أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية
رويترز: مصرف لبنان المركزي يدرس خفض مستوى احتياطي النقد الأجنبي الإلزامي
لماذا انحسرت الهجمة على شراء الشقق؟
إنحسرت «الهجمة» العقارية بعد ارتفاع قيمة المبيعات 112 في المئة منذ بداية العام الحالي، وذلك نتيجة تصريف معظم مخزون المطورين العقاريين من الشقق السكنية مقابل شيكات مصرفية، في حين يستمرّ تحويل الودائع العالقة في المصارف الى أراضٍ، ولكن بصعوبة أكبر وبأسعار أعلى.
من أصل 11 مؤشراً للقطاع الحقيقي، مؤشر واحد فقط سجّل ارتفاعاً خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2020 بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2019، هو مؤشر المبيعات العقارية الذي سجّل نمواً بنسبة 112.7%، حيث أصبح منذ اندلاع الأزمة في العام الماضي، الملاذ الآمن الوحيد لأصحاب رؤوس الاموال العالقة في المصارف.
في التفاصيل، ارتفع عدد المبيعات العقارية من 36,952 عملية في الأشهر التسعة الأولى من العام 2019 إلى 55,108 عمليات في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، وفق آخر الإحصاءات الصادرة عن دائرة السجل العقاري. كذلك، ارتفعت قيمة المبيعات العقارية بنسبة 112,7% على أساس سنوي لتبلغ 10,077 ملايين دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، بحيث ارتفع متوسط قيمة الصفقة العقارية من 128,228 دولاراً الى 182,860 دولاراً بين الفترتين.
وقد ظلّت بيروت تستأثر بالحصة الأكبر من إجمالي قيمة المبيعات العقارية (34,1%)، تلتها بعبدا (17,3%)، ثم المتن (17,0%)، فكسروان (12,0%)، فلبنان الجنوبي (8,3%)، فلبنان الشمالي (4,1%)، فالبقاع (3,1%)، فالنبطية (2,8%). يضاف الى ذلك، أنّ معظم المناطق سجّلت زيادة في قيمة المبيعات العقارية، غير أنّ الزيادات الأبرز جاءت كالآتي، كسروان (+168%)، بيروت (+127%) وبعبدا (+112%). في موازاة ذلك، ارتفعت قيمة الرسوم العقارية بنسبة 105,7% لتصل الى 448 مليون دولار. أما عدد المبيعات العقارية للأجانب فقد ارتفع بنسبة 2,4% على أساس سنوي ليبلغ 776 عملية في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020.
أفول «الهجمة» العقارية
في هذا الاطار، أوضح الخبير العقاري رجا مكارم لـ»الجمهورية»، انّ وتيرة عمليات البيع العقارية تراجعت بشكل ملحوظ في الآونة الاخيرة، بعد ان هرّب من هرّب ودائعه العالقة في المصارف وحوّلها الى عقارات، من خلال الدفع عبر الشيكات المصرفية. مشيراً الى انّ تراجع وتيرة المبيعات مردّه الى انقضاء مخزون الشقق السكنية المعروضة للبيع من قِبل المطورين العقاريين، حيث تمّ بيع كافة الشقق السكنية الجديدة تقريباً، «وما يتمّ بيعه حالياً يقتصر على الشقق السكنية التابعة لأفراد، والتي يهدف اصحابها الى بيعها مقابل الحصول على السيولة النقدية cash money وليس من خلال الشيكات المصرفية، وهو امر بالغ الصعوبة حالياً».
ولفت مكارم الى انّ «المطور العقاري الذي ما زال يحتفظ بمخزون ضئيل من الشقق السكنية الجديدة، يكون قد سبق وسدّد ديونه المصرفية، ولم يعد في حاجة الى بيع عقاراته مقابل شيكات مصرفية، بل يسعى للحصول على السيولة النقدية». مؤكّداً انّ معظم المطورين العقاريين سدّدوا قروضهم للمصارف.
في المقابل، ما زالت عمليات بيع العقارات (الاراضي) تتمّ عبر الشيكات المصرفية، ولكن ليس بالسهولة المعهودة خلال بدء الأزمة، «لأنّ الشاري يحاول تخفيض الاسعار، في حين انّ البائع يرفض ذلك». وذكر مكارم، انّ الاراضي المعروضة للبيع في بيروت اصبحت نادرة جدّاً «وما هو معروض حالياً للبيع مقابل شيكات مصرفية يقع خارج نطاق العاصمة». لافتاً الى انّ من يسعى لبيع الاراضي حالياً مقابل شيك مصرفي يهدف الى تسديد ديون مصرفية او تغيير استثماراته جغرافياً، أي بيع عقار في منطقة ما وشراء آخر في منطقة أخرى، أو نتيجة تصفية عقارات تابعة لعدّة شركاء.
ووفقاً لتقرير بنك عودة، فإنّ المساحة الإجمالية لرخص البناء الجديدة، والتي تشكّل مؤشّراً الى حركة البناء المستقبلية، استمرّت في الانحسار. فإحصاءات نقابتي المهندسين في بيروت وطرابلس تُبيّن أنّ المساحة الإجمالية لرخص البناء الممنوحة حديثاً بلغت 3,350,129 متراً مربّعاً في الاشهر التسعة الأولى من العام 2020، مقابل 5,079,173 متراً مربّعاً في الأشهر التسعة الأولى من العام 2019، أي بانخفاض نسبته 34% على أساس سنوي (بعد تراجعها بنسبة 27,3% في الفترة ذاتها من العام 2019). ويبيّن التوزّع الجغرافي لهذه الرخص أنّ الانخفاض أصاب معظم المناطق، إلاّ أنّ بيروت والبقاع سجّلتا أعلى نسب من التراجع (-80,8% و-39,5% على التوالي). ولا يزال جبل لبنان يستأثر بحصة الأسد من مجموع مساحات الرخص الممنوحة حديثاً في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020 (33,2%)، يليه لبنان الجنوبي (23,5%)، ثم لبنان الشمالي (19,6%)، فالنبطيّة (12,8%)، فالبقاع (8,9%) وبيروت (2,0%).
وقد اوضح مكارم في هذا السياق، انّ عمليات البناء الجديدة غير واردة حالياً بسبب ارتفاع الاسعار، حيث بات متر البناء يكلّف 3 أضعاف ما كان عليه قبل الأزمة، بالاضافة الى أنّ الدفع محصور فقط بالسيولة النقدية.
وبالنسبة للاسعار، اكّد انّها عادت الى طبيعتها ما قبل الأزمة، حيث انّ اسعار الشقق او الاراضي برسم البيع حالياً هي اسعار مرتفعة بنسبة تتراوح بين 20 الى 30% بالنسبة للشقق السكنية، وبين 10 الى 20% بالنسبة للاراضي.
وختم مكارم مشدّداً على انّ العقار ما زال يُعتبر ملاذاً آمناً محليّاً بالنسبة لاصحاب الودائع المصرفية.
رنى سعرتي
هل تكون الليرة الرقمية هي الحل، اليكم كيف؟
في بادرة قديمة متجدّدة، أعلم حاكم مصرف لبنان جمعية المودعين نيته إطلاق العملة الالكترونية بالليرة اللبنانية خلال العام المقبل. للإضاءة على تأثيرات هذه العملة على الوضع المالي، ولكي لا يخلط البعض بين مبدأ العملة الرقمية المقترحة Digital Currency والعملات المشفَّرة Cryptocurrencies وجب توضيح بعض الأمور المتعلقة بهذه العملات ودورها في السياسات النقدية، قبل الانتقال الى سلبيات وايجابيات إصدار الليرة الرقمية.
العملات الرقمية هي مركزية، تُصدرها عادة المصارف المركزية وتنظّم المعاملات المتعلقة بها (CBDC) Central Bank Digital Currency، كما يمكن أيضاً أن تصدرها بعض الشركات المتخصصة. بينما العملات المشفَّرة هي لا مركزية، ويتمّ تعدينها من قِبل غالبية المجتمع ولا يتمّ الكشف عن هوية مستعمليها، بعكس العملات الرقمية التي تتطلب تعريف المستخدم.
مثال على العملات المشفَّرة:
Bitcoin: وهي العملة الشهيرة التي تُستَعمَل ليس فقط كوسيلة دفع إنما كوسيلة إدخار، لذلك تُسمّى بالذهب الالكتروني. كذلك تستعملها بعض البلدان الخاضعة لعقوبات مالية لاستيراد احتياجاتها. مثلاً تقوم ايران منذ شهر تشرين الأول الماضي بإلزام من يقوم بتعدين عملة «البيتكوين» على أراضيها ببيع هذه العملة مباشرة إلى المصرف المركزي لاستخدامها في تمويل استيرادها.
Ethereum: تُستعمل للعقود الذكية، بمعنى تسديد وتقييم العقود التجارية بين المتعاقدين الكترونياً.
XRP: وهي مصدّرة من قِبل شركة Ripple وتُعنى بتسريع التحويلات بين المصارف وهي تجمع ما بين العملات الرقمية والمشفرة.
وغيرها من العملات، حيث تشير آخر الاحصاءات إلى وجود ما يقارب 6700 عملة مشفّرة أسعارها تتقلّب بحسب العرض والطلب عليها.
مثال على العملات الرقمية:
Tether: وهي مرتبطة بالدولار، تقلّباتها محدودة جداً، تُصدرها جهة خاصة وتدخل ضمن فئة العملات الثابتة Stablecoins
Libra: كان من المفترض أن تصدرها مجموعة شركات Libra Association عبر موقع Facebook في سنة 2020، لكنها تلقى معارضة أميركية كبيرة، كونها سوف تطال 2,5 مليار شخص من مستخدمي الموقع، وفي حال نجاحها ستشكّل خطراً كبيراً على استعمال الدولار كالعملة الأولى عالمياً. ترتبط Libra بالعملات الخمس الأبرز عالمياً، وتتخذ من سويسراً مركزاً لها، لكنها لم تر النور بعد.
Digital Euro: ستكون شكلاً إلكترونياً لعملة البنك المركزي الأوروبي، وستكون في متناول جميع المواطنين والشركات لتسديد مدفوعاتهم اليومية بطريقة سريعة وسهلة وآمنة. من الممكن إطلاقها خلال العام 2021.
Digital Yuan: أو Digital Currency Electronic Payment (DCEP) الصينية. من المرجح أن يطلقها بنك الشعب الصيني كنسخة رقمية عن عملته اليوان في العام 2022.
Petro: العملة الرقمية في فنزويلا التي تمّ ربطها لفترة باحتياطي الذهب في فنزويلا ومن ثم ببرميل النفط الفنزويلي، واخيراً تمّ تركها لقوى العرض والطلب، وقد فشلت فشلاً ذريعاً ولم تحصل على أي اعتراف دولي بها وخصوصاً من أميركا.
الليرة الرقمية
الطريقة المتوقعة لاستعمال الليرة الرقمية هي على الشكل التالي: يمكن للمستهلكين والشركات تحميل المحفظة الرقمية على هواتفهم المحمولة وتعبئتها بالمال من حساباتهم في أي بنك تجاري. ومن ثم يستخدمون تلك الأموال، مثل النقود، لإجراء المدفوعات واستلامها مباشرةً مع أي شخص آخر لديه محفظة رقمية أيضاً.
يمكن لليرة الرقمية ان تواجه صعوبات. منذ الأزمة المالية، تحوّل لبنان الى مجتمع نقدي بشكل متزايد. حتى كبار التجار يفضلون استخدام النقد في تعاملاتهم نظراً للقيود الكبيرة على التعاملات المصرفية والبطاقات الإلكترونية. كيف يمكن إذاً في لبنان إقناع شعب عاد عشرات السنين الى الوراء، الى مبدأ «مخزنك عِبّك»، أن يقتنع بتسليم ما تمكن من سحبه من أموال من القطاع المصرفي الى هذا القطاع من جديد ولو تحت تسمية الليرة الرقمية؟ هو يريدها في خزنته، لا بل تحت وسادته ليلمسها لمس اليد، حيث ينطبق عليه المثل «يلي مكوي من الحليب بينَفِّخْ عاللبن».
هل يوجد حوافز لاستخدامها؟ نعم، اليكم كيف؟
منذ أن أصبح النظام المالي اللبناني نظاماً مغلقاً، أصبح في مقدور المصرف المركزي فرض ما يريد على المواطن. انّ الاستحصال على الليرة الرقمية يتطلب وضع المبلغ نقداً لدى المصرف في المقابل، وهذا ما لن يقوم به المواطن في الوضع الراهن. ولكن، تصوروا مثلاً أن يصدر تعميمٌ عن مصرف لبنان بفرض سحب الدولار بالليرة من المصارف على سعر 3900 ليرة بتطبيقات العملة الرقمية على الهواتف الذكية. أو أن يضع المصرف المركزي تسعيرتين لسحب الدولار من المصارف 3900 ليرة نقداً و 4500 ليرة عبر تطبيقات العملة الرقمية، معلّلاً الفرق بكلفة طباعة الليرة الورقية. تخيّلوا حينها كم ستنشط تجارة الليرة الرقمية مقابل الليرة الورقية.
نجاح التعامل بالليرة الرقمية أمر محتوم طالما دخل اللبنانيون والمصرف المركزي في لعبة العصا والجزرة، في نظام مالي مغلق لا مفرّ منه. «الليرة الرقمية من أمامكم والمصارف من ورائكم». نعم، هذه التجربة يمكن أن تنجح أكثر مما يتصوره كثيرون، وتعاميم مصرف لبنان كفيلة بذلك.
إيجابيات الليرة الرقمية:
– يمكن للمصرف المركزي مراقبة انتقال العملة الرقمية من محفظة الى اخرى، وبالتالي تتبع الموقع الدقيق لكل وحدة من العملة.
– في فترة اعادة هيكلة المصارف، بدلاً من الاعتماد على وسطاء مثل البنوك وغرف المقاصة، يمكن إجراء التحويلات المالية والمدفوعات مباشرة من الدافع إلى المستفيد دون المرور بالمصرف.
– في ظلّ التخوف الأمني من ازدياد سرقات المنازل وفقدان الثقة بالمصارف، تكون العملة الرقمية الوسيلة الآمنة «نسبياً» للاحتفاظ بالنقد، شرط أن تكون مقبولة من عموم التجار مهما صغر حجم أعمالهم.
– يمكن استعمال تطبيقات الليرة الرقمية للاستعاضة عن البطاقة التموينية في حال أقرّت الدولة خطة دعم مالية للبنانيين الذين يعانون من الفقر المدقع (شرط ان يكون ما زال في مقدورهم امتلاك هواتف نقّالة).
– تصغير حجم القطاع المصرفي الذي انتفخ بشكل كبير في السنوات الماضية وإعتماد العلاقة المباشرة بين المتعاملين.
– التخفيف من كلفة طباعة الأوراق النقدية والمتوقع ازديادها بشكل كبير في السنوات القادمة.
– تأمين انتقال سلس الى عملة جديدة في حال انهيار الليرة الى مستويات تتطلب ذلك.
– تسهيل التعامل بين المواطنين الذين يضطرون حالياً الى حمل رزم من الليرات للقيام بمدفوعات عادية.
– تجنّب طبع فئات كبيرة من النقد قد تصل الى الفئة المليون وأكثر في السنوات القادمة.
– دخول الهاتف الخلوي مع تطبيقاته الى كل بيت في لبنان يمكن أن يحقق الخرق الذي لم تتمكن بطاقات الدفع الإلكترونية من تحقيقه في عشرات السنين، حيث أنّ استعمال هذه البطاقات ما زال محدوداً في لبنان، رغم تشجيع المصارف لزبائنها للاستحصال عليها.
سلبيات الليرة الرقمية:
– نظرًا إلى أنّ الليرة الرقمية مركزية، بعكس العملات المشفَّرة، فإنّ المتحكمين بإصدار العملة الرقمية يمكنهم إضافة الأموال أو إزالتها من حساب أي شخص بكبسة زر. فيما تمنع العملات المشفّرة مثل Bitcoin هذا الخطر ما لم يوافق أكثر من 50% من ملايين المستخدمين على ذلك.
– تسمح الليرة الرقمية لمصرف لبنان بطبع عملة جديدة بسهولة لامتناهية، مما يعني زيادة الخطر التضخمي.
الخلاصة:
الليرة الرقمية تساعد بشكل كبير في يوميات التعامل، ولكن طبعاً لن يكون دورها حل كافة مشكلات الأزمة المالية أو النقدية.
فادي خلف. امين عام اتحاد البورصات العربية.
ما مصير الودائع بعد شباط 2021؟
رسمَ حاكم مصرف لبنان في حديثه الأخير خريطة طريق للمصارف للأشهر الاربعة المقبلة، على أن يتحدّد في نهايتها مصير المصارف اللبنانية. فهل من خطر على الودائع؟ وهل يستطيع المركزي تنفيذ تهديداته اذا ما تبيّن انّ عدد المصارف العاجزة عن تلبية الشروط لا يُستهان به؟
دعا حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في تصريحه أمام جمعية المودِعين اللبنانيين، المصارف الى تطبيق تعاميم المصرف المركزي بدقة، فطالَبهم بإعادة تكوين التزاماتهم، وزيادة رساميلهم بنسبة 20 %، وإعادة الاموال المحوّلة بنسبة 15 الى 30 %، واعادة تكوين نسبة 3 % في حساباتهم لدى المصارف المراسلة، على أن يستحوذ مصرف لبنان على المصارف التي تفشل في تطبيق هذه الخطوات.
لا شك في انّ التزام هذه البنود ليس بالمهمة السهلة في ظل الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يمر به لبنان، فمَن أخرجَ أمواله من المصارف لن يعيدها البتة، ولن يُقدم أي مستثمر على الاستثمار مجدداً في القطاع بعدما اهتَزّت سمعته. يبقى انّ الشرط الاصعب هو تأمين 3 % في حساباتهم لدى البنوك المراسلة. وفي انتظار الغربلة المتوقعة للقطاع، والتي ستتضِح معالمها في شهر شباط المقبل، لعلّ ما يهمّ المواطن اليوم هو مصير الودائع.
في السياق، أوضح الرئيس الاسبق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود: «عندما يصرّح المصرف المركزي انه في حال لم تتمكن المصارف من التزام الإجراءات المطلوبة منها حتى شهر شباط المقبل فإنه سيَضع يده على المصارف التي تفشل، إنما يهدف بذلك الى وضع يده على أسهم أصحاب المصارف حماية للودائع، وهو بذلك يحلّ مكان جمعية المساهمين في اختيار مجلس الإدارة وفي وضع يده على الأسهم بصورة مباشرة او غير مباشرة ولو بشكل دائم او مؤقت، وذلك بغرض حماية الودائع. وطمأنَ حمود الى أن لا خوف من قدرة المركزي على حماية الودائع لأنّ الالتزامات اليوم، ولو كانت بالدولار، إنما هي بالدولار المحلي أي بالليرة اللبنانية، والتزام المصرف المركزي بتأمين بالليرة اللبنانية لا يشكّل له أي عبء.
وأكّد حمود انّ المصارف اللبنانية ملتزمة بالمؤونات المطلوبة منها وفقاً للمعايير المحاسبية الدولية. وبالتالي، اذا رغب المساهمون إرادياً او لاإرادياً بعدم زيادة رساميلهم واموالهم الخاصة ورفضوا تحويل اموال المودعين الى أسهم، في هذه الحال ولدى وَضع اليد على أسهم اي بنك او على ملكيته تكون موجوداته في المصرف المركزي وموجوداته التي سبق ان سلّفها مُغطّاة بالالتزامات المتوجبة عليه بالودائع. وعليه، فإنّ موجودات كل المصارف، باستثناء عدد قليل لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، تغطي المطلوبات، لكنّ هذا الواقع لم يعد كافياً اليوم.
واعتبر حمود انّ وضع يد المركزي على مصرف متعثّر بات أسهل اليوم، إذ انه في السابق، أي قبل الأزمة المالية، في حالة التعثّر كان المودع يهرّب دولاراته الى الخارج، أمّا اليوم فهو ينقل أمواله من مصرف الى آخر، أي تبقى وديعته في المصارف اللبنانية ولا يتغير عليه شيء سوى ملكية المصرف. وأوضح انه طالما انّ الرسملة بالليرة اللبنانية فإنه من السهل على المصرف المركزي ان يؤمّنها لتغطية حاجات المودعين.
ورداً على سؤال، أوضح حمود انه حتى تتمكّن المصارف من تغطية الأموال المطلوبة منها وفقاً للمعايير المحاسبية، عليها زيادة أموالها الخاصة، والمصرف الذي لا يتمكن من زيادة رأسماله لن يسمح له المركزي بالاستمرار. وبالتالي، سيضطر الى وضع يده عليه وتغطية الأموال الخاصة المطلوبة بهدف استمرارية عمله. وفي حال طاوَلَ التعثر ثلاثة أو أربعة مصارف، يمكن للمصرف المركزي عندها ان يدمجها بعد ان يستحوذ عليها. ففي ظل الأوضاع الراهنة لن يُقدم أي مصرف على خطوة مماثلة من تلقاء نفسه إذ إنه لا مصلحة لأيّ بنك اليوم ان يندمج مع مصرف آخر، لأنّ هذه الخطوة ستزيد التزاماته بالودائع تجاه المودعين، بما يعني انه سيزيد الضغط عليه لناحية تلبية الطلب على سحب الودائع، لا سيما الودائع بالدولار. إنطلاقاً من ذلك، اعتبر حمود انه من الضروري ان يستمر المركزي في الخطة التي وضعها للمصارف، وان يتمكن من تحقيق الأهداف المرجوة منها، مع العلم انّ المصارف لن تكون راضية عن الشروط التي وضعها المركزي. لذا، توقّع حمود ان يفتح المصرف المركزي في المرحلة المقبلة باباً يسمح خلاله باسترجاع الأسهم لِمَن يريد.
مصير الودائع
وعن مصير الودائع في حال وضع المركزي يده على أي مصرف، قال: انّ قول المصرف المركزي انه سيستحوذ على المصرف الذي لا يلتزم بالشروط التي يضعها يجب ان يُطمئن المودع، فلو كان في نيّة المركزي ان يضرّ بالمودعين كان اتجه نحو القانون 2 / 67 أي الإفلاس، بحيث تتعاطى محكمة الإفلاس مع المصرف المتعثّر، وفي هذه الحال تصبح أموال المودعين معرّضة للهلاك، إنما ما يحاول المركزي فعله اليوم هو الابتعاد قدر الإمكان عن قانون الافلاس، وتحويل ملف المصارف المتعثرة نحو الهيئة المصرفية العليا، أي الدفع باتجاه الدمج او التصفية الذاتية، بحيث يستحوذ مصرف لبنان على الموجودات ويصفّيها.
ايفا ابي حيدر.
تحويل الدولارات العالقة في المصارف الى عملة رقمية؟
فيما تبقى تفاصيل مشروع العملة الرقمية التي يعتزم مصرف لبنان اطلاقها في العام المقبل مجهولة، فإنّ الترجيحات تشير الى انّ المشروع يهدف الى التخلّص من الدولارات الوهمية العالقة في المصارف، عبر تحويلها الى عملة رقمية جديدة، وهي وسيلة اخرى لخفض حجم الودائع بالدولار، على غرار الشيكات المصرفية لشراء العقارات والسحب على سعر صرف الـ3900، وغيرها وغيرها من التدابير التي ساهمت في تقليص حجم الفجوة المالية في النظام المصرفي.
بعد ان حوّلت الأزمة المالية في لبنان، الاقتصاد الى ما يُعرف بالـ Cash Economy نتيجة شحّ السيولة النقدية بالدولار واحتجاز اموال المودعين في المصارف، كشف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة امس الاول، انّه في صدد إعداد آلية لفرض نظام مالي جديد SYSTEM CASHLESS، ليس لاستخدام الدولارات الوهمية «اللولار» أو الليرات اللبنانية العالقة في المصارف، بل يعتمد على مشروع جديد يتمّ التحضير له، لإطلاق عملة لبنانية رقمية خلال العام 2021 «من ضمن آلية تنظيمية جديدة لإعادة الثقة بالمصارف وتحريك سوق النقد محلياً وخارجياً، حيث تشير تقديرات البنك المركزي الى وجود 10 مليارات دولار مخزّنة داخل البيوت.
منذ العام 2018 يسعى مصرف لبنان الى اطلاق العملة الرقمية الخاصة، به بعد ان شهدت سوق العملات الرقمية إقبالاً كبيراً في دول العالم، مشترطاً في السابق، ان يكون استعمالها محلياً، فقط بهدف تسهيل أساليب الدفع وتفعيل التكنولوجيا المالية وتوفير الكلفة على المستهلك وخفض تكلفة طباعة النقد ونقله، وخلق أنواع جديدة من الأعمال والنشاط التجاري.
اما اليوم، ونتيجة الأزمات المتعددة لانهيار سعر صرف الليرة وتحوّل اموال المودعين الى دولارات وهمية غير قابلة للاستعمال، فإنّ الغاية من اطلاق عملة لبنانية رقمية تبدّلت، وأصبح طرح عملة جديدة ثالثة للتداول في السوق اللبنانية أحد الحلول المطروحة، لمساعدة البلاد في الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة، على غرار ما قامت به فنزويلا في 2018.
آملة ان تحلّ عملتها الرقمية مكان الدولار في التعاملات التجارية الداخلية والخارجية، لكنها سرعان ما فشلت بعد ان حظّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب في العام نفسه على الأميركيين، تداول العملة الرقمية الفنزويلية «بترو» معتبراً أنّها غير قانونية.
وبما انّ الدول التي تتصدّر قائمة التداول بالعملات الرقمية هي دول مأزومة مالياً واقتصادياً، هل سينجح لبنان في اطلاق عملته الرقمية، وهل سيستفيد الاقتصاد اللبناني منها؟
في هذا الاطار، اوضح الخبير في الاسواق المالية محمود دغيم لـ»الجمهورية»، انّ هناك علامات استفهام عدّة تُطرح حول مشروع العملة الرقمية التي ينوي مصرف لبنان طرحها منذ العام 2018، من دون اعطاء أي معلومات او تفاصيل عنها، وبالتالي هناك سيناريوهات مختلفة حول الآلية التي سيتمّ اعتمادها في حال كان اطلاق هذا المشروع جدّياً، منها:
– تحويل الدولارات الوهمية العالقة في المصارف الى عملة رقمية، وإنشاء محافظ الكترونية مع المصارف ووسائل دفع عبر الهواتف الذكية او البطاقات الائتمانية.
– تحويل الودائع بالليرة الى عملة رقمية.
– اطلاق عملة لبنانية جديدة مدعومة بالدولارات الوهمية العالقة في المصارف، أي انّه يمكن استخدام «اللولار» لشراء العملة الرقمية. وبذلك تكون العملة الرقمية وسيلة اخرى للتخلّص من الدولارات الوهمية في القطاع المصرفي وخفض حجم الودائع، وبالتالي تقليص حجم الفجوة المالية بالدولار في النظام المصرفي.
اما الهدف من طرح العملة الرقمية اليوم في ظلّ الأزمة القائمة فهو وفقاً لدغيم:
– تحويل الاقتصاد النقدي الى اقتصاد غير نقدي، وهو الامر المتناقض مع تعاميم مصرف لبنان الاخيرة، والتي ألزمت المستوردين تأمين السيولة النقدية من اجل الاستيراد، وبالتالي حصرت التعاملات التجارية بالسيولة النقدية وفعّلت الاقتصاد النقدي.
– تفعيل وسائل الدفع الالكتروني وخفض الطلب على السيولة النقدية، لتقليص الضغط على العملة المحلية في السوق السوداء.
– اشراك الاشخاص الذين لا يملكون حسابات مصرفية في النظام المصرفي من اجل الحدّ من التداول بالسيولة النقدية.
– تقليص كلفة طباعة العملة المحلية والحدّ منها، حيث انّ ارتفاع نسب التضخم قد يدفع الى الحاجة لطبع فئات أكبر من العملة المحلية (فئة مليون ليرة على سبيل المثال).
– التعويل على استرجاع الدولارات المخزّنة في المصارف للاستثمار بالعملة الرقمية الجديدة.
في المقابل، شدّد دغيم على انّ العملة الرقمية في حال تمّ اطلاقها وبغض النظر عن الآلية التي سيتمّ اعتمادها، سيكون استخدامها محلياً فقط ولن تكون مطلقاً وسيلة للدفع خارج لبنان او لإتمام عمليات تجارية مع الخارج من اجل الاستيراد او غيره.
من جهته، أكّد الباحث في الشؤون المصرفية في جامعة دبلن محمد فاعور، انّ اطلاق عملة رقمية لبنانية لن يكون حلّا للأزمة المالية والمصرفية القائمة، ولن يعيد الثقة بالقطاع المصرفي، مشدّداً عبر «الجمهورية»، على انّ النهوض الاقتصادي هو العامل الاساس الوحيد لاستعادة الثقة بالعملة المحلية، «وأي عملة جديدة صادرة عن اقتصاد بحالة مذرية ستكون انعكاساً للوضع الاقتصادي، ولن يختلف وضعها عن وضع الليرة المحلية حالياً».
واستغرب فاعور مسعى مصرف لبنان لتحويل الاقتصاد الى cashless economy في ظلّ انعدام الثقة بالقطاع المالي والمصرفي، وفي الوقت الذي اتخذ فيه البنك المركزي تدابير عدة أدّت الى تحويل الاقتصاد الى اقتصاد نقدي.
رنى سعرتي.
شيكات الليرة بـ10% وشيكات الدولار بـ60%
يستمرّ مصرف لبنان في شراء الوقت للسلطة، علّها تستفيق على واقع انّها مع كلّ تأخير في تشكيل حكومة واستئناف الإصلاحات والحصول على الدعم المالي الخارجي، تهدر آخر فلس من أموال المودعين بالعملات الاجنبية، وسط استنزاف حاد لاحتياطي البنك المركزي، محكوم بقرار سياسي برفض رفع الدعم عن المواد والسلع الغذائية والاستهلاكية الاساسية المستوردة.
بما انّ رفع الدعم قرار لن تتجرأ حكومة تصريف الاعمال او حتّى أي حكومة جديدة على اتّخاذه، فإنّ مصرف لبنان يعمد بشتّى الطرق الى إطالة مدّته قدر المستطاع، الى حين تدفّق أموال من الخارج، لتغذّي من جديد احتياطه من العملات الاجنبية. وبالتالي، يسعى البنك المركزي حالياً، بدل وقف الدعم، الى تقليص حجمه، من خلال لجم الاستهلاك وخفض فاتورة استيراد الادوية، القمح، المحروقات والمواد الغذائية والاستهلاكية الاخرى، المدعومة وفقاً لسعر صرف منصّة البنك المركزي.
تتمّ هذه العملية من خلال وضع سقوف على عمليات السحب بالليرة اللبنانية وخفضها تدريجياً، بالإضافة الى إلزام مستوردي السلع المدعومة على تأمين السيولة نقداً للمصارف، من اجل اتمام عمليات الاستيراد. وقد أدّى ذلك الى عرقلة وتأخير عمليات الاستيراد للادوية والمستلزمات الطبية والمحروقات وكافة السلع الاخرى المدعومة، بسبب صعوبة تأمين مليارات الليرات نقداً. كما ساهم هذا الإجراء في خفض الطلب على الدولار بنسبة ولو ضئيلة في السوق السوداء، نتيجة عدم تمكن المودعين من سحب السيولة الكافية بالليرة نقداً من اجل شراء الدولارات وتخزينها.
الاهمّ من ذلك، انّ تداعيات خفض السحوبات النقدية بالليرة، أدّت الى ظهور سوق جديدة للتجارة في الشيكات المصرفية بالليرة وبيعها بنسبة تراوحت بين 7 الى 15 في المئة، أقلّ من قيمتها الفعلية، مقابل الحصول على الليرة نقداً، على غرار الشيكات المصرفية بالدولار التي يتمّ بيعها بسعر يقلّ بنسبة 60 في المئة عن قيمتها الفعلية، علماً انّ تجارة الشيكات بالليرة مزدهرة حالياً في صفوف مستوردي المواد الاساسية المدعومة، خصوصاً الادوية والمستلزمات الطبية والمحروقات، حيث كشفت نقيبة مستوردي المستلزمات الطبية لـ»الجمهورية»، انّ التجار يلجأون الى شراء السيولة النقدية بالليرة مقابل شيكات مصرفية بسعر يفوق قيمتها بنسبة 11 في المئة، لضرروة دفع مستحقات متأخّرة للشركات الموردة في الخارج.
في موازاة ذلك، يستفيد القطاع المصرفي من حجز الودائع بالليرة، من خلال حث اصحاب تلك الودائع على تحويلها الى الدولار، شرط تجميدها لفترة لا تقلّ عن عام واحد وبفوائد منخفضة، بحجّة انّ المودع لن يستطيع الاستفادة من وديعته بالليرة حالياً، وانّ قيمتها قد تشهد مزيداً من التدهور، بانتظار رفع القيود عن السحوبات. مع الاشارة الى انّ عدداً من المصارف لم يتوقف منذ بدء أزمة الدولار، عن تحويل ودائع مصرفية من الليرة إلى الدولار، على الرغم من انّ هذا الاجراء يزيد من حجم الدولارات الوهمية في المصارف، ويفاقم حجم خسائرها، كما انّه لا يتماشى مع سياسة تجميل ميزانيات المصارف، عبر خفض حجم الودائع بالدولار دفترياً.
قد يكون هدف المصارف المستمرة في تحويل ودائع بالليرة الى الدولار وتجميدها، خفض مطلوباتها من الليرة اللبنانية، وتأمين السيولة المطلوبة بالليرة لدفع مستحقاتها، باعتبار انّها غير قادرة على سحبها من حسابها الجاري في مصرف لبنان، نتيجة السقوف التي وضعها الاخير لسحوبات المصارف النقدية بالليرة.
في هذا الاطار، شدّد الخبير المصرفي سمير طويلة لـ»الجمهورية»، على انّ القطاع المصرفي غير معنيّ بتجارة الشيكات المزدهرة، «وقد حاول الحدّ منها من خلال اصدار شيك مصرفي للمستفيد الاول فقط و chèque barré لا يُستعمل إلّا عبر ايداعه في حساب مصرفي للمستفيد الاول، وذلك تخوّفاً من حصول عمليات تبييض أموال».
واوضح، انّ هناك سوقاً سوداء لتجارة الشيكات، يستفيد منها مستوردو المحروقات والادوية وكافة السلع المدعومة، بالإضافة الى من يقوم بتسديد بوالص التأمين. لافتاً الى انّ حجم الخسارة من قيمة الوديعة التي يتمّ بيعها مقابل شيكات بالدولار تبلغ 60 في المئة. واشار طويلة، الى انّ المودع هو الخاسر الاكبر لصالح كبار التجار والمستوردين الذين يستفيدون من الدعم. معتبراً انّ اقتطاع 60 في المئة من قيمة الوديعة بشكل طوعي من قِبل المودع أمر مؤسف، يؤشر الى تخوّف كبير لدى المودعين، ناتج من غياب القرار السياسي الموحّد، وعدم تشكيل الحكومة وعدم استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
وعمّا اذا كانت تلك التجارة قد ساهمت في خفض حجم الودائع بالدولار في القطاع المصرفي، أكّد انّ تراجع حجم الودائع نتج من تسديد القروض المصرفية، والدليل على ذلك، انّ حجم التراجع في الودائع يعادل تقريباً حجم القروض التي تمّ تسديدها.
وبالنسبة لتجارة الشيكات بالليرة، قال طويلة انّ القرار الذي اتخذه مصرف لبنان بوضع سقوف للسحوبات النقدية بالليرة، هو قرار سليم، حدّ من الطلب على الدولار في السوق السوداء، «وهذا ما تُرجم في ارتفاع سعر صرف الليرة، ليس نتيجة تكليف رئيس للحكومة كما ظنّ البعض، بل نتيجة اجراءات مصرف لبنان». وبالتالي، توقّع طويلة ان يستمرّ تقييد السحوبات النقدية بالليرة، لأنّه نجح في وضع سقف لسعر صرف الدولار في السوق السوداء.
من جهة اخرى، أكّد طويلة انّ دولرة الودائع التي يقوم بها بعض المصارف، تهدف الى تسديد قروض بالدولار لبعض التجار، الذين لا يملكون مداخيل سوى بالليرة اللبنانية، مشيراً الى انّ تحويل الودائع من الليرة الى الدولار وتجميدها، لم يعد أمراً متاحاً اليوم، وإذا كان يحصل في بعض المصارف، فهو بنسبة محدودة جداً.
رنى سعرتي
كم سيبلغ سـعر الدولار مع عودة “la grieta”؟
في موازاة عملية التكليف والتأليف، لوحِظ انّ المزاج الشعبي يميل الى التركيز على مراقبة سعر صرف الدولار في السوق السوداء. وقد سجّلت العملة الخضراء تراجعاً بنسبة قاربت الـ20 %، وانتعشت الآمال في إمكان حصول تراجع إضافي يخفّف من الضغط المعيشي الذي يشعر به المواطن في كل مفاصل حياته اليومية.
تعود الأنظار في هذه الفترة لِتَشخُص ناحية الدولار بهدف تَتبُّع خط سَيره في الاسبوع الجاري، وفي الاسابيع المقبلة، بالتماهي مع الاجواء التشاؤمية على مسار تأليف الحكومة، والتي حَلّت ظرفياً ربما، مكان مناخ التفاؤل بتأليف سريع، كما كان سائداً في الايام الاولى على التكليف.
في موازاة هذه النكسة وتراجُع منسوب الآمال المعلّقة على ولادة سريعة لحكومة قادرة على تنفيذ الورقة الفرنسية لتمهيد الأرض لاحقاً أمام الانطلاق بمشروع إنقاذي شامل، برزت مؤشرات أخرى لا تدعو الى الارتياح، منها:
أولاً – المشكلة التي ظهرت في الداخل الفرنسي، والتي من شأنها أن تُلهي الفرنسيين عن المتابعة اللصيقة للوضع اللبناني، كما كان يُفترض أن يحصل.
ثانياً – الاتجاه الذي أخذه ملف التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، حيث تبيّن انّ المنظومة السياسية لا تزال تتّبع نهج إلقاء التهم على أطراف أخرى. تعقد الاتفاقات المدفوعة بالعملة الصعبة مع شركات أجنبية، ولا تُكَلّف نفسها عناء دراسة هذه العقود لئلّا تنتهي الى لا شيء.
ثالثاً – بروز نتائج وأرقام مالية واقتصادية مُرعبة، من أهمها تقرير صندوق النقد الدولي حول تقديراته لحجم الناتج المحلي (GDP) في نهاية العام 2020، والذي قدّر بأنه سيكون أكثر بقليل من 18 مليار دولار. هذا الرقم يبدو مستغرباً بعض الشيء، ويحتاج الى تدقيق اضافي، خصوصاً انّ التقرير تحدثَ عن انكماش الاقتصاد بنسبة 25 %، وهذه النسبة لا توصِل الناتج المحلي الى 18 مليار دولار، من حوالى 52 مليار حجم الناتج في نهاية 2019. وتنبغي الاشارة هنا الى أنّ تقديرات الصندوق لا تصيب دائماً، وهي تعاني احياناً تأخيراً ينعكس تفاوتاً في التقديرات. بمعنى، انّ الصندوق عندما يُصدر تقريره في زمن محدّد، غالباً ما يكون قد جَمعَ المعطيات في وقت سابق، بحيث تسبقه التطورات، خصوصاً في دول غير مستقرة، كما هي الحال في لبنان. على سبيل المثال، تَوَقّع تقرير الصندوق، الذي صدر في تشرين الاول 2019 (شهر اندلاع الثورة في لبنان)، ان يرتفع الناتج المحلي الى 60,5 مليار دولار في 2020!
رابعاً – ما عُرف بالقيود على سحب الليرة، وهو القرار الذي ساهم في بروز أزمات، من ضمنها أزمة القطاع الصحي، لن يتم التراجع عنه بسهولة، وهو قد لا يكون مجرد إجراء مؤقت بالمعنى الذي فهمه البعض، أي انه قد يستمر الى حين بدء خطة الانقاذ، والتي يبدو انها قد تطول أكثر من اللزوم، بفضل «صمود» المشهد السياسي على ما هو عليه من فساد ومماحكات وصراعات سخيفة، وقلة ضمير…
هل تعني هذه المؤشرات انّ الاسبوع الطالع، واذا ما تَأكّد تَعثّر ولادة الحكومة، سيشهد ارتفاعاً للدولار؟
هذا الأمر وارد بقوة، لكنه لا يشكّل أزمة في حدّ ذاته رغم أضراره الجسيمة، بقدر ما يُعتبر مؤشّراً الى ما ينتظر الناس في المرحلة المقبلة. وسيكون الصراع على أشدّه في كيفية إنفاق ما تبقى من ودائع في مصرف لبنان، هذا اذا تبيّن فعلاً انّ الاحتياطي الالزامي (حوالى 17 مليار دولار) متوفّر فعلاً، وإلّا قد تتجه الانظار النَهِمَة نحو الذهب.
في مطلع ايلول الماضي، توصلت الحكومة الارجنتينية الى اتفاق مع دائنيها، في صفقة اعتبرت ناجحة ويمكن أن تشكّل منصة لبداية جديدة للارجنتينيين. شملت الصفقة إعادة جدولة دين بقيمة 65 مليار دولار. وتضمّن الاتفاق خطوات تعهّدت أن تقوم بها الارجنتين لضمان استعادة الثقة، والعودة الى الاسواق العالمية، وتحرير سعر صرف عملتها (بيزو) للقضاء على ظاهرة السوق السوداء…
اليوم، وبعد مرور حوالى الشهرين على الاتفاق، بدأ يتّضِح انّ الامور لا تسير كما هو مُخطّط لها. وقد اضطرّ الدائنون الى إصدار بيان تحذيري حيال ما يجري. وقد تبيّن أنّ السوق السوداء ظلت قائمة، وبدلاً من أن تضمحل أصبحت الملاذ الذي يلجأ اليه الارجنتينيون للحصول على الدولار. وقد أدّى ذلك الى ارتفاع سعر العملة الأميركية في هذه السوق الى حوالى 190 بيزو، في حين انّ السعر الرسمي يُقارب الـ79 بيزو للدولار الواحد. كذلك شهدت سوق السندات الثانوية انخفاضاً ذي دلالات، اذ تراجع سعر سند اليوروبوندز استحقاق 2030 من 50 سنتاً لدى توقيع تسوية جدولة الدين الى 38 سنتاً حالياً، كما تراجع سند استحقاق 2035 الى 34 سنتاً. ويستنتج الدائنون انّ الوضع غير مُطمئن، إذ تستمر خسائرهم في الارتفاع، ومنسوب الثقة بنجاح الانقاذ يتضاءَل بسبب ما سَمّوه المناخ السياسي غير السليم الذي عاد الى الارجنتين بعد توقيع التسوية. أمّا في الشارع الارجنتيني، فإنّ العبارة السائدة اليوم هي أنّ «la grieta» عادت، وهو مصطلح شعبي مُقتبس من عبارة في اللغة الاسبانية، يستخدمه الارجنتينيون للاشارة الى الانقسامات السياسية التي تقف وراء الأزمة الاقتصادية في البلد. وكان «زعماء» السياسة في الارجنتين قد تعهّدوا بِوَقف خلافاتهم، ومنع الانقسام، وتحقيق نوع من الوحدة الوطنية لتسهيل الانقاذ. لكن، وبعد توقيع التسوية مع الدائنين، عاد هؤلاء الى نهجهم السابق. هذه العودة دفعت الارجنتينيين حالياً الى مزيد من الاحباط، وبات السؤال المطروح في الشارع اليوم يتمحور حول نقطتين: كم بلغ سعر الدولار في السوق السوداء؟ وهل من أمل في المستقبل في هذا البلد؟
في لبنان، من البديهي أن يسأل المواطن كم سيبلغ سعر الدولار مع عودة «la grieta» اللبنانية، والتي حاولت المنظومة السياسية أن تُقنع الناس، قبل فترة، بأنها أقلعت عنها الى غير رجعة.
انطوان فرح.
الدور المتغيّر للسوق السوداء في بيروت
انطلقت السوق السوداء لتسعير الدولار الاميركي مقابل الليرة اللبنانية في بيروت، مع اعلان حاكم مصرف لبنان عن بداية ازمة شح الدولار، اعتباراً من شهر آب 2019. وقد اعتبر الحاكم وقتذاك، انّه من الطبيعي ان يكون هناك فارق بين سعر الصرف الرسمي مقابل سعر السوق السوداء، محدّداً ايّاه بـ10 في المئة.
من المفهوم عموماً انّ السوق السوداء او السوق الموازية للسلع والخدمات كما العملات، ينشأ بسبب زيادة الطلب على العرض المؤسس دائماً على اسباب اقتصادية ومالية وسياسية ونفسية.
هكذا لعب سعر الصرف في السوق السوداء دور «الباروميتر» للاقتصاد، عبر اختصار هذه العناصر الاربعة في سعر واحد. الوجه الآخر لمشكلة وجود سوق موازٍ او سوق سوداء في اي عملة، يعود الى فرض سعر مشوّه للعملة بقوة القانون، يخلق الفارق بين اسعار الصرف في سوق واحدة، لأنّ السوق لا يستطيع ان يلبّي كل حاجاته بالسعر المشوّه.
عادةً ما يكون للسلطة النقدية اسباب مختلفه وراء القبول بهذا الفارق. اهم هذه الاسباب هي انّ هذه السلطة لا تريد او لا تستطيع الاستغناء عن سعر الصرف الرسمي، وفي الوقت عينه تريد ان تخفّض حجم الطلب على العملات الاجنبية.
في الاقتصادات التي لا تتعرّض (او تتعرّض بشكل هامشي) للاختلالات الهيكلية في الاقتصاد، يلعب سعر الصرف العائم الدور المانع لوجود اسواق موازية. مثال ذلك، العملات العائمة التي تختزل كافة المؤشرات المؤثرة في سعر الصرف الرسمي، بما يلغي عملياً اي حاجة للسوق السوداء.
يحتاج ذلك الى بنوك مركزية قوية بما يكفي، والى تنسيق السياسات النقدية والمالية والاقتصادية في الدولة. وعدم وجود هذين الشرطين، وبخاصة الضعف في احتياطات البنك المركزي، يسمحان بنشوء مراكز خارج السلطه النقدية تتحكّم بسعر الصرف في السوق السوداء.
انّ المشكلة التي تعاني منها السيولة في لبنان اليوم، بالعملات الاجنبية كما بالليرة اللبنانية، حوّل هذه المراكز الى سلطة او سلطات نقدية بديلة، في ظلّ ضعف البنك المركزي، وهو ما كنا قد حذّرنا منه منذ انطلاق ازمة شح الدولار وأزمة شح الليرة (التي برزت مع التعميم الوسيط الرقم 573).
يُعتبر الهبوط الاخير في سعر صرف الدولار في السوق السوداء من حوالى 9000 ليرة الى ما دون 7000 ليرة، اختباراً قوياً لميزان القوى في السوق السوداء. فإذا كنت قادراً على احتكار السيولة بالدولار ولديك مخزون واسع من السيولة بالليرة، فأنت تستطيع ان تتلاعب بسعر الصرف في السوق السوداء.
يقول حاكم مصرف لبنان، انّ حجم السوق السوداء لا يتجاوز 10 الى 15% من مجموع السيولة المتوفرة. اي انّ هذه النسبة الضئيلة من حجم المبادلات باتت قادرة على السيطرة على اتجاه تقلّبات سعر الصرف. ماذا يعني ذلك؟
هبوط إصطناعي
لقد شكّك الاقتصاديون والمحلّلون في شؤون المال في بيروت، بهذه القدرة العجيبة لتكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، على تأمين هذا الانخفاض الواسع في السوق السوداء، معتبرين ايضاً انّ هناك مراكز مالية تحرّكت في لحظة، ما لفرض هذا الهبوط الاصطناعي في سعر الصرف في السوق الموازية.
دعونا هنا نأخذ حالة اخرى للدراسة. ماذا لو وجدت هذه المراكز (أو ما أُسمّيه السلطة النقدية الخفية) انّ من مصلحتها ان تنزع بسعر الدولار في الاتجاه المعاكس؟ نحو العودة الى 9000 ليرة للدولار او الى 15000 او اكثر او اقل؟ فما دام هذا الجزء القليل من السيولة قادراً على تسعير السوق السوداء بمجملها، وقادرًا على قلب توقعات المتعاملين، فما الذي يمنع تحول هذا التسعير من باروميتر للاقتصاد الى باروميتر للسياسة؟ ماذا لو حاول احد الاطراف المحليين الوازنين الاعتراض على حصّته في التركيبة الحكومية او على قرارات قد تتخذها الحكومة المزمع تشكيلها؟ ماذا لو تعقّدت مفاوضات ترسيم الحدود البحرية؟ الجواب: انظر ماذا فعلت، انظر الى سعر الصرف!.
هناك عدد كبير من العِقد سوف يظهر مع تطور الاوضاع، وقد يحتاج الى تدخّل «تسهيلي» ما في السوق السوداء.
قد لا يكون صحيحاً ما يتمّ تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، من انّ حاكم مصرف لبنان بالاتفاق مع المصارف الكبرى، ضخّ دولارات سخية في السوق من اجل دعم ترشيح الحريري، والإيحاء بأنّ تشكيل الحكومة سوف يدفع الى مزيد من انخفاض سعر الصرف في السوق السوداء. لكن ما تُتهمّ به المصارف اليوم ممكن ان تمارسه هذه المصارف او اخصام لها، فليس هذا هو الاساس. الاكيد انّ استخدام هذه التقنية من قبل مراكز المال الكبرى امر ممكن، لتوجيه سعر الصرف في السوق السوداء، بما يخدم أجندات سياسية محلية وخارجية، ومن اطراف ربما تكون متناقضة.
نحن نعيش في ظلّ اسوأ أشكال ادارة الاقتصاد، واسوأ أشكال ادارة المالية العامة، والآن في أخطر مراحل إدارة النقد.
ذهب لبنان “يَهرُب” من بوابة الصادرات
كان من المتوقع أن ينعكس إنهيار سعر الصرف إيجاباً على الميزان التجاري. كما كان ينتظر أن يَخرج من معمودية نار الأزمة كائن اقتصادي أكثر اعتدالاً، يصدّر أكثر ويستورد أقل. فالعجز البنيوي الهائل في هذا الميزان والذي لامس 16 مليار دولار العام الماضي ما هو إلا مرآة فقدان الدولار، سبب كل علة.
ما تفتعله الحكومات قصداً بتخفيض قيمة عملتها لتحسين وضعية الميزان التجاري، جرى في لبنان من دون “منّة” مباشرة منها. فمن جهة تخفيض قيمة العملة يجعل أسعار السلع المستوردة أغلى بالنسبة للمقيمين، ويشجع على الإقبال على المنتجات الوطنية، ومن جهة أخرى تصبح أسعار السلع المصنعة محلياً أرخص بالنسبة للأجانب، ما يفترض تعزيز قدرتها التنافسية للمنتجات الوطنية ويرفع بالتالي من حجم الصادرات إلى الخارج. إلا أن هذا ما لم يحدث في لبنان. حيث أظهرت نتائج الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي (لغاية نهاية تموز) تراجع الصادرات بنسبة 8.3 في المئة بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي، حيث انخفضت قيمة الصادارت من 2.4 مليار دولار في العام 2019 إلى 2.2 مليار منذ بداية العام ولغاية شهر تموز من العام الحالي.
أسباب تراجع الصادرات
ما يظهر على انه تراجع في الصادارت بنسبة 8.3 ما هو إلا “وسام على صدور الصناعيين اللبنانيين الذين يمثلون النسبة الأكبر من المصدّرين”، يقول رئيس اتحاد المستثمرين اللبنانيين وعميد الصناعيين جاك صرّاف. ويشكر الله “على انها لم تتراجع أكثر”. فالأزمة الخانقة التي يمر بها لبنان، ترافقت مع مشكلتين أساسيتين أعاقتا رفع قيمة الصادارت على الرغم من الجهود الجبارة التي يبذلها المصنّعون المصدرون وهما: – إنتشار فيروس كوفيد-19 الذي أقفل الحدود بين الدول، وجعلها اكثر انغلاقاً على نفسها، ومنها العراق على سبيل الذكر لا الحصر. حيث يتكبد المصدّر اللبناني أكلافاً باهظة للوصول إلى أسواقها عبر منافذ البصرة أو تركيا. – صعوبة استيراد المواد الأولية للصناعة بسبب إجبار المصدرين على تأمين الدولار الطازج بسعر السوق الثانوية. هذا الواقع ترافق بحسب صراف مع “عدم وضع آليات الدعم التي وعُد بها الصناعيون موضع التنفيذ. فعلى الرغم من جهود وزير الصناعة لتأمين التمويل للصناعيين، عبر أكثر من طريقة فان كل الوعود بقيت حبراً على ورق ولم ينفذ منها الشيء الكثير لغاية اللحظة”.
صندوق “أوكسيجين”
بعدما أرخى إنهيار سعر صرف الليرة بثقله فوق كاهل المصدرين وتهديده الجدي بتعطيل الصناعة، أصدر مصرف لبنان بعد مطالبات حثيثة من جمعية الصناعيين التعميم رقم 556، حيث كان من المفترض ان يؤمن 100 مليون دولار على سعر 3200 ليرة للصناعيين من أجل استيراد المواد الاولية. وعلى الرغم من ولادة القرار مشوهاً، حيث لا يمكن ان يستفيد منه اكثر من 333 معملاً، لغاية مبلغ حده الاقصى 300 الف دولار سنوياً، مقابل حرمان أكثر من 5 آلاف معمل من الدعم، فهو لم يطبق بالشكل المطلوب. أما بالنسبة لصندوق cedar oxygen fund، الذي ينص على تحويل عوائد الصادرات الصناعية المقدرة بـ 3 مليارات دولار بشكل كامل الى الصندوق، على ان يعود ويقرضها إلى الصناعيين كاملة من أجل تمويل شراء حاجاتهم من الخارج، فهو لم يتوقف. وعلى الرغم من ضعف إقبال الصناعيين عليه حيث لم يتخطَّ لغاية اللحظة عدد الطلبات المقدمة العشرين طلباً، فان “العمل بالصندوق مستمر، والأموال جاهزة والجهد ينصب على تطوير آلياته وجعله مألوفاً اكثر للصناعيين”، بحسب الصناعي وعضو المجلس الإستشاري لـ “الصندوق” بول أبي نصر. “ولأن الصندوق موجود في اللوكسمبورغ، وإجراءات التدقيق بالملفات والعملاء مشددة وتتطلب أوراقاً ومستندات أكثر من التي يجب تقديمها في لبنان، فان العملية تأخذ بعض الوقت. إلا ان هذا لا يعني أبداً ان العمل في الصندوق قد توقف”.
بحسب أبي نصر فان “محاولة الصندوق توفير تمويل قائم على إرجاع قسم من أموال الصادرات بالعملة اللبنانية، لإفساح المجال أمام تأمين الدولار للصناعيين غير المصدرين بسعر أقل من السوق، عقّدت العملية قليلاً وأخافت الصناعيين”. إلا ان الصندوق في طور اطلاق خدمة جديدة تتمثل في التمويل الكلاسيكي قصير المدى. حيث يفتح الصندوق للصناعي اعتماداً مالياً LC لفترة شهرين أو ثلاثة مقابل فائدة بسيطة. وهو ما سيسهل على الصناعيين والمصدّرين استئناف عملياتهم مع الخارج بسهولة ومن دون أي تعقيدات لوجستية. ومن بعدها يصبح أسهل على الصندوق بحسب أبي نصر تأمين التمويل التعاضدي البالغ الأهمية.
الاعتماد على الذات
هذا الواقع دفع بالمصدّر للاعتماد في التمويل على نفسه. حيث يؤمن بدل مشترياته ويحافظ على مؤسسته وعماله من صادراته. “ولا يتكل على العقلية الفاشلة عند السياسيين، كل السياسيين، التي لا تشبه ثقافة الصناعة والتصدير”، يقول صراف. من دون ان ننسى ان أهمية الصناعة الوطنية لا تقتصر على التصدير بل أهميتها أيضاً بالدور الذي تلعبه كبديل عن الاستيراد وهذا ما لمسناه بتراجع استيراد الادوية بنسبة 16 في المئة رغم دعمها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المنظفات والمعقمات والسلع الغذائية والكثير غيرها من الصناعات الوطنية”.
هروب الذهب
بحسب الارقام، إحتلت صادرات الاحجار الكريمة وشبه الكريمة والمعادن الثمينة المركز الاول بحصة بلغت 40.6 في المئة من مجمل الصادارت. تلتها منتجات صناعة الأغذية بنسبة 11.1 في المئة. فالآلات والأجهزة والمعدات الكهربائية بنسبة 9.4 في المئة. ثم منتجات الصناعة الكيماوية بنسبة 8.7 في المئة. فالمعادن العادية ومصنوعاتها بنسبة 8.2 في المئة.
اللافت للنظر كان الارتفاع الكبير في حجم الصادرات إلى سويسرا حيث سجلت الصادرات منذ بداية العام زيادة بنسبة 22 في المئة لتبلغ حصتها 33.9 في المئة من مجمل الصادرات السلعية وبقيمة تقدر بحوالى 766 مليون دولار، من أصل مجموع الصادرات البالغ 2.2 مليار دولار. هذه الزيادة الكبيرة بالتصدير إلى سويسرا تمثل الوجه الآخر لارتفاع صادرات المعادن الثمينة. وبالتالي تتخطى موقع لبنان كوسيط لاعادة تصدير الذهب والمعادن النفيسة القادمة من جنوب أفريقيا، وترتبط بحسب أبي نصر بعملية “اخراج المودعين ما يملكون من ذهب يحتفظون به في القطاع المصرفي على شكل حلى ومجوهرات أو سبائك وليرات، وارساله إلى الجهة الاكثر أماناً المتمثلة بدولة سويسرا”. هذا الإخراج الشرعي والقانوني يرتبط بانعدام الثقة بالقطاع المصرفي والخوف من مصادرة المجوهرات والسلع النفيسة بعد مصادرة الدولارات.
ماكينزي والصادرات
العودة إلى الرؤية الإقتصادية التي وضعتها ماكينزي للسنوات الخمس المقبلة 2020-2025 تعتبر اكثر من ضرورة بالنسبة إلى الصناعيين. خصوصاً ان الخطة تشدد على تعزيز القطاعات الانتاجية من صناعة وزراعة، والعمل إلى رفع مساهمتها من الناتج المحلي إلى 35 في المئة. وبحسب صراف فان “على الحكومة الجديدة إعادة وضع الخطة على طاولتها وتفعيلها”، لما للانتاج من أهمية في تأمين السلع والمواد الغذائية والطبية وزيادة الصادرات وتعزيز دخول الدولار إلى الاقتصاد.
خالد ابو شقرا.
أزمة لبنان المالية: قراءة في توقعات سعر الدولار لسنة 2021
حفظت من الأرقام، على كثرتها، تلك التي أصدرتها مراجع أجنبية:
– بنك أوف أميركا توقّع الدولار بـ 46500 ليرة في نهاية العام 2020.
– صحيفة إندبندنت توقعت، بحسب الخبير عمر تامو، بلوغ الدولار 17500 ليرة بعد رفع الدعم.
– معهد التمويل الدولي وضع سيناريوهين مختلفين؛ إمّا توحيد «أسعار» الدولار بسعر 6200 ليرة أو بلوغ الدولار 14500 ليرة مع السماح بسحب الدولار من المصارف على 8000 ليرة.
لا ألوم المواطن اذا ما أضاع بوصلته في هذا الكم من التوقعات، وهو الغريق في بحر من الظلمات يبحث عن حبل ولو من هواء ليتمسّك به، لعله يَنتشله من الضياع الذي تتخبّط فيه لقمة عيشه. لا ألومه لأنني لم أجد في هذه التوقعات طريقة الاحتساب التي بُنيَت عليها وإن كان البعض منها قد يكون صائباً.
تعالوا نحلّل ولا أقول نتوقع، لعلنا نصل الى نتيجة علمية تنير بعض الشيء مصيرنا الذي أقلّ ما يُقال فيه أنه مجهول وضبابي.
لنبدأ بما يتمّ تداوله حول مبدأ تثبيت سعر الصرف والذي تتجاذبه الأرقام من كل حدب وصوب؛ هذا يقول سيثبتوه على 4000 ليرة وذاك على 6200 ليرة وغيرها من الأرقام التي يطالعنا بها البعض من دون إعطائنا حتى اليوم طريقة الاحتساب. كنت أودّ لو أستطيع أن أشاركهم حلمهم الجميل، لكنّ التقنيات وما أثقلها ما تلبث أن تشدّني الى أرض الواقع فأجيبهم بمرارة؛ هل تعلمون ما معنى تثبيت سعر أي سلعة كانت؟
عمليّاً، يمكنك أن تثبّت سعر أية سلعة على مستوى معيّن عندما تتمكّن من مساواة العرض والطلب على هذا المستوى وهذا من أبسط البديهيات. بمعنى آخر، أن تلبّي كل الطلب على هذه السلعة، وعلى هذا المستوى بالذات، مهما بلغ حجمه، وإلّا فأنت تقع في مبدأ المزايدة عليها (Auction). السؤال يبقى هل يستطيع مصرف لبنان أن يلبّي الطلب على الدولار على سعر 6200 ليرة أو أي سعر آخر؟ بالطبع لا، وقد برهَنتُ في مقالات سابقة أنّ استراتيجية معاكسة الرياح (Leaning Against the Wind) لم تعد قابلة للتطبيق، وهذا بسبب انخفاض الإحتياطي بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان. وبناء عليه، إنّ أي تثبيت لسعر الصرف لن يكون الّا مؤقتاً، وسيأتي على بقية أموالنا لدى المصرف المركزي.
يتفاءل دُعاة تثبيت سعر الصرف بما سيغدقه صندوق النقد علينا من أموال مما يساعد في تثبيت السعر، بينما يشترط الصندوق من جهته تحرير سعر الصرف للتعاون مع لبنان. وفي ذلك ضياع بين نقيضين.
هذا من ناحية عدم إمكانية تثبيت سعر الصرف، أمّا من ناحية سعر سحب الدولار من المصارف في 2021 على 8000 ليرة وفي ما يتعلق بتوقعات المراجع العالمية لسعر السوق السوداء على 14500، 17500 أو 46500 ليرة للدولار، فلنحللها معاً.
إنّ رقم 46500 ليرة الذي توقعه بنك أوف اميركا لنهاية العام 2020 يبدو بعيداً في الوقت الحاضر، وإن كان العام لم ينته بعد. وهو إن دلّ على شيء فهو أنه حتى أكبر المراجع الدولية تخطىء في توقعاتها. هذا لا يعني طبعاً استبعاد هذا الرقم في السنوات القادمة، فالخطأ بالتوقيت يبقى وارداً ومن المحتمل أن يتحقق تَوقّع بنك أوف أميركا في السنوات القليلة المقبلة طالما لم يطرأ حدث إيجابي كبير يغيّر في مسار الأمور.
أمّا بالنسبة لرقم 8000 ليرة للسحوبات من المصارف، وبالعودة الى مبدأ محاكاة أزمة الدولار في الثمانينات، أعدتُ بناء الأرقام بطريقة المحاكاة (Simulation) وبنفس نسَب تطور أسعار الدولار في فترة 1983 – 1992 ولكن انطلاقاً من سعر 1500 ليرة للدولار الواحد وبدءاً من تشرين الاول 2019، فبيَّنَت لي أسعار الدولار في المصارف على الشكل التالي:
2019: المحاكاة أعطت 2189 ليرة، والواقع أعطى 2200 ليرة.
2020: المحاكاة أعطت 3565 ليرة، والواقع أعطى 3900 ليرة.
2021: المحاكاة أعطت 7259 ليرة، والواقع ينتظرنا السنة القادمة.
وكما يبدو أعلاه فإنّ توقّع معهد التمويل الدولي 8000 ليرة للدولار الواحد للسحوبات المصرفية في 2021 قريب جداً من نسبة ارتفاع الدولار في السنة الثالثة من انهيار الليرة في الثمانينات من 8,89 ليرات في آخر سنة 1984 الى 18,10 ليرة في آخر سنة 1985، أي أن الدولار المصرفي تضاعف بين السنتين الثانية والثالثة من الانهيار في الثمانينات. وبالتالي، فإنّ سعر 8000 ليرة للسحوبات المصرفية في 2021 لديه تفسيره العلمي.
المرجع لفترة 1982-1992 كتاب: L’effondrement de la livre libanaise 1982-1992, une histoire qui nous hante – Fadi Khalaf
بالنسبة لتوقعات معهد التمويل الدولي لسعر الدولار في السوق السوداء 14500 ليرة في العام 2021 وصحيفة إندبندنت 17500 ليرة بعد رفع الدعم، أعود بتحليلي إلى التجربة المصرية الأخيرة بين عامي 2016 و2018 وهي تُظهر بأنّ السلطات النقدية المصرية كانت تقوم برفع سعر الدولار لدى المصارف ليشكّل ما يقارب 50% من السعر في السوق السوداء، ثم تعود إلى رفعه مجدداً كلما ارتفع السعر في هذه السوق، إلى أن استقرّ الوضع في النهاية على ملاقاة السعر الرسمي للسوق السوداء، مع فوارق مقبولة نسبيّاً عند استتباب الوضع. ونلاحظ حالياً محاولة مصرف لبنان الحفاظ على سعر الدولار على 3900 ليرة لدى المصارف أي حوالى 50% من سعر السوق السوداء (مع هامش يتراوح بين 40% الى 60%) لأسباب عديدة، قد يكون أهمها ثَني المودعين عن سحب دولاراتهم من المصارف بالليرة لشراء الدولار الورقي من السوق السوداء عند أول فرصة.
فلو افترضنا أنّ سعر السحوبات المصرفية في 2021 سيتراوح بين 7000 و8000 ليرة، قد يكون من المنطق الاستنتاج أنّ سعر الدولار في السوق السوداء يمكن أن يتأرجح ما بين 13000 و20000 ليرة، على اعتبار أنه ولفترات محدودة قد يزيد سعر السوق السوداء عن ضعفي سعر السحوبات من المصارف في احتمالات تجاوز الهدف (overshooting) قبل أن يعود ويتراجع. ويبدو أنّ توقعات معهد التمويل الدولي وصحيفة إندبندنت للعام 2021 يقعان كلاهما ضمن هامش 13000 الى 20000 ليرة للدولار في السوق السوداء.
هذا كان تحليلٌ لأرقام التوقعات الدولية التي تتساقط على المتعاملين بالليرة حالياً لعلّنا نجد بعض المنطق في هذه التوقعات، على أمل أن لا نخلط بين التحليل العلمي والتوقعات غير المبرّرة علمياً لسعر الدولار حتى لا يُقال يوماً «كذب الخبراء ولو صدقوا».
د. فادي خلف.
ما علاقة الحريري بدولار السوق السوداء؟
يستند الرئيس المكلّف في تشكيل حكومته على عنوانٍ من كلمتين، يكمن فيهما النجاح أو الفشل: «حكومة مهمّة». فهل سيواجه سعد الحريري نصف نجاح ونصف فشل، حيث يتمكّن من تحقيق نصف العنوان، يؤلّف «الحكومة»، ويعجز عن تنفيذ «المهمّة»؟
تترافق عملية تشكيل الحكومة العتيدة التي يتولاّها الرئيس المكلّف سعد الحريري مع تطورات وايحاءات ومؤشرات متناقضة. منذ اللحظة الاولى التي طرح فيها الرجل مسألة تولّيه رئاسة «حكومة المهمّة» لفترة 6 أشهر، لتنفيذ الورقة الاصلاحية الفرنسية، والتي تُعتبر بمثابة تمهيد لعملية الانقاذ المالي والاقتصادي الشاملة التي تأتي في فترة لاحقة، سجّل المراقبون تغييراً في سوق سعر صرف الدولار في السوق السوداء. ومع استمرار تراجع سعر الدولار، الى مستويات منخفضة نسبياً قياساً بالسعر الذي بلغه قبل «المبادرة»، تعدّدت التفسيرات لهذه الظاهرة. البعض اعتبر انّها عفوية، وجاءت نتيجة الارتياح النفسي الذي أدّى الى تراجع الطلب على العملة الخضراء، البعض الآخر اعتبرها مصطنعة، وان هناك من ضخّ دولارات اضافية في سوق ضيّق لخفض سعر الدولار، ومنح الحريري ورقة قوة في يده، خلال التكليف والتأليف. وآخرون ذهبوا الى اعتبار انّها لعبة وسخة، استفاد فيها المضاربون من العملية الحكومية، واختبأوا وراءها لخفض سعر الدولار للتمكّن من شراء كميات من العملة الخضراء بسعرٍ منخفض، ومن ثم بيعها لاحقاً بأسعار مرتفعة، عندما يعود السوق الى وضعه الحقيقي في الايام القليلة المقبلة…
بصرف النظر عن الجدل في شأن هذه النظريات، لا بدّ من لفت الانتباه الى أمرين:
اولاً- ترافقت مبادرة الحريري مع قرار مصرف لبنان تشديد القيود على سحب النقد الوطني من صناديقه، الأمر الذي أدّى الى شح في الليرات، وتراجع الطلب على الدولار بسبب هذا الشح. وهنا أيضاً، هناك من يؤمن بعامل الصدفة في هذا التزامن، وهناك من يطرح نظرية المؤامرة.
ثانياً- انّ مستوى الانخفاض الذي سجّله سعر صرف الدولار لا يُبنى عليه كثيراً، لأنّ مسألة الارتفاع والهبوط ضمن هامش يحدّده المنحنى (curve) في الرسم البياني لتطوّر سعر الصرف في الشهرين الماضيين، يسمح بالاعتقاد ان هذا الهامش المتحرّك يصل الى 2000 ليرة للدولار الواحد بين الصعود والهبوط. وبالتالي، ورغم وسْعِ هذا الفارق، لا يمكن التعويل على أي هبوط أو ارتفاع مفاجئ لا يتجاوز هذا السقف للحديث عن سعر جديد وشبه ثابت للدولار على الليرة. وبالتالي، الأمور في سوق الصرف الضيّق على حالها، ولا يمكن البناء على الارقام التي سجّلها الرسم البياني حالياً للتفاؤل أو التشاؤم.
الرهان الحقيقي يستند الى امكانات النجاح أو الفشل في تحقيق «المهمّة» التي تعهّد الحريري تنفيذها مع حكومته العتيدة في حال نجاحه في التأليف. هذه المهمّة التي تستند الى الورقة الفرنسية، والتي يُفترض أن تُنفّذ في غضون 6 أشهر تدور حولها علامات الاستفهام.
من المعروف انّ البنود الواردة في الورقة الفرنسية تعتمد في عنوانها العريض على خطة انقاذ شاملة، ينبغي ان يتمّ التوافق عليها لاستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. ومن المعروف ايضاً، انّ كل البنود الاخرى في الورقة تنطوي على تفاصيل، بحيث ان تنفيذها ليس معقّداً، ويكفي اتّباع التعليمات الواردة (mode d’emploie)، بعكس خطة الانقاذ، والتي تكتفي الورقة الفرنسية بإيراد عنوان عريض لها، في حين انّ الجميع يعرفون انّ المشكلة هنا تكمن في التفاصيل، وليست في المبدأ.
في اشكالية خطة الانقاذ، وهي أساس النجاح أو الفشل، توجد أكثر من نقطة قد تُفجّر الخطة، وتمنع عملية الوصول الى تفاهم حولها. وقبل مناقشة الاعتراضات الداخلية التي تحول دون صياغة خطة تحظى بالتوافق، لا بدّ من مناقشة التناقضات بين الفريق اللبناني الذي سيقوده الحريري لصياغة خطة جديدة، وبين الاليزيه الذي رسم في السابق مبادئ عامة لا تتماهى مع قناعات الحريري، وقناعات قسم من القطاع المالي والاقتصادي اللبناني، وعلى رأسه المصارف. وبالتالي، سيكون السؤال كيف ستتمّ معالجة هذه الاشكالية التي فجّرتها شركة «لازارد» من خلال الخطة السابقة التي تبنتها حكومة حسان دياب، وواجهت معارضة من المصرف المركزي ومن المصارف اللبنانية، ومن ثم من المجلس النيابي ممثلاً بلجنة المال والموازنة، التي دخلت على الخط وأنجزت عملاً لا يُستهان به؟ وما يلفت الانتباه، انّ الرئيس الفرنسي، لا يزال يشدّد في بعض مواقفه على نقاط تلتقي والفلسفة التي اعتمدتها «لازارد» في «خطة التعافي».
الى جانب هذه المواجهة أو المعضلة التي تحتاج الى حلول، ستبرز أزمة أكثر خطورة على مستوى المعارضة في الداخل. وبعدما كانت بعض الأطراف، وعلى رأسها «حزب الله»، أوحت في عهد حكومة دياب انها تخلّت عن تحفظاتها التاريخية حيال «شروط» صندوق النقد الدولي، برزت في الآونة الأخيرة مواقف غير مُطمئنة، أهمها ما ورد على لسان أمين عام «حزب الله» لجهة رفض بعض ما قد يقترحه صندوق النقد للموافقة على تمويل خطة انقاذ للاقتصاد اللبناني.
بين التباعُد في وجهات النظر حول فلسفة الحل بين الفرنسيين والحريري، وبين التناقض والرفض والتشكيك بين وجهتي النظر في مقاربة شروط صندوق النقد الدولي بين «حزب الله» والحريري، هناك من يخشى أن «نربح» حكومةً ونخسر الانقاذ، ونكون كمَن ربح النحل وخسر العسل.
ما تبقّى من الودائع: 12 سنتاً لكل دولار
مضى حوالى العام على احتجاز أموال المودعين في المصارف اللبنانية، ولا يزال البعض يعيش حالة إنكار للأزمة المالية التي نمرّ بها، معتبراً انها مؤامرة أو «غيمة صيف وتمرّ»، وسيعود الدولار الى 1500 ليرة وسيسترجع وديعته وبالدولار، ما ان تنجلي هذه الغيمة. فما حقيقة وضع الودائع في المصارف؟ وهل هي حقاً موجودة؟ ومتى يمكن استرجاعها؟ وبأية شروط؟
أين كنّا وأين أصبحنا؟ أين هي ودائعنا ولماذا تبخرت؟ وهل من أمل باسترجاعها؟ هذا هو لسان حال اللبنانيين والمغتربين الذين شعروا منذ حوالى العام بأنّ ودائعهم هي مجرد أرقام وهمية، وانّ مدّخراتهم وجَنى العمر تبخّر، وانّ كل ما يَجنونه بالكاد يكفي طعاماً. فمتى ينتهي هذا الكابوس ويخرج أحد المسؤولين ويصارح اللبنانيين بالحقيقة ويرسم لهم خريطة الطريق للمرحلة المقبلة؟
في ظل هذه الضبابية السائدة يبدو حتى الآن انّ المرحلة المقبلة ستكون أسوأ من السابقة، فأين قصّرت الدولة؟ وما الخطوات التي كانت لتجنّبنا هذا الهبوط الحاد الى القعر؟
في السياق، يقول المستشار المالي ميشال قزح انّ ما حصل منذ 17 تشرين الأول 2019 حتى اليوم هو لا مساواة بين المودعين، بحيث انّ أصحاب المصارف وبعض النافذين سياسياً ومساهمي المصارف تمكّنوا من إخراج أموالهم من لبنان، في حين انّ أموال بقية الشعب ظلّت عالقة في المصارف. وقال لـ«الجمهورية»: كان يمكن لحاكم مصرف لبنان ان يُصدر تعميماً في 18 تشرين الأول 2019 يفرض بموجبه الكابيتال كونترول لمنع تحويل الأموال الى الخارج، مؤكداً انّ لمصرف لبنان السلطة الكاملة لإصدار هكذا قرار، وقد رأينا كيف أصدر مجموعة تعاميم اتخذ فيها قرارات قوية، منها التعميم رقم 154.
ولدى سؤاله: هل هناك أيّ أمل باسترجاع الودائع العالقة في المصارف؟ أجاب قزح: عندما يدعو أحد النواب الى إعادة تكوين الودائع فهذا يعني انها غير موجودة، وإذا كنّا لا نريد المَسّ بالذهب فهذا يعني انّ المبلغ المتوفّر في البنك من كل دولار هو حوالى 12 سنتاً؟ بما يعني انّ 88% من الودائع غير موجودة.
أضاف: المركزي يرفض اليوم تحويل الودائع الى ليرة، لذلك يُجيز سحب الدولار وفق تسعيرة 3900 ليرة. وبما اننا في وضع غير مستقر لجأ المودعون الى سحب دولاراتهم من المصارف، رغم تعرّضهم الى haircut بنسبة 45 الى 50% عندما كان سعر الدولار مقابل الليرة يتراوح ما بين 7200 و7500 ليرة، بينما ارتفعت هذه النسبة اليوم الى ما بين 55 الى 60% بوصول الدولار في السوق الموازي الى 9000 ليرة.
6 أشهر صعبة
وأكد قزح انّ المرحلة المقبلة، والتي تتراوح ما بين ستة أشهر الى سنة، ستكون صعبة جداً على المواطن اللبناني، خصوصاً انّ سعر صرف الدولار مقابل الليرة مرجّح أن يرتفع في السوق الموازي الى أكثر من 20 ألفاً، الّا انّ الأوضاع ستبدأ بالتحسّن تدريجاً بعد التوقيع مع صندوق النقد، لأنه الجهة الوحيدة القادرة على ضَخ أموال جديدة في السوق. وقال: إنّ عودة الثقة بالقطاع المصرفي ممكنة، لكن هناك عدة خطوات تسبق ذلك، منها: خفض عدد المصارف العاملة في لبنان من 60 حاليّاً الى 10، وإعادة النظر بطريقة عملها، ولاحقاً يمكن جَذب المودعين من خلال إعطائهم دولارات نقداً ربما تبدأ بـ 200 دولار أسبوعيّاً وتزيد مع الوقت، لكنّ ذلك مستحيل قبل 5 سنوات من بدء تطبيق الكابيتال كونترول على ان يبدأ العَد من تاريخ التوقيع مع صندوق النقد.
وتوقّع قزح، في حال لم يوقّع لبنان اتفاقاً مع صندوق النقد، أن يلجأ حاكم مصرف لبنان في القريب العاجل الى رفع سعر الدولار المعتمد في المصارف للسحوبات بالعملات الاجنبية من 3900 ليرة الى 6000 ليرة، مؤكداً انّ المعطيات تشير الى ان لا قرار سياسياً بعد للتوجّه نحو صندوق النقد. ولفت الى انّ الكابيتال كونترول والـbail in هما من ضمن الشروط التي يفرضها صندوق النقد، وتطبيق الـbail in، أي أن يمتلك الدائنون أسهماً في المصارف اللبنانية، هو خطوة مرفوضة من قبل أصحاب المصارف لأنها تعني تغييراً في مُدراء المصارف ومالكيها، مع العلم انّ وضعهم اليوم شبيه بمَن يترأس شركة مفلسة. فالمصارف أقرضَت مصرف لبنان، وهي للأسف لا تزال تأمل باسترجاع أموالها التي هي أموال المودعين، الّا ان هذا الامر مستبعد جداً لأنّ الاقتصاد اللبناني دخل في المربّع السلبي.
واعتبر قزح انّ المركزي يراهن على ان يؤدّي إخراج الودائع من المصارف (باللولار والليرة اللبنانية) الى التخفيف من حجمها، وهذه الخطوة ستخفّف عنه عبء دفعها بالدولار الحقيقي في المرحلة المقبلة. لكنّ هذه الخطوة أدّت في المقابل الى تكبير الكتلة النقدية في السوق، ما انعكسَ تدهوراً في قيمة العملة الوطنية، فسجّلَ التضخّم مستويات غير مسبوقة. وأكد انّ طبع الليرة اللبنانية وشحنها الى لبنان يتم بكميات كبيرة، والدليل انّ ورقة الـ100000 ليرة دخلت في التسلسل E28، لافتاً الى انه منذ بدء الأزمة الى اليوم، أي في خلال عام، ارتفعت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية من 11 تريليوناً الى 31 تريليون، أي انها زادت حوالى 3 مرات.
عن رفع الدعم
من جهة أخرى، أكد قزح انّ المصرف المركزي لن يرفع الدعم كلياً عن المحروقات والقمح والأدوية إنما تدريجاً، وذلك بعد وصول الإحتياطي الالزامي الى 17.5 مليار دولار. ويمكن ان يسمح بتراجع الاحتياطي أكثر، عازياً ذلك الى التراجع الحاصل في حجم الودائع في المصارف، وقال: بما انّ المصرف المركزي مُجبر على عدم المَس بـ 15% من حجم الودائع، وهو ما يعرف بالاحتياطي الالزامي، فإنه بالتالي كلما تراجَع حجم الودائع كلما تراجعت معه نسبة الاحتياطي الالزامي، بما معناه انه في الفترة المقبلة ستتراجع نسبة الاحتياطي الالزامي متأثرة بتراجع حجم الودائع من 17.5 مليار دولار الى 17 مليار دولار ثم الى 16 مليار وبعدها الى 15… وهذا ما يؤكد انّ الدعم سيستمر في الفترة المقبلة، إنما سيخف تدريجاً.
تابع: انّ التهريب الحاصل، خصوصاً في مادة المحروقات (كونها تستنزف الحصة الأكبر من أموال الدعم، حوالى 5 مليارات دولار سنوياً)، لم يساعد كثيراً في استدامة خطة الدعم لأنّ هذه الأموال استعملت لاستهلاك بلدَين. وجَزمَ انّ التهريب الى سوريا لن يخف حتى لو ارتفع سعر صفيحة البنزين الى 200 ألف ليرة، لأنّ لبنان منفذ سوريا الوحيد لشراء البنزين.
ورداً على سؤال، تخوّف قزح من ان يؤدي ارتفاع الدولار المتوقّع بعد البدء التدريجي برفع الدعم الى جَعل البطاقة التموينية التي يعدّها المصرف المركزي بقيمة مليون ليرة شهرياً من دون أي جدوى، لأنها لن تكفي لا لشراء الادوية ولا المحروقات، مؤكداً انّ لبنان دخل في سيناريو فنزويلا، والتخوّف اليوم هو من الدخول في سيناريو الصومال حيث يزداد العنف بهدف السرقة. ورأى اننا مقبلون على ثورة اجتماعية كبيرة، لأنه لن يكون في مقدور اللبنانيين العَيش في ظل سعر 20 ألفاً للدولار مقابل الليرة.
ايفا ابي حيدر
هكذا “حَسَبها” رياض سلامة عندما قرّر “حَبس” الليرة
بين ليلة وضحاها، كادت الليرة أن تتحوّل عملة صعبة على غرار الدولار، يصعُب الحصول عليها. تعدّدت الاجتهادات في تفسير ما يجري، لكنّ الواضح أنّ ما يمرّ به البلد ليس طبيعياً، ومن البديهي أن تكون القرارات والتطورات والحقائق والأرقام غير طبيعية أيضاً.
أثار قرار وضع قيود على السحب بالليرة عاصفة شعبية وقطاعية، واضطرّ مصرف لبنان، ورغم تمسّكه المبدئي بالقرار، الى تَليين موقفه بشكل غير مُعلن، الأمر الذي سمحَ للمصارف بطمأنة الناس الى أنّ السيولة بالليرة ستكون مؤمّنة من دون توضيحات كافية.
ما هي الظروف التي اضطرّت حاكم المركزي الى اتخاذ مثل هذه الخطوة، مع علمه المُسبق بحجم الاعتراضات التي ستواجهه، وبالأضرار التي ستلحقها الخطوة بالاقتصاد؟
من الواضح أنّ رياض سلامة أدركَ، بعد جَسّ النبض الذي أجراه في موضوع وقف الدعم، أو تخفيفه تدريجاً، انّ المنظومة السياسية ليست مستعدة للمشاركة معه في أي قرار. وعلى طريقة الكابيتال كونترول، تنصّلت السلطة من مسؤولياتها، وكأنها تقول لسلامة: «قَبِّع شَوكَك بإيدَك».
عند هذا الحد، أدرك حاكم المركزي أنه سيكون أمام خيارات كلها صعبة، وتنطوي على مجازفة غير مضمونة العواقب. ولا شك في أنه فكّر في وقف الدعم، وحَشرِ السلطة لدفعها الى اتخاذ قرار، إمّا بتأييد الاجراء الجديد، أو بالطلب إليه الاستمرار في الدعم، وعلى مسؤوليتها. لكنه أدرك أنّ السلطة لن تَنحشِر، وستعمد الى وضعه في وجه الناس. وقد جاءت تحركات الاتحاد العمالي العام في الشارع، لتمنحه أنموذجاً عن الاسلوب الذي سيُعتمد لمواجهة قرار وقف الدعم.
الخيار الآخر الذي قد يكون فكّر به سلامة هو الاستمرار في الدعم، والبدء في الانفاق من الاحتياطي الالزامي. لكن، ومن خلال معرفته بأسلوب السلطة السياسية، كان يعرف، أو هكذا يُفترض، انّ السلطة ستنام على حرير الـ17 مليار دولار، وقد تنضب الاموال، ونصل الى الجحيم الذي سيحرق الجميع، خصوصاً انّ المركزي يُهَيّء نفسه للمرحلة المقبلة في شباط 2021 (بعد 4 أشهر فقط)، حيث سيبدأ ورشة اعادة تأهيل القطاع المصرفي، وقد يضطر الى وضع يده على أكثر من مصرف متعثّر، فكيف يستطيع أن يفعل اذا كانت إمكانته المالية قد تراجعت بنِسَب اضافية عمّا هي عليه اليوم؟
من هنا، اعتبر حاكم المركزي أنّ أهون الشرور يكمن في خفض السحوبات بالليرة من المصارف، بحيث تساهم خطوة من هذا النوع في خفض الانفاق من الاحتياطي الالزامي، من دون أن يكون قد اضطرّ الى رفع الدعم ومواجهة غضب الناس وغضب القطاعات الاقتصادية منفرداً. واعتبر انه بهذا القرار يضرب اكثر من عصفور بحجر واحد، إذ يؤدي تقييد السحوبات الى الامور التالية:
اولاً – تراجع الاستهلاك، وبالتالي تراجع الاستيراد وخفض منسوب الانفاق من اموال الودائع في مصرف لبنان.
ثانياً – تخفيف الضغط على الليرة في السوق السوداء لمنع ارتفاع اضافي في سعر صرف الدولار.
ثالثاً – إخراج بعض الدولارات المُخبّأة في المنازل، لترييح سوق الصرف.
رابعاً – وقف ظاهرة شيكات الـSwap، والتي تعتمد مبدأ استبدال سيولة بالليرة بشيك بالدولار، يُعاد سحبه على سعر المنصّة، الامر الذي يؤمّن أرباحاً مضاربة تزيد في تأزيم المشهد المالي.
خامساً – تخفيف عملية طباعة الليرة، خصوصاً انّ الطلب يزداد على العملة الوطنية. الدولة تموّل إنفاقها من الطباعة، والمركزي يؤمّن سحب الودائع الدولارية بالليرة من خلال الطباعة أيضاً. وتشير التقديرات الى حركة 4 آلاف مليار ليرة شهرياً في عملية السحوبات من المصارف.
لكنّ هذه «المزايا» التي قد يوفّرها قرار تقييد السيولة بالليرة، تقابلها حقائق لا يمكن الاستخفاف بنتائجها، من أهمها:
اولاً – إنكماش اقتصادي سريع ناتج عن تراجع الاستهلاك نتيجة شح السيولة. وهذا يعني إقفال المزيد من المؤسسات، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل، وتراجع حجم الاقتصاد (GDP)، وارتفاع نسبة الديون الهالكة، بما يؤدي الى زيادة الضغط على المصارف، وتصعيب الحلول عندما يحين موعد وضع خطة للخروج من الحفرة.
ثانياً – فقدان مواد استهلاكية في الاسواق، وندرة تَوَفّر مواد أخرى، خصوصاً انّ المركزي اشتَرطَ الحصول على سيولة نقدية من الشركات المستوردة مقابل فتح اعتمادات مدعومة على سعر صرف 1507 أو 3900 ليرة.
ثالثاً – إعاقة القطاع الصناعي، بما قد يؤدّي الى انخفاض حجم التصدير، وتراجع كمية العملات الصعبة التي يُدخِلها القطاع الى البلد.
رابعاً – عودة التشنّج في العلاقة بين المصارف والزبائن، وهذا الامر ليس في مصلحة أحد خصوصاً انّ المصارف، لا سيما الصغيرة منها، ستكون امام خيارين: إمّا الاكتفاء بسقف السحوبات المنخفض الذي حدّده المركزي بما يعني ازدياد حدّة المواجهة مع الزبائن، وإمّا الاستغناء عن فوائد شهادات الايداع بما يعني زيادة حجم خسائرها والمجازفة بالوصول في شباط المقبل الى مرحلة الاستسلام، وتسليم مفاتيح المصرف الى البنك المركزي.
في المقارنة بين «مزايا» حَبس الليرة و»أضرارها»، يصعب الاستنتاج أيّهما أقل ضرراً من الآخر، لكن الأكيد انّ الضرر واقع في الحالتين. واذا كانت المعالجة الجذرية ستتأخّر، سيكون البلد في مواجهة صعوبات إضافية، إذ لا توجد حلول خارج المعالجة الشاملة، التي لا يمكن أن تبدأ قبل تغيير المشهد السياسي، بما يعني أنّ القصة «مطَوّلة».
انطوان فرح