أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

أزمة لبنان: إستحقاق آذار…«شُبهة» تهزّ الحكومة

تحوّل استحقاق اليوروبوند في 9 آذار المقبل الى ملف خلافي، ليس على مستوى السلطة السياسية فحسب، بل انتقل الى الاوساط الشعبية، وصارت قضية دفع هذا الاستحقاق في موعده ملهاةً جديدة رائجة في مراكز القرار السياسي، كما في البيوت والمقاهي والساحات العامة…

ندفع أو لا ندفع… وتحوّل الاستحقاق الى ما يشبه «نتف» أوراق زهرة بابونج «بتحبني… ما بتحبني»!

هل الى هذا الدرك وصل مستوى اللاوعي واللامسؤولية في مقاربة ملفات من نوع وحجم ملف اتخاذ قرار في شأن كيفية التعاطي مع دينٍ عام، تحوّل الى مصيبة وطنية بكل ما للكلمة من معنى، وأدّى الى تفقير الناس وتشريدهم وتهجيرهم، وربما قد يؤدّي الى أزمة وجودية؟

لم تعد قضية استحقاق اليوروبوند في 9 آذار، وقيمته مليار و200 مليون دولار مقبولة على مستوى المنطق واحترام الذات. والتعاطي الرسمي مع هذا الاستحقاق لا يبشّر بالخير، لجهة الميوعة في حسم موضوع بهذه الحساسية. ومن غرّد على «تويتر» يقول: «بعد في ستّي ما عطيتِ رأيها اذا مندفع او ما مندفع»، عبّر بشكل جيد عن حقيقة المشكلة. إذ نجح اللاقرار في تحويل الموضوع الى ما يشبه لعبة شعبية، ينقسم حولها الناس، من يعرف منهم في شؤون المال والاقتصاد، ومن لا يعرف، يتناقشون ويتجادلون ويحلّلون: ندفع أو لا ندفع!

في هذه الاثناء، تعاطت المؤسسات الدولية وصناديق التحوّط (hedge fund) بجدّية ومثابرة مع الملف، وشهدت بيروت منذ تشارين 2019 زيارات كثيفة لوفود استطلاعية تمثّل هذه الجهات، بعضها مستثمر في السندات اللبنانية بالدولار، وبعضها الآخر غير مستثمر ويبحث عن فرص استثنائية للاستثمار.

الإيجابية الوحيدة التي يمكن أن ننسبها الى السلطة السياسية في هذا المجال، وهي ايجابية غير مقصودة طبعاً، انّ معظم الوفود الأجنبية المستطلِعة غادرت البلد من دون أن تفهم ماذا سيقرّر لبنان الرسمي: يدفع أو لا يدفع.

في الفترة الأخيرة، قرّرت بعض الجهات شراء قسم من سندات اليوروبوند المستحقة في آذار، ودفعت مقابل هذه السندات بين 78 و80 سنتاً للسند. (سعره الاصلي دولار واحد). وهذا يعني انّها ستحقّق ارباحاً نسبتها بين 22 و24% في شهر واحد تقريباً، في حال قرّرت الدولة اللبنانية دفع الاستحقاق في موعده.

لكن هذا التطور دفع الى طرح السؤال التالي: هل تأكّدت الجهات الأجنبية التي اشترت السندات، انّ الدولة اللبنانية قرّرت ان تدفع الاستحقاق في موعده لكي تقوم بهذه المجازفة؟ ومن المعروف، انّه في حال قرّرت السلطات اللبنانية أن تؤجّل دفع الاستحقاق، وبصرف النظر عن الطريقة التي ستعتمدها في التأجيل،(سواب انتقائي، أو إعادة جدولة عامة للدين)، فإنّ أسعار هذه السندات التي تُباع اليوم بأقل بـ20% من قيمتها، سوف تخسر من قيمتها الحالية بنسبة كبيرة، بحيث تقترب من سعر سندات اليوروبوند استحقاق 2030 و2037، والتي تدنّت الى ما دون الـ40 سنتاً للسند الواحد. بما يعني انّ المستثمرين الأجانب الذين اشتروا اليوم لتحقيق ربح كبير وسريع، سيمنون بخسارة كبيرة وسريعة قد تصل نسبتها الى 35 أو 40%.

ضمن هذه المعادلة تُطرح الاسئلة التالية:

اولاً- هل تستحق نسبة الربح في السندات التي قد تتأمّن جرّاء التسديد في الموعد المحدّد، القبول بهذا النوع من المجازفات ما دامت نسبة الخسارة المحتملة هي ضعف نسبة الربح المحتمل؟

ثانياً- هل حصلت هذه الجهات على تأكيدات أنّه سيتمّ دفع الاستحقاق، وانّ شراء السندات اليوم صفقة مضمونة وليست مجرد مجازفة، خصوصاً انّ هذه المؤسسات تشتري السندات لمصلحة مستثمرين زبائن لديها (بعضهم قد يكون لبنانياً)، وهي مسؤولة عن نِصحهم وإرشادهم الى الصفقات الرابحة، بما يعني انّ هؤلاء اقتنعوا بالشراء ووافقوا عليه؟

ثالثاً- لماذا أقدمت مصارف لبنانية تحمل هذه السندات الى بيعها بخسارة اكثر من 20% من سعرها؟ هل انّ المعلومات التي تملكها المصارف المحلية تختلف عن المعلومات التي تملكها الجهات الاجنبية المستثمرة؟ وهنا، يمكن استبعاد فرضية انّ المصارف اللبنانية تحتاج الى سيولة، لذلك وافقت على البيع، لأنّها اذا كانت تعرف انّ الاستحقاق سيُدفع في موعده تستطيع أن تنتظر لشهر واحد للحصول على 20% أكثر كإيرادات من هذه السندات.

هذه التساؤلات التي تبدو غريبة بعض الشيء، وتدلّ الى وجود قطبة مخفية في مكان ما، تسمح باستنتاج من نوع آخر. إذ انّ المؤسسات المالية الأجنبية ليست مُطّلعة اكثر من المصارف اللبنانية على القرار الذي ستتخذه الدولة. وفي الاساس يمكن الجزم، أن لا قرار حتى الآن في الحكومة حول الدفع أو عدم الدفع. وأصحاب القرار أنفسهم قد يغيّرون مواقفهم في اللحظات الأخيرة، بسبب ضغوط سياسية أو بسبب تغيير قناعاتهم، لأنّه من الواضح ان لا وجود لقرار عقلاني عميق يستند الى حقائق ودراسات تسمح باتخاذ قرار والثبات عليه.

وبالتالي، قد يكون رهان المؤسسات الأجنبية التي اشترت اليوروبوند، على ما يلي: اذا دفعت الدولة اللبنانية الاستحقاق في موعده نضمن أرباحاً خيالية في فترة قصيرة. واذا تخلّفت الدولة عن الدفع من دون موافقتنا نذهب الى التقاضي والرهن وتحصيل الحقوق بالقانون. وهناك أصول كثيرة للدولة يمكن الحجز عليها. أما اذا فاوضت الدولة اللبنانية للحصول على موافقة حاملي هذه الحزمة من السندات لتتمكّن من اعادة جدولة شاملة للدين، يستطيع المفاوض الاجنبي أن يتحكّم بالقرار، خصوصاً هذا الاستحقاق بالذات، إذ يحمل الاجانب 33% منه. وقد زادت هذه النسبة بعد عمليات الشراء، بما يعني انّ لبنان لن يتمكّن من الحصول على موافقة 75% من حملة السندات لإعادة جدولة دينه. وهذا الوضع يجعل حاملي السندات في هذه الحزمة بالذات التي تستحق في آذار، مثل الوزير الملك في حكومات الوفاق الوطني في لبنان، وحده قادر على التحكّم بمصير الحكومة لجهة سقوطها أو بقائها.

انطوان فرح.

أصول المصارف اللبنانية تتقلص بنحو 33 مليار دولار

في حصيلة انحدار سنوية غير مسبوقة خلال ثلاثة عقود متتالية، شهدت أحدث البيانات المصرفية المجمعة لدى مصرف لبنان المركزي تقلبات حادة شملت مجمل بنود الميزانية الإجمالية، بما يثبت حدة التداعيات التي ضربت القطاع في ظل موجات الاحتجاجات الشعبية العارمة التي اندلعت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، وأنتجت تغييرا حكوميا… ثم كشفت هشاشة الوضع المالي القائم وتعقيداته. توازيا مع اضطرابات متواصلة في تعاملات المصارف مع عملائها وفي أسواق صرف العملات وفي سبل التعامل مع استحقاقات وشيكة لسندات دين دولية.
وإذ سمح البنك المركزي بتأخير إفصاحات البنوك استثنائيا إلى حين إنجاز الميزانيات المدققة، وبما يشمل البنوك المدرجة أسهمها في البورصة، يمكن استنباط أداء القطاع ككل من خلال جداول البيانات الموقوفة في نهاية السنة المالية، مقارنة مع البيانات الموقوفة في نهاية الفصل الثالث، والذي يصح اعتماده كمرجعية إحصائية لما «قبل الثورة». علما بأن المصارف درجت على عقد جمعياتها العمومية والمصادقة على النتائج المحققة خلال الفصل الثاني من كل عام.
وأمكن من خلال الجداول التي اطلعت عليها «الشرق الأوسط»، رصد انخفاض إجمالي أصول الجهاز المصرفي بشكل مثير من نحو 249.5 مليار دولار في بداية العام 2019. إلى نحو 217 مليار دولار في ختامه، أي بقيمة تناهز 33 مليار دولار ونسبتها نحو 15 في المائة، جلها طرأ في الشهر الأخير من السنة. علما بأن إجمالي الأصول بلغ مستواه الأعلى عند 262 مليار دولار في نهاية شهر أكتوبر؛ مما يعني أن الانحدار عن الرقم الأعلى بلغ نحو 45 مليار دولار وزادت نسبته عن 20 في المائة.
وظهر رقم لافت في المدرجات المؤثرة بتكوين الأصول المجمعة وتطورها، حيث انحدر بند محفظة إيداعات المصارف لدى البنك المركزي بمقدار يناهز 15 مليار دولار على أساس سنوي. لتنحدر بدورها إلى نحو 118.2 مليار دولار انطلاقا من نحو 133 مليار دولار في بداية العام الماضي، ووصولا إلى الرقم الأعلى الذي بلغ نحو 156 مليار دولار في نهاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك نتيجة إعادة هيكلة القيود وتلبية حاجات البنوك إلى السيولة النقدية للتعامل مع موجات السحوبات اليومية في الردهات وعبر أجهزة الصرف الآلي، وتلبية التحويلات المتصلة بالزبائن أو بعمليات تجارية ضمن التدابير المعتمدة وإجراء عمليات مالية بين الطرفين.
ويقدر أن إجمالي ودائع الزبائن (المقيمين وغير المقيمين) قد تقلص إلى ما دون 160 مليار دولار في نهاية العام، مقابل نحو 174 مليار دولار في نهاية العام الأسبق، مراكما بذلك نزفا يزيد عن 15 مليار دولار على مدار السنة المالية.
ومعظم السحوبات تمت في الشهرين الأخيرين وتحولت إلى التخزين في المنازل، مما يخفف من وطأة الانحدار وتداعياته على اعتبار أن الأموال المخزنة ستعود إلى المصارف حال استعادة هدوء الأسواق وإعادة بناء الثقة بين المودع والبنك، والتي تزعزعت بفعل تحليلات وشائعات نشرت الهواجس والمخاوف من ضياع المدخرات، فضلا عن التأثير العكسي للتدابير المشددة التي تعتري مجمل التعاملات المصرفية. علما بأن إجمالي ودائع الزبائن المقيمين سجل تراجعا يماثل 7.42 مليارات دولار حتى نهاية نوفمبر من العام الماضي.
في السياق، أظهر بند ودائع غير المقيمين، والذي يشمل ودائع لبنانيين عاملين في الخارج ومغتربين، انكماشا بمقدار 4.17 مليار دولار، أي بنسبة تقارب 13 في المائة بين نهاية الفصلين الرابع والثالث من العام الماضي. بينما بلغ مجموع التراجع السنوي نحو 5.3 مليار دولار، ليصل الإجمالي إلى 32.45 مليار دولار منحدرا من 37.7 مليار دولار، أي بنسبة 16.33 في المائة. والرصيد موزع بين 29.3 مليار محررة بالدولار، وما يماثل 3.1 مليارات دولار محررة بالليرة.
ومن المهم التنويه في هذا السياق إلى القيود المشددة المفروضة على حركة التحويلات إلى الخارج، والتي تشمل ودائع المقيمين وغير المقيمين على حد سواء. مع الإشارة إلى بدء تحركات من قبل النيابة العامة التمييزية من جهة ومن قبل هيئة التحقيق الخاصة ولجنة الرقابة على المصارف من جهة موازية، تهدف إلى تتبع حركة الأموال الخارجة من المصارف طوال العام الماضي، والتدقيق في حال وجود شبهات ذات ارتباط بشخصيات سياسية أو ضمن الإدارة العامة للدولة «PEP، s».
وسجل إجمالي التسليفات الموجهة للقطاع الخاص المحلي من أفراد وشركات تراجعا حادا في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي، بلغت قيمته ما يماثل 3.53 مليار دولار. لتصل بذلك حصيلة التراجع في كامل السنة المالية إلى 7.88 مليار دولار، ومن دون احتساب مردود المحفظة على مدار السنة، ليقفل إجمالي البند على نحو 43.9 مليار دولار انطلاقا من نحو 51.8 مليار دولار، أي بتراجع إجمالي نسبته نحو 18 في المائة على أساس سنوي. وهو ما يعكس حدة الانكماش التمويلي، في ظل نمو سلبي مرتقب للناتج المحلي وتفاقم حالات إقفال الشركات أو خفض أنشطتها في أغلب القطاعات الإنتاجية وصرف عشرات الآلاف من العاملين في القطاع الخاص وخفض المداخيل للمستمرين بالعمل، ولا يزال هذا المسار يندفع قدما بفعل الاضطرابات السائدة في الأسواق.
في المقابل، سجلت التسليفات الموجهة للقطاع الخاص غير المقيم ضمن نطاق انتشار البنوك اللبنانية إقليميا ودوليا، تقلصا بقيمة تناهز 1.1 مليار دولار في الأشهر الثلاثة الأخيرة، معززة القيمة الإجمالية إلى 1.54 مليار دولار من بداية العام الماضي. وبذلك وصلت قيمة المحفظة الإجمالية إلى 5.57 مليارات دولار، بما يشمل الفوائد المترتبة على عمليات التمويل… وبذلك انحدرت قيمة محفظة التمويل الإجمالية للقطاع الخاص المحلي والخارجي من نحو 59 مليار دولار إلى نحو 49.5 مليار دولار، أي بتراجع إجمالي يقارب 19 في المائة.

علي زين الدين.

للتاريخ… جريمة القرن… اللبنانية

تحتاج إلى سنوات لبناء الثقة، ويمكن بثوانٍ أن تدمّرها. في لبنان، انهارت الثقة في النظام السياسي وتبعها الآن انهيار الثقة في النظام المالي والقطاع المصرفي. بدأت القصة سنة 1995 في بداية الحقبة الحريرية المالية، والتي راهنت على عملية السلام. اعتمدت نظرية الإستدانة مهما بلغ ثمنها، لأنّ الفورة بعد السلم ستمحو الدين. فشلت الرهانات. خلالها، استذاق الفريق الحاكم لعبة الفوائد. بدأ الإغرار باللبناني المقيم والمغترب بالفوائد المرتفعة، ممّا استجلب المليارات منه ومن بعض العرب. كان أكثر اللبنانيين، وبسبب ضعف الثقافة المالية يتوهّمون أنّ لبنان لم ولن يقع مالياً. هو أعجوبة. وعلى كلّ حالٍ، قال في نفسه: «ماذا يمكن أن يحصل؟ أنا أعرف مدير الفرع أو مدير البنك. الميسور كان يعرف صاحب البنك. أكيد سأعرف قبل غيري في حال نذير خطرٍ ما، وأسحب مالي من السلة الكبرى في المصارف».

الغريب والملفت أنّ مدراء وأصحاب البنوك، والذين يتوقّع منهم معرفة الحدّ الأدنى من علم إدارة المخاطر، وقعوا أيضاً فريسةً للطمع. فلم يستطيعوا مقاومة الإغراءات ووظّفوا الودائع في دين الدولة بحجم 200 في المئة من رأس مالهم. وما فاض بعد تمويل القطاع الخاصّ بـ55 مليار دولار أو شهادات إيداع، أودعوه في البنك المركزي، حتّى بلغت ودائعهم لديه حوالى 156 مليار دولار، منها 114 مليار دولار من ودائع الناس و42 مليار دولار تسهيلات من البنك المركزي نفسه. بفائدة 2 في المئة ليعودوا ويوظفوا أغلبها بـ 12 في المئة لديه أيضاً. خطوة غير مسبوقة أنّ بنكاً مركزياً يسلّف مصارف ثم يعود لإيداعها لديه بفارق فائدة 10 في المئة، تسجّل أرباحاً لهم وخسارة له. أغلب أصحاب المصارف كانوا مطمئنين الى أنّهم بنوا علاقة ثقة مع الحاكم وسيخطرهم عند أي خطر.

خلال تلك الفترة الزمنية، انتبه السياسيون الى هذه اللعبة، ودخلوا شركاء مضاربين فيها، يؤمّنون الحماية لها مقابل مليارات الدولارات يجنونها في لعبة الفوائد، ومن دون أن يستثمروا دولاراً واحداً. كان بعض السياسيين أصحاب مصارف يؤمّنون تسهيلات بالدولار بفائدة 6-7 في المئة لشركائهم الذين يحولونها الى ليرات ويودعونها بفوائد 35 – 40 في المئة، وعند الاستحقاق يسدّون القروض ويجنون الفارق حوالى 30- 32 في المئة صافٍ دون قرش واحد مخاطرة.

الطرف الرابع والمايسترو الأساسي في هذه اللعبة كان البنك المركزي. أيضاً أغرته مليارات الدولارات التي دخلت البلاد، حتّى أصبحت الودائع في فترة ما تساوي 400 في المئة من الناتج، وهي سابقة مميّزة في تاريخ الدول. هذه الودائع وكلّ النظام الريعي جعلا حاكم البنك المركزي حاكماً مضارباً مع بقية حكّام البلاد، يحمونه ويحميهم، يدلّلونه ويدلّلهم، حتّى أعمت اللعبة أبصارهم جميعاً. سلطة المركزي أوصلت طموحه إلى رئاسة الجمهورية، فوضع تحت جناحه أغلب السياسيين، كبارهم وصغارهم، 8 و14، وتحالَف مع المصارف وأصحاب المصالح. اشترى ذمم عدد غير قليل من الصحافيين والصحافة والخبراء المزيفين.

لم يتصوّر احد انّ لعبة الكراسي الموسيقية ستتوقف يوما ماً، اي دخول الودائع. عاشوا جميعهم على وهم ثقة مزيفة، وانّ الـPonzi sheme في لبنان ليس كغيره، وانه لن ينهار.

في 27 تموز 2009 كتبت مانشيت في الجريدة بعنوان «مسرحية جريمة الدين العام، 56 مليار دولار». بسذاجة، اعتقدت انّ البلد سيهتز في اليوم التالي، لما احتواه الموضوع من تفاصيل حول منفذي المسرحية وممثليها ومنتجيها ومخرجها. زرت بعض الزعامات في اليوم نفسه، لأكتشف انّهم كلهم من دون استثناء لم يقرأوا عن الجريمة، ولم تخبرهم كاتبتهم الصحافية عنها. هكذا زعماء لبنان، وكذلك مصارفه وشعبه. بدأ الجميع يتحسس منذ سنة ونصف، فقط لأنّهم استشعروا الخطر على ودائعهم او رأسمالهم، المواطن يُذلّ بـ200 دولار فيلعن المصارف واصحابها، والمصارف تنتظر ما يرسله المركزي يومياً، فتلعن ايضاً سوء ادارته، والسياسيون يتفرّجون بعد ان حوّل اكثرهم جزءاً من امواله الى الخارج. اما بطريرك المركزي، ما زال يبشّر بسلامة الودائع، وسعر الصرف، ومتانة القطاع المصرفي، وانّه لا يخالف القوانين. لذلك يقول لا اقتطاع من الودائع ولا تغيير في سعر الصرف، بينما يبارك ويسهّل عمل الصرّافين بسعر موازٍ، ويمنع خروج الاموال، ويغضّ النظر عن خسارة 30% من المال لمن يريد تحويله الى الخارج.

كتبنا مراراً انّ ما حصل في لبنان على مستوى دولة ومجتمع، مقيم ومغترب، لا سابقة له في تاريخ الامم والشعوب. لا سابقة ان يتمّ إغرار شعب بكامله بنظام ريعي لمدة 25 سنة وبفوائد منفوخة اصطناعياً، حتى اصبحت اقسى من الإدمان على المخدرات. هذا النظام المالي استدام بحماية نظام سياسي أفسد منه وفي نفس الفترة. اصبح النظامان المالي والسياسي كالحشرات المتوالدة، يتغذّى الواحد من الآخر، والعكس ايضاً. هما في حلف فولاذي لا ينكسر لأن ضعف أحد عنصريه يقضي على الآخر. بنفس المفهوم بين النظامين، استدامت ايضاً حصانة اطراف كل منهما. فالبنك المركزي والمصارف ايضاً في سيرورة واحدة، اذا عطس احدهما، اصيب الآخر بالانفلونزا، كذلك اطراف نظام المحاصصة السياسي. لم يعد احد من العارفين بخفايا الامور يصدّق خلافاتهم ولو حصلت. فأكثرية الاطراف السياسية غدت كحبات المسبحة تطقطق بعضها على بعض ولو تباعدت، لكنها تعرف انّ انقطاع الخيط يفرط السبحة كلها. هذان النظامان يرّوج لهما ويعطيهما وسائل الاعلام الخاصة او من يشترون ذمتهم الصحافية. لماذا هذه المقدمة الطويلة؟ لأنّ سرقة القرن لمجتمع بكامله مستمرة. اصحاب الودائع التي تمثل للبعض جنى عمرهم لا ينامون الليل، بينما من اهدر واساء امانتهم ينامون كالعصفور بين ايادي من يحميهم.

إليكم بعض الحقائق والوقائع:

– لم يسمع احد كيف تمّت عملية تحويل عجز 2019، علماً انّ الرقم المعلن حينها 11 الف مليار ليرة ازداد بنسبة كبيرة نتيجة تضاؤل موارد الدولة في الربع الاخير من السنة، بعض الخبراء يقدّر العجز النهائي لـ 2019 بحوالى 15 الف مليار ليرة. ما هو الرقم النهائي ومن غطّاه، لا نعلم. لكن الترجيح ان البنك المركزي قام بعمليات دفترية غطّى من خلالها المبالغ المطلوبة، اي زيادة المخاطرة على الليرة اللبنانية.

– غياب المرجعية القانونية لكل الاجراءات التي تُتخذ مؤخراً. فالمجلس النيابي اقرّ موازنة 2020 لحكومة مستقيلة وليست حتى تصريف اعمال، وتبناها رئيس حكومة دون استشارة وزرائه، من دون مراجعتها وبحث بنودها. حضر جلسة الإقرار دون صفة، لأنّه لم يحصل على ثقة المجلس. وزير ماليته صرّح في 2019 انّ هذه الموازنة لا تلبي الطموحات المطلوبة وارقامها غير واقعية. هذا قبل احداث تشرين الاول وما بعدها. اليوم نفس وزير المالية اصبح المسؤول الاول عن الموازنة التي عارضها سابقاً. لماذا؟ لأنّ قراره ليس بيده، كما انّ قرار إقرار الموازنة اللادستورية لم تكن بيد النواب الذين صوّتوا لها.

هذا في المبدأ، أما في تفاصيل الموازنة، فأرقامها ابعد ما تكون عن الواقعية. تتوقع حجم الواردات بحوالى 12 الف مليار ليرة، بينما الشعب اللبناني في غالبيته يتصرف وكأنّه يمارس العصيان المدني غير المعلن. اغلب المكلفين لا يدفعون رسوماً وضرائب، ان امكنوا، يتهرّبون من الـ TVA. ضريبة الدخل الفردية ستنخفض جذرياً نتيجة البطالة. وضريبة الدخل من الشركات ستهبط الى اكثر من النصف نتيجة اغلاق المصالح والمصانع وانخفاض القدرة الشرائية وعدم توفر الدولارات لاستيراد المواد الاولية. كذلك ستُضرب عائدات الجمارك والسوق الحرة والمرفأ والمطار والخليوي. ويقدّر البعض انّ عجز موازنة 2020 لن يقلّ عن 10 مليار دولار بالحد الادنى. من اين سيأتي تمويلها في ضوء استحالة اللجوء الى الاستدانة الخارجية بالدولار، او الداخلية بالليرة. لا تخافوا ولا تجزعوا المطبعة موجودة…

الحاجات التمويلية للدولة

نتيجة الانهيار الاقتصادي والقوة الشرائية سينخفض ايضاً الاستيراد بنسبة 40% على الاقل. لكن لبنان سيظل محتاجاً لاستيراد الحد الادنى من متطلبات الاستهلاك من غذاء ودواء وفيول وسيارات (ولو صغيرة) والبسة ومواد استهلاكية وقطع غيار وغيرها. وهذه لن تقل عن 14 مليار دولار. تاريخياً كان الاستيراد يُموّل من تحويلات اللبنانيين (وبعض الاجانب الذين غُرّر بهم ايضاً في نظام الفوائد)، ومن الاستثمارات المباشرة. اليوم وفي ضوء فقدان الثقة في النظام المصرفي، ستنخفض هذه التحويلات لتلبية الحاجات الحياتية الاساسية للاهل والاقارب فقط، واكثرها سيتم نقداً وليس عن طريق المصارف، ولن يكون هناك اية استثمارات مباشرة، اي سيكون العجز التجاري المقدّر 14 ملياراً (12 استيراد و2 تصدير) ممولاً من التحويلات (4 مليارات). فمن اين سيأتي تمويل الرصيد المتوقع لميزان المدفوعات (6 مليارات)؟ لا تخافوا ولا تجزعوا.. مطبعة المركزي موجودة.

– انظر الى الجدول، خلال سنة 2020 يستحق 590 مليون دولار شهادات ايداع بالدولار وفوائد مليار و100 مليون على رصيد شهادات الايداع. اي ما يقارب 1700 مليون دولار (مليار و70 مليوناً) ويستحق ايضا حوالى 2500 مليون دولار (ملياران ونصف) سندات يوروبوند، يُضاف اليها حوالى ملياري دولار فوائد على رصيد السندات المتبقية. اذن المطلوب من الدولة خلال العام الحالي حوالى (6 مليارات و200 مليون دولار).

الاخطر في هذا الموضوع ان البنك المركزي (ويتصرّف انه صاحب القرار، لا وزارة المالية) ينوي دفع اصل وفوائد السندات المستحقة للاجانب، وجدولتها للمصارف اللبنانية. هذا ان حصل يندرج في تفاصيل جريمة او سرقة القرن، حيث لا يُدفع لصاحب الودائع في لبنان ويُدفع للخارج. كل دولار يتمّ دفعه هكذا يكون استنزافاً اخيراً لما تبقى من حقوق للمودعين، او حرمان الشعب اللبناني من استيراد الاساسيات لعيشه من دواء وغذاء.

– في عملية حسابية للمبالغ التي ذكرت اعلاه، يكون لبنان بحاجة الى ما لا يقل عن 22 مليار و200 مليون دولار خلال سنة 2020، منها 12,2 مليار بالدولار و10 مليار بالليرة. من اين سيأتي بهذه المبالغ؟ هنا، عليكم ان تخافوا وتجزعوا لأنّ مطبعة المركزي تؤمن الليرات، ولكن غير معروف كيف ستؤمّن الدولارات.

هذه السيمفونية ادّت الى افلاس الخزينة والمالية والمركزي والمصارف وفقدان ودائع الناس.

اليست مفارقة انّ اكثر السياسيين، وممن يصنفون 8 و14 ومستقلين يسألون ويتساءلون عن الواقع الفعلي للمالية العامة ولوضعية البنك المركزي. لماذا؟

أليست مفارقة انّ فرقاء نظام المحاصصة لم يقتنعوا بعد انّهم لا يمكنهم اخفاء الحقيقة عن المجتمع الدولي، وبعضهم يعتقد انه سيكون شريكاً مضارباً لطرف دولي ما في الغاز والنفط.

– حجم الدين العام وفوائده:

بما انّ البنك المركزي اصبح في حالة سلبية ولم يعد «مقرض الملاذ الاخير» lender of last resort، لا يمكن بعد الآن الا واعتباره وحده حسابية مشتركة لا تتجزأ عن حساب الدولة.

في آخر ربع من سنة 2019 انخفضت عائدات الدولة جذرياً حتى ارتفع المبلغ الذي كانت تبحث عنه للتمويل من 11000 مليار ليرة الى ما لا يقل عن 15000 مليار ليرة. اي انّ عجز الدولة في سنة 2019 لم يقلّ عن 10 مليارات دولار. هذا الرقم يجعل الدين المعلن حوالى 94 مليار دولار. يضاف اليه مترتبات على الدولة لصالح الضمان الاجتماعي، بعد ان توقفت عن تسديد اشتراكاتها، بحوالى 3 مليارات دولار (تضاف الى اجبار الضمان بالاكتتاب منذ سنة 2000 بسندات الخزينة بالليرة اللبنانية بحوالى 6 مليارات ونصف دولار بدل توزيع مخاطرها عالمياً). ثم هناك استحقاق مؤسسة الكهرباء وللمقاولين والاستشفاء والاستملاك، مجموع كل هذه المبالغ يجعل دين الدولة يقارب الـ 100 مليار دولار (لا يهمّ ملياراً بالزائد او ملياراً بالناقص، كما قال لي احد أعلى المراجع في الدولة).

بلغ خدمة الدين للدولة سنة 2019 حسب الموازنة 6,25 مليارات دولار، اما الكارثة هو انّ لا احد يحتسب دين البنك المركزي الذي هو جزء لا يتجزأ من الدولة، ولو تمتع بالاستقلالية. فحسب تقرير المركزي الصادر في 31/1/2020 بلغت ودائع المصارف لديه 114 مليار دولار، منها تقديرياً حوالى 67 ملياراً بالدولار، و47 مليار دولار بالليرة. لكن ولاجتناب ازدواجية القيد، يُحسم من هذه المبالغ ما يملكه المركزي من دين على الدولة المقدّر بحوالى 42 مليار دولار (5,7 مليارات دولار يوروبوند بالدولار، و 36,3 مليار دولار بالليرة). هذا التقرير مبني على اساس دين الدولة ثلثيه بالليرة، اي 66 مليار دولار بالليرة يحمل منها المركزي 55% اي 36,3 مليار دولار بالليرة، وثلثه بالدولار اي 33 ملياراً يحمل منه المركزي (5,7 مليار دولار). بالمحصلة يصبح دين المركزي مقدّراً بـ 72 مليار دولار.

وقع العديد في وهم انّه يجب عدم احتساب ديون المركزي بالليرة لأنّه قادر على الطبع كما يشاء. هذا صحيح، لو كان المركزي غير متعلق بشراسة بتثبيت سعر الصرف.

في اليابان، ودون تثبيت لسعر الصرف، يبلغ مجموع الدين على الناتج 240% أغلبه بالين الياباني، وضمن نظرية عدم احتساب الدين بالليرة، تصبح اليابان دولة غير مديونة. هذا وهم. نعم، تنخفض قيمة الدين بالليرة عند تقديمه بالدولار في حال انخفاض سعر الصرف الى حينها، يجب احتساب الدين بالليرة والدولار على الدولة وعلى المركزي في حساب واحد، وهذا ما يجعل الدين العام على لبنان حوالى 172 مليار دولار، منه 95 مليار دولار بالدولار (61 ملياراً على المركزي و43 ملياراً على الدولة) و77 ملياراً دولار بالليرة (منها 11 ملياراً بالليرة على المركزي و66 ملياراً بالليرة على الدولة) مما يدحض عدم خطورة الدين العام كون اغلبه بالليرة، بينما تبلغ قيمة الدين بالدولار حوالى 55% و45% بالليرة.

مجموع الفوائد المترتبة:

أمّا في حساب الفوائد، فلقد درجت العادة ان يتركز الانتباه على بند خدمة الدين في الموازنة الذي يعني دين الدولة والبالغ 6,25 مليارات دولار لسنة 2019، من المتوقع ان يكون الرقم الصحيح يوازي 7 مليارات دولار. لكن ما لا يحسبه أحد كونه خارج الموازنة هو ما يدفعه البنك المركزي من فوائد على ودائع المصارف او شهادات الايداع اضافة الى الخسائر التي يتكبدها من خلال إعطائه قروضاً ميسرة للمصارف بفائدة 2 % ثم يعودون لإيداعها بـ 12 % عنده. وممّا يفسّر انكشاف البنك المركزي بحوالى 67 مليار دولار هو تمويل ميزان المدفوعات ودعم القروض للشركات الصغيرة والمتوسطة وقطاع المعرفة والقطاع العقاري. كلّ هذا الدعم يسجّل أرباحاً عند المصارف وخسائر عند المركزي مدعومة من نظام الودائع الذي اعتبره البعض لا ينضب. كل هذه العمليات تجعل من الصعب تقدير قيمة الفوائد التي يدفعها المركزي على الودائع للمصارف لديه وعلى شهادات الايداع اضافة الى خسائره للدعم للقطاعات المذكورة. لكن لو احتسبنا تقريباً نسبة الفوائد على مجمل الودائع لديه 114 مليار دولار مع الخسائر على الدعم لاستنتجنا رقماً تقريبياً لا يقلّ عن 14 مليار دولار سنوياً. وهذا ما يفسّر ارتفاع بند ودائع المصارف سنوياً لدى المركزي …. تزداد فعلياً.

في المحصّلة، تبلغ فاتورة خدمة الدين العام المجمع للدولة والبنك المركزي ما لا يقل عن 21 مليار دولار سنويا، اكثرها يدوّر فيدفع ديون الدائنين على الدولة وديون المركزي لصالح المصارف.

حقيقة الـ 30 مليار دولار احتياط المركزي؟

لا يفوّت احد الخبراء المزيفين فرصة إلّا ويذكر انّ الوضع المالي والمصرفي بخير، وانّ لدى المركزي 30 مليار دولار احتياط. يجب التذكير دوماً بأنّ الاحتياط لدى جهة ما تعني ان لديها مبلغاً ما تملكه (لا يملكه طرف ثالث) تلجأ إليه في الطوارئ. هذا الاحتياط في المركزي ما هو إلّا ما تبقى من ودائع واحتياط إلزامي للمصارف تودعها لديه، وتغطية للسيولة النقدية الورقية المتداولة يومياً تبلغ الاحتياطات الالزامية للبنوك حوالى 18 مليار دولار، وتبلغ الكتلة النقدية المتداولة (mzero) 8,6 مليارات دولار بالليرة قبل وصول الشحنات الاخيرة. هذا يعني انّ ما تبقى من «احتياط» ليس ملك البنك المركزي للتصرّف له (وأصلاً لم تكن الاحتياطات لديه يوماً ما ملكه، بل ودائع الناس ورساميل البنوك).

الغريب انّ المركزي بات يتصرف بهاجس نفسي يحتاج الى تحليل طبي يتعلق بالهوس في اضفاء الجو الايجابي المزيف، وثبات سعر الصرف وصلابة «الاحتياط» لديه.

حقيقة ملاءة المصارف وضرورة زيادة رساميلها؟

لطالما تفاخرت البنوك اللبنانية بأنها تتمتع بنسب ملاءة مالية ومخاطرة من الافضل في العالم، وانها كانت ذا حصانة منعت تعرّضها لأزمات سنة 2008، وانّ الدين العام في لبنان لا يهدد متانة المالية كونه في مجمله داخلي.

إنّ لعبة النظام الريعي انتهت. فالملاءة المالية تكون فعلية عندما تكون الودائع مستثمرة في ادوات مالية قابلة للتسييل، لا ان تكون ودائع لدى البنك المركزي لسنوات قادمة لا يمكن تسييلها، وبعدها يكتشف انّ هذه السيولة لم تعد موجودة سوى كأرقام دفترية. كيف يمكن لبنك يدّعي انّ نسبة السيولة لديه 37 % وهي من الاعلى في العالم، بينما هذه السيولة موجودة في المركزي ولا شفافية توضِح كيف استعملت ولأية آجال. ولو كانت هذه السيولة موجودة لدى بعض المصارف لكانت متميزة عن غيرها وخدمت زبائنها. لقد بيّنت الازمة الخانقة، او بالأحرى الانهيار الاخير، انّ كل المصارف متساوية في ذوبان سيولتها وودائع زبائنها، وانّ المصرف المغامر او الكبير لا يختلف عن المصارف المحافظة او الصغيرة، وان اكثر ارباحها التي تمثّل السيولة، ما هي الّا دفترية لدى المركزي.

والأخطر، والذي يتجنّب الجميع التطرّق له، هو هشاشة الواقع الرأسمالي للمصارف. فلا احد يتطرق حتى الآن الى تأثر الرأسمال المجمع للمصارف من خلال انخفاض اسعار اليوروبوند بحوالى الثلثين. والمعروف انّ المصارف تملك 15,14 مليار دولار منها، اي ذوبان دفتري بحوالى 9 – 10 مليار دولار ولا احد يقيّم تأثر الرأسمال بانخفاض سعر الصرف الفعلي بحوالى 35 %، لأنّ المصارف ما زالت تعتمد الرقم الدفتري 1507 اضافة، وتزداد نسبة القروض المتعثرة لتصل الى اكثر من 25 % وهي قابلة للارتفاع في ظل الانهيار الاقتصادي القائم واختفاء السيولة وعدم قدوم اموال جديدة.

هذه الامور وغيرها، تدل الى انّ المصارف كما مالية الدولة، في ازمة عميقة لن تخرج منها الا بإعادة رسملتها وليس بزيادتها فقط. وهذا للأسف لن يحصل في ظل «الدولة الفاشلة» حالياً. الثقة هي اوّل شروط استقدام الرأسمال، والثقة انفقدت وتحتاج سنوات لإعادة بنائها. حسب تقديرات الخبراء، وللحفاظ على جزء من الودائع، يحتاج القطاع المصرفي الى ما لا يقل عن 30 مليار دولار، نسبة الى حجم الودائع. المشكلة التي سيواجهها المودعون، انّ اصحاب المصارف يتصرفون وسيتصرفون وكأنّ رأسمالهم الحالي له اولوية على الودائع وهذا قد يؤدي الى خسارة الاثنين معاً. اخيراً لا بد من الطلب الى المصارف الكف عن إشاعة جو ايجابي مزيّف بهدف استعادة الاموال النقدية في المنازل.

موضوع دفع استحقاقات اليوروبوند:

هناك جدل ولغط حول ما إذا كان من الأفضل للبنان ان يسدّ استحقاق 20 آذار 2020 وبعدها استحقاق نيسان وحزيران هذه السنة. اولاً، قرار السداد او عدمه يجب ان يكون للحكومة اللبنانية لا للبنك المركزي. بات الجميع يعلم انّ الاحتياط في المركزي يشحّ يومياً ولا احد يعلم ما تبقى فيه فعلاً، ولا احد من السياسيين يطالب بتقرير مكتوب وموثّق من «المركزي» عمّا يملكه.

يجب منع المركزي بالضغط على الحكومة، ويجب على الحكومة ان تعطي الاولوية للشعب اللبناني لا للمقرضين، لم يعد الّا حفنة قليلة من الدولارات، الشعب أولى بها لدوائه وغذائه وتنقلاته. لن يكون لبنان لا الاول ولا السبّاق في التخلف عن السداد، ويجب مساواة المستثمر الاجنبي بالمحلي، وعدم إعطاء الافضلية له. إنّ الحجة في انّ لبنان يفقد ثقة المجتمع الدولي في حال التخلف هي حجة باطلة، فالعشرات من الدول مرت بنفس التجربة وعادت الى الاسواق المالية للاقتراض مجدداً. الارجنتين تخلّفت منذ شهرين فقط، وللمرة الثامنة عن السداد، ولم تخرب الدنيا. فنزويلا عاندت واستمرت بالدفع حتى استنفدت كل احتياطها، مما أدى الى عدم الدفع على كل ديونها، لماذا يصرّ المركزي على سيناريو فنزويلا، لا الارجنتين؟

على الحكومة الحالية ان تعرف انها ستكون هي المسؤولة امام الشعب اللبناني في حال انصاعت لرغبة المركزي، وستحاسب على تعطيل المستثمرين على الامن الاجتماعي للمواطنين وحاجاتهم. كيف لدولة ان تدفع للمستثمرين الاجانب، الذي يمثل استثمارهم نسبة ضئيلة من محفظتهم، بينما يُذلّ المواطن يومياً في المصارف ليحصل على 100 او 200 دولار؟

وللمعلومة، لا يهوّل أحد، ويخرج جهابذه الصحافيين الذين باعوا ضمائرهم، ولا الخبراء المزيفين، انّ الاصول اللبنانية ستصادر في الخارج من طائرات واراض وذهب… فالطائرات ملك شركة خاصة اسمها MEA، يملكها البنك المركزي الذي يعتبر هيئة ذات صفة قانونية لا علاقة لها بالدولة، كما باقي الدول. لذلك بعض الدول تعترض بصفتها والبعض الآخر بصفة المركزي. كما انّ الذهب ملك المركزي لا يحق لأحد احتجازه. وإذا سلّمنا جدلاً اّن هذا المنطق غير صحيح، فلتقم الدولة ببيع الذهب الصالح المقرض الاول في لبنان، وهم المودعون. أليس هم ايضاً اصحاب حقوق لدى المركزي حيث توجد اكثر ودائعهم التي لا يعرف احد مصيرها؟

خطة الحلول: لا مخرج بدون دولارات جديدة

خطة مارشال لإعادة بناء الاقتصاد وخزينة الدولة استمرار النظام الريعي لمدة 27 سنة، وقبله كانت هناك حرب اهلية بشعة دمّرت اكثر ركائز القطاعات الانتاجية في لبنان. وبالاشارة الى المقطع السابق حول رسملة المصارف، واجواء الثقة المطلوبة لذلك، ينطبق نفس المبدأ على اعادة تأهيل القطاعات الاقتصادية الانتاجية من زراعة وصناعة وسياحة وخدمات وتجارة. هذا يتطلب رأسمالاً وتسهيلات مصرفية. وبدون اعادة رسملة المصارف لن يعود إحياء الانتاج في لبنان، وبدون تسهيلات مصرفية لن يستطيع مستثمرها ضَخ رأسمال كامل، وبدون اعادة الانتاج بشكل جدي وخلق فرص عمل وقدرة شرائية فعلية، لا رواتب دفترية، لن تستطيع الدولة تحصيل واردات من جمارك وضريبة قيمة مضافة وضريبة دخل وضرائب أرباح شركات ورسوم وغيرها…

أصبح لبنان بحاجة الى خطة مارشال متكاملة للوقوف على رجليه مجدداً وليكون قادراً ان يتنافس في محيطه. الخطوط العريضة لهكذا خطة لن تكون تقليدية، فاليوم كما العادة استفاقت الحكومة الجديدة كما سابقاتها بالضغط لتخفيض الفوائد لتشجيع الاستثمار وما الى هناك من نظريات تقليدية. كالعادة يعتمدون إجراء ما، ولو كان صحيحاً، ولكنه يكون متأخراً.

حتى تصفير الفوائد اليوم لم يعد يجدي كون كل الفوائد الدائنة والمدينة دفترية. ما يحتاج لبنان اليوم هو ضخ سيولة كبيرة في نظامه، بدءاً برسملة المصارف مروراً بتمويل ورسملة القطاعات الانتاجية. والمطلوب مبالغ ليست يسيرة. فكما قلنا تحتاج المصارف حوالى 30 مليار دولار (قد يكون جزء صغير منها) تحويل الودائع الى اسهم، كما يحتاج لبنان الى عشرات المليارات من الدولارات، لا يمكن تقديرها عند كتابة هذا المقال، لرسملة قطاعاته الاقتصادية. تترافق هذه الخطوات لو تمّت مع اعادة هيكلية الدين لتقليص حجمه وخدمته والتخلّص من نظام الفوائد الريعي، ممّا يعيد حجم الدين متوازياً مع حجم الاقتصاد.

فقط وعندها فقط، يمكن الحديث عن موازنة متوازنة والبحث في التخصيص او الشراكة مع القطاع الخاص. أبسط مقومات التخصيص هي الثقة ثم الثقة ثم الثقة، يليها وجود نظام القانون الغائب حالياً اضافة الى جهاز قضائي فعّال لا يرتبط بالسياسيين. بالخلاصة تحتاج الخصخصة، كما إعادة الرسملة المصرفية والاقتصادية، الى دولة مدنية حضارية قادرة وعادلة. كل هذه الاوصاف معدومة في لبنان، حيث تديره دولة فاشلة بكل معنى الكلمة.

الفساد والنفاق في التعاطي مع الداخل والمجتمع الدولي

– الفريق السياسي الذي حكم لبنان منذ انتهاء الحرب اللبنانية حتى اليوم، والذي كما ذكرنا، هو في حِلف فولاذي مع رجال المال والمصالح، لا يزال متمسّكاً بالسلطة غير آبه بما أوصل اليه البلاد. ما زال نفس الفريق يجتمع ويبتسم، وكأن لا مواطنين يبكون جَنى العمر وضياع المستقبل. ليس هناك أيّ وصف لغوي لهؤلاء. هم يعتقدون انهم خالدون كما صدّق فرعون وصدام والقذافي وزين العابدين بن علي وعيدي امين وغيرهم من جبابرة الانسانية.

نقول لهم لن يأتي حال بعد الآن بوجودكم، وتمسّككم بالسلطة سيقضي على ما تبقى من امكانية لإنقاذ الفقراء الذين تسببتم بمأساتهم. البعض منكم، وبعد ان كان يرفض مبدأ التواصل مع الهيئات والصناديق الدولية، سيستجديهم قريباً. وغير معروف اذا كانوا سيلبّون ام لا، ولكنهم لو لبّوا فسيكون لأهداف لهم وليست لكم. من المحزن انّ هناك فريقاً كبيراً من اللبنانيين بات لا يشجع أن تأتينا مساعدات او قروض وهبات جديدة من الخارج حتى لا يكون مصيرها كمصير باريس 1 و2 و3.

أيّ شخص في الداخل او المجتمع الدولي ما عاد يعرف أسماء الزعامات والاحزاب والشخصيات الفاسدة في لبنان؟ من لا يعرف انّ في لبنان دولة فاشلة يديرها سياسيون يتحاصصون مجلس القضاء الاعلى والمدعي العام التمييزي والمدعي العام المالي والمدعين العامين والقضاء العسكري والتفتيش القضائي والمراكز الامنية من جيش وأمن دولة وامن عام وامن داخلي، وهيئات الرقابة من ديوان محاسبة وتفتيش مركزي ومجلس خدمة مدنية ومجالس انماء واعمار وجنوب ومهجّرين وكازينو وريجي وضمان اجتماعي وكهرباء ومياه ومطار ومرفأ ونفط وغاز، وهيئات ناظمة ووكالات إعلامية وصحافة وجامعات ونقابات وبلديات. من لا يعرف ان لا أحد بعد الآن سيمدّ يده لهذا النظام التحاصصي الفاسد، وانّ أي خطة لإعادة الثقة في لبنان وبناء الدولة المدنية الحديثة لن تتمّ إلّا بعد التخلص من نظام المحاصصة والدولة الفاشلة والقائمين عليها. المجتمع الدولي والهيئات والمنظمات الدولية باتت تعرف كل الحقائق عن لبنان وما يحصل فيه.

يجب التذكير انّ كل المبالغ التي رصدت في صفقة القرن لإغراء كل الدول بالموافقة عليها كانت 50 مليار دولار، منها للبنان 6 مليارات فقط. فإذا كان الاغرار لهدف كهذا بهذه الضآلة، فمن أين ولماذا سيعطى لبنان حوالى 40 مليار دولار يحتاج لها للنهوض اضافة الى الحاجة السنوية بحدود 22 مليار دولار، منها 14 مليار دولار جديد و8 تدوير أرقام استحقاق وفوائد.

الحراك المدني:

لذلك، يجب على حراك الانتفاضة – الثورة ألّا يتوقف. ولكن ضمن قيادة وبرنامج عمل وتوحيد مطالب تبدأ أوّلاً، وفي المرحلة الحالية، بأن تركّز على استعادة الودائع والاموال المهرّبة والاموال المنهوبة. وفي حال فشل الجهود في الداخل، وعلى الأرجح ستفشل، يصبح لزاماً على قيادة هذا الحراك اللجوء الى كل السبل القانونية المتاحة دولياً لتحقيق هذا الهدف.

حسن خليل.

المصارف “تكنّس” آخر دولاراتها

لماذا لم يعد هناك من “دولارات”؟ سؤالٌ تحوّل إلى لازمة على كل شفة ولسان. مع بداية كل أسبوع يحتار المودعون صغاراً كانوا أم كباراً ماذا يفعلون ليسحبوا من ودائعهم القليل من العملة الصعبة. يتنقّلون بين فروع مصارفهم، من شارع إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، يُسابقون الوقت للحصول على مئة دولار، أصبحت تخرج من الصناديق عشرينات وخمسات، وكأن البنوك فتحت “قجّتها” لتعطي آخر ما تملك.

التشبيه الساخر ما هو إلا المرآة للحقيقة المرة للتحول الدراماتيكي الذي شهده الإقتصاد اللبناني بشقه النقدي تحديداً.

ففي الفترة الماضية كثُر الحديث عن ان القطاع المصرفي اللبناني يُعتبر واحداً من أكبر القطاعات المصرفية العربية والدولية مقارنة بحجم الإقتصاد الوطني، حيث تبلغ الأصول المجمّعة للقطاع حوالى 234.6 مليار دولار او ما يعادل أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي، فيما تصل قيمة ودائع القطاعين العام والخاص في المصارف إلى حوالى 176.1 مليار دولار. فأين هي هذه الأموال؟ وهل تبخّرت كلها؟

تتوزّع ودائع القطاعين (176.1 مليار دولار) على الشكل التالي: 75 في المئة بالعملة الصعبة و25 في المئة المتبقية بالليرة اللبنانية. وعليه فإن قيمة الودائع الفعلية الموجودة في المصارف بالدولار تتراوح بين 120 و125 ملياراً.

70% من الودئاع للدولة

“خلال السنوات الماضية أقرضت المصارف القطاعين العام والخاص مبالغ كبيرة. وبشكل تقريبي فقد توزعت النسب على الشكل التالي: 30 في المئة للقطاع الخاص و30 في المئة إكتتاب بسندات “اليوروبوندز” و40 في المئة تم وضعها في مصرف لبنان”، يقول الخبير الإقتصادي جان طويلة.

وإذا عدنا للأرقام، فتكشف الميزانية المجمّعة للمصارف التجارية ان المصارف أعطت المصرف المركزي ما يقارب الـ 112 مليار دولار تشكّل حصة العملة الصعبة منها بحدود 70 ملياراً، استعمل القسم الأكبر منها لدفع ثمن مشتريات الدولة وحماية سعر الصرف.

باستثناء الـ 1.2 مليار دولار التي تتأتّى سنوياً من عقدَي الشركتين المشغّلتين لقطاع الخلوي “ألفا” و”تاتش”، فإن كل مقبوضات الدولة اللبنانية هي بالليرة فيما مشترياتها الخارجية من نفط وفيول وغيرها الكثير يُدفع ثمنها بالدولار. “قيمة هذه المدفوعات بلغت 15 مليار دولار دفعها المركزي من إحتياطي العملات الاجنبية الموجودة لديه في عملية سواب مع الدولة، أي ان الاخيرة تدفع بالليرة ما يسدّده المركزي بالدولار”، يوضح الخبير في الأسواق المالية دان قزي، ويضيف ان “المركزي تدخّل ايضاً لحماية سعر الصرف بما لا يقل عن 40 مليار دولار. إذ انه بحسب المنطق فان أي عملية شراء بالليرة لسلع مستوردة سواء كانت ملبوسات أو مواد استهلاكية أم سيارات أم غيره وكل عملية تحويل الليرة الى دولار من أجل الصرف والانفاق في الخارج يُدفع ثمنها من الدولارات الموجودة في المركزي فهذه العمليات ليست مجانية”.

بالمنطق ما زال يوجد في مصرف لبنان لغاية الآن حوالى 30 مليار دولار وهي تعتبر growth reserves فيما الـ net reserves الذي يظهر في وكالات التصنيف يُعتبر سلبياً.

مشكلة المودعين

المشكلة التي يعيشها المواطن اللبناني تتمثّل في فقدان “البنكنوت” أي العملة الورقية من المصارف. وهذا يعود برأي طويلة إلى سببين:

– استنفاد القطاع المصرفي السيولة الموجودة لدى المصارف المراسلة في الخارج Correspondent Banks، والتي انخفضت من 9 مليارات دولار في نهاية أيلول إلى مليار واحد حالياً.

– استنزاف العملة الورقية نتيجة ارتفاع وتيرة السحب اليومي للدولار من المصارف وخروج مبالغ نقدية كبيرة خلال الفترة الماضية.

النتيجة، لم يعد هناك من سيولة بالدولار واحتمال توقف المصارف عن اعطاء “بنكنوت” بالدولار أصبح قريباً جداً. وهو ما سيُفقد المودعين والمواطنين الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار الأميركي حوالى 33 في المئة من قدرتهم الشرائية إذا بقي سعر الصرف في السوق الثانوية 2180 ليرة مقابل الدولار. ومما يزيد المشكلة ويعمّقها هو نسبة الدولرة المرتفعة في الإقتصاد والتي تتجاوز الـ 73 في المئة.

مصير الاستيراد

يرى الخبراء، أن هذه الإجراءات القاسية تهدف بجزء أساسي منها إلى المحافظة على كمية الدولار النقدي المتبقي لتأمين المستوردات الأساسية من الخارج، لاطول فترة ممكنة. إلا ان المشكلة هي ان هذه الإجراءات ستنفد من “سلة” المواطنين الدولارية، فيما لم يبرز أي اتجاه جدي لقوننة “الهير كات” المنطقي الذي من المفروض ان ينفذ على حسابات كبار المودعين الذين استفادوا من فوائد خيالية طيلة سنوات خلت تجاوزت الـ 20 في المئة.

هذا الواقع “المحبط” يترافق مع نمو سلبي في الودائع بعدما كانت نسبة الزيادة تصل في الأعوام الماضية الى 8 في المئة، وهو ما يحتّم إيجاد بدائل جدية وسريعة من خلال زيادة التصدير وتخفيض الفوائد للتشجيع على الإستثمار وتأمين الإستقرار لعودة السياح، تعوّض توقّف تدفقات الدولار عبر المصارف.

خالد ابو شقرا.

عن أزمة لبنان المالية: ماذا بعد؟

سؤال طرح علي للإجابة عنه في ندوة دعت إليها جمعية الروتاري في بيروت وتكرم بتوجيهها فواز المرعبي الصديق والرفيق لفترة في جمعية متخرجي الجامعة الأميركية.

المصارحة المبنية على تحليل المعطيات الرقمية والسياسية تشير حتى بعد تشكيل فريق الوزارة الجديدة والذي يضمّ عددًا من اصحاب الطاقات والخبرات المميزة لدى الذكور والاناث، إلى أن العهد مستمر في التركيز على سياسات خاطئة وغير عملية بالنسبة إلى موضوع الكهرباء.

لقد أظهرت دراسات لمواجهة تحديات ازمة الكهرباء منذ 1996 (من البنك الدولي) و2011 من باحثة قدمت دراسة وضعتها بمنحة من مؤسسة محمد الصفدي لجامعة ستاندفورد، وتصريحات لرئيس الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، ودراسة جيدة وضعها وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش عام 2014، وأخرى وضعها “تيار المستقبل” وصدرت في كتاب عام 2015، ان عجز الكهرباء سيؤدي الى تعجيز لبنان عن القيام بالتزاماته الدولية، ولو لم تكن نسبة الدين العام البالغ ما يساوي 91 مليار دولار بالليرة اللبنانية على مستوى 61 في المئة، لكانت الازمة حلت بنا منذ وقت.

التدفق الاستثماري على لبنان وتدفق تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج انحسر منذ 2015، علمًا بأن تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج لا تزال توفّر للبنان بالنقد الاجنبي ما يزيد على 7 مليارات دولار تستعملها العائلات التي تحول اليها في سد تكاليف الدراسة والايجارات والمعالجات الطبية وتسديد فواتير الكهرباء.

لبنان يحتاج في المقام الاول الى استعادة الثقة بمنهجية الحكم والادارة العامة وتوصل القضاء الى تسهيل معاملاته وتكاليفه للمتقاضين، وهذه أمور لن تتحقق على رغم كل القوانين والمبادرات التي يطرحها البيان الوزاري، خصوصاً ان معالجة الكهرباء لا تزال في أيدي التيار الذي تمكن من السيطرة على وزارة الطاقة والمياه منذ عشر سنين، ولم يقدم على اي تطوير لوسائل الادارة والتعاون مع صناديق استثمارية مهمة وشركات عالمية اختصاصها الكهرباء.

عجز الكهرباء بلغ 33.9 مليار دولار مدى 10 سنين 2010-2019، ومع اضافة فوائد الاقتراض وازت كلفة دعم خطط الكهرباء الهزيلة نسبة 52 في المئة من الدين العام، ولا يجهل أي مراقب ان هذه المشكلة بحد ذاتها هي سبب الأزمة الحالية. وجدير بالذكر ان لبنان الذي عايش ازمات التحركات الفلسطينية دون رادع منذ 1964 وحتى 1982 لم يتعرض لأزمة تأمين الكهرباء لأن مجلس ادارة مؤسسة كهرباء لبنان كان على مستوى المسؤولية.

قبل الأزمة الناجمة عن عجز الكهرباء، والتي يؤكد البيان الوزاري ضرورة حلها ما بين سنة وثلاث سنوات، في حين أن الحل يجب ان يكون خلال ثلاثة اشهر لئلا تنقلب الأزمة الى حث للشعب على التخلي عن واجباته نحو الحكم، وهي واجبات يجب التزامها تجاه الحكام الذين يحافظون على القوانين وصحة المواطنين وحرياتهم وعلى فسحة الامل في مستقبل واسع، وكل ذلك مفقود والبرهان عليه عدد خريجي الجامعات الذين غادروا لبنان عام 2019، وعدد طالبي الهجرة عام 2020.

بعدما يئس اللبنانيون من تحسن أوضاع لبنان وانفتاح فرص العمل واقبال الشركات الاجنبية وشركات اللبنانيين الناجحة على نطاق عالمي على التركيز على لبنان، كان هنالك قطاع وحيد يدعو الى بعض الاطمئنان هو قطاع المصارف، وقد شاهدنا ميزانيات المصارف ترتفع الى 170-180 مليار دولار عام 2018، ومن هذه الميزانيات نسبة 45 في المئة لدى فروع المصارف اللبنانية العاملة في الخارج، ولم نتحسس ان القطاع مهدّد بالانقطاع عن القيام بدوره لان لبنان فقد صفة الاستقطاب لدى هذا القطاع منذ عام 2019، وأصبح توقع استصدار قوانين تنظيمية تطغى على حرية المواطنين أمراً يواجه كل مودع، سواء حقق أمواله المختزنة منذ سنوات نتيجة اعمال في الخليج العربي او البلدان الافريقية أو النشاطات العالمية، أو كانت ودائعه تشمل تعويضات عمله لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

مع تراجع الدور المصرفي، ونتيجة رعونة بعض المصرفيين المسؤولين عن مصارف بارزة وأخرى بالكاد معروفة، أصبحت قرارات تقييد السحب – حتى من الحسابات الجارية – مقيدة لحرية أصحاب الودائع في التصرف بأموالهم. هكذا أصبح المؤتمنون على أموال الناس هم الذين يقرّرون معدلات التقييد لسحوبات اصحاب الودائع، ولهذا المنهج أخطار كبيرة. أولها ان حركة الأسواق ستنخفض، وتوافر الادوية والمعدات الطبية سيقتضي وقتًا طويلاً، واذا وجب على أحد المواطنين زيارة بلدان أخرى لاجراء عمليات معقدة لن يستطيع ذلك ما دام رئيس مجلس ادارة البنك الذي يتعامل معه هو من يقرر وحده. من أين أعطيت هذه القدرة لمصرفيين ليس بعضهم على مستوى من الاخلاق؟

اننا نرى ان تقييد السحوبات المصرفية سيؤدي بالتأكيد الى انحسار النشاط الاقتصادي بنسبة 10 في المئة على الأقل، ويزيد هذا التوقع التشاؤمي ان أرقام موازنة 2020 تشير إلى انها ستؤدي الى عجز قياسًا بالدخل القومي لا يزيد على 7.3 في المئة وهذا التقدير يعبر عن مدى استهتار النواب بأموال الشعب وعن مدى جهلهم للقضايا المالية.

عجز الـ2020 سيرتفع الى نسبة 10 في المئة مع تقلص حجم الدخل القومي، ويزيد على ذلك عجز بنسبة 2 في المئة نتيجة حاجات الكهرباء ودعمها، ولم تكن هذه الحاجات تدرج في أرقام الموازنة بل تصنف على انها ارقام دعم توفير الكهرباء، وكانت عند المحاولة الأولى لشرح التوقعات المالية تقارب زيادة للعجز 1500 مليار ليرة لبنانية، أي مليار دولار. وقد تبدى للوزارة الجديدة ان العجز سيرتفع الى 2500 مليار ليرة لبنانية، أي سيزيد 700 مليون دولار، على رغم الحديث عن اجراءات متعدّدة لخفض العجز ولن نشهد منها الكثير كما تعودنا فشل العاجزين عن تحفيز موازنة واقعية حقيقية. وعجز موازنة 2020 مع الـ2500 مليار ليرة لبنانية للكهرباء سيحول دون الحصول على مساعدات مؤتمر “سيدر” التي علقت على تحسين معالجة قضية الكهرباء، وكل ما نقرأه في بيان الحكومة انها ستقر تشكيل مجلس ادارة للكهرباء خلال ثلاثة أشهر، وبعد انقضاء بضعة أشهر انتخاب هيئة الاشراف على قضايا الكهرباء والمفترض أن تكون هذه الهيئة قد تشكلت منذ عام 1996.

زيادة في الاستهتار بمصالح المواطنين والاستمرار في تبديد الأموال العامة، يتحدّث البيان الوزاري عن نيّة تفعيل عمل مجلس المرئي والمسموع، هذا المجلس الذي تألف بتدخل سوري لرئيس فريق عسكري سوري شاء السوريون انهاء حياته في سوريا بعد الانسحاب السوري بنهاية نيسان 2005 وأحرقوا في قريته فيلا ضخمة أنجزها من ابتزاز 43 مليون دولار من مصرف في لبنان. هذا الرجل هو من نصب أعضاء مجلس المرئي والمسموع الذين لم يصدر عنهم أي موقف خلال العام 2019 على رغم تعاظم الاتهامات في البرامج التلفزيونية وتابعوا صمتهم مع اندلاع حركات الاحتجاج وكأنهم يقيمون على المريخ.

نعلم علم اليقين أن تعيين وزير التيار الوطني للطاقة أمر يناقض كل مستوجبات مواجهة الأزمة، ونعلم أيضاً ان الحديث لا يزال يدور على مصادر للطاقة لا تستند الى النفط والغاز بل الى الرياح والشمس. ويجب ان يعلم اللبنانيون ان الاردن توصل الى تجهيز حقل كبير لانتاج الكهرباء من الألواح الحرارية بالتعاون مع الصين، أكبر بلد منتج لهذه الألواح عالميًا، وارتفع تجهيز الاردن 1000 ميغاوات بهذه الوسيلة الاقتصادية. وكذلك تايلاند التي بعدما اقبلت على التصنيع على نطاق واسع وتشجيع السياحة استشعرت حاجتها الملحة إلى الكهرباء، فأنجزت خلال سنة واحدة حقولاً لانتاج الكهرباء من الطاقة الحرارية بكلفة 8 سنتات للكيلووات/ساعة (مقابل 22-24 سنتًا تكلفنا في لبنان) وتبلغ طاقة هذه الحقول 4000 ميغاوات أي أكثر من حاجة لبنان لسنوات. ونحن لا نزال نعتبر أن الاردن في حاجة إلى الانماء، وان تايلاند تصلح لزيارة سياحية فقط، ونحن في الواقع متخلفون عن كلا البلدين سواء في التخطيط للمستقبل أو معالجة مشاكلنا التي منها الكهرباء، والنفايات، والسير، ونقاء الجو، وتوافر المياه النظيفة.

لبنان يحتاج الى وثبة ضمير وترسيخ المطالبة بحياة أفضل لمواطنيه، ويحتاج الى استعادة النظام الاقتصادي الحر، والى خفض تكاليف الاتصالات، والى تأمين الكهرباء للجميع بكلفة تراوح بين 10-12 سنت للكيلووات/ساعة، ويحتاج الى مكننة استصدار الأحكام فلا يمضي القاضي أو القاضية ما يعادل الفرصة السنوية لكتابتها، ويحتاج الى دفع التقنيات الحديثة في الادارة واستصدار الوثائق التي تسهل الأعمال والتملك.

ان ما يحتاج إليه لبنان فريق من الحكام والاداريين معاصرين للتحولات التقنية والفنية التي بدأت تقولب برامج العمل والانتاج والترتيبات المالية عالميًا.

ما يحتاج إليه لبنان تغليب اندفاع الشباب بمواكبة خبرة القياديين المنزهين الذين يمكن ان يشكلوا ما يعرف بمجلس الحكماء، أو مجلس الشيوخ الذي لا نزال نبحث عنه.

ولبنان يحتاج بعدما عانق روح الحرية والتآخي في طرابلس الى نهضة وانعاش لهذا البلد الذي احتوى جميع المطالبين بالاصلاح وجميع من يؤمنون بالتآخي. ليست هذه كلمات تذوب في الهواء فقد آذاناً انكار العقل والضمير.

د. مروان اسكندر.

أزمةلبنان: تضليل المودعين ليس حلّاً

 

حان الوقت لمطالبة المعنيّين بالأزمة المصرفية والنقدية بضرورة التوقّف عن بثّ المعلومات المغلوطة والبيانات غير الصادقة عن هذه الأزمة الخطيرة التي تواجهها البلاد. إن الخطوة الأولى في الطريق الطويل لمعالجة الأزمة هي طرح المسألة أمام الرأي العام بصدق وشفافية، وشرح كل أبعادها وآفاقها والنتائج التي قد تترتّب عليها.

المجاهرة بالحقيقة، بل الحقائق، يُفترض أن تتزامن مع إعلان خطة جريئة وطويلة الأمد لكي يخرج النظام المصرفي والنقدي من عنق الزجاجة، ويعود إلى دوره السابق في لبنان والمنطقة.

لا نعرف كيف ستقارب الحكومة أزمة النقد والمصارف في بيانها الوزاري المنتظر، لكن الأمل كبير في أن تتّعظ من التجارب فلا تدفن رأسها في الرمال وتنكر وجود الأزمة المصيرية الراهنة، لأن الإنكار ليس حلّاً. والخوف من إثارة ذعر المواطنين، والمودعين على وجه الخصوص، هو نوع من الهراء. إن أكثر ما يخيف هؤلاء هو اكتشافهم أنهم كانوا نائمين على حرير الغشّ والتضليل والمعلومات الرسمية المزوّرة.

تضليل الرأي العام اللبناني هو طريقة لمقاربة الواقع المالي والنقدي تمارسه الأوساط “المسؤولة” منذ عدّة عقود، خوفاً من قول الحقيقة وإثارة الهلع عند الناس. لكن هذه الطريقة ساعدت على استمرار المسار نحو الانهيار ومنعت نشوء رأي عام ضاغط لفرض الإصلاح قبل فوات الأوان.

حتى بعد انفجار الأزمة التي غيّرت قواعد الاقتصاد اللبناني وزعزعت ركائزه التقليدية، وبعد ظهور شبح الإفلاس فوق رأس القطاعين العام والخاصّ، ما زلنا نسمع تصريحات تسعى إلى ممارسة “التنويم المغناطيسي” لمنع اللبنانيين من فهم أبعاد الأزمة ومخاطرها والتعرّف إلى جذورها العميقة.

أكّد رئيس جمعية المصارف أن “السيولة موجودة، ولم يتغيّر شيء بالنسبة إلينا… إننا نمرّ في فترة صعبة… نتمنى أن تنتهي في أسرع وقت ممكن”.

وعن تحديد حاكم مصرف لبنان شهر حزيران لوقف الإجراءات المصرفيّة الاستثنائية، قال رئيس الجمعية: “نتمنى أن يتم ذلك غداً، لكن لا وقت محدداً”. وقال إن الودائع غير محجوزة بل هي موجودة في المصارف، وستظل موجودة.

وكان الحاكم قد صرّح في مقابلة مع قناة “فرانس 24” أن سعر صرف الليرة اللبنانية سيبقى في حدود 1500 ليرة للدولار، وأن الأزمة نشأت فقط عن الحملات المغرضة على القطاع المصرفي.

الحقيقة أن المشكلة ليست موقّتة، وتجاوزها لا يقاس بالأشهر ولكن بالسنوات، وهي لن تُحلّ، كما قيل، في حزيران المقبل أو بعد نيل الحكومة الثقة. ولا يجوز، كما تدّعي التصريحات المتداولة، استبعاد الوسائل المؤلمة مثل “قصّ الشعر” وشطب أجزاء من الدين العام على حساب الدائنين، وربّما المودعين. ولا يُستبعد أيضاً أن نشهد تشدّداً أكثر في تقييد حرية تصرّف المودعين بأموالهم. ومن الخطأ استبعاد زيادة الضرائب أو تخفيض الرواتب أو تقليص الإنفاق الاجتماعي. كل هذه الخطوات تبقى ممكنة، بل محتملة، ضمن برنامج متكامل طويل الأمد.

الأزمة ليست وليدة الحملات على النظام المصرفي بل هي ثمرة السياسات الخاطئة، المالية والنقدية. لقد تبخّرت نحو 60 مليار دولار من المبالغ بالعملات الأجنبية التي وظّفتها المصارف في القطاع العام، أي في سندات الأوروبوندز وإيداعات القطاع المصرفي في مصرف لبنان. وهذا الرقم يمثل23 في المئة من موجودات المصارف و36 في المئة من ودائعها.

وهذه المبالغ لا تُستعاد، لأنها استعملت في تلبية الطلب على الدولار لتمويل عجز الميزان التجاري وتحويل الأموال إلى الخارج والهروب من الليرة، عندما انهارت الثقة بالدولة وإدارتها وسياساتها، وأخلاق القيّمين عليها.

على خطى الأستاذ غسان حجّار، نستعين بتغريدة لنائب البقاع ميشال ضاهر قال فيها:” صرح وزير المال ورئيس جمعية المصارف بأن الودائع موجودة ولا وجود لـHaircut، ولكن لم يصرّحا أين هي؟ نعم فهي موجودة دفترياً وغير قابلة للتحويل. يكفينا تمييعا ومكابرة وعلينا مواجهة الأزمة بكل تشعباتها مهما كانت موجعة. استعادة الثقة بالنظام المصرفي تتطلب المصارحة والشفافية في التعاطي”.

غسان العياش

أزمة لبنان: معلومات الأميركيين: أزمة لبنان المالية أسوأ مما يظنّ البعض!

لماذا قد تنجح أو تفشل الحكومة  في عملية الإنقاذ المالي والاقتصادي؟ ما هي نقاط القوة التي تستطيع ان تستند اليها ولم تكن متوفرة في الحكومات السابقة؟ وما هي نقاط الضعف التي قد تجعل منها نسخة طبق الأصل عن حكومات أخرى حاولت وفشلت؟

مع اقتراب موعد استحقاق اليوروبوند في 9 آذار المقبل، يحتدم النقاش في الحكومة وخارجها حول القرار الذي ينبغي اتخاذه، لجهة الدفع أو التخلّف، أو اعتماد حل وسط، يقضي بدفع قسم وتأجيل قسم آخر من خلال عملية «سواب».

 

هذا الاستحقاق على أهمية القرار الذي قد يُتخذ حياله، لا يشكّل اولوية شعبية. لكن طريقة مقاربة هذا الموضوع حيوية، لجهة رصد الاسلوب الذي ستعتمده الحكومة في معالجة الملفات المكدسّة أمامها. إذ أنّ دفع هذا الاستحقاق بالكامل في موعده، يؤدي الى استنزاف احتياطي الدولار بقيمة مليار و200 مليون دولار.

 

أما الامتناع عن الدفع، اي التخلّف والتعثّر، فيعني ضرورة البدء فوراً في مفاوضات لإعادة جدولة كل استحقاقات الدين بالدولار. مع الأخذ في الاعتبار، انّ مؤسسات التصنيف ستبادر الى اعتبار لبنان دولة متعثرة. وفي حال اعتماد الخيار الثالث، اي دفع قسم من الاستحقاق لحاملي السندات الأجانب، فهذا سيؤدي الى استنزاف احتياطي العملات بحوالى 500 مليون دولار، بدلاً من مليار و200 مليون دولار، على اعتبار انّ 45% من هذا الاستحقاق يحمله أجانب. لكن، ومن خلال التحذيرات المُسبقة التي أطلقتها مؤسسات التصنيف الدولية، سيتمّ خفض تصنيف لبنان الى درجة «التعثّر الانتقائي».

 

من خلال هذه الوقائع، يتضح انّ البلد يواجه معضلة بصرف النظر عن القرار الذي ستتخذه الحكومة حيال هذا الاستحقاق. وسيكون مطلوباً منها أن تُثبت أمرين في التعاطي مع هذا الموضوع:

 

أولاً- قدرتها على اتخاذ القرارات في معزلٍ عن مواقف القوى السياسية التي تدور في فلكها.

 

ثانيا – قدرتها على حُسن الاختيار في أول امتحان فعلي لها لاثبات جهوزيتها لمعالجة الأزمة برمّتها.

 

لكن السؤال الأهم، هل استطاعت الحكومة من خلال الاجتماعات التي عقدتها مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومع جمعية المصارف اللبنانية، أن تكوّن فكرة واضحة عن حقيقة الوضع المالي الذي تدور حوله علامات استفهام، ويبدو غامضاً رغم كل التصريحات المطمئنة التي يطلقها المسؤولون عن الوضع المالي وعلى رأسهم وزير المال وحاكم المركزي ورئيس جمعية المصارف؟…

 

كل التصريحات التي صدرت في اليومين الأخيرين بدت وكأنّها تهدف الى الطمأنة، خصوصاً لجهة سلامة الودائع وعدم وجود نيّة للاقتطاع منها (Haircut). لكن القاصي والداني يُدرك انّ هذا الملف لا يرتبط برغبة أو ارادة، بل بأمر واقع قد يحتّم قرارات من هذا النوع، شبيهة بالجراحة، حيث يضطر الطبيب الى استئصال عضو، أو قسم من عضو في جسد المريض لإنقاذ حياته.

 

ما يزيد منسوب القلق، رغم هذا الكم من التطمينات المحلية الصادرة حديثاً، هو الكلام المنسوب الى مُساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شنكر، خلال زيارته الى اسرائيل. فقد أعلن من هناك «إنّّ الاقتصاد اللبناني في وضع أسوأ مما يظن البعض، حيث نعتقد أن الاحتياطات الأجنبية (العملات) أقل بكثير مما تمّ الإبلاغ عنه علناً».

 

هذا الكلام يعني مبدئياً، واذا استبعدنا فرضية التضليل أو التهويل، انّ الولايات المتحدة تمتلك معلومات دقيقة عن حقيقة الوضع المالي، وهذا ليس مفاجئاً. لكن المفاجأة ان تكون هذه الارقام مختلفة تماماً عن الارقام المُعلنة في لبنان. وبالتالي، فإنّ كلام شنكر في شأن الحجم الحقيقي لاحتياطي العملات الأجنبية، يعيد الى الواجهة مسألة حتمية إطلاع الحكومة على الوضع بدقّة، لكي تأتي قراراتها متماهية مع الارقام الفعلية.

 

ولا أحد يريد تكرار تجربة اليونان مع الاتحاد الاوروبي، من خلال اعطاء أرقام مُضخّمة أدّت في النتيجة الى الانهيار المالي. وهنا يجب أن نلاحظ انّ اتخاذ قرار دفع استحقاق 9 آذار، أو حتى قرار طلب خطة إنقاذ مستعجلة، بدلاً من البدء في برنامج اصلاحي يليه طلب المساعدة الخارجية، أو اي قرار آخر في هذا السياق، يحتاج الى شفافية مطلقة ليُبنى على الشيء مقتضاه.

 

من هنا، وحتى اذا كان من غير المحمود أن يتمّ كشف الحقائق الى العلن، لأسباب ترتبط بالحفاظ على الحد الأدنى من المعنويات التي يحتاجها الوضع المالي لئلا ينهار أكثر مما هو منهار، فإنّ المطلوب في المقابل، ان تعرف الحكومة الوضع كما هو، من دون أي تجميل او تمويه أو روتوش. وأخطر ما في استمرار الغموض بالنسبة الى الجهة التي تمتلك سلطة اتخاذ القرارات، انّها قد تأخذ قرارات مميتة بسبب الغموض، ولن تكون لاحقاً مسؤولة عن اخطائها، لأنّها لم تكن تعرف…

 

بانتظار جلاء الحقائق المالية، لا بدّ من التأكيد انّ القرارات الموجعة التي يكثر الحديث عنها، تزداد صعوبة مع الوقت، وكل دقيقة تُهدر قبل أن يبدأ الإنقاذ، يدفع ثمنها اللبنانيون وصولاً في النتيجة الى ما هو أكثر من موجع بكثير.

انطوان فرح.