أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

رهانات خاطئة في دولة منهارة مفلسة

يبدو إننا دخلنا في واحدة من أصعب فترات الإضطراب في العملة، وحيث يبدو وفي كثير من الأوجه، اننا أشبه بفنزويلا والأرجنتين، وقد يكون من أهم الأسباب عجز دائم في ميزان المدفوعات وعدم قدرة البنك المركزي على التدخّل في سعر الصرف، من أجل إبقائه ضمن معدلات مقبولة.

من المعروف في الاقتصاد، انّ أموراً ثلاثة لا يمكنها أن تتواجد في الوقت نفسه: سعر صرف ثابت – حرّية إنتقال الأموال وسياسة مالية. ولطالما إستفدنا في السنوات الثلاثين الماضية من سعر صرف ثابت، وتمتّعنا بحرّية إنتقال الأموال، ما يعني إننا وللأسف لم يكن لدينا سياسة مالية. وكان همّ البنك المركزي الوحيد تثبيت سعر صرف العملة، دون الأخذ في الأعتبار أي شيء آخر.

ولكن، وعلى ما يبدو الآن، أصبحنا في أزمة عملة، حيث نلاحظ التراجع المخيف في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، علماً أنّ البنك المركزي أستنفد قدرته على التدخّل- أو أنه لا يريد- لإنقاذ ما تبقّى من الليرة. وعكس ما ندرسه في مادة الاقتصاد، ما زال البنك المركزي يطبع العملة، الأمر الذي يساهم الى حدٍ بعيد في زيادة التضخم الذي فاق كل التوقعات وتراجعت معه القدرة الشرائية، وبات أكثر من 50 بالمائة من الشعب اللبناني في حالة اقتصادية مزرية.

من الواضح هنا، وجود تواطؤ بين السياسيين والمصارف والمركزي، ولا أحد يعلم ما هي رهاناتهم، والأكيد دخلنا في المجهول، وما يُنشر عن تدهور سعر الصرف الى مستويات مخيفة، منطقي، كون الدولة عاجزة عن فعل أي شيء، وما زالوا مختلفين على جنس الملائكة، وما إذا كانت الشركات تتعاطى مع إسرائيل، أو تبيان ما إذا كانت ميول صندوق النقد الدولي أميركية بإمتياز.

وإذا ما قارنا وضعيتنا ببعض الدول مثل فنزويلا والأرجنتين والبرازبل وتركيا، نرى أننا قد نكون أشبه في وضعيتنا الحالية الى الأرجنتين، لا سيما من ناحية زيادة مخاطر الاقتراض السيادي وتراجع البيزو مقابل الدولار، في فترة لا تتعدى الـ8 أشهر، الأمر الذي أدّى الى زيادة التضخم وإرتفاع مخيف لأسعار الفوائد – ومع فارقين مهمين: لا يمكننا رفع أسعار الفوائد مع إنهيار القطاع المصرفي، ولم نحصل على رزمة المساعدات التي حصلت عليها الأرجنتين، وبلغت 50 مليار دولار في حزيران الماضي، وهي أكبر رزمة مساعدات يقدّمها صندوق النقد الدولي في تاريخه.

هذا وقد تصبح عملتنا مثل البيزو غير محصّنة، إلا إذا أستطاعت الدولة إعادة هيكلة ماليتها العامة ودفع مستحقاتها من «اليوروبوند» وغيرها. أما بالنسبة للمستثمرين الأجانب، فلا يمكننا إدخالهم في أية معادلة، لا سيما وأنّ ما يحدث في القطاع المصرفي هو سرقة منظمة لأموال المودعين من لبنانيين ومغتربين، مما يعني إنعدام الثقة مع قطاع كان يشكّل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، كون المغتربين غير مستعدين لإرسال أموالهم الى بلد مسروق منهوب لا ثقة بقادته ولا بحكومته ولابسياسييه ولا بمصارفه. وعادة ما تتعلم الدول من التاريخ ومن خبراتها او خبرات غيرها من الدول. وإذا ما عدنا الى العام 1990 نرى أنّ الأرجنتين اعتمدت ولغاية العام 2001 مجلس النقد، وهذا ساعدها كثيراً في الخروج من أزمتها المالية السابقة. وبإعتراف الجميع، إنّ وقف العمل بمجلس النقد، ساهم الى حدٍ بعيد في إعادة الأرجنتين الى الوراء، لا سيما وانّ التخلّي عنه جاء طوعياً في خضم أزمة مصرفية خانقة، وقد تكون هذه الفكرة سيئة للغاية.

في الواقع، قد تكون أفضل طريقة لتحاشي أزمة عملة هي سياسة مالية حكيمة للبنك المركزي، حيث يلجم التدخّل في سعر الصرف ويبقي طبع العملة في أدنى مستوياته، ويبدو انّ البنك المركزي اختار عكس ذلك تماماً، أي انّه ما زال يطبع العملة، الأمر الذي ساهم الى حدٍ بعيد في سرعة انهيارها.

قد يكون الحل على المستوى الطويل المدى تشكيل مجلس للنقد، اذ في مقدوره، أن يُلزم الدولة بتحسين ميزان مدفوعاتها، لا سيما وانّه في هذه الوضعية لا يمكنها الاستدانة من البنك المركزي.

هكذا تبقى الأرجنتين خير مثال للدولة اللبنانية، علماً انّ اقتصاد الأرجنتين منتج، إنما يعاني من الفساد المستشري. وبالمختصر، دول عدة شهدت تراجعاً كبيراً في سعر صرف عملتها مقابل الدولار، والحل يكون عبر الاصلاحات، لا سيما تخفيف العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات ووقف الهدر، من خلال جملة اصلاحات تبدأ البارحة قبل اليوم، وأن يترافق ذلك مع وقف النزف الحاصل عبر طباعة العملة الوطنية.

الدروس كثيرة، وما علينا سوى أخذ العِبَر. وبإنتظار الاصلاح، وما سوف يحدث، يُعتبر لبنان دولة منهارة مفلسة، تتحكّم بمفاصلها حكومة ما زالت تفتش عن الحلول، وتقوم برهانات خاطئة غير مستوفية للحد الأدنى من الشروط الاقتصادية المطلوبة.

بروفسور غريتا صعب.

قطبة مخفية في دولار السوق اللبنانية السوداء

في الأوساط القريبة من الحكومة والعهد، يسري كلام مفاده انّ سعر صرف الدولار في السوق السوداء سيواصل الانخفاض الذي بدأ قبل بضعة ايام وصولاً للاستقرار عند السعر شبه الرسمي الذي حدده مصرف لبنان للصرّافين، ولقبض الحوالات الدولارية بالليرة عبر شركات تحويل الأموال.

يدّعي مقرّبون من العهد ومن الحكومة، انّ التراجع في سعر صرف الدولار في السوق السوداء يعود الفضل فيه الى إجراءات قرّر مصرف لبنان اتخاذها بتوجيهات من القيادة السياسية في البلد. ويذهبون أبعد من ذلك بالقول همساً، انّ الارتفاع الجنوني للدولار في السوق السوداء سياسي، وانّ من يعمل على المضاربة ورفع سعر الدولار سيضطر الى وقف هذا النهج لأنه بات مكشوفاً. ويغمز بعضهم في هذا الكلام من قناة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فيما يذهب آخرون الى الاشارة بالاصبع الى الولايات المتحدة الأميركية، بالتعاون مع اطراف سياسية في الداخل.

هل يمكن أخذ هذا الكلام على محمل الجد والتعاطي معه على أساس وجود قطبة مخفية في موضوع اسعار الصرف؟ وهل سيواصل دولار السوق السوداء التراجع فعلاً ليصبح سعره موازياً لسعر الصرف المحدّد من قبل المركزي؟

حالياً، يوجد 3 اسعار لصرف الدولار. السعر الرسمي الثابت (1507)، السعر الرسمي المُبتكر (3850-3900)، سعر السوق السوداء المتحرّك الذي لامسَ قبل حوالى الاسبوع، الـ10 آلاف ليرة، قبل أن يبدأ تراجعاً تدريجيّاً الى ما دون الـ7 آلاف ليرة. القاسم المشترك بين الاسعار الثلاثة انها كلها مُصطنعة، ولا تعكس الوضع الاقتصادي والمالي في البلد، كما يُفترض. واذا كان سعر العملة في أي بلد يرتبط بنسب النمو، والتضخم، وسعر الفائدة، والثقة في النظرة المستقبلية (outlook)، فإنّ هذه المعايير مختلّة في الوضع اللبناني الحالي، الى درجة انّ بعضها غير واضح، وبعضها الآخر تحت الصفر.

هذه الحقيقة تقود الى الاستنتاج انّ الاقتصاد دخل مرحلة الانهيار غير المُبرمج حالياً. وبالتالي، لا يمكن إعطاء تقديرات واقعية لقيمة سعر صرف الليرة. وكل الاسعار القائمة اليوم هي أسعار وهمية، بعضها ثابت بقرار، وبعضها الآخر مُتحرّك من دون قرار.

ما ينبغي أن يكون واضحاً لأي مسؤول يريد أن يُبدي رأياً في موضوع سعر صرف الليرة، هو أنّ الوضع الذي يمر به البلد اليوم لا يسمح تقنياً وعلمياً بتحديد سعرٍ منطقي. إذ يُفترض انّ الاقتصاد دخل في مرحلة تجميد اصطناعي منذ إعلان التعثّر، في آذار 2020، وبدأت مرحلة انتقالية يُفترض أن يتم تحديد الفترة التي ستستغرقها، قبل الانتقال الى تنفيذ خطة العبور من الافلاس الى التعافي التدريجي. وبالتالي، لا يمكن منذ الآن تقدير السعر الحقيقي لليرة، وينبغي انتظار بدء تنفيذ خطة الانقاذ. وفي المناسبة، هذه واحدة من نقاط الضعف الكثيرة في الخطة الحكومية، والتي تُحدّد منذ الآن سعراً للصرف في السنوات الخمس المقبلة، في حين انّ المطلوب اختبار السوق بعد بدء تنفيذ الخطة، وبناء على نتائج الاختبار يمكن الركون الى سعر صرف مَرن، يتحرّك ضمن هوامش مضبوطة، من دون أن يعني ذلك العودة الى سياسة التثبيت.

في عودة الى دولار السوق السوداء، تُبيِّن تجارب الدول التي مرّت بأزمات مالية واقتصادية حادة، أنّ التحكُّم في سعر الصرف يصبح مستحيلاً، وانّ أسوأ ما قد يجري لأيّ اقتصاد ليس انهيار عملته، بل الانهيار الفوضوي، الذي يعني أن يصبح الهامش بين القعر (Bottom line) والقمة شاسعاً ومضطرباً صعوداً ونزولاً. وهذا ما عانَته، على سبيل المثال البرازيل بين 2008 و2009 ومن ثم بين 2012 و2013، رغم أنّ أزمتها لم تكن معقدة وعميقة، كما هي حال الأزمة في لبنان. هذا الوضع المضطرب يشلّ كل الاعمال تقريباً، خصوصاً التجارية منها.

اذا حاولنا أن نبحث عن القعر في دولار السوق السوداء، يمكن القول تقديرياً من دون القدرة على الجزم، انه لن يكون تحت مستوى الـ6000 ليرة في الفترة المقبلة. ومع استمرار الحاجة الى تكبير حجم الكتلة النقدية بالليرة، ومع استمرار الغموض في إمكان نجاح المساعي للوصول الى بدء تنفيذ خطة إنقاذية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، قد يعاود الدولار ارتفاعه الدراماتيكي، رغم البدء في تنفيذ دعم الاستيراد لسلة استهلاكية فضفاضة كلفتها لا تقل عن مليار ونصف المليار دولار سنوياً، وفي هذا الوضع سيُعاود الدولار اختبار سقف الـ10 آلاف ليرة، وقد يتجاوزه بما يعني تحديد قمة جديدة للسعر، بما يرفع في المقابل حدود القعر من 6000 ليرة الى رقم أعلى قد يكون 8000 أو 9000. وهكذا يمكن أن تستمر عملية الارتفاع مع تقلبات كبيرة يبلغ فيها الهامش بين القعر والقمة اكثر من 4000 ليرة، وتستمر خلالها ايضاً ما يُعرف في الاسواق المالية بعملية جس النبض، قبل بلوغ الدولار مستويات جديدة من الارتفاع.

من يتوقّع انخفاض دولار السوق السوداء لملاقاة دولار الصرّافين واهِم، إلّا اذا رفعنا وبصورة دائمة سعر دولار الصرافين. ومن يقول انّ ارتفاع الدولار سياسي، واهمٌ أيضاً، أو يحاول التعمية والتغطية على فشله. وقبل ان يبدأ تنفيذ خطة الانقاذ ليتّضِح المسار الذي سيسلكه البلد في السنوات الخمس المقبلة، لا أمل في تغيير المشهد المضطرب القائم حالياً.

انطوان فرح.

حلّ انهيار الليرة… بـ “صندوق تثبيت القطع”

التقلّبات الحادّة في سعر الصرف تقضي على الثقة وتسير بالبلد إلى الهاوية

أعاد “موت” لبنان إقتصادياً إحياء فكرة صندوق تثبيت القطع او ما يعرف بـ “currency board”. فاستمرار طباعة الليرة اللبنانية كبديل عن الاقتراض لتمويل الإنفاق العام لم يخفّض قيمة العملة فحسب، بل تحول سبباً لكل المشاكل. الليرة خسرت من قيمتها، وارتفع التضخم والفقر وانهارت القدرة الشرائية للمواطنين. هذه السياسة بدأت تتحول من عملية إطلاق الاقتصاد النار على قدمه، إلى “روليت” روسية ستودي بالبلد إلى الموت عاجلاً أم آجلاً.

طباعة العملة التي كانت تغطى تاريخياً من فائض ميزان المدفوعات وصلت إلى حائط مسدود مع تسجيل هذا الميزان عجوزات متراكمة منذ العام 2011 فاقت 22 مليار دولار. وبدلاً من ان توقف الحكومة هذه العملية وتنصرف إلى تخفيف الأكلاف من خلال الإصلاح الجدي، استمرت بالطباعة حتى وصلت كتلة النقد المتداول M0 إلى حدود 14 تريليون ليرة. هذه الخيارات النقدية الخاطئة المترافقة مع أسوأ أزمة اقتصادية، أعدمت الثقة وأدّت إلى تقلبات حادة في سعر صرف الليرة. والأخطر أنها تترك الباب مفتوحاً أمام احتمال هبوطها الى رقم من 6 أصفار.

سعر الصرف الجديد

قبل أيام برزت مقاطع فيديو لاستاذ علم الاقتصاد في جامعة “جونز هوبكنز” ستيف هانكي، يتحدث فيها عن إمكانية إعادة التوازن والاستقرار الى سعر الصرف سريعاً من خلال ما يعرف بـ currency board. فهل يشكل “صندوق تثبيت القطع” المدخل لوقف انهيار الليرة وبدء الإصلاحات؟

تشير الابحاث إلى ان هذه الآلية نجحت في اكثر من 70 بلداً حول العالم. وهي تقضي بشكلها العريض بطباعة ليرات بمقدار ما يتوفر من دولارات. أي على العملة الوطنية ان تكون مغطاة بنسبة 100 في المئة بالدولار. فان دخل البلد على سبيل المثال 5 مليارات دولار سنوياً نطبع مقابلها 7.5 مليارات ليرة فقط، او ما يعادلها من ليرات بحسب سعر الصرف الجديد. “السعر المعتمد للصرف في المعادلة الجديدة يتحدد عادة بعد التوصل لاتفاقية نهائية تقر باعتماد البلد “صندوق تثبيت العملة” وتحرير سعر الصرف كلياً لمدة شهر”، تقول الباحثة في علم الاقتصاد د. ليال منصور. و”بالتالي فان المواطنين يعلمون انه بعد شهر سيكون لديهم أكثر نظام موثوق فيه عالمياً لحماية سعر الصرف، وأن عملتهم الوطنية ستكون ثابتة لا بل قيمتها سترتفع. فيتوقفون عن شراء النقد الاجنبي ويعمدون في المقابل الى بيع ما يحتفظون به من دولار. مما يساهم ايضاً برفع سعر الصرف. وفي الحالة اللبنانية فإنه من الممكن ان يكون 5 آلاف أو 6 آلاف وبأقصى حالاته سعر السوق الموجود”.

المعادلة

في المرحلة اللاحقة تتوقف عملية طباعة الليرة اللبنانية بشكل عشوائي وتصبح محكومة بالمعادلة التالية: كمية الدولار الموجودة = النقد المتداول بالليرة + نسبة محددة من قيمة الودائع بالدولار (قد تكون 10 في المئة أو أكثر أو أقل) مضروبة بسعر الصرف المعتمد ومقسومة على سعر الصرف FX AMOUNT = MO+%CD/EX RATE.

هذه الآلية الجديدة تتطلب موافقة من صندوق النقد الدولي. وان يلحظ برنامجه المخصص للبنان، الآلية الجديدة لربط العملة. اما حسناتها فهي تدفق الكثير من الاموال من الخارج. وبحسب منصور فإن “بروتوكول Currency Board ينص على ان إجراء صندوق النقد الدولي دراسة لتحديد سعر الصرف ودعم البلد بالنقد الاجنبي من خلال طريقتين: إما حث الدول على توفير الأموال للبلد المُساعَد عبر القروض وغيرها من الآليات. وإما عبر الخصخصة. وفي كلتا الحالتين تتأمن مبالغ كبيرة من الدولار”. ومن جهة أخرى فإن الطلب على الليرة اللبنانية سيرتفع نسبياً في الفترة الاولى بسبب استمرار ارتفاع الفوائد على الليرة، مما يؤمن مزيداً من التحويلات من الدولار الى الليرة للاستفادة من سعر الفائدة.

هذه المبالغ تعتبر بالغة الاهمية في المرحة الاولى، بحيث يجب ان “يفوق احتياطي الدولار الحاجة إلى طباعة العملة بما لا يقل عن 30 في المئة”، يقول الناشط في تحالف وطني مارك جعارة. “إذ ان الموازنة تكون ما زالت مختلة في الفترة الاولى. ويكون البلد في مرحلة انتقالية لتأمين الادارة الصالحة البعيدة عن الهدر والفساد”.

إيجابيات وسلبيات

إعتماد مجلس تثبيت النقد لا يحل مشاكل البلد ولا يرجع الودائع لاصحابها. انما الأكيد انه يؤمن الحل لأحد أهم عناصر الأزمة المتمثل بإيقاف تقلب سعر الصرف. فهذا الاجراء يجب ان يترافق، بحسب جعارة، “مع اعادة هيكلة الدين العام والقطاع المصرفي والبدء بالإصلاحات. خصوصاً بعد عجز الدولة عن تمويل نفقاتها من طباعة العملة”. فقاعدة عمل الاقتصاد تصبح متوافقة مع المثل القائل: “على قد بساطك مد إجريك”. ولهذا تسمى هذه الآلية بـ “الصندوق” من وجهة نظر منصور. “أي لا يخرج من ليرات إلا بقدر ما يدخل اليه من دولار”.

هذه الآلية التي طرحت قديماً من دون جدوى أصبحت اليوم اجبارية لأن “البلد يحتضر”، برأي منصور. “فهذه ليست وصفة موحدة لكل الدول التي تواجه مشاكل. وهي لم توصف لمصر مثلاً. انما تعتبر اليوم أكثر من ضرورية في حالة لبنان الذي يحتضر اقتصادياً. فاعتمادها يعيد الثقة بالاقتصاد، ويعطيه الحياة. وهي تعتبر بمثابة إعادة تأهيل للبلد يجب عدم التخلي عنها سريعاً عند اعتمادها”. في العام 2000 عندما تم رفض اعتماد هذه الآلية، كانت الثقة لم تفقد بعد بالبلد والدليل تحقيق لبنان انجازات دولية من خلال باريس واحد وباريس 2 ولم يكن هناك من نية في سحب صلاحيات المركزي الاستثنائية ودوره السيادي في طباعة العملة. إنما اليوم ومع “انعدام الثقة وبرهنة السياسات النقدية انها ليست على قدر المسؤولية التي اعطيت لها أصبح الانتقال من نظام soft peg إلى صندوق تثبيت العملة أو hard peg لزاماً لوقف النزف الحاصل يومياً على كل المستويات”، تقول منصور.

هل يشكّل تغير الظروف اليوم وسقوط لبنان في الهاوية حافزاً لاعتماد مثل هذه الآلية؟ أم ان فساد الطبقة الحاكمة سيدفعها إلى رفضها وتقويض كل جهود الإنقاذ، لانه ببساطة يعني منع الطبقة الحاكمة من الإنفاق العشوائي؟​

خالد ابو شقرا.

سياسات خاطئة وخيارٌ يتيم لا بدّ منه

السياسات الخاطئة التي تعاقبت منذ ثلاثين عاماً دفعت لبنان الى أسوأ أزمة في تاريخه، مع تراجع سعر الصرف بشكل عشوائي، وبروز خطر المجاعة الذي يهدّد أكثر من 50 بالمائة من الشعب اللبناني.

يبدو أنّ الحكومة لم تفقه بعد حجم الكارثة التي وقع فيها البلد، أو أنّها غير قادرة على مواجهتها. وفي جميع الأحوال، وبعد 100 يوم، وتعداد إنجازات وهمية بكل ما للكلمة من معنى، بات عليها حكماً أن تستقيل لأنّها غير قادرة، وعاجزة، وسياسية بإمتياز، وذات لون واحد، قد لا يكون اللون الذي يريده اللبنانيون جميعاً.

وإذا ما أختارت هذه الحكومة التوجّه شرقاً، فيجب أن نكون قادرين على الالتفاف على المجتمع الدولي والدول المانحة، والتأكّد من أنّ الشرق قادر على مساعدتنا أقله. ولهم أقول، إنّ الشرق غير قادرعلى القيام بأي عملية إنقاذية، وإنّ الدول المانحة ما زالت تنتظر من الدولة اللبنانية جملة أصلاحات ما زلنا نتهرّب منها وكأننا لا نتكلم اللغة نفسها أو أننا نعجز عن القيام بأي اصلاح. وفي الحالتين، وجب على الحكومة التنحّي طالما أنّ أنجازاتها هي موضوع أنشائي أو فيلم عربي طويل نهايته ستكون حتماً حزينة.

والاحتجاجات اليوم ليست سوى تعبير عن رفض واقع الحال الذي ضرب البلد، وجعلنا نطلب مساعدات خارجية. والأهم أنّ المؤسسات المانحة غير مقتنعة بجدّية المفاوض اللبناني، الذي ما زال يتحايل على الأمور ويحاول التنصّل منها، لاسيما في الكهرباء والمرافئ غير الشرعية وتخمة الموظفين في القطاع العام، وهي أمور بديهية ويجب تصحيحها في أقرب وقت ممكن.

في هذا السياق، واذا كانت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ما زالت قائمة، إلّا أنّ المسائل معقّدة للغاية وتتطلّب تشخيصاً لحجم الخسائر ومصدرها، فضلاً عن خيارات ملائمة لمعالجتها على نحو فعّال. وحجم الخسائر هذه كبيرة، وما زالت السلطات اللبنانية غير متفقة على أرقام موحّدة. وحسب الصندوق، لم يتوصلوا بعد الى مناقشة جدّية في إطار الدعم الممكن للبنان. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نحن جدّيون في التعاطي مع الصندوق، والى أي مدى يمكننا أن نُجري هذه الاصلاحات، لاسيما أنّ أموراً بديهية وجب البدء بها حتى قبل طلب المساعدة. وللذين لا يريدون مساعدة الصندوق عليهم أن يعرفوا أنّه الخيار الوحيد للحصول على دعم المجتمع الدولي والمؤسسات المانحة، ولن يكون لنا خيار آخر، خصوصاً إننا دخلنا في المجهول، ولا يمكن الاتكال على وزراء ومستشارين جاءت بهم الصدفة، بل وجب تشكيل خلية أزمة من إقتصاديين تتكلم اللغة نفسها مع الصندوق وليس شعراء بلاط يتكلمون لغة أسيادهم.

علماً أنّ خبرات الدول متفاوته. فإذا أخذنا اليونان على سبيل المثال، فإنّها عانت الكثير في السنوات الخمس الماضية، إلّا أنّ عملتها بقيت ثابتة، الأمر الذي جعلها تستوعب المرحلة الحرجة، محاولة الخروج من أزمتها المالية، وقد ساعد في ذلك صندوق النقد الدولي، مع التزام كامل من قِبل الحكومة اليونانية، ودعم قوي من الأتحاد الأوروبي. أما في بعض الدول الأخرى، فقد إختارت الدولرة، وعلى سبيل المثال الأكوادور، التي عانت ولفترات طويلة من عدم الاستقرار السياسي، نرى أنّها حافظت على معدلات منخفضة من التضخم وعملة مستقرة. وتُعتبر الدولرة من أفضل الأسلحة للدفاع عن الفقراء خصوصاً في ظلّ أزمات سياسية حادّة.

وعلى نقيض العديد من الدول، تشير البيانات الأحصائية الى أنّ النمو الاقتصادي كان بمعدل 4,7%، وهو من أعلى المعدلات في المنطقة، ويُعتبر الاستقرار النقدي درعاً واقية ضدّ الأزمات السياسية والاجتماعية. على سبيل المثال، في الأكوادور أُطيح برئيسي جمهورية، وفي تشرين الأول من العام الماضي كانت هناك تظاهرات عنيفة لم تؤد الى انخفاض سعر صرف العملة، بينما تأثرت والى حدٍ بعيد العملات في تشيلي وبوليفيا.

لذلك، قد تكون الدولرة من اهم فوائدها الاستقرار والحدّ من الفقر، عبر الاستقرار النقدي الذي يُخرجنا من دوامة الغموض والتكهن، ويساعد الدولة في اجتذاب الأموال والاستثمارات الأجنبية.

يبقى الحل الأكثر واقعية في لبنان إجراء اصلاحات جذرية في النظام المالي والمصرفي وفي الادارة، للتخفيف من الهدر ومحاسبة كل من يتبيّن انّه شارك في عملية نهب الدولة، من أكبر مسؤول الى أصغرهم، واستعادة الأموال المنهوبة. ولا بدّ من التركيز على حماية المودع. ومن دون ذلك، سيتمّ القضاء على ما تبقّى من النظام المصرفي.

يبقى القول، إنّ الأمور مترابطة ببعضها البعض، والأكيد أننا نمضي نحو الهاوية، والمسؤولون ومستشاروهم في حالة غيبوبة كاملة تستدعي انتفاضة من أجل تحسين المسار.

لبنان على مفترق طرق، ويبدو انّ المسؤولين ومن خلفهم، يريدون التوجّه شرقاً، والشرق غير واضحة معالمه وجدّيته في إعانة لبنان، وخبراتنا السابقة في الدعم جاءت على يد أوروبا. لذلك قد يكون تغيير المسار عملية غير مجدّية وقد لا تؤدِ الى نتيجة تُذكر.

بالمختصر، وضعيتنا غير مريحة، ونسبة التضخم تزداد بشكل سريع، والعملة الوطنية دخلت في المجهول، والبترول والغاز امران غير أكيدين، واللاجئون الفلسطينيون والسوريون يزيدون من الضغط على الاقتصاد. لذلك، قد نكون اليوم بلا خيارات، وقد يكون إقناع صندوق النقد عملية صعبة للغاية، في ظل غياب ارادة واضحة لإخراج البلاد من عنق الزجاجة.

خيارنا يتيم، ويقتصر على صندوق النقد دون سواه.​

بروفسور غريتا صعب.

أزمة لبنان المالية:معركة الحكومة لإقناع «ســـيريزولا» مُعقّدة جداً.

ظهرت في الايام الماضية، ومن قلب المشهد الاسود، اشارات فيها نذرٌ من ضوء، أوحت للبعض بأنّ الانهيار السريع قد يتوقف عند حدٍ معيّن. هل توجد فعلاً بوادر تغيير يمكن التعويل عليها للقول إنّ المأساة قد تتوقّف عند المستوى الذي بلغته؟

يصعُب الادّعاء انّ التفاؤل بالإنقاذ مسموح في هذه الحقبة، حيث تبدو الحكومة اكثر من عاجزة، وتبدو المنظومة السياسية مستمرة في التفاعُل مع الصراعات والمهاترات، وكأنّه لا توجد عاصفة تضرب البلد وتهدّد باقتلاعه من جذوره.

مع ذلك، ظهرت بعض العلامات التي تحتاج الى متابعة، للتأكّد اذا ما كانت صالحة للبناء عليها، ام انّها مجرّد زوبعة في فنجان، من أبرزها ثلاثة مؤشرات:

اولاً- هبوط سريع نسبياً لسعر صرف الدولار في السوق السوداء، جرى تفسيره بحصول عرضٍ للعملة الخضراء مرتبط ببدء عودة اللبنانيين، وتراجع في الطلب مرتبط بتريّث التجار في شراء الدولار، بانتظار ضخِّه في المصارف، كما وعد حاكم مصرف لبنان.

ثانياً – تحرُّك تفاعلي بين الحكومة ومصرف لبنان من جهة، وبين الحكومة والمصارف من جهة أخرى، في محاولة لتوحيد الأرقام وتوحيد مقاربات الحلّ، وهذا هو الأهم، بحيث يمكن التوصّل الى خطة موحّدة متوافقٌ عليها بين الحكومة والمركزي والمصارف، للعودة الى التفاوض في شأنها مع صندوق النقد.

ثالثاً – وضع ملف الكهرباء على نار ساخنة، من خلال تنفيذ الوعود التي قطعها لبنان منذ سنوات ولم ينفذّها حتى الآن، لجهة تعيين مجلس ادارة وهيئة ناظمة للقطاع. وكانت الدول المانحة طالبت الحكومة اللبنانية في مؤتمر «سيدر» بمجموعة اصلاحات، تبدأ بإنجاز هذه التعيينات في الكهرباء، كبادرة حسن نية للبدء في تقديم الدعم. لكن لبنان الرسمي «قاوم» هذا الطلب، واستمر قطاع الكهرباء بلا تعيينات حتى الآن.

هل يمكن البناء على هذه الاشارات للقول إنّ المشهد المظلم قد يكون في طور التغيير، ولو البطيء نحو الأفضل؟

في الواقع، تحتاج الإشارات الثلاث الآنفة الذكر، الى تدقيق ومتابعة قبل إصدار التوقعات. في مسألة هبوط الدولار، يمكن الحديث عن تفاؤل ما، فقط في حالة وحيدة، عندما يتحوّل المنحنى (curve) من حقبة التقلّب (volatily) الى مرحلة الاستقرار النسبي. وهذا الأمر لم يحصل بعد، وقد لا يحصل قبل وضع خطة الإنقاذ على مسار التنفيذ. وبالتالي، مشهد التقلبات السريعة والحادّة صعوداً ونزولاً سيكون طاغياً في المرحلة المقبلة، بحيث يصبح الهبوط مثل الارتفاع، مؤذياً للاقتصاد وللناس.

في موضوع توحيد الارقام، توجد مرحلة من المحادثات الداخلية قبل الانتقال لعرض النتائج على صندوق النقد. وستكون هناك مرحلة تفاوض مع الصندوق على الارقام والمقاربات. لكن، ما هو مؤكّد، انّ موقف المفاوضين من قِبل الصندوق، وعلى رأسهم الارجنتيني مارتن سيريزولا (Martin Cerisola) سيكون اكثر تفهماً وليونة، في حال باشرت الحكومة في تنفيذ خطوات اصلاحية مُقنعة. ومن المعروف أنّ سيريزولا من «المتعصبين» لأولوية الاصلاحات في أي برنامج لمساعدة اقتصاديات الدول. هذا الموقف كان واضحاً في العام 2016 ابّان مهمته في الجمهورية الاسلامية الايرانية، حيث وضع تقريراً لتوصيف الوضع الاقتصادي الايراني، عقب الاتفاق النووي في 14 تموز 2015، والذي قضى برفع جزئي للعقوبات الدولية على ايران. في حينه ركّز سيريزولا على ضرورة إنجاز اصلاحات بنيوية في الاقتصاد الايراني، الذي يعاني من مكامن فساد شبيهة في بعضها بالفساد اللبناني، مثل التهرّب الضريبي، والهدر، وهيمنة فئات على جزء من المال العام. كما دعا الى الكف عن تجميل الارقام، من خلال خطوات اصطناعية، مثل خفض الفوائد من دون توفّر معطيات اقتصادية تسمح بهذا الخفض. كما طالب بتحسين وتحصين صلاحيات البنك المركزي الايراني، ليتمكّن من الاشراف على وضع النقد، وعلى عمل المصارف، التي دعا ايضاً الى إعادة هيكلتها.

وبالتالي، لا تزال المسافة بين امكانية الوصول الى أرقام موحّدة، ومن ثم الاتفاق مع الصندوق على هذه الارقام أو سواها بعد التفاوض والمساومة، طويلة وشاقة.

في موضوع الكهرباء، ورغم انّ تعيين مجلس ادارة وهيئة ناظمة خطوة اولى مهمة، وبانتظار الغد ليتبيّن ماذا سيحصل في مجلس الوزراء، إلّا أنّ العبرة تبقى في نوعية وطريقة التعيين أولاً، وفي استكمال خطة اقفال هذا الملف المفتوح على نزف مالي كبير منذ عشرات السنين، ثانياً.

لكن المشكلة تبقى في القدرة على تنفيذ الاصلاحات الضرورية لإقناع سيريزولا بالتعاون. فهل يحق لأي لبناني بأن يأمل بأنّ الحكومة ستوقف التهرّب الضريبي، وستصلح القطاع العام، وتوقف مزاريب الهدر والسرقة، وتمنع التهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، وهي في قسم منها تحت سيطرة «حزب الله» لضرورات استراتيجية غير قابلة للمساومة وفق قناعات الحزب؟

الى كل ذلك، وفي الوقت الذي تحاول فيه الحكومة أن توحي بأنّها بدأت العمل على تمهيد الطريق لاتفاق مع صندوق النقد، يفتح الباب امام مساعدات دولية أخرى، من ضمنها ما هو مُقرّر في «سيدر»، تقوم بحركات بهلوانية وعراضات سخيفة، للإيحاء بأنّ مروحة خياراتها واسعة، ومن ضمنها ركوب قطار الشرق. والمشكلة انّ الشرق بمفهومه الواسع، قد ينتهي عند حدود سوريا وايران، حيث المساعي ناشطة لتجنيب الايرانيين والسوريين كأس المجاعة، وكل ما عدا ذلك طموح غير مبرّر.

انطوان فرح.

إنفراجات الليرة موقّتة وتحذير من تقلّبات حادّة

وهْم تراجع الدولار يصطدم بحقيقة تغييب الإصلاحات المرّة

أعطى تراجع سعر صرف الدولار في نهاية الاسبوع الفائت جرعة أمل للمواطنين. فانهيار العملة الوطنية في غضون أيام، من حوالى 4 آلاف ليرة إلى حدود 10 آلاف، رفع معدلات التضخم إلى أكثر من 500 في المئة وأعدم قدرة المستهلكين في الحصول على السلع والخدمات. ليبقى السؤال، هل يقف التراجع عند حدود 7 آلاف ليرة أو ينخفض أكثر أم يعاود الدولار ارتفاعه مطلع هذا الاسبوع؟

 

الإجابة عن هذا السؤال تتطلب معرفة السبب وراء انخفاض الدولار. فان كان التراجع ظرفياً، فهذا يعني انتظار قفزات جديدة في سعر الصرف، أما إن كان جوهرياً فهذا يعني الاستقرار تمهيداً لمزيد من الانخفاض.

 

إحتمالات تراجع الدولار

 

مع الأسف، إن تحليل تراجع الدولار بمقدار ألفي ليرة أو أكثر، يقودنا إلى احتمالين ظرفيين لا علاقة لهما بالإصلاحات. الاول موضعي يتعلق بعودة المغتربين وإمكانية ضخّهم كمية من الدولار في السوق تزيد العرض، وانتظار إجراءات مصرف لبنان لتزويد المصارف بالدولار. أما الثاني فيرتبط بـ “لعبة” امتصاص الدولار. حيث يعمد المتلاعبون، عند إحجام المواطنين عن بيع الدولار بسبب تأملهم بارتفاعه أكثر، الى اطلاق اشاعات بانخفاض سعره، الأمر الذي يدفعهم الى بيع ما يملكون لتحقيق أكبر ربح ممكن. فيرتفع العرض وينخفض سعره.

 

الاحتمال الثاني لا ينفصل، بحسب الخبير الاقتصادي باتريك مارديني عن “النمط السائد المتكرر منذ بداية الأزمة، وتحرير سعر الصرف بشكل مبطن. حيث ينخفض الدولار مطلع كل شهر ليعود ويسجل ارتفاعات قياسية جديدة بعد ايام قليلة”.

 

بروباغندا تطمينية

 

العملية هذه ترافقت مع “بروباغندا” تطمينية، وتسويق أخبار إيجابية تتعلق بتدخل مصرف لبنان بقوة في سوق الصرف، ومكافحة السوق السوداء وبدء حلحلة الازمات، وانتظار تدفق الاموال من المغتربين والسياح بعد فتح المطار. فكانت النتيجة “تشليح” الدولار من الوافدين على سعر منخفض، ليعاد بعد ايام قليلة إلى طرحها بسعر أعلى بكثير، ما يؤمن للصرافين غير الشرعيين مبالغ طائلة. ومما يسهل هذه العمليات هو “سهولة التحكم في السوق السوداء نتيجة صغر حجمها. إذ انها لا تتضمن المصارف والصرافين الشرعيين”، يقول مارديني. “وبالتالي يبقى هذا التراجع تقنيا تكتيكياً وليس جوهرياً. فالاتجاه العام هو صعودي لسبب بسيط يتلخص بعدم انتفاء أسباب صعود الدولار”.

 

الصعود مستمر

 

تعليق كل المساعدات الدولية، ورفض صندوق النقد الدولي اعطاء لبنان دولاراً واحداً قبل البدء الجدي والعملي في الإصلاحات، يدفع بالمصرف المركزي إلى طباعة الليرة اللبنانية لتأمين متطلبات الدولة المتزايدة. وطالما طباعة الليرة مستمرة فان انهيارها محتوم، ومن غير المستبعد ان تحقق ارقاماً قياسية جديدة لم تكن في الحسبان في يوم من الايام.

 

المحامي المتخصص في الشأن المصرفي عماد الخازن يرى ان “أسرع حل لوقف انهيار الليرة هو ضخ الدولارات الطازجة في الاقتصاد من بوابة المغتربين”. فانتظار تحقيق الإصلاحات يشبه ملاحقة سراب في الصحراء، وبالتالي “لا أمل امامنا لتعديل ميزان المدفوعات العاجز وتأمين الحد الأدنى من الاستقرار للعملة الوطنية الا استقطاب الحوالات المالية”، يقول الخازن.

 

مهلكة طباعة العملة

 

العجز الكبير في الميزان التجاري والذي فاق العام الماضي 17 مليار دولار يشكل الجزء الأهم من عجز ميزان المدفوعات. هذا العجز التاريخي كان يعوض في الماضي من التحويلات والاستثمارات المباشرة وتدفق الودائع إلى المصارف.

 

أما اليوم فانه حتى مع انخفاض الواردات فان الصادارت لن تستطيع تعويض الفرق بعدما أمعن القطاع العام في “شفط” الاموال لتمويل نفقاته وتحويل الاقتصاد إلى ريعي. وبالتالي فان “تراكم العجز في ميزان المدفوعات يعود الى نفقات الحكومة المرتفعة وارتفاع حجم الدين العام”، من وجهة نظر مارديني. و”ذلك بالرغم من التعمية المتمادية عن هذا الشق في تعليل أسباب العجز في ميزان المدفوعات”.

 

هذه الواقع ما زال مستمراً رغم حجم الأزمة مع فارق واحد، هو: استبدال الاستدانة لتمويل النفقات بطباعة العملة. فالعجز عن الاقتراض بعدما أعلنت الحكومة تخلفها عن دفع الديون، وتراجع الايرادات المالية بسبب الانكماش، وانخفاض مردود الضرائب والمرافق الحدودية، أفقد الدولة مداخيلها، ولم يبقَ امامها الا التمويل عبر طباعة مبالغ هائلة من الليرة، تصل شهرياً الى اكثر من 1.3 تريليون ليرة، وهو ما يؤدي الى تعمق انهيار سعر الصرف.

 

المجلس النقدي

 

أمام هذا الواقع المعقد يبرز طرح مجلس نقدي او ما يعرف بـ currency board وهو الحل الذي تحدث عنه ايضاً استاذ علم الاقتصاد في جامعة جون هوبكنز ستيف هانكي. هذا الطرح يعني عملياً طباعة ليرة لبنانية بمقدار تغطيتها بالدولار. فاذا دخل الى لبنان سنويا 10 مليارات دولار على سبيل المثال، نطبع مقابلها 15 ألف مليار ليرة، في حال كان سعر الصرف 1500. أو نطبع كمية أكبر أو أقل في حال تغير سعر الصرف. “هذه الطريقة لا تحد من التضخم فحسب، انما تفرض على الحكومة البدء بالإصلاحات الجوهرية، وتحديداً في القطاع العام المتضخم، لانها ببساطة لن تعود تستطيع طباعة المال من أجل تمويل النفقات”، يقول مارديني.

 

صحيح ان اتّكال الحكومة اليوم على طباعة العملة يؤمن تمويل نفقاتها المرتفعة ودفع الرواتب والاجور، انما يؤدي من الجهة الى الأخرى الى فقدان القيمة الشرائية. وهذا ما بدا أخيراً بشكل واضح من خلال وصول الحد الادنى للأجور الى 65 دولاراً، ورواتب كبار الموظفين الى أقل من 600 دولار.

 

الاستمرار بهذا النهج بعيداً من الإصلاح وعدم التوصل الى جرعة مساعدات فورية من صندوق النقد الدولي، سيفاقم المشكلة ويدفع الى فقدان الظروف الاستثنائية جدواها وفشل آليات دعم مصرف لبنان. وبالتالي يؤدي الى انخفاض الليرة اللبنانية وتآكل القيمة الشرائية كل يوم أكثر من الذي سبقه.​

خالد ابو شقرا.

إستمرار تهريب الأموال إلى الخارج؟

يواجه اللبنانيون خطر انهيار قيمة عملتهم الى مستويات كارثية شبيهة بتلك التي حصلت في دول أصبحت اليوم شعوبها شبه جائعة، ومحرومة من كل كماليّات العيش السائدة في بقية دول العالم. فهل هذا الخطر قائم فعلاً بالنسبة الى الليرة؟ وما هي الاسباب التي قد تودي بنا الى هذا المصير الأسود؟

يُجابه مصرف لبنان الأزمة المالية وانهيار قيمة الليرة اللبنانية والتضخم بطَبع كميات هائلة من العملة المحلية لتمويل نفقات الدولة وتسديد أموال المودعين على سعر صرف يبلغ 3850 ليرة حالياً، بما يعمّق الأزمة ويزيد معدل التضخّم ويساهم في تَسارع وتيرة انهيار العملة التي وصل معدّل تَضخّمها السنوي الى 400 في المئة، وتحتل بذلك ثالث أسوأ مرتبة في العالم.

 

وتغذّي عملية طبع الليرة وضَخّها في السوق، هبوط سعر صرف الليرة مقابل الدولار بوتيرة متسارعة حيث باتت تفقد الليرة يومياً حوالى 25 في المئة من قيمتها نتيجة تعويم السوق بالعملة المحلية من دون أن يقابلها ضَخ للدولارات. بل على العكس فإنّ الدولارات المتبقية في النظام المصرفي ما زالت تتسرّب الى الخارج رغم انّ مصرف لبنان والمصارف تتبع نظام التقنين في التحويلات المالية وتحصرها فقط بالحاجات الضرورية.

 

في هذا الاطار، أكد نافز ذوق، الخبير الاقتصادي والاستراتيجي في مؤسسة Oxford Economics للابحاث في لندن لـ«الجمهورية»، انّ حجم الاموال المتسرّبة شهريّاً من النظام المصرفي اللبناني يتراوح بين مليار و1.5 مليار دولار شهرياً، نتيجة عدم إقرار قانون الـCapital control، معتبراً انّ حجم تلك الاموال التي يتم تحويلها الى الخارج لا يغطّي فقط حجم الواردات الى لبنان والتي تراجعت بشكل لافت، بل يفوقه بنسبة لافتة، «بما يدلّ على انّ عمليات تحويل أموال بعض المودعين الى الخارج ما زالت مستمرة لغاية اليوم».

 

وشرح ذوق انّ الدولارات الفعلية المتبقية لدى النظام المصرفي اللبناني، مقسّمة بين:

– إحتياطي مصرف لبنان بالعملة الاجنبية والتي يقول مصرف لبنان انه يبلغ 27 ملياراً، إلّا انّ قيمته الفعلية لا تتعدى 20 مليار دولار بسبب اقراض البنك المركزي المصارف حوالى 7 مليارات دولار منه في الفترة الاخيرة.

– حسابات المصارف اللبنانية بالعملة الاجنبية في مصارف في الخارج.

– ودائع المصارف اللبنانية بالعملة الاجنبية في مصارف مركزية في الخارج.

 

وشرحَ انّ إجمالي قيمة حسابات وودائع المصارف في الخارج تراجع من 8,4 مليارات دولار في تشرين الاول من العام الماضي الى 4,9 مليارات دولار في نيسان الماضي. في حين تراجع احتياطي مصرف لبنان من 35 مليار دولار في تشرين الاول الى 27 ملياراً (7 مليارات منها تمّ إقراضها للمصارف)، علماً انه في ايار الماضي ووفقاً لآخر الارقام الرسمية المتوفرة، تراجَع حجم الاحتياطي بقيمة مليار دولار مقارنة بالشهر الذي سبقه.

 

وقال ذوق انّ بعض المصارف يرفض اليوم القيام بتحويلات مالية الى الخارج حتى للعملاء الذين يؤمّنون له دولارات جديدة fresh dollars بسبب تناقص قيمة حساباته لدى البنوك المراسلة في الخارج، والتي يتم استخدامها عادة لتسديد قيمة التحويلات المالية التي تتم عبر تلك المصارف في لبنان، موضحاً انّ المصارف لم تعد قادرة على تمويل حساباتها لدى البنوك المراسلة بسبب توقف التدفقات المالية الى لبنان، والتي كانت تستخدم في السابق لتغذية تلك الحسابات بدولارات اضافية، لافتاً الى انّ الدولارات الجديدة التي يؤمّنها العملاء للمصارف المحلية من اجل القيام بتحويلات مالية الى الخارج، تستخدمها المصارف داخلياً لخفض مطلوباتها من العملة الاجنبية.

 

وتخوّف ذوق من «أن نصل الى مرحلة سيتعذّر فيها على المصارف بشكل كامل القيام بأيّ تحويلات الى الخارج بعد استنزاف اموالها لدى المصارف المراسلة»، كما شدّد على انه في الوقت الذي يحتاج فيه البلد الى تدفّق الدولارات الى الداخل، «ما زلنا نشهد استنزافاً لها من النظام في مقابل طَبع المزيد من الاوراق النقدية للعملة المحلية، بما يؤكد انّ هبوط سعر صرف الليرة لا يمكن لجمه ولن يكون له سقف محدد طالما انه لا توجد بعد إجراءات وإصلاحات جدّية كفيلة باستعادة التدفقات المالية الى لبنان».

 

عقوبات على المصارف؟

في سياق متصل، يتم التداول بمعلومات عن انّ سفناً ايرانية ترسو في البحر محمّلة بالوقود تنتظر القرار اللبناني لتّتجه الى بيروت وتفرّغ حمولتها، وذلك في سياق دعوة امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله الى التوجّه شرقاً والاستفادة من العرض الايراني للبنان بعدما ساعدت حليفتها فنزويلا بالنفط. وفي هذا الاطار، يتخوّف اصحاب بعض المصارف من ان تقدم الحكومة على استيراد المحروقات من ايران، بما قد يعرّض مصرف لبنان، في حال اضطرّ الى فتح اعتمادات، لخطر فرض عقوبات أميركية عليه ويؤدي الى توقف البنوك المراسلة الاجنبية من التعامل مع المصارف اللبنانية بشكل كامل، والى انعزال القطاع المصرفي عن العالم وتوقف مختلف عمليات الاستيراد الى لبنان.

رنا سعرتي

عن أزمة لبنان المالية: هل آن أوان “الذهب”؟

عند كل مفترق اقتصادي، وما أكثرها، كان احتياطي الذهب يقفز إلى واجهة الحلول. لكن سرعان ما كانت أشعته الصفراء تخبو تحت رماد حماية ثروة لبنان الأهم، وعدم جواز تعريضها للضياع بوضعها على طاولة “روليت” السياسيين. فمهما كانت قيمة هذه “الفيشة”، لن تصمد لأكثر من “برمة” واحدة على طاولة تخطت خسائرها الـ 200 مليار دولار. أكثر من 10 ملايين أونصة تجاوزت منذ العام 1971 قطوعاً تلو الآخر. فلم تُمسّ بعد الحرب الأهلية ولا عند حاجة لبنان إلى السيولة مطلع الألفية الثانية، ولا عقب الخضات المتتالية منذ العام 2005 وصولاً إلى نهاية العام 2019. فهل سيستمرّ نهج تحييد “الذهب” مع وصول “موسى” الأزمة إلى رقبة الوطن والمواطن؟

كثر بدأوا يتحدثون صراحةً أن أوان استخدام الذهب حان، على قاعدة السؤال: إن لم يكن اليوم هو الوقت الملائم للاستفادة منه فأي متى يكون؟

العين، إذاً، على 286.6 طناً من الذهب بقيمة تقدر اليوم بحوالى 18 مليار دولار، قد يؤمّن “استخدام جزء منها كضمانة لأخذ قروض overdraft بقيمة 5 إلى 6 مليارات دولار وضخها في الاسواق عبر المصارف، لتأمين السيولة للشركات في القطاع الخاص وسوق القطع، ما يحد بالتالي من المضاربة على العملة في السوق السوداء”، يقول رئيس فريق الابحاث الاقتصادية في بنك بيبلوس نسيب غبريل. “فالهدف من هذا الطرح الذي لا يعني تسييل الذهب، هو التعويض عن انقطاع أو تراجع التدفقات النقدية من العملات الاجنبية التي لبنان بأمس الحاجة اليها، وتأمين السيولة المطلوبة ومساعدة ميزان المدفوعات، إلى حين بلورة اتفاق جدي مع صندوق النقد الدولي”.

الاستفادة من جزء من احتياطي الذهب من دون المس به يعتبر أساسياً لمعالجة أزمة السيولة الخانقة التي يعيشها البلد واستعادة الثقة من خلال التخلص من أسعار الصرف المتعددة. لكن بشرط ان يترافق هذا الطرح، من وجهة نظر غبريل، مع “وقف اسطوانة الاصلاحات واللجان والخطابات على المنابر التي لم تنعكس إلا زيادة في الضرائب، والانتقال إلى الأفعال، في الكهرباء والقطاع العام ومكافحة التهرب والتهريب… التي لا تتطلب إلا قرارات من مجلس الوزراء”.

تهدئة الوضع إلى حين إبصار الاتفاق مع صندوق النقد الدولي النور قد يكون أكثر ما يحتاجه اللبنانيون، بحسب مؤيدي هذا الطرح، إذ إنهم يعتبرون أنّ ترك الأمور معلقة على هذا الاتفاق المأمول، قد لا يُبقي لا بلداً ولا شعباً في ظل الانهيار الدراماتيكي المتسارع. فهل ينفع القرش “الأصفر” في هذا اليوم الأسود؟

المشهد بعد 6 أشهر… يا رب إرحَمْ

تتصرّف الحكومة، خصوصاً رئيسها، وكأنّ البلد يعاني أزمة «دولار» فقط، تنتج عنها أزمات اقتصادية ومالية وبنيوية واجتماعية. ولا يستنتج حسّان دياب من الانهيار اليومي لسعر صرف الليرة، سوى أمر واحد: ما يجري غير طبيعي، وهناك مؤامرة عليه وعلى حكومته في مكانٍ ما.

في موازاة المشهد القاتم الذي يخيّم على كل مفاصل حياة المواطن اللبناني في هذه الفترة، هناك مشهد آخر سائد في السرايا. إذ يبدو رئيس الحكومة مسكوناً بهاجس المؤامرات، ويحارب طواحين الجن لحماية حكومته من تداعيات ما يُحاك في الأقبية السوداء. ولا يرى دياب من حلول لهذا الوضع الشاذ، سوى من خلال وَقف ارتفاع الدولار، عبر ضَخ دولارات طازجة في الاسواق.

هذه العقلية في مقاربة كارثة في حجم الكارثة المُقبل عليها البلد، والتي لم يظهر من تداعياتها سوى القليل، أصبحت عاملاً إضافياً من العوامل التي تدفع نحو مزيد من التشاؤم حيال احتمال وقف السقوط، وبدء المعالجات ولَو الموجعة. والمصيبة هنا، انّ الحكومة لا ترى سوى أزمتين تريد معالجتهما لإنقاذ البلد:

– وقف ارتفاع الدولار.

– شطب الخسائر التي قدّرتها بـ241 ألف مليار ليرة.

في النقطتين المُشار اليهما، لا توجد أزمة بل نتيجة. واذا كانت الحكومة جادة في معالجة الأزمة، ينبغي أن تبدأ بمعالجة الأسباب بدلاً من محاولة طمس الحقائق من خلال رَمي ما تبقّى من دولارات في أتون السوق السوداء التي لا تودي سوى الى إحراقها عبر التخزين أو تحقيق أرباح غير شرعية لتجّار العملات أو التهريب الى سوريا…

وفي هذا الاطار، فإنّ توقيع عقد للبدء في بناء معامل للكهرباء، يوقف انهيار الليرة أكثر من قرار حرق ملايين الدولارات في سوق الصرف الفوضوية.

إذا لم تبدأ الحكومة فوراً في إجراءات لمعالجة بعض النقاط المرتبطة بأسباب الكارثة، فإنّ البلد في الاشهر الستة المقبلة، التي تفصلنا عن نهاية العام 2020، سيكون امام مصيبة لا يمكن القول حيالها سوى: يا رب إرحم. وفي السياق، يمكن إيراد الاحتمالات التالية:

أولاً- إنخفاض حجم الاموال التي تملكها المصارف اللبنانية في المصارف المراسلة. وقد تراجع الرقم من حوالى 6 مليارات دولار الى أقل من 4 مليارات دولار حالياً، وفق تقديرات غير رسمية. وسيتضاءل هذا الرقم الى ملياري دولار حتى نهاية 2020. مع الاشارة الى انّ بعض المصارف نَفد مخزونها من الدولارات في الخارج، وهناك مصارف أخرى سينفد مخزونها في الاشهر الستة المقبلة. وهذا يعني انّ هذه المصارف لن تكون قادرة على تلبية حاجات الناس التي قد ينصّ عليها أي قانون «كابيتال كونترول»، في حال صدوره.

ثانياً- إحتياطي مصرف لبنان سيتراجع بدوره الى حوالى 15 مليار دولار، بسبب دعم المحروقات والطحين والدواء وبعض المواد الاولية. والمفارقة هنا انّ وزير الاقتصاد الذي كان يطالب برفع الدعم عن المواد الثلاث وتقديم قسائم للمحتاجين للحصول على المحروقات والخبز والدواء بالسعر المدعوم، أعلن انّ لائحة دعم جديدة ستشمل حوالى 200 سلعة. وإذا تم تنفيذ هذا المشروع، قد يتراجع احتياطي المركزي بوتيرة أسرع. ويبدو هذا المشروع وكأنه البديل الذي تمّ التوافق عليه لتجنّب تنفيذ مشروع دياب الذي يطالب بضَخ دولارات في السوق لوقف تدهور الليرة.

ثالثاً- سعر الصرف الذي يصعب التكهّن بالسقف الذي سيبلغه من دون الوقوع في تجربة التنجيم، من المؤكد أنه سيكون مرتفعاً الى مستويات تعميم الفقر والحرمان لدى غالبية اللبنانيين.

رابعاً- إحتمال وقوع اضطرابات أمنية ربطاً بالوضع المعيشي الكارثي، وانخفاض رواتب موظفي القطاع العام، بمَن فيهم العسكر، الى مستويات لا تسمح بتأمين الحد الأدنى من العيش. بالاضافة الى انتشار البطالة بنسَب مرتفعة بحيث ستصبح ظواهر العوز والذل قائمة لدى عدد كبير من الناس، بما سيشيع اليأس في النفوس، والمواطن اليائس مواطن خطير بكل المقاييس.

خامساً- تدنّي أداء المستشفيات وارتفاع الكلفة على المواطن الذي يتقاضى أتعابه بالليرة. وسيصبح مشهد الاستشفاء الخاص حكراً على طبقة الميسورين.

هذه بعض الاستحقاقات المتوقعة. قسمٌ منها ثابت ولا مجال لتغييره، وقسم آخر يمكن تعديله إيجاباً أو سلباً، وفق ما ستفعله الحكومة حيال الإجراءات المطلوبة، وحيال خطة الانقاذ التي يجري التفاوض عليها مع صندوق النقد الدولي. لكن، اذا كانت نظرة الحكومة للمعالجة يختصرها كلام رئيسها في 25 حزيران الجاري، بأنّ «البلد يمر بأزمة كبيرة والنتائج غير إيجابية ومصرف لبنان هو المسؤول عن سعر صرف الدولار، وإذا كان عاجزاً عن تسوية وضع سعر الصرف، فعليه مصارحتنا»… بهذه العقلية، ستكون المصيبة كبيرة، وكبيرة جداً.

انطوان فرح

لماذا “دعم” صندوق النقد أرقام الحكومة؟

هل هي مجرد لعبة أرقام بين الحكومة التي قدّمت خطة إنقاذ وضع عناوينها فريق من المستشارين، وخطة مضادة خلُصت اليها لجنة المال والموازنة النيابية، أم أنّ الأمر أبعد من ذلك، ويرتبط بالطريق الذي سيمضي عليه اللبنانيون خلال السنوات العشر، وربما العشرين المقبلة؟

نجحت الدولة اللبنانية حتى الآن في تسجيل سابقتين في تاريخ تفاوض الدول مع صندوق النقد الدولي للحصول على برنامج مساعدات. السابقة الاولى من خلال طرح وفدها الرسمي رؤيتين متناقضتين للحل، ولائحتين متضاربتين لأرقام الخسائر التي تتوجّب معالجتها. والسابقة الثانية تمثلّت بتقديم حكومتها خطة للإنقاذ، تبيّن لاحقاً انّ الخسائر المقدّرة فيها مُبالغٌ فيها الى حدود اللامنطق.

 

لكن السابقة الثالثة على الطريق أيضاً، إذ أنّ شوفينية البعض، والشخصنة لدى من يتعاطى الشأن العام، ستؤدّي الى تصرفات غير موزونة، كأن يبدأ فريق من هنا يمثل الحكومة، وفريق من هناك يمثّل رؤية المجلس النيابي، التواصل مع مسؤولين في صندوق النقد في محاولة لإقناعهم بأرقامهم. ومن خلال الانطباع العام، تحولت المعركة حالياً من عملية تنافس مشروع لتقديم الرؤية الافضل، الى منافسة شخصية فيها كسر عظم، ويرتبط بنتائجها مصير مسؤولين ومستشارين…

 

في عودة الى الواقعية، ومن خلال اجراء مقارنة بين أرقام الحكومة من جهة، وارقام لجنة المال والموازنة المرشّحة لأن تصبح أرقام المجلس النيابي، يمكن ملاحظة الامور التالية:

 

اولاً- هناك أرقام في خطة الحكومة تبيّن بالدليل القاطع انّها كانت غير صحيحة بنسبة تدعو الى الدهشة، مثل ارقام ديون القطاع الخاص المتعثرة لدى المصارف. هذا الموضوع لم يحسمه ابراهيم كنعان أو ياسين جابر أو نقولا نحاس، بل حسمته لجنة الرقابة على المصارف، بما يعني انّ حسمه أدق بكثير مما كان عليه في الخطة الحكومية. والفارق بين تقديرات الحكومة ولجنة الرقابة على المصارف، وهي الأدرى بهذا الملف، وصلت الى رقم قياسي مذهل، يستدعي التساؤل، كيف ومن أين توصّل المستشارون الذين أعدّوا الخطة الحكومية الى هذا الرقم؟

 

ثانياً – انّ الحكومات في العادة تذهب الى صندوق النقد بأرقام تمثّل الحد الأدنى من الخسائر، لأنّها تدرك مسبقاً انّ الصندوق سيسعى الى اعادة تكبير هذه الارقام، انطلاقاً من دراساته وأبحاثه الخاصة، وانطلاقاً ايضاً من حقيقة، انّ من يريد الاقتراض يحاول دائماً تجميل وضعه قدر المستطاع لإقناع المُقرض بأنّه قادر على إعادة سداد ديونه.

 

ثالثاً- اختلفت المقاربة بين الخطة الحكومية وخطة لجنة المال والموازنة. بمعنى انّ الموضوع تجاوز مسألة الرقم الى الاستراتيجية التي ينبغي اتباعها للخروج من النفق. وهكذا استبدلت لجنة المال فكرة شطب الديون عشوائياً، بما فيها الديون بالليرة، والقضاء على القطاع المالي، واحتساب الاستحقاقات بالكامل، باستراتيجية عدم اعلان التوقف عن الدفع بالنسبة الى سندات الليرة، واحتساب خسائر استحقاقات القروض حتى العام 2027 فقط.

 

رابعاً- حتى الآن، ومن خلال الاشارات الاولى التي أرسلها صندوق النقد، يتبيّن أنّ خبراءه يدعمون أرقام الخطة الحكومية. هذا الموقف طبيعي وبديهي، لأنّه يشبه من حيث الشكل موقف «موظف» في مصرف، مسؤول عن منح الموافقة على القروض. هذا الموظف لديه لائحة معايير وأرقام وضعتها ادارة المصرف. كل ما يفعله انّه يقارن أوراق طالب القرض بهذه المعايير، واذا ما جاءت مطابقة يمنحه القرض. وبالتالي، لا يحبّذ هذا الموظف، ولا يستطيع تجاوز المعايير إلّا اذا رجع الى المسؤول الاعلى منه. هذا التوصيف ينطبق على الخطة الحكومية، التي راعت المعايير الرقمية لصندوق النقد الى أقصى الحدود، بحيث لم يجد خبراء الصندوق حاجة الى مناقشة أو الاعتراض على هذه الارقام، لأنّها ذهبت بعيداً بما يتجاوز المعايير المطلوبة. لكن المشكلة ليست لدى الصندوق هنا، بل ستظهر لاحقاً في الاقتصاد اللبناني، وهنا تكمن اولوية المفاوض اللبناني، أي حماية مستقبل الاقتصاد، وليس مجرد تلبية متطلبات الارقام للحصول على قرض.

 

في التفاوض مع صندوق النقد، وعلى عكس الهندسات المالية أو ما شابه، البلد لا يشتري الوقت بل يفاوض على انقاذٍ يوصل الى تعافٍ اقتصادي مستدام.

 

في عودة الى الارقام، من الملاحظ انّ الخطة الحكومية، ومن بعدها الخطة التي قدّمتها المصارف، ورغم عشرات الصفحات التفصيلية التي تحدثت عن الرؤية المستقبلية للاقتصاد، إلّا أنّ النقاش الشعبي والسياسي ينحصر حتى الآن في لعبة الارقام، وكأنّ المشكلة هنا فقط. الأرقام واحدة من الوسائل المعتمدة لتحقيق مكاسب تخدم الاقتصاد. لكن، من يعتقد انّه قادر على حسم الارقام بدقة، والادعاء أنّ أرقامه دقيقة ولا تحتمل النقاش واهمٌ الى أقصى الحدود. وما جرى مع اليونان، عندما انضمت الى عملة اليورو الموحّدة في العام 2001 دليل لا لَبس فيه. ورغم القدرات الهائلة التي تتمتع بها المؤسسات المالية الرقابية الاوروبية، ورغم الاستعانة بمؤسسات مالية عالمية متخصصة، ورغم التدقيق الذي جرى في تلك الفترة، خصوصاً انّ الشكوك كانت تحيط بوضع اليونان المالي الحقيقي، رغم كل ذلك، نجحت اليونان في إقناع مؤسسة النقد الاوروبي بأرقام غير صحيحة، وصل الفارق فيها الى مستويات كبيرة، وربما مُذلّة للبنك المركزي الاوروبي، الذي انطوت عليه الخديعة. وعلى سبيل المثال، أقرّ الاتحاد الاوروبي بأنّ العجز في موازنة اليونان ينطبق على شروط معاهدة «ماستريخت»، أي أنّه لا يتجاوز الـ3% من الناتج المحلي (GDP)، وأنّ دينها على الناتج لا يتجاوز الـ60%. هكذا انضمت اليونان الى العملة الاوروبية الموحّدة، وتنعمت بخيرات هذا الانضمام. ولو لم تتصرّف الحكومات اليونانية اللاحقة بتهور وزبائنية، لكانت مرّت الخديعة بسهولة، ولما وصلت اليونان لاحقاً الى أزمة الافلاس التي استدعت إنقاذها. وللتذكير، تبيّن انّ العجز في موازنة اليونان على الناتج كان حوالى 12,7% بدلاً من 3%، في العام 2001، ونسبة الدين على الناتج أعلى قليلاً من 100% بدلاً من 60% كما ادّعت وصادق على ادعائها الاتحاد الاوروبي بعد استقصاءات ودراسات محترفة!

 

خلاصة هذا النموذج، انّ الحكومات ينبغي أن تستخدم كل اسلحتها، بما فيها الأرقام، للحصول على أفضل الممكن، لا أن ترمي كل أسلحتها وتذهب الى التفاوض من دون أسلحة.

انطوان فرح