أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

التمويل الدولي: الناتج اللبناني سيتراجع الى 33 مليار دولار في 2020

رأى معهد التمويل الدولي في آخر تقرير له بعنوان « لبنان: بصيص نور في نهاية النفق» من إعداد غربيس ايراديان، انّه فيما نجحت السلطات في احتواء انتشار COVID-19 مقارنة مع دول أخرى في المنطقة، إلّا أنّ الخطر لم ينتهِ بعد، لأنّه من المتوقع ان يستمر الركود الاقتصادي في التعمّق.

عدّل معهد التمويل الدولي توقعاته للانكماش الاقتصادي في لبنان، بعد حالة التعبئة العامة والاقفال التام بسبب فيروس كورونا، من حوالى -10% من الناتج المحلي الإجمالي إلى -14% في عام 2020 ، حيث تستمر قيود الصرف وضوابط رأس المال في إعاقة النشاط الاقتصادي والثقة.

واشار، الى انّ السياحة الداخلية ستنهار بسبب Covid-19 وقيود السفر الاجتماعية. وسيؤدّي الانكماش الكبير في الإنتاج والانخفاض الهائل في المتوسط المرجّح لأسعار الصرف الرسمية والمتوازية، إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي الاسمي من 52 مليار دولار في 2019 إلى 33 مليار دولار في 2020. ومع تراجع قيمة الأجور بشكل حاد، توقّع المعهد أن يقفز معدل التضخم إلى حوالى 35% في العام 2020.

ومع زيادة الصادرات بنسبة 27% وانخفاض الواردات بنسبة 25% في الربع الأول من هذا العام، توقّع المعهد، على الرغم من الانهيار المتوقع لإيرادات السياحة، أن ينخفض العجز التجاري بشكل حاد، من 10.8 مليارات دولار في العام 2019 إلى 3.8 مليارات دولار في العام 2020، في حال لم يستمر تهريب المحروقات والقمح المستورد إلى سوريا، ما قد يؤدّي إلى عجز عند حوالى 6 مليارات دولار في العام 2020.

استئناف النمو

ورجّح معهد التمويل الدولي، أن يعود الاقتصاد ببطء إلى النمو في العام المقبل، مدعوماً بتنفيذ الإصلاحات اللازمة والحصول على التمويل الكافي من صندوق النقد الدولي والدائنين الرسميين الآخرين.

وتوقّع نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 1.3% في العام 2021 ، مدفوعاً بالاستثمار العام (المتعلق بمشاريع CEDRE) وصافي الصادرات. كما من المتوقع أن تتعافى السياحة الداخلية جزئياً مع افتراض توفّر لقاح لـ Covid-19 في حلول منتصف العام 2021، بالإضافة الى تنفيذ المشاريع الرئيسية الممولة من خلال قروض CEDRE ، إلى جانب ثمار الإصلاحات الهيكلية وتحسين القدرة التنافسية بعد توحيد أسعار الصرف المتعددة، بما من شأنه ان يرفع نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى حوالى 6% بحلول العام 2024.

اعادة هيكلية المصارف

وتعليقاً على خطة الحكومة لاصلاح القطاع المصرفي، رأى معهد التمويل أنّ خطة تدريجية لإصلاح القطاع قد تكون أقل ضرراً. مشيراً الى انّ الخطة المالية للحكومة تبدو راديكالية وتفرض عبئاً غير متناسب على البنوك التجارية، مما قد يصعّب للغاية استعادة الثقة في القطاع المصرفي.

ولفت الى انّ خطة الحكومة تقترح معالجة الخسائر الكبيرة في النظام المالي على الفور، مما يعني ضمناً شطب موجودات البنوك التجارية لدى البنك المركزي (70 مليار دولار) وتعويضها باقتطاع نسبة من اموال 2% من كبار المودعين. ولفت الى وجود حاجة إلى معاملة عادلة ومنصفة للمودعين لتعزيز القطاع المصرفي المحلي القابل للبقاء، وضمان استمرارية اندماج لبنان في النظام المالي الدولي.

في هذا الصدد، قال المعهد، انّ خبراء صندوق النقد الدولي قد يقترحون مجموعة من الإجراءات التي تضمن أنّ لدى لبنان نظاماً مصرفياً قادراً على دعم نمو الاقتصاد، لافتاً الى انّ النظام المصرفي السليم هو شرط مسبق لعملة سليمة.

وشدّد على انّ النهج المناسب ينطوي على تحميل القطاع العام كلفة أكبر. مقترحاً بالإضافة إلى استخدام المزيد من أصول الدولة، يمكن الاستدانة مقابل رهن جزء من الذهب (المقدّر حاليًا بقيمة 15.7 مليار دولار) لضخ سيولة العملات الأجنبية في النظام المصرفي.

الحدّ من الفساد

رجّح معهد التمويل الدولي أن يتضمّن برنامج صندوق النقد الدولي المحتمل إجراءات مسبقة لمعالجة مشكلات الفساد والحكم المزمنة، التي أثرت على الاقتصاد اللبناني في العقود الثلاثة الماضية. وفي هذا السياق، رأى انّه يجب أن يتبنّى البرلمان قريباً تشريعاً يهدف إلى مكافحة الفساد، والذي سيساعد أيضاً في استرداد الاموال المنهوبة طوال العقود الثلاثة الماضية.

كما ينبغي اعتماد قواعد محدّدة لسلوك الموظفين العموميين وكشفهم. لافتاً الى انّه في سياق تعهدات «سيدر» البالغة 11 مليار دولار، طالب المانحون الدوليون في 2018 ، لبنان، تطبيق إجراءات رئيسية لمكافحة الفساد والبدء في إصلاح مؤسسة كهرباء لبنان، قبل الحصول على القروض الميسرة لـ CEDRE. لسوء الحظ، تمّ إحراز تقدّم محدود في تطبيق الإصلاحات المطلوبة.

تحرير سعر الصرف

رأى معهد التمويل، انّه من الممكن أن يؤدّي توحيد سعر الصرف الى ارتفاع سعر صرف العملة المحلية (كما كان الحال في تركيا في 2001-2003 ومصر 2017-2019) على افتراض أنّ معظم التدابير والإصلاحات يتمّ تنفيذها في الوقت المناسب، وأنّ التمويل الكافي متاح من قِبل صندوق النقد الدولي ومن أطراف أخرى متعددة ومصادر ثنائية (بما في ذلك القروض الميسرة من CEDRE). وفي سياق نظام سعر الصرف المرن، تركّز السياسة النقدية على تحقيق تضخّم أحادي الرقم في حلول نهاية العام 2022 وفقاً لخطة الحكومة.

تحرير الاموال تدريجاً

اعتبر المعهد في تقريره، انّ ضوابط رأس المال سمة أساسية لإطار السياسة النقدية، نظراً إلى حجم التدفقات المحتملة لرأس المال. ويمكن إزالتها تدريجياً مع عودة الثقة، بعد اقرار برنامج صندوق النقد الدولي وتنفيذ الإصلاحات، وحين تسمح التطورات في ميزان المدفوعات.

وقال انّ الشروط المسبقة الرئيسية لتحرير ضوابط رأس المال تشمل ما يلي:

1- سياسات ذات مصداقية لاستقرار الاقتصاد الكلي

2- عوائد جذابة على الودائع بالعملة المحلية

3- تحسين التوقعات لميزان المدفوعات

4- استقرار النظام المالي وفرض الرقابة المناسبة.

برنامج صندوق النقد

قدّر المعهد احتياجات التمويل الخارجي للبنان في السنوات الخمس المقبلة بأكثر من 25 مليار دولار (60% من الناتج المحلي الإجمالي)، باستثناء تكلفة إعادة هيكلة النظام المصرفي. واشار الى انّ برنامج صندوق النقد الدولي سيوفر إطار عمل يعتمد بشكل كبير على برنامج الحكومة للاصلاح المالي المطلوب، وإعادة هيكلة الديون والإصلاحات الهيكلية الأخرى، لمعالجة أوجه القصور في الاقتصاد.

وفي حين أنّ حجم تمويل صندوق النقد الدولي سيعتمد على احتياجات التمويل، إلّا أنّ المعهد قدّر أن يمنح الصندوق تمويلاً استثنائياً إلى لبنان في حدود 8,5 مليارات دولار، أي ما يعادل 1000% من حصّة لبنان في صندوق النقد الدولي، على فترة تتراوح من 3 إلى 4 سنوات. ويمكن للبرنامج الذي يدعمه صندوق النقد الدولي أن يحفّز أيضا تمويلاً إضافياً من مصادر متعددة وثنائية الأطراف بالإضافة إلى قروض «سيدر».

واشار الى انّ هذا الدعم المالي، إلى جانب تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها، يمكن أن يوقفا التدهور الاقتصادي ويعزّزا احتياطات البلاد من العملات الأجنبية السائلة. لكنه لفت الى انّ المخاطر كبيرة، لأنّ الفشل في الاتفاق مع صندوق النقد الدولي أو استقالة الحكومة سيزيد من خطر الانهيار الكامل للاقتصاد اللبناني ويؤدّي الى مجاعة واحتجاجات مستمرة في الشوارع.

تحسين القاعدة الإحصائية

ولفت معهد التمويل الدولي الى انّ الإحصاءات الموثوقة هي مفتاح صياغة السياسات والتحليلات الفعّالة، وبالتالي ستجعل الثغرات الموجودة في النظام الإحصائي اللبناني من الصعب على برنامج صندوق النقد الدولي مراقبة التطورات الاقتصادية. لذلك تحتاج السلطات إلى تخصيص موارد بشرية كافية في الإدارة المركزية للإحصاء، وفي مصرف لبنان ووزارة المالية، لتعزيز تجميع الإحصاءات الاقتصادية وإعداد تحليلات دورية للتطورات الاقتصادية. وقال، انّ القاعدة الإحصائية في لبنان تعدّ واحدة من أضعف القواعد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.​

مفاجآت تنتظر صندوق النقد في بيروت

مع بدء الجولة الاولى من المفاوضات بين السلطات اللبنانية وصندوق النقد الدولي، ورغم الآمال المعلّقة على نجاح هذه المفاوضات، لتمويل خطة الإنقاذ بعد تعديلها، تبدو احتمالات الفشل قائمة، لأسباب ومعطيات سياسية واقتصادية وبنيوية.

عندما تبدأ اليوم، المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ستنقسم النقاشات الى ثلاثة شطور:

 

في الشطر الاول، ستتمّ مناقشة بنود الخطة الإنقاذية التي وضعتها الحكومة من حيث القابلية لتحقيق الإنقاذ. وهذا يعني انّ صندوق النقد قد يقترح إزالة بنود، أو تعديلها أو اضافة بنود غير موجودة، انطلاقاً من تدعيم وتحصين الخطة لجعلها اكثر نجاعة من حيث الإنقاذ والاستدامة. وفي الخطة الحكومية، بنود كثيرة تحتاج الى مراجعة، في طليعتها ما يتعلق بإعادة هيكلة القطاع المالي (مصرف لبنان والمصارف التجارية).

 

في الشطر الثاني، ستتمّ مناقشة التفاصيل «المحاسبية»، أو تلك المتعلقة بالتوقعات. وهنا، يكمن دور صندوق النقد في «عقلنة» التوقعات التي وضعتها الحكومة الطامحة الى الحصول على تمويل دولي. ومن الواضح، انّ الخطة، ورغم احترافيتها في العموم، إلّا أنّها تجنح الى تجميل التوقعات، رغم انّها قاربت التوصيف بواقعية، ما خلا المبالغة في توزيع المسؤوليات بشكل ظالم، أصاب القطاع الخاص، وبرّأ عن غير وجه حق القطاع العام. وبالتالي، سيقترح صندوق النقد رسماً بيانياً اكثر واقعية لتطوّر سعر صرف الليرة، ونسبة الإنكماش والبطالة ونمو الناتج المحلي…

 

في الشطر الثالث، سيناقش الصندوق مسألة الإصلاحات المطلوبة لإنجاح أي خطة إنقاذ. وهنا، تكمن المهمة الأصعب. أولاً، لأنّ سجل لبنان مع الوعود الإصلاحية التي لم تُنفّذ، حافل ومعروف، وثانياً، لأنّ بعض هذه الإصلاحات سيكون مطلوباً تنفيذه قبل بدء التمويل، وثالثاً، لأنّ الارقام والاحصاءات في لبنان، والتي على أساسها يمكن رسم الخطط، غير متوفرة وغير دقيقة، ورابعاً، لأنّ الحوكمة ضعيفة وتكاد تكون غير موجودة.

 

من خلال مناقشة الأجزاء الثلاثة في خطة الإنقاذ، يمكن الاستنتاج أنّ نجاح المفاوضات لن يكون سهلاً، رغم حماسة مجموعة الدعم الدولية لمساعدة لبنان. وليس مستبعداً أن يُصدم وفد صندوق النقد بمفاجآت غير متوقعة في بيروت، لجهة بعض الارقام والحقائق التي لا تزال غير واضحة. وهناك تجارب كثيرة مع دول تعاونت مع صندوق النقد، وانتهى الامر الى فشل.

 

وتشكّل الارجنتين النموذج القائم حالياً. وقد اضطر صندوق النقد حتى الآن الى التدخّل 21 مرة، في هذا البلد، وبلغ حجم التمويل الذي قدّمه 41 مليار دولار، ومع ذلك لا تزال الارجنتين تعاني أزمة حادّة، ولديها دين عام بقيمة 100 مليار دولار، تعجز عن جعله مستداماً. وفي تشخيص أسباب الفشل، يتبيّن انّ نسبة الفساد والضعف السياسي والتملّص من تنفيذ صارم للخطط، من الأسباب الرئيسية لاستمرار الأزمة التي بلغ عمرها أكثر من 30 سنة.

 

هذا النموذج يفتح الباب امام تساؤلات مشروعة، إذ، هل يمكن أن يتدخّل صندوق النقد في تمويل الخطة الإنقاذية في لبنان، وتبقى الأزمة قائمة، وتمتد لعقود في المستقبل؟

 

لا جواب حاسماً في هذا الموضوع، ولو انّ نِسب الفشل تبدو كبيرة، اذا جرت الاستنتاجات على اساس دراسة تجارب صندوق النقد مع دول أخرى، الناجحة منها والفاشلة، ومقارنتها بالوضع اللبناني. على سبيل المثال، خاضت البرتغال تجربة ناجحة جداً مع الصندوق في العام 2011. واضطرت البرتغال الى الموافقة على برنامج مساعدة من صندوق النقد في شهر أيار 2011، بعدما واجه اقتصادها عجوزات متعدّدة الأوجه، بينها ضعف النمو، خلل كبير في ميزان المدفوعات، عجز في الموازنة…

 

لكن عملية الإنقاذ لم تستغرق اكثر من سنتين، استعادت بعدها البرتغال توازنها المالي، وأعادت الأرقام الى المعايير العالمية الايجابية. ويبدو انّ السرّ الكامن وراء هذا النجاح السريع، يرتبط بالبنية الاساسية المتوفرة في البلد، ومنها وجود سلطة قضائية مستقلة وقوية، عملت على حماية حقوق الطبقة الضعيفة خلال خطة الإنقاذ. وقد اتخذ «المجلس الدستوري» في البرتغال قرارات مصيرية في نقض قوانين، اعتبر انّها تضرّ بالناس. والأهم، انّ السلطات البرتغالية كانت تمتلك احصاءات وأرقاماً دقيقة، ساعدت في حُسن التشخيص، وفي دقّة التنفيذ، فجاءت النتيجة سريعة وفعّالة.

 

وبين النجاح والفشل، هناك تجارب «نص نص». ورغم انّ اللبنانيين يتحدثون عن الخلاص غير المستحيل، من خلال استحضار التجربة اليونانية كنموذج يمكن اتباعه للخروج من النفق، إلّا أنّ هذه التجربة بالمعيار العالمي لا تشكّل نموذج نجاح يحتذى. وقد اضطر صندوق النقد الى تقديم ثلاث حزم دعم، وأنفق الاتحاد الاوروبي مبالغ طائلة، واستغرقت عملية الانقاذ بين 7 و10 سنوات. وفي التشخيص، انّ سبب هذه المعاناة، هو مناخ الفساد القائم، مستوى التهرّب الضريبي الكبير، المماحكات السياسية، أرقام واحصاءات مموهة وغير صحيحة، تأجيل اعلان الأزمة الى أن أصبح الاقتصاد منهكاً (كوريا الجنوبية عام 1989 والبرتغال عام 2011 قدّمتا طلب الانقاذ في وقت مبكر وقبل وصول الأزمة الى الرمق الأخير).

 

في إمكان أي لبناني إجراء مقارنة مبدئية في الاسباب والمعطيات التي ساهمت في نجاح أو فشل عمليات الإنقاذ التي موّلها صندوق النقد في الدول، ويستطيع بالتالي أن يستنتج ما هي فرص لبنان في النجاح أو الفشل، هذا في حال أقلعت الخطة، ووافق صندوق النقد على تقديم برنامج الدعم.

انطوان فرح.

جمعية مصارف لبنان ترفض خطة الإنقاذ الحكومية

قالت جمعية مصارف لبنان يوم الجمعة إنها لا يمكن أن توافق ”بأي حال من الأحوال“ على خطة إنقاذ اقتصادي حكومية لم تجر استشارتها بشأنها وستقوض الثقة بلبنان وتعوق الاستثمار وأي احتمالات للانتعاش.

وفي بيان، وصفت الجمعية الإجراءات المتعلقة بالإيرادات والنفقات في الخطة بأنها غامضة وغير مدعمة بجدول زمني دقيق للتنفيذ، وقالت إن الخطة لا تعالج الضغوط التضخمية وهي قد تؤدي عمليا بدورها إلى تضخم مرتفع جدا.

وناشدت الجمعية أعضاء البرلمان رفضها لأسباب منها أنها تمس بالملكية الفردية، وقالت إنها ستقدم قريبا خطة كفيلة بالمساهمة في التخفيف من الركود وبتمهيد الطريق لنمو مستدام.

أزمة لبنان المالية: صراع الحكومة والمركزي يزيد الطين بلّة..

تتابع الأسواق المالية اللبنانية بتوتر استثنائي شديد التطورات المتصلة باندلاع الصراع المعلن غير المسبوق بين السلطة التنفيذية، ممثلة بالحكومة ورئيسها حسان دياب، والسلطة النقدية، الممثلة حصرياً في حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، تبعاً للشغور المتسع في مكوناتها الذي يشمل نواب الحاكم الأربعة، ومفوض الحكومة لدى البنك المركزي، ورئيس لجنة الرقابة على المصارف، وأعضاءها الخمسة، وهيئة الأسواق المالية.

وفيما سربت مصادر مقربة من سلامة استبعاد خيار الاستقالة الطوعية، وعزمه الرد بالتفاصيل على الاتهامات المباشرة التي وجهها إليه رئيس الحكومة، والتحرر من قيود «التحفظ» التي تحكم غالباً تصريحات محافظي البنوك المركزية حول العالم، بدت الأوساط المصرفية متأهبة من ما قد تؤول إليه هذه المواجهة، وتأثيرها على الأوضاع المالية والنقدية المتردية أصلاً، خصوصاً فيما يتصل بحاجة لبنان الملحة إلى تدفقات من مصادر خارجية تخفف من خطورة ندرة السيولة بالعملات الأجنبية.

ويؤكد مصدر مسؤول كبير في القطاع المصرفي ل “الشرق الاوسط”  أن «تبادل قذف كرة الأزمة المالية العاتية، بين ثلاثي الدولة والبنك المركزي والجهاز المصرفي، حرف البوصلة الإنقاذية عن الاتجاه المنشود، ويشي بتبديد أي جهود هادفة لانتشال الاقتصاد الوطني من القعر العميق، بعدما أدخلت الأزمة المتدحرجة كامل الثروة الوطنية، من مدخرات المواطنين وموارد الخزينة ودورة الإنتاج والتشغيل، في دوامة خسائر دراماتيكية تواصلية، لتنتج بدورها تدهوراً خطيراً على المستويين المعيشي والاجتماعي، مع تلاشي قدرات أصحاب المداخيل المتوسطة، وانضمامهم إلى خط الفقر الذي يحاصر نصف الشعب اللبناني، ويتمدد سريعاً إلى فئات جديدة».

ويقر المسؤول، الذي رفض الكشف عن هويته لحساسية الموقف، بأن معادلة الاستقرار النقدي، وهي العنوان الأبرز للسياسة النقدية التي انتهجها سلامة منذ تسلمه منصبه في عام 1993، وحظيت تباعاً بدعم سياسي واقتصادي واسع يقارب الإجماع، سقطت واقعياً في دوامة الفوضى والتسعير المتفلت للدولار بين حدي 1520 ليرة المعتمد حصراً للمستوردات من حساب احتياطي العملات الصعبة لدى مصرف لبنان، وعتبة 4 آلاف ليرة التي بلغها، ثم تعداها، في تداولات نهاية الأسبوع لدى الصرافين، وبينهما سعر 1800 ليرة لإقراض المصارف من قبل المركزي، و2600 للسحب من الودائع المحررة بالدولار، و3625 لسداد التحويلات الواردة من الخارج عبر المؤسسات المالية غير المصرفية.

ولم ينفع الإجماع المحلي والخارجي على حاجة لبنان الملحة لدعم مالي خارجي وفوري، يقدر حده الأدنى بنحو 15 مليار دولار، للحد من سرعة الانهيارات والتطلع إلى الخيارات الإنقاذية المعقدة، في فرض موجباته، وحيازة أولوية الاهتمام لدى المرجعيات المحلية المعنية، وفقاً للمسؤول المصرفي، بل «بدأنا نستشعر مخاطر تشمل مجمل الأوضاع الداخلية، بفعل اتساع مسافات التباعد والاختلاف، وتشتيت الجهود، والمس بهوية البلاد الاقتصادية والملكية الخاصة».

ويعترف المصدر بأن ودائع الزبائن لدى البنوك، البالغة نحو 147 مليار دولار، ليست في مأمن تام عن حلبة الأزمة وصراعاتها المستجدة. فالسيولة تدنت إلى حدود أجبرت المصارف على وقف الصرف بالدولار النقدي، إلا في حالات محدودة للغاية، تعود حصراً للتحويلات الجديدة الواردة من الخارج، وعمليات الاقتطاع التي أوصى الاستشاري الدولي للحكومة (شركة لازارد) باعتمادها ضمن الخطة الإنقاذية؛ ويرجح أيضاً أن تطال أصحاب الحسابات التي تفوق 500 ألف دولار، تتم فعلياً من خلال إخضاع السحوبات لسقف لا يتجاوز 5 آلاف دولار شهرياً، بسعر 2600 ليرة، أي ما يقل 1400 ليرة عن سعر السوق الواقعية.

وتشير مسودة برنامج الإصلاح الحكومي إلى أن الاحتياجات التمويلية الخارجيّة هي ضرورية للحد من حجم الانكماش الاقتصادي، ولاستعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني، وأن تأخر الخطوات الإجرائية يأتي لفتح قناة حوار رسمية مع صندوق النقد الدولي للاتفاق على برنامج إصلاحي معزز ببرنامج دعم مالي.

وترمي الخطة إلى تخفيض الدين العام الذي تجاوز 92 مليار دولار تدريجياً، من 176 في المائة كنسبة من الناتج المحلّي الإجمالي في نهاية العام الماضي إلى 103.1 في المائة في عام 2024. كما تركز خطة الحكومة على إعادة رسملة المصرف المركزي، والقطاع المصرفي بأكمله، علماً بأن الفجوة المالية لدى الطرفين تتركز في تمويلاتهما للدولة التي يفوق مجموعها 75 مليار دولار من إجمالي ديون الدولة بالليرة وبالدولار.

أزمة لبنان المالية: «هجمة» عقارية بـ 5 مليارات دولار!

شهد السوق العقاري خلال الاشهر الثلاثة الماضية «هجمة عقارية»، نتيجة سعي المصارف الى تسييل كافة العقارات المرهونة من خلال الضغط على أصحاب تلك العقارات لبيعها بأسعار تحددها المصارف وفقاً لحجم قروض الاشخاص المعنيين، وذلك بعد إقناع كبار مودعيها بتحويل إيداعاتهم من «دولارات وهمية» الى عقارات. وقد أدّت تلك العملية الى تراجع في حجم الودائع في القطاع المصرفي منذ أواخر العام 2019 ولغاية نهاية شباط 2020 بحوالى 5,5 مليارات دولار.

فيما تسعى المصارف من خلال تلك العملية الى تجميل ميزانياتها من خلال تقليص حجم القروض المتعثرة وخفض الايداعات بالدولارات «الوهمية»، فإنّ القطاع العقاري استفاد من هذه الاستراتيجية على قاعدة «مصائب قوم عند قوم فوائد». وقد نجح المطوّرون العقاريون في التخلّص من مخزون الشقق السكنية الذي عانى في الفترة الماضية جموداً حاداً رغم خفض الأسعار، كما انهم سدّدوا كافة استحقاقاتهم المالية للمصارف وتخلَّصوا من جحيم الفوائد المرتفعة.

وقد كشف الخبير العقاري رجا مكارم لـ«الجمهورية» في هذا الاطار انّ القطاع العقاري كان يمرّ بأزمة جمود حاد دفعت المطورين العقاريين الى خفض الاسعار من اجل تحفيز المبيعات، «وفجأة، مع تفاقم أزمة القطاع المصرفي بعد 17 تشرين الاول 2019، أدّت المخاوف المتزايدة لدى المودعين على مدّخراتهم، الى حصول «هجمة عقارية» مدعومة من حالة هلع المودعين بعد احتجاز اموالهم وتدهور سعر صرف الليرة». وأشار الى انّ القطاع العقاري حظي بالحصة الاكبر من الايداعات المصرفية التي تم التخلّص منها مقابل أصول اخرى كالمجوهرات والسيارات وغيرها من السلع الفاخرة.

وقال مكارم انّ كل المطورين العقاريين المديونين للمصارف، تخلّصوا من كامل مخزون الشقق السكنية الصغيرة والمتوسطة التي تتراوح اسعارها بين 200 ألف دولار الى 3 ملايين دولار. في المقابل، لم يشارك المطورون الذين لا تترتَّب عليهم قروض مصرفية، في تلك الهجمة العقارية بسبب المردود الوهمي الذي سيتقاضونه اليوم مقابل المبيعات العقارية، موضحاً انّ كافة المبيعات تمّت عير شيكات مصرفية من قبل المودعين لصالح تسديد قروض المطورين العقاريين او لتسديد رهون عقارية للافراد، في حين انّ نسبة ضئيلة جدّاً من المستثمرين عمدت الى دفع جزء كبير من قيمة العقار عبر شيك مصرفي وجزء بسيط عبر تحويل اموال من الخارج (fresh money).

ورأى مكارم انه لم يعد هناك من شقق سكنية اليوم معروضة للبيع، واصبح حجم العرض محدوداً جدّاً. كذلك الأمر بالنسبة للاراضي التي شهدت موجة مبيعات، حيث لجأ اصحاب الميزانيات الاكبر الى شراء الاراضي التي تفوق قيمتها 3 ملايين دولار، «وكان الطلب الاكبر في مدينة بيروت حيث يعتقد المستثمرون انه يمكن تسييل العقارات فيها لاحقاً بسهولة أكبر».

وكشف مكارم انّ الجرأة الكبرى في تخفيض اسعار الاراضي تجلَّت لدى شركة «سوليدير» التي خفضت اسعارها من حوالى 3000 دولار لمتر الهواء الى نحو 1200 دولار، وبالتالي نجحت سوليدير في الاستفادة بشكل كبير من موجة المبيعات مع تسييل ما قيمته 500 مليون دولار من الاراضي، وهي تفكّر اليوم بالتوقف عن البيع لأنها لم تعد بحاجة للسيولة.

وقال انّ معظم الاراضي الموجودة في السوق قد تمَّ بيعها ولم يعد هناك من عرض حالياً، لافتاً الى انّ الاسعار التي تمَّت وفقها المبيعات هي اسعار معقولة او مغرية بالنسبة للمطورين ولم يعد هناك ما يعرف بسعر «لَقطة» بالنسبة للمشترين، لأنّ عملية البيع والشراء تتم من خلال «دولارات وهمية» ولن يقبل أحد خفض الاسعار مقابل مردود وهمي.

وحول إمكانية حصول أزمة رهن عقارية وهبوط الاسعار على غرار ما حصل في الولايات المتحدة في 2008، اكد مكارم انه لم يعد هناك من عقارات مرهونة للمصارف لأنّ الاخيرة لعبت في الاشهر الثلاثة الاخيرة دور الوسيط العقاري وقامت بتسييل العقارات المرهونة، «لكن التوقعات بالنسبة للقطاع العقاري في المستقبل تشير الى تراجع حتمي بنسبة حوالى 40 في المئة في اسعار العقارات التجارية أي المحال التجارية والمكاتب بسبب تراجع اسعار الايجارات وانعدام إمكانية تأسيس اعمال تجارية جديدة او حتى توسّع اعمال الشركات القائمة نتيجة التدهور الاقتصادي وأزمة كورونا.

بالنسبة للشقق السكنية التي تم توظيف حوالى مليار دولار فيها مؤخراً، فإنّ جميع المستثمرين فيها لن ينتفعوا في المستقبل القريب منها، بسبب غياب الطلب على الايجارات، مما سيؤدي الى تراجع المردود على القطاع السكني من 3 في المئة الى حوالى النصف، وسيكون عرض الشقق للبيع مرتبطاً بحاجات المستثمرين للسيولة في المستقبل، «ولكن طبعاً بأسعار أقلّ من الحالية».

رنى سعرتي.