور مستوردي المواد الغذائية، مع تحذير رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي من تداعيات خطرة للتدبير الذي اتخذه مصرف لبنان والمصارف، القاضي بخفض السحوبات بالليرة من المصارف، على الأمن الغذائي.

ونبّه بحصلي في بيان، الى انّ هذا التدبير من شأنه خفض استيراد المواد الغذائية من الخارج الى أقل من النصف، نتيجة شحّ السيولة بالليرة التي تشكّل الأداة الوحيدة في هذه المرحلة الاستثنائية لتأمين السيولة بالعملات الأجنبية لتمويل المستوردات من المواد الغذائية المدعومة وغير المدعومة على السواء.

وأوضح بحصلي انّ نحو 50 في المئة من المشتريات في السوبرماركت تتمّ بالبطاقات الإئتمانية والنصف الآخر نقداً بالليرة اللبنانية، ووفقاً لتدبير مصرف لبنان، فإنّ المبالغ النقدية بالليرة فقط هي التي يمكن استخدامها لشراء الدولار من المصرف المركزي ومن السوق الموازية، لتمويل المستوردات الغذائية، في حين انّ النصف الآخر، اي مبالغ البطاقات الإئتمانية ليس بالإمكان استخدامها، لأنّ هذه العمليات تابعة للمصارف، وبالتالي فإنّ المصارف ترفض تسييلها إن كان بالدولار أو بالليرة، ما يعني انّ هذه المبالغ ستبقى محتجزة بالمصارف، ولا قدرة لنا على استخدامها في عمليات الاستيراد.

وقال بحصلي: «هذا يعني انّه في كل دورة تجارية، سيفقد المستوردون نصف قدرتهم الشرائية (حجم السيولة التي بإمكانهم إستعمالها) لتمويل مشترياتهم المقبلة جراء حجزها في المصارف، ما سيؤدي الى خفض كميات المستوردات الى النصف، وهكذا دواليك»، محذّراً من انّ «الطريق واضح، إما تمكين المستوردين من سحب أموالهم بالليرة اللبنانية الناتجة من بيع البضائع عبر البطاقات الإئتمانية، وإما سنصل الى مرحلة سيكون لدينا نقص حاد بالمواد الغذائية، ما يعني انّ الأمن الغذائي للبنانيين بات مهدّداً».

وطالب بحصلي مصرف لبنان والمصارف اللبنانية الأخذ بالاعتبار هذه المعطيات الهامة المتعلقة بأمر استراتيجي وحيوي، وإجراء مراجعة سريعة لهذا التدبير، وإتخاذ الاجراءات اللازمة التي من شأنها حماية ديمومة الامدادات الغذائية للبنانيين.

رنى يعرتي.

هل تعود الى المستنقع من نَفَذت بِريشِها؟

نجح ملف الدعم في خطف الاضواء من ملف التدقيق الجنائي الذي كان نجم «الساحة» لأسابيع طويلة. كنا ننام على تدقيق ونستفيق على تدقيق. ونسمع باستمرار معزوفة انّ الاصلاح لا يمكن ان يبدأ من دون التدقيق الجنائي. اليوم، صرنا ننام على دعم ونستفيق على دعم. وباتت مصطلحات الترشيد والاحتياطي الإلزامي خبزنا اليومي.

في الواقع، لا التدقيق الجنائي جدّي ويمكن أن يوصل الى نتيجة في ظل التوازنات السياسية القائمة، ولا وقف أو استمرار أو ترشيد الدعم يساهم في حلحلة الأزمة الخانقة التي تسيطر على البلد، وتدفع به نحو مسار انحداري مستمر وسريع، وسيصبح أسرع وأوضح وأقسى بنتائجه مع مرور المزيد من الوقت.

في ملف التدقيق الجنائي، عدنا الى المربّع الأول. وبانتظار الإجابة الرسمية لشركة Alvarez and Marsal لا بدّ من إيراد الملاحظات التالية:

اولاً- الإيجابية الوحيدة في عودة المُراسلة مع الشركة المنسحبة، انّها لم ترفض فوراً المقترح اللبناني الرسمي للعودة الى مهمة التدقيق الجنائي، استناداً الى المتغيّرات التي طرأت في القرار الذي اتخذه مجلس النواب، لكن ذلك لا يكفي للاعتقاد انّ الشركة التي تخلّت عن اتعابها لتهرب من المستنقع اللبناني ستوافق، بمجرد الاطلاع على قرار مجلس النواب واعتباره عنصراً مستجداً في القضية، على العودة الى المستنقع.

ثانياً – اذا سلّمنا جدلاً بأنّ الجواب الرسمي للشركة، والذي يتوقّع المسؤولون وصوله في الـ48 ساعة المقبلة، سيكون ايجابياً، بمعنى الموافقة على مبدأ العودة، إلّا أنّ ذلك ليس نهاية المطاف، بل بداية الطريق، لأنّ «ألفاريز» ستطلب توقيع عقدٍ جديد وبشروط جديدة. وهذه المرة ستكون الشروط قاسية، ومن المستبعد ان تتمكّن الحكومة من السير بها.

ثالثاً – بصرف النظر عن عودة «الفاريز» أو التوجّه نحو شركة عالمية أخرى لمنحها عقد التدقيق الجنائي، من حق الناس ان يسألوا، لماذا علينا ان نجري تدقيقاً جنائياً. هل نبحث فعلاً عن متهمين في جرائم هدر المال والفساد؟ ألا يشكّل ما يجري في تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، وردود الفعل على ما بلغه المحقق العدلي في الجريمة، وما هو متوقّع في الأيام المقبلة، مؤشراً يُقنع من لم يقتنع بعد، بأنّ كل ادعاءات المحاسبة هي مجرد حفلات زجل ودجل سياسي، ولن تصل الى نتيجة؟

رابعاً – في زمن الغرق، الأولوية دائماً لإنقاذ الركاب والسفينة، وكل ما عدا ذلك يأتي لاحقاً. وهنا لا بدّ من توضيح حقيقة ينبغي أن يعرفها الجميع: ليس صحيحاً انّ التدقيق الجنائي ممر إلزامي للحصول على مساعدات صندوق النقد الدولي، بل أنّ المطلوب هنا تدقيق مالي يوضح حقيقة الأرقام والوضع في مصرف لبنان، لكي يتمكّن صندوق النقد من إقرار خطة انقاذ تتماهى وهذا الواقع.

في هذا السياق، تشير المعلومات المتوفرة الى أنّ شركتي Oliver Wyman وKPMG أحرزتا حتى الآن تقدّماً ملموساً في التدقيق المالي في أوضاع مصرف لبنان. وقد تبلّغت وزارة المال ارتياح الشركتين لتعاون المركزي مع متطلباتهما. وبالتالي، فإنّ التقرير النهائي الذي سيحدّد حقيقة الوضع المالي في مصرف لبنان لن يتأخّر في الصدور قريباً. هذا التقرير سيشكّل مستنداً كافياً لصندوق النقد أو لأية جهة دولية أخرى، لكي تتعاطى مع أي خطة انقاذ بناء على أرقامه. وهذا هو الأهم اليوم بالنسبة الى البلد. بعد ذلك، ليتسلّى أرباب المنظومة السياسية بالتدقيقات الجنائية التي باتت ستشمل كل المؤسسات والادارات العامة، بقدر ما يرغبون.

في ملف ترشيد الدعم، كل الخيارات مريرة، لكن أخطرها على الاطلاق تمييع مسألة اتخاذ قرار، وابقاء الوضع على ما هو عليه بذريعة عدم الوصول الى توافق. وفي المعلومات، انّ التوجّه العام لدى حكومة تصريف الاعمال يقضي بإقرار خطة تقوم على ركيزتين:

اولاً – تأمين دعم مالي مباشر الى الأكثر حاجة، عبر ما بات يُعرف بالبطاقات التمويلية.

ثانياً – رفع تدريجي للدعم، بحيث سيستغرق الأمر بضعة أشهر قبل الوصول الى مسار ثابت، سيكون معه الدعم للسلع (محروقات وأدوية وطحين ومواد أولية) ضئيلاً.

هذه الخطة تشوبها ثغرة اساسية تتعلق بالتوجّه نحو بطاقات تمويلية بالليرة من الخزينة، وستوزّع على لوائح محدّدة. وهنا قد يحصل التالي: ينهار سعر صرف الليرة بسرعة اكبر من الوضع الحالي، ويلتهم التضخّم المبلغ الذي سيتقاضاه من سيتمّ تصنيفه محتاجاً، ويزداد الضغط المعيشي على كل الطبقة الوسطى، ويدخل البلد في دائرة مُفرغة. كما أنّ تحديد لوائح المحتاجين قد يخضع لحسابات تنفيع الأزلام والمحاسيب.

لذلك، من المجدي أكثر إصدار بطاقات تمويلية لكل العائلات بقيمة 100 دولار شهرياً، بحيث لن يتجاوز الدعم عتبة الـ100 مليون دولار شهرياً، على أساس مليون عائلة. هذا الامر يضمن عدم انهيار قيمة المبلغ الذي سيجري تقديمه للناس، ويساهم في تخفيف الضغط عن سعر صرف الليرة في السوق السوداء.

لكن مثل هذا القرار لا يستطيع ان يتخذه مصرف لبنان، بل يحتاج الى قرار سياسي متوافق عليه. وهذا ما ينبغي ان يحصل الآن، بانتظار هبوط الوحي على أهل المنظومة السياسية، لاتخاذ قرار تشكيل «حكومة مهمّة» تبدأ تنفيذ خطة للإنقاذ.

انطوان فرح

أزمة لبنان المالية: “النقاش ماشي والصرف ماشي”… والنتيجة معروفة

لا يبدو انّ المنظومة السياسية ستنجح في تجاوز قطوع معالجة الدعم، ومن المرجّح أن تستمرّ الأمور على حالها، وسيبقى «الصرف ماشي» على حاله، الى حين استنزاف آخر ما تبقّى من احتياطي بالعملات الاجنبية، بانتظار أعجوبة إلهية.

على غرار مختلف الاستحقاقات السياسية والمالية والمعيشية التي مرّت على لبنان، لن تتوصل المنظومة الحاكمة في الوقت المناسب الى قرار جدّي لرفع الدعم أو ترشيده، او وضع آلية واضحة لتوفير دعم مباشر للأسر الاكثر حاجة، بل ستطول الاجتماعات والاقتراحات والاعتراضات بالنهج نفسه المتّبع عند تأليف وتشكيل الحكومات، لدى مفاوضة صندوق النقد الدولي، لدى وضع خطة إنقاذ مالية اقتصادية، عندما جرى إقرار سلسلة الرتب والرواتب، لدى تعيين مسؤولين اداريين، وغيرها من الاستحقاقات التي واجهتها المنظومة بحلول «ترقيعية» مستوحاة من سياسة شراء الوقت التي تحترفها.

بين رفع الدعم بالكامل وتوزيع بطاقات تمويلية لكافة اللبنانيين، وبين ترشيد الدعم وتأمين بطاقات تموينية للأسر الاكثر حاجة، تكثر الاقتراحات والتحليلات والاعتراضات، في حين لا تتوفّر الاموال لتمويل أي من تلك الخيارات، من دون المسّ بما تبقّى من اموال المودعين او عبر طباعة العملة. أي خيار سيمكّن السلطة من شراء الفترة الاطول من الوقت بالكلفة الاقل؟

في هذا الاطار، اعرب مسؤول سابق في صندوق النقد الدولي، عن صدمته مما يحصل على صعيد النقاش الدائر حول الترشيد، معتبراً انّ السلطة لا تملك خيارات في هذا الموضوع في ظلّ فقدانها للعملة الاجنبية الكافية. واشار الى انّ الدولة اللبنانية لا تستطيع الاستدانة من اجل مواصلة الدعم، كما انّ احتياطي البنك المركزي لم يعد يخوّله مواصلة الدعم سوى لمدّة شهرين.

واعتبر انّه في ظلّ الوضع الراهن، لا يمكن الحديث عن ترشيد الدعم بل يجب رفعه بالكامل واعتماد الدعم الموجّه للأسر الأكثر حاجة، لأنّ الاستمرار بدعم السلع يعني الاستمرار بدعم الميسورين على حساب الفقراء. ورأى انّ لجوء الحكومة الى خيار ترشيد الدعم على السلع، مردّه لعدم قدرتها على الانتقال الى الدعم الموجّه للافراد، بسبب عدم وجود البنية التحتية اللازمة، أي شبكة الأمان الاجتماعي.

وشدّد على انّ الدعم من خلال سعر الصرف هو إجراء أدّى الى تعدّد اسعار الصرف في السوق وخلق تشوهات عدّة في الاقتصاد وساهم في هدر الاموال، من خلال عمليات الفساد والتلاعب بالفواتير او تهريب السلع او اعادة تصديرها، موضحاً انّه يجب ان يكون الدعم جزءاً من موازنة الدولة عبر تخصيص مبلغ معيّن بالموازنة بشكل سنوي للدعم.

وقال الخبير الدولي، انّ الطبقة الحاكمة أضاعت عاماً من الوقت منذ انتفاضة تشرين، وبدل وضع خطة شاملة يتمّ من ضمنها توجيه الدعم، اعتمدت تدبيراً خاصاً وبشكل عشوائي لدعم السلع، علماً انّها كانت على دراية بأنّ هذه الخطوة ستكون على حساب احتياطات البنك المركزي وخصوصاً المودعين، واصفاً تلك القرارات بالسياسية وليس الاقتصادية، مما يؤكّد انّ السلطة الحاكمة غير مؤهّلة لاتخاذ قرارات اقتصادية.

واشار الى انّ الدعم الاجمالي والعشوائي استُخدم لتهريب الاموال الى الخارج، والدليل على ذلك، تراجع احتياطات مصرف لبنان بعد اندلاع الثورة حوالى 14 مليار دولار، علماً انّ 5 مليارات منها فقط استُخدمت للدعم، «وهذا ما يفسّر عدم رغبة السلطة بإقرار قانون «الكابيتال كونترول» من اجل الاستمرار بتهريب اموال السياسيين واصحاب النفوذ الى الخارج».

وكرّر انّ لبنان لا يملك اليوم القدرة والامكانيات للاستمرار بالدعم الاجمالي، وتوجيهه بات ضرورة ملحّة «إلّا انّه للأسف ليس هناك بيانات وارقام دقيقة حول عدد المستفيدين من الدعم، من اجل تقدير كلفة الدعم الموجّه، بسبب عدم توفر شبكة امان اجتماعي».

وسأل: «كيف تنوي السلطة الحاكمة تمويل الدعم الموجّه بعد نفاد احتياطي مصرف لبنان المتبقي (650 مليون دولار)؟».

وذكّر بأنّ الاعتراضات على برنامج صندوق النقد الدولي كانت في السابق بسبب توجّهه لرفع الدعم، «علماً انّ الصندوق لا يعمد الى رفع الدعم بل الى توجيهه، ولو تمّ التوصل الى اتفاق معه، لما كانت احتياطات مصرف لبنان قد هُدرت على غرار ما حصل».

وشدّد الخبير الدولي على انّ لبنان لا يملك في نهاية المطاف سوى خيار ومخرج اللجوء الى صندوق النقد الدولي، «ولكن موقف لبنان سيكون هذه المرّة أضعف بكثير مما كان عليه في آذار ونيسان الماضيين»، محذّراً من انّ برامج صندوق النقد الدولي ليست عصا سحرية، ولا يمكن ان تنجح من دون وجود توافق سياسي على عملية الاصلاح، «كلّما تأخّر لبنان باللجوء الى الصندوق كلّما زاد الفقر وكلّما تفاقمت صعوبة الخروج من الأزمة».​

رنى سعرتي.